الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إشارة أم معرفا بالألف واللام أم بالإضافة. وتحدث عن نعت المعرف، وتأكيد المسند إليه، وبيانه، وتفسيره، وبدله، والحالة التى تقتضى العطف والفصل، وتنكيره، وتقديمه على المسند، وتأخيره، وقصره، وخروجه على مقتضى الظاهر، والالتفات.
الثالث: فى تفصيل اعتبارات المسند، تكلم فيه على حذفه وذكره، وإفراده، وكونه فعلا، وتقييده وترك تقييده، وكونه منكّرا. ثم تحدث عن تخصيصه وتركه، وكونه اسما معرفا، وكونه جملة فعلية واسمية وظرفية، وتكلم على تأخيره وتقديمه. وعقد فى هذا الفن فصلا تحدث فيه عن العمل، وتركه وإثباته، وترك مفعوله وإثباته، وإضمار الفاعل وإظهاره. وتحدث عن اعتبار التقديم والتأخير مع الفعل، والحالات المقتضية لتقييد الفعل بالشرط.
الرابع: فى تفصيل اعتبارات الفصل والوصل، والإيجاز والإطناب، والقصر. وقسّم القانون الثانى إلى خمسة فصول هى التمنى، والاستفهام، والأمر، والنهى، والنداء. وبعد أن أكمل بحث الخبر والطلب تحدث عن استعمال الخبر موضع الطلب واستعمال الطلب موضع الخبر، وذكر أسلوب الحكيم فى خاتمة البحث (1).
نقد المنهج:
لقد بحث السكاكى «علم المعانى» بهذا المنهج وقسمه هذا التقسيم، وبوبه هذا التبويب الذى تتضح فيه النزعة المنطقية. ويلاحظ أنّه قدّم البحث فى الخبر مع أنّ كثيرا من الموضوعات التى تحدث عنها فيه لا تخص الخبر وحده إنّما هى مشتركة بينه وبين الطلب. وقد علل سعد الدين التفتازانى (- هـ) ذلك بقوله: «وإنما ابتدأ بأبحاث الخبر لكونه أعظم شأنا وأعم فائدة؛ لأنّه هو الذى يتصوّر بالصور الكثيرة، وفيه تقع الصياغات
(1) ينظر كتابنا «البلاغة عند السكاكى» ص وما بعدها.
العجيبة، وبه تقع- غالبا- المزايا التى بها التفاضل، ولكونه أصلا فى الكلام، لأنّ الإنشاء إنّما يحصل منه باشتقاق كالأمر والنهى، أو نقل ك «بئس» و «نعم» وبعت واشتريت، أو زيادة أداة كالاستفهام والتمنى وما أشبه ذلك.
ثم قدم بحث أحوال الإسناد على أحوال المسند إليه والمسند مع أنّ النسبة متأخرة عن الطرفين، لأنّ علم المعانى إنّما يبحث عن أحوال اللفظ الموصوف بكونه مسندا إليه ومسندا. وهذا الوصف إنّما يتحقق بعد تحقيق الإسناد، لأنه ما لم يسند أحد الطرفين إلى الآخر لم يصر أحدهما مسندا إليه والآخر مسندا. والمتقدم على النسبة إنّما هو ذات الطرفين ولا بحث لنا عنهما» (1).
ومهما حاول أنصار هذا المنهج أن يوجهوه فان البلاغة التى نقيس بها الأدب ونحكم عليه لا يمكن أن يعلل منهج بحثها هذا التعليل، وأن يصطنع لها اصطناعا يبعدها عن روحها الأدبية. ولكن هل نجح السكاكى فى هذا المنهج؟ وهل استطاع أن يحصر موضوعات علم المعانى حصرا دقيقا؟
الواقع أنّه لم ينجح فى هذا التقسيم الذى بناه على المنطق وحده، فحصر به موضوعات المعانى حصرا مزقها تمزيقا أفقدها كل حياة، وباعد بينها وبين ما يتطلبه الفن الأدبى الذى ينبغى أن يعتمد- أول ما يعتمد- على الذوق الرفيع.
ولتوضيح ذلك نقول إنّ السكاكى قسّم مباحث المعانى حسب ركنى الجملة- المسند إليه والمسند- وعلى هذا الأساس ذكر التقديم- مثلا- فى المسند إليه مرة وفى المسند تارة أخرى. وفعل مثل هذا بالموضوعات الأخرى كالتأخير، والحذف، والذكر، والتعريف والتنكير. وكان من الدقة أن يبحث كل موضوع بحثا مستقلا فيتكلم على التقديم والتأخير فى فصل، والذكر والحذف فى ثان، والتعريف والتنكير فى ثالث، وبذلك تجمع أوصال الموضوع الواحد فى بحث يستوفى أجزاءه ويجمع شتاته. أمّا أن يوزع
(1) المطول ص 43.
