الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثامن: تغليب الإسلام، كقوله تعالى:«وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ» (1)، لأنّ الدرجات للعلو، والدركات للسفل، فاستعمل الدرجات فى القسمين تغليبا.
التاسع: تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه، كقوله تعالى:«ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» (2)، ذكر الأيدى لأنّ أكثر الأعمال تزاول بها فحصل الجمع بالواقع بالأيدى.
العاشر: تغليب الأشهر، كقوله تعالى:«يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» (3) أراد المشرق والمغرب فغلب المشرق لأنّه أشهر الجهتين. ومن ذلك قولهم: «أبوان» للأب والأم، و «قمران» للشمس والقمر، و «العمران» لأبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما.
الالتفات:
[تعريفه]
وهو الفن الأول من محاسن الكلام التى ذكرها ابن المعتز، وقد قال فى تعريفه:«هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك. ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر» (4).
وقال قدامة بن جعفر فى تعريفه: «هو أن يكون الشاعر آخذا فى معنى فكأنه يعترضه إمّا شك فيه أو ظن بأن رادّا يرد عليه قوله أو سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا على ما قدمه فإما أن يؤكده أو يذكر سببه أو يحل الشك فيه» (5).
وفسّره أبو هلال بما يقرب من هذا، ولكنه قسمه ضربين:
(1) الأحقاف 19.
(2)
آل عمران 182.
(3)
الزخرف 38.
(4)
البديع ص 58.
(5)
نقد الشعر ص 167، ونقل هذا التعريف ابن أبى الأصبع فى تحرير التحبير ص 123، وبديع القرآن ص 42.
الأول: أن يفرغ المتكلم من المعنى فاذا ظننت أنه يريد أن يجاوزه يلتفت إليه فيذكره بغير ما تقدم ذكره به، كقول جرير:
أتنسى إذ تودعنا سليمى
…
بعود بشامة سقى البشام (1)
ولم يذكر قدامة هذا الضرب فى تعريفه، وإنّما انصبّ تعريفه على الضرب.
الثانى الذى ذكره أبو هلال نقلا عنه لاتفاق العبارات وهو:
الثانى: أن يكون الشاعر آخذا فى معنى كأنّه يعترضه شك أو ظن أنّ رادّا يرد قوله، أو سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا إلى ما قدمه فإما أن يؤكده أو يذكر سببه أو يزيل الشك عنه، كقول المعطل الهذلى:
تبين صلاة الحرب منا ومنهم
…
إذا ما التقينا والمسالم بادن (2)
فقوله: «والمسالم بادن» رجوع من المعنى الذى قدمه حتى بين أن علامة صلاة الحرب من غيرهم أن المسالم بادن والمحارب ضامر (3).
ويسمى بعضهم الالتفات «الصّرف» وهو مصطلح صاحب «البرهان فى وجوه البيان» الذى قال فى تعريفه: «وأما الصرف فانه يصرفون القول من المخاطب إلى الغائب ومن الواحد إلى الجماعة» (4).
وسماه أسامة بن منقذ «الانصراف» وقال فيه: «هو أن يرجع من الخبر إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الخبر» (5).
وقال ابن رشيق عنه: «هو الاعتراض عند قوم وسماه آخرون الاستدراك» (6) ولكن الاعتراض والاستدراك غير الالتفات، ولعل
(1) البشام: شجر لا ثمر له.
(2)
تبين: تستبين. صلاة الحرب: الذين يصلونها.
(3)
كتاب الصناعتين ص 392.
(4)
البرهان فى وجوه البيان ص 152.
(5)
البديع فى نقد الشعر ص 200.
(6)
العمدة ج 2 ص 45.
مصطلح «الانصراف» أو «الالتفات» أقرب إلى الدلالة وقد سار البلاغييون على مصطلح الالتفات، وأصبح هذا الأسلوب ذا شعب كثيرة تحدث عنها بالتفصيل الزمخشرى فى تفسيره والسكاكى فى مفتاحه والقزوينى فى إيضاحه وابن الأثير فى المثل السائر والزركشى فى البرهان فى علوم القرآن. وكان هؤلاء من أكثر الذين عنوا بدراسة هذا الأسلوب، وقال الزمخشرى عنه وهو يفسر قوله تعالى:«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (1): «فان قلت لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت: هذا يسمّى الالتفات فى البيان، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن
الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم، كقوله تعالى:«حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ» (2)، وقوله تعالى:«وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ» (3).
وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات فى ثلاثة أبيات:
تطاول ليلك بالإثمد
…
ونام الخلىّ ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة
…
كليلة ذى العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءنى
…
وخبرّته عن أبى الأسود
وذلك على عادة افتتانهم فى الكلام وتصرفهم فيه، ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للاصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد. وقد تختص مواقعه بفوائد، ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة فى المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل: إياك من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا نعبد غيرك ولا نستعينه ليكون الخطاب أدل على أنّ العبادة له، لذلك التميز الذى لا تحق العبادة إلّا به» (4).
(1) الفاتحة 5.
(2)
يونس 22.
(3)
فاطر 9.
(4)
الكشاف ج 1 ص 11 - 12.
وكلام السكاكى لا يخرج عما ذكره الزمخشرى إلّا ما أضاف من أمثلة وشواهد شعرية، كقول ربيعة بن مقروم:
بانت سعاد فأمسى القلب معمودا
…
وأخلفتك ابنة الحرّ المواعيدا (1)
فالتفت حيث لم يقل «وأخلفتنى» ، ثم قال:
ما لم ألاق امرءا جزلا مواهبه
…
سهل الفناء، رحيب الباع محمودا
وقد سمعت بقوم يحمدون فلم
…
أسمع بمثلك لا حلما ولا جودا
فالتفت حيث لم يقل «بمثله» .
وقال السكاكى بعد هذه الأمثلة وغيرها: «وأمثال ما ذكر أكثر من أن يضبطها القلم، وهذا النوع قد يختص مواقعه بلطائف معان قلما تتضح إلّا لأفراد بلغائهم أو للحذاق المهرة فى هذا الفن والعلماء النحارير. ومتى اختص موقعه بشئ من ذلك كساه فضل بهاء ورونق وأورث السامع زيادة هزة ونشاط ووجد عنده من القبول أرفع منزلة ومحل إن كان ممن يسمع ويعقل» (2)
وهذا أمر طبيعى فالزمخشرى لم يرد أن يبحث الالتفات، وإنما تكلم عليه حينما جاء فى الآية الكريمة، أما السكاكى فهدفه البحث فى هذا الأسلوب لا تفسير الآيات وما فيها من فنون بلاغية. والاتفاق بين الرجلين هو فى تحديد معناه وتعريفه، وقد اتفقا على أنه نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب فمن الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى المتكلم.
واتفقا على أنّ نقل الكلام من أسلوب إلى آخر أدخل فى القبول عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه. ولكنه مع ذلك خالفه فى أمر واحد، وهو أنه أدخل الالتفات فى علم المعانى وقال: «ويسمّى هذا النقل التفاتا عند علماء المعانى، والعرب يستكثرون منه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل فى القبول عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه وأملأ باستدرار إصغائه.
(1) المعمود: الموجع.
(2)
مفتاح العلوم ص 96.
وهم أحرياء بذلك، أليس قرى الأضياف سجيتهم، ونحر العشار دأبهم وهجيراهم- لا مزقت أيدى الأدوار لهم أديما، ولا أباحت لهم حريما- أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون فيه بين لون ولون وطعم وطعم، ولا يحسنون قرى الأرواح فلا يخالفون فيه بين أسلوب وأسلوب وإيراد وإيراد، فان الكلام المفيد عند الانسان لكن بالمعنى لا بالصورة أشهى غذاء لروحه وأطيب قرى لها» (1).
