الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخامس: أن تكون الجملتان متوسطتين بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع مع قيام المانع من الوصل كأن يكون للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية، كقوله تعالى:«وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» (1). فجملة «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» لا يصح عطفها على جملة «قالوا
…
» لئلا يلزم من ذلك اختصاص استهزاء الله بهم بوقت خلوهم إلى شياطينهم، والواقع أنّ استهزاء الله بهم غير مقيد بوقت من الأوقات. ولا يصح أن تعطف جملة «الله يستهزئ بهم» على جملة «إنّا معكم» لئلا يلزم أن تكون من مقول المنافقين مع أنّها من مقول الله تعالى.
مواضع الوصل:
يجب الوصل فى ثلاثة مواضع:
الأول: أن يكون بين الجملتين كمال الانقطاع مع الإيهام، وذلك بأن تكون إحداهما خبرية والأخرى إنشائية ولو
فصلت لأوهم الفصل خلاف المقصود. ومنه قول البلغاء: «لا، وأيدك الله» ، ومثل:«لا، ولطف الله» و «لا، وحفظك الله» .
الثانى: أن تكون الجملتان متفقتين خبرا وإنشاء لفظا ومعنى كقوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» (2)، وقوله:
«يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» (3)، وقوله:
«يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ» (4)، وقوله:«وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا» (5) أو أن تكونا متفقتين خبرا وإنشاء معنى لا لفظا كقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، وَبِالْوالِدَيْنِ
(1) البقرة 14 - 15.
(2)
الانفطار 13 - 14.
(3)
الروم 19.
(4)
النساء 142.
(5)
الأعراف 21.
إِحْساناً، وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» (1)، عطف قوله «قولوا» على قوله «لا تعبدون» لأنّه بمعنى: لا تعبدوا.
الثالث: أن يكون للجملة الأولى محل من الإعراب وقصد إشراك الجملة الثانية لها فى الحكم الإعرابى، وهذا كعطف المفرد على المفرد، لأنّ الجملة لا يكون لها محل من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد. وينبغى هنا أن تكون مناسبة بين الجملتين كقوله تعالى:«يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ» (2) وقوله: «وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (3).
ولذلك عيب على أبى تمام:
لا والذى هو عالم أنّ النوى
…
صبر، وأنّ أبا الحسين كريم
إذ لا مناسبة بين كرم أبى الحسين- محمد بن الهيثم- ومرارة النوى، ولا تعلق لأحدهما بالآخر.
ومن إشراك الجملة الثانية بالأولى فى الحكم الإعرابى قول المتنبى:
وللسرّ منى موضع لا يناله
…
نديم ولا يفضى إليه شراب
فجملة «لا يناله نديم» صفة ل «موضع» ولذلك جاز أن يعطف عليها جملة «ولا يفضى إليه شراب» .
وذكر عبد القاهر الجرجانى لونا من الوصل (4)، وهو أن يؤتى بالجملة فلا يعطف على ما يليها ولكن تعطف على جملة بينها وبين هذه التى تعطف جملة أو جملتان، مثال ذلك قول المتنبى:
تولّوا بغتة فكأنّ بينا
…
تهيّبنى ففاجأنى اغتيالا
فكان مسير عيسهم ذميلا
…
وسير الدمع إثرهم انهمالا
(1) البقرة 83.
(2)
سبأ 2.
(3)
البقرة 245.
(4)
ينظر دلائل الإعجاز ص 188.
قوله: «فكان مسير عيسهم» معطوف على «تولوا بغتة» دون ما يليه من قوله: «ففاجأنى» ، لأنّا إن عطفناه على هذا الذى يليه أفسدنا المعنى من حيث إنه يدخل فى معنى «كأنّ» وذلك يؤدى إلى أن لا يكون «مسير عيسهم» حقيقة ويكون متوهما كما كان تهيب البين كذلك، وهذا أصل كبير.
والسبب فى ذلك أن الجملة المتوسطة بين هذه المعطوفة أخيرا وبين المعطوف عليها الأولى ترتبط فى معناها بتلك الأولى كالذى ترى أنّ قوله «فكأنّ بينا تهيبنى» مرتبط بقوله «تولوا بغتة» وذلك أن الثانية مسبب والأولى سبب.
ألا ترى أنّ المعنى «تولوا بغتة فتوهمت أن بينا تهيبنى» ولا شك أنّ هذا التوهم كان بسبب أن كان التولى بغتة، وإذا كان كذلك كانت مع الأولى كالشئ الواحد، وكانت منزلتها منها منزلة المفعول والظرف وسائر ما يجئ بعد تمام الجملة من معمولات الفعل مما لا يمكن إفراده على الجملة وأن يعتد كلاما على حدته.
ثم قال: «وههنا شئ آخر دقيق، وهو أنّك إذا نظرت إلى قوله:
«فكان مسير عيسهم ذميلا» وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه ولكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطا آخره بأوله، ألا ترى أنّ الغرض من هذا الكلام أن يجعل توليهم بغتة وعلى الوجه الذى توهم من أجله أنّ البين تهيبه مستدعيا بكاءه وموجبا أن ينهمل دمعه فلم يعنه أن يذكر ذملان العيسى إلّا ليذكر هملان الدمع وأن
يوفق بينهما، وكذلك الحكم فى الأول.
فنحن وإن كنا قلنا إنّ العطف على «تولوا بغتة» فانا لا نعنى أنّ العطف عليه وحده مقطوعا عما بعده بل العطف عليه مضموما إليه ما بعده إلى آخره، وإنما أردنا بقولنا: إنّ العطف عليه، أن نعلمك أنّه الأصل والقاعدة وأن نصرفك عن أن تطرحه وتجعل العطف على ما يلى هذا الذى تعطفه فتزعم أنّ قوله «فكان مسير عيسهم» معطوف على «فاجأنى» فتقع فى الخطأ كالذى أريناك فأمر العطف إذن موضوع على أنّك تعطف تارة جملة على جملة وتعمد أخرى إلى جملتين أو جمل فتعطف بعضا على بعض ثم تعطف مجموع هذى على مجموع تلك» (1).
(1) دلائل الإعجاز ص 189.