أقسام الموضوع الواحد هذا التوزيع ويذكر عنه فى كل باب نتفا يسيرة لا تجدى نفعا، فما لا يمكن الأخذ به والتعويل عليه. وبالمقارنة بين ما كتبه السكاكى وما كتبه عبد القاهر أو ابن الأثير يتضح مدى إفساده هذه المباحث وجوره عليها. فبعد أن كنا نقرأ فى «دلائل الإعجاز» أو «المثل السائر» موضوعات فيها عرض وتحليل وجمع لأطراف الموضوع الواحد جمعا يخرج الدارس منه بفكرة واضحة وفائدة كبيرة- بعد هذا كله- نقرأ فى «مفتاح العلوم» موضوعات تناثرت أطرافها فى عدة أبواب لا يخرج الدارس منها إلا بصورة حائلة، وقواعد جامدة، وأمثلة مبتسرة. وقد يلجأ لكى يكوّن فكرة صحيحة إلى أن يلم شتات الموضوع الواحد ويضم بعضها إلى بعض، وفى هذا إضاعة للجهد وإفساد للبلاغة والذوق.
وكانت ثمرة ذلك أن بعثر السكاكى الموضوعات وأفقدها رونقها، وأصبحت لا تجدى نفعا إلّا بالرجوع إلى عدة فصول لجمع شتاتها وتوحيد أجزائها.
أمّا بحث خروج الكلام على مقتضى الظاهر كوضع المضمر موضع المظهر، ووضع المظهر موضع المضمر، والالتفات فى المسند إليه فليس دقيقا، لأنّ هذه الفنون لا تخصه وحده وإنما تدخل المسند أيضا. وقد أشار السكاكى إلى ذلك بقوله:«واعلم أنّ هذا النوع أعنى نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة لا يختص بالمسند إليه» (1). وكان ينبغى أن يضع لكل لون من هذه الفنون بحثا يفصّل القول فيه تفصيلا.
وتكلم على استعمال المضارع مكان الماضى فى الحالات المقتضية لتقييد الفعل بالشرط مع أنّ الإخبار عن الفعل الماضى بالفعل المضارع أو بالمستقبل نوع من الالتفات كما صرح به البلاغيون.
وعقد فصلا للفعل وما يتعلق به من ترك وإثبات، وإظهار وإضمار،
(1) مفتاح العلوم ص 95.
وتقديم وتأخير، مع أنّ الفعل مسند، وكان ينبغى أن يبحثه فى باب المسند ويذكر أنّه يأتى فعلا واسما وجملة.
ولكننا لا بدّ أن نحمد للسكاكى انتباهه إلى اشتراك كثير من المباحث التى ذكرها فى المسند والمسند إليه، فقد أشار- وهو يتحدث عن الحالة المقتضية لقصر المسند إليه على المسند- إلى أنّ القصر لا يختص بالمسند إليه وإنما يدخل المسند أيضا، ويجرى بين الفاعل والمفعول، وبين المفعولين، وبين الحال وذى الحال، وبين كل
هذا ما يتعلق باتخاذ ركنى الجملة أساسا فى تقسيم مباحث علم المعانى، أما ما يتصل بالموضوعات نفسها فقد ذكر التقديم والتأخير، والحذف والذكر والفصل والوصل، والإيجاز والإطناب، والتعريف والتنكير، والقصر، فى القانون الأول أى فى باب الخبر. وليس فى هذا دقة، لأنّ هذه الموضوعات تدخل الطلب كما تدخل الخبر. وقد أشار عبد القاهر إلى ذلك بقوله:«أنّه لا يجوز أن يكون لنظم الكلام وترتيب أجزائه فى الاستفهام معنى لا يكون له ذلك المعنى فى الخبر، ذلك أنّ الاستفهام استخبار، والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك. فاذا كان كذلك كان محالا أن يفرق الحال بين تقديم الاسم وتأخيره فى الاستفهام فيكون المعنى إذا قلت: «أزيد قام؟» غيره إذا قلت «أقام زيد؟» ، ثم لا يكون هذا الافتراق فى الخبر. ويكون قولك «زيد قام» و «قام زيد» سواء ذاك، لأنه يؤدى إلى أن نستعمله أمرا لا سبيل فيه إلى جواب، وأن تستثبته المعنى على وجه ليس عنده عبارة يثبته لك بها على ذلك الوجه» (2). وبقوله:«وإذ قد عرفت الحكم فى الابتداء بالنكرة فى الاستفهام فابن الخبر عليه» (3).