وأدخله ثانية فى علم البديع وعده من المحسنات المعنوية، ولكنه لم يبحثه واكتفى بقوله:«وقد سبق ذكره فى علم المعانى» (2). أما الزمخشرى فقد عدّه من البيان وإن كان لا يقصد به علم البيان الذى ضبطه السكاكى بتعريفه وإنما يريد به البيان بمعناه العام، ولعل هذا الموقف أسلم من موقف السكاكى الذى تردد فيه فأدخله فى علم المعانى مرة وفى علم البديع تارة أخرى. وقد علل ابن يعقوب المغربى هذا التردد وبيّن مكان الالتفات فى كل علم بقوله:
«فان قلت: لأى وجه خصص تسميته بعلماء المعانى مع أنّ عدّ الالتفات من البديع أقرب، لأنّ حاصل ما فيه أنه يفيد الكلام ظرافة وحسن تطرية فيصغى إليه لظرافته وابتداعه ولا يكون الكلام به مطابقا لمقتضى الحال فلا يكون من علم المعانى فضلا عن كونه يختص بهم فيسمونه به دون أهل البديع؟.
قلت: أما كونه من الأحوال التى تذكر فى علم المعانى فصحيح كما إذا اقتضى المقام فائدته من طلب مزيد الاصغاء لكون الكلام سؤالا أو مدحا أو إقامه حجة أو غير ذلك، فهو من هذا الوجه من علم المعانى. ومن جهة كونه شيئا ظريفا مستبدعا يكون من علم البديع. وكثيرا ما يوجد فى المعانى مثل هذا فليفهم، وأما تخصيص علماء المعانى بالتسمية فلا حجر فيه، والله أعلم» (3).
(1) مفتاح العلوم ص 95.
(2)
مفتاح العلوم ص 202.
(3)
مواهب الفتاح- شروح التلخيص ج 1 ص 464.
ولولا تقسيم السكاكى البلاغة إلى أقسامها وحصر كل قسم بتعريف منطقى جامع مانع لما احتاج ابن يعقوب المغربى وغيره إلى هذا التمحل والإغراق فى التأويل، وإلّا فهل يمكن استعمال أسلوب الالتفات من غير أن يؤدى معنى فيكون مطابقا لمقتضى الحال وتكون فيه ظرافة وطلاوة؟ إنّ الانتقال من أسلوب إلى آخر لا يكون إلا إذا اقتضى الحال وأريد به نوع من الإبداع والمتعة الفنية. ولذلك ينطبق عليه تعريفا علم المعانى وعلم البديع ولا نرى مبررا التفريق فى عدّه من المعانى مرة ومن البديع تارة أخرى على الوجه الذى يذهب إليه البلاغيون.
ولما كان الالتفات ضربا من فنون البلاغة له أسلوبه وجماله فليس من الدقة أن يبقى مترددا فيكون فى علم المعانى إذا اقتضى المقام فائدته، ويكون فى علم البديع إذا أريد به الطرافة، وإنما يفرد له باب كما فعل ابن الأثير الذى لم ينظر إليه هذه النظرة الجامدة، (1) وقد أدخلناه فى علم المعانى لأننا نبحث البلاغة كما تركها القدماء، ولأننا لا نريد هنا إبداء وجهة النظر، فذلك أمر مجاله غير هذه المحاضرات التى أخذت نسيجها من القدماء. ولم يخرج الخطيب القزوينى على السكاكى فى بحث الالتفات ونقل كلامه وأمثلته غير أنه قارن بينه وبين الجمهور، فالسكاكى قال:«واعلم أن هذا النوع اعنى نقل الكلام عن الحكاية إلى الغيبة لا يختص المسند إليه ولا هذا القدر بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل كل واحد منها إلى الآخر ويسمى هذا النقل التفاتا» (2). والمشهور عند الجمهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها. وهذا أخص
من تفسير السكاكى لأنه أراد بالنقل أن يعبر بطريق من هذه الطرق عما عبر عنه بغيره، أو كان مقتضى الظاهر أن يعبر عنه بغيره منها. ولذلك فكل التفات عندهم التفات عنده وليس العكس صحيحا (3).
(1) ينظر البلاغة عند السكاكى ص 136 - 138 وص 235 وما بعدها.
(2)
مفتاح العلوم ص 95.
(3)
ينظر الايضاح ص 71.