(1) مفتاح العلوم ص 94.
(2)
دلائل الإعجاز ص 108.
(3)
دلائل الإعجاز ص 109.
ولم يأخذ السكاكى برأى عبد القاهر مع أنّه اعتمد على كتابيه وجرّدهما من النزعة الأدبية وأحالهما هيا كل بتقسيماته المنطقية.
والعجيب أنّ الخطيب القزوينى وسعد الدين التفتازانى وغيرهما من الشراح تابعوا السكاكى فى هذا التقسيم مع أنّهم ذكروا أنّ الموضوعات التى بحثت فى الخبر تدخل الطلب أيضا. يقول القزوينى بعد أن ذكر أحوال المسند: «كثير مما ذكر فى هذا الباب والذى قبله غير مختص بهما كالذكر والحذف وغيرهما. والفطن إذا أتقن اعتبار ذلك فيهما لا يخفى عليه اعتباره فى غيرهما» (1). وأعاد هذا القول فى كتابه «الإيضاح» بعد أن ذكر أحوال الإسناد والمسند إليه والمسند وأحوال متعلقات الفعل والقصر، وقال:
«ما ذكرناه فى هذه الأبواب الخمسة السابقة ليس كله مختصا بالخبر بل كثير منه حكم الإنشاء فيه حكم الخبر،
يظهر ذلك بأدنى تأمل» (2). وقال التفتازانى: «إنّ الإسناد الإنشائى أيضا إمّا مؤكد أو مجرد عن التأكيد، وكذا المسند إليه إمّا مذكور أو محذوف مقدم أو مؤخر، معرف أو منكر، إلى غير ذلك، وكذلك المسند اسم أو فعل، مطلق أو مقيد بمفعول أو بشرط أو بغيره. والمتعلقات إما متقدمة أو متأخرة، مذكورة أو محذوفة، وإسناده وتعلقه أيضا إما بقصر أو بغير قصر. والاعتبارات المناسبة فى ذلك مثل ما مر فى الخبر ولا يخفى عليك اعتباره بعد الإحاطة بما سبق» (3).
ولكنّ البلاغيين سحروا بمنهج السكاكى وساروا عليه من غير أن يحاولوا إصلاحه إلا ما صدر عنهم من ملاحظات لا تبعد البلاغة عن جوهره كثيرا. ونرى- إذا ما أردنا أن نعيد ترتيب مباحث علم المعانى فى كتاب «مفتاح العلوم» - أن يبحث الخبر والإنشاء فى باب مستقل وتذكر أنواعهما وأساليبهما، ثم تبحث الجملة فى باب آخر يجمع أجزاءها ويكون للتقديم والتأخير فصل، وللذكر والحذف فصل ثان، وللتنكير والتعريف فصل
(1) التلخيص ص 125.
(2)
الإيضاح ص 101.
(3)
المطول ص 246.
ثالث، وللقصر وأنواعه وطرقه فصل رابع، ولتقييد المسند والمسند إليه فصل خامس. ولا بدّ من بحث الفصل والوصل، والإيجاز والإطناب فى بابين مستقلين. وبهذه الطريقة نجمع ما فرّقه السكاكى ونبعث الحياة فى هذا الفن ليكون صالحا فى الدراسات الأدبية.
وليس بغريب أن ندعو إلى هذا المنهج فقد بحث المتقدمون البلاغة بما هو قريب منه، وكان لأعلامهم كأبى هلال وابن رشيق وابن سنان وعبد القاهر وابن الأثير مناهج سليمة وبحوث طريفة ذات نفع عظيم وأثر كبير، لأنّهم لم يبعثروا الموضوعات فى فصول كثيرة وإنّما جمعوها جمعا دقيقا، وبذلك جاءت كتبهم آية فى الإبداع، وكانت بحوثهم غاية فى الوضوح والجلاء.
وكان الخطيب القزوينى (- هـ) أوضح منهجا من السكاكى، والمعانى عنده «علم يعرف به أحوال اللفظ العربى التى بها يطابق مقتضى الحال» (1). وقد رفض تعريف السكاكى وهو «تتبع خواص تراكيب الكلام فى الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ فى تطبيق الكلام على ما يقتضى الحال ذكره» (2)، لأنّ التتبع ليس بعلم ولا صادق عليه فلا يصح تعريف شئ من العلوم به.
وحصر علم المعانى فى ثمانية أبواب:
الأول: أحوال الإسناد الخبرى.
الثانى: أحوال المسند اليه.
الثالث: أحوال المسند.
الرابع: أحوال متعلقات الفعل.
الخامس: القصر.
السادس: الإنشاء.
السابع: الفصل والوصل.
الثامن: الإيجاز والإطناب (3).
ووجه الحصر أنّ الكلام إمّا خبر أو إنشاء، لأنّه إما أن يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه، أو لا يكون لها خارج، الأول الخبر، والثانى الإنشاء. ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند، وأحوال هذه الثلاثة هى الأبواب الثلاثة الأولى. ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا أو متصلا به أو فى معناه كاسم الفاعل ونحوه، وهذا هو الباب الرابع، ثم الإسناد والتعلق كل واحد منهما يكون إمّا بقصر أو بغير قصر، وهذا هو الباب الخامس. والإنشاء هو الباب السادس. ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إمّا معطوفة على الأولى أو غير معطوفة، وهذا هو الباب السابع ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد عليه، وهذا هو الباب الثامن.
وهذا المنهج يختلف قليلا عن منهج السكاكى، وهو أقرب إلى الكمال لأنّ القزوينى ضم الموضوعات المتشابهة فى فصول مستقلة، وكان فى بحثه ألصق بالبلاغة وروحها من صاحب «مفتاح العلوم» الذى مزقها كل ممزق.
وسيطر هذا المنهج على البلاغيين وظلت كتبهم تقسم علم المعانى هذا التقسيم، ولم يخرج عنه معظم المتأخرين والمحدثين.
وإذا كان علم المعانى قريبا من النحو أو هو توخى معانى النحو فانّه يختلف عنه فى معالجة الموضوعات، وقد
فصل القول فى ذلك عبد القاهر وانتهى إلى أنّنا لا نريد المعانى الأول وإنّما المعانى الثوانى وهى عنده معنى المعنى. ولخص المتأخرون فائدة علم المعانى فقال بهاء الدين السبكى: «ولعلك تقول: أى فائدة لعلم المعانى فانّ المفردات والمركبات علت بالعلوم الثلاثة- اللغة والنحو والصرف- وعلم المعانى غالبه من علم النحو؟ كلا إنّ غاية النحوى أن ينزل المفردات على ما وضعت له ويركبها عليها ووراء ذلك مقاصد لا تتعلّق بالوضع مما يتفاوت به أغراض المتكلم على أوجه لا تتناهى وتلك الأسرار لا تعلم إلّا بعلم المعانى، والنحوى- وإن ذكرها- فهو على وجه إجمالى يتصرف فيه البيانى تصرفا خاصا لا يصل إليه النحوى. وهذا كما أنّ معظم أصول الفقه من علم اللغة والنحو والحديث وإن كان مستقلا بنفسه.
واعلم أنّ علمى أصول الفقه والمعانى فى غاية التداخل فانّ الخبر والإنشاء اللذين يتكلم فيهما المعانى هما موضوع غالب الأصول وأنّ كل ما يتكلم عليه الأصولى من كون الأمر للوجوب والنهى للتحريم ومسائل الإخبار والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمالى والتفصيل والتراجيح كلها ترجع إلى موضوع علم المعانى، وليس فى أصول الفقه ما ينفرد به كلام الشارع عن غيره إلّا الحكم الشرعى والقياس، وأشياء يسيرة» (1).
وهذا ما أطال الكلام عليه عبد القاهر الذى قال إنّ الصحة فى الكلام هى الخطوة الأولى، أمّا الخطوة الثانية فهى فهم الكلام واستخلاص ما فيه من المعانى الثوانى التى يدل عليها، ولذلك كان «علم المعانى» ضروريا فى فهم الأساليب البلاغية، بعد أن فقد النحو رونقه وبهاءه، وأصبح قواعد لا تعنى إلّا بالإعراب والبناء، والعوامل، والجدل المنطقى الذى لا يخدم اللغة بقدر ما يعوقها عن النمو والازدهار.
…
(1) عروس الأفراح- شروح التلخيص ج 1 ص 51 - 53.