الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد اهتم الجاحظ باللفظ ولكنه لم يهمل المعنى، ولذلك فليس صحيحا ما ذهب إليه بعضهم وهو أنّ الجاحظ كرّس جهوده لخدمة الألفاظ، ولأجله خاض عبد القاهر الجرجانى غمار هذا البحث. ويرى الدكتور محمد مندور أنّ كل آراء عبد القاهر تنحصر فى مسألتين:
الأولى: إنكاره لما رآه الجاحظ من أهمية فصاحة الألفاظ باعتبار تلك الفصاحة صنعة فى اللفظ ذاته، ثم ثورته على مذهب أبى هلال العسكرى الذى يرد جودة الكلام إلى محسنات لفظية تقف عند الشكل.
الثانية: تعليقة جودة الكلام بخصائص فى النظم. (1)
وعبارة الجاحظ «فانما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير» ، وما نقله عبد القاهر من اهتمامه بالصياغة والصناعة، خير ما يفند هذا الرأى، لأنّ عبد القاهر سار على خطا الجاحظ ونقل مصطلحه فى التصوير وقال:«وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر بل هو مستعمل مشهور فى كلام العرب، ويكفيك قول الجاحظ: وإنّما الشعر صناعة، وضرب من التصوير» (2). فالجاحظ من أصحاب الصياغة ولذلك تسقط عنه تهمة الاهتمام بالشكلية والألفاظ، وإن كان كثير الاعتناء باللفظ واختيار ما يؤدى المعنى أداء حسنا، وهذه مهمة الأديب الذى يقدر قيمة الكلام ويبذل فى سبيله أعظم الجهود، وقد كان الجاحظ أديبا كبيرا وعالما قديرا، فعنى بالألفاظ كما عنى بالمعانى وكان له الفضل فى تصوير نظم الكلام.
ابن قتيبة:
وتحدث ابن قتيبة (- هـ) عن الألفاظ، وذكر أنّ الشعر أربعة أضرب:
(1) ينظر فى الميزان الجديد، ص 149.
(2)
دلائل الإعجاز، ص 389.
- ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه، كقول القائل فى بعض بنى أمية (1):
فى كفه خيزران ريحه عبق
…
من كف أروع فى عرنينه شمم
يغضى حياء ويغضى من مهابته
…
فما يكلّم إلا حين يبتسم
وكقول أوس بن حجر:
أيّتها النفس أجملى جزعا
…
إنّ الذين تحذرين قد وقعا
- وضرب منه حسن لفظه وحلا فاذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة فى المعنى كقول القائل:
ولما قضينا من منى كلّ حاجة
…
ومسّح بالأركان من هو ماسح
وشدّت على حدب المهارى رحالنا
…
ولم ينظر الغادى الذى هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطّى الأباطح
يقول ابن قتيبة: «هذه الألفاظ كما ترى أحسن شئ مخارج ومطالع ومقاطع، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى
وجدته: ولمّا قطعنا أيام منى واستلمنا الأركان وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادى الرائح ابتدأنا فى الحديث وسارت المطى فى الأباطح» (2). ونحوه قول المعلوط:
(1) كذا فى الشعر والشعراء، وفى الهامش أنها للحزين الكنانى فى أبيات يمدح بها عبد الله بن عبد الملك بن مروان. والبيتان فى ديوان الفرزدق، ج 2 ص 187 (طبعة مكتبة صادر)، وهما فى مدح زين العابدين رضى الله عنه.
(2)
الشعر والشعراء، ج 1 ص 66. ولعبد القاهر الجرجانى غير هذا الرأى فهر يراها من أبدع الشعر وأعذبه وقد حللها تحليلا جميلا. (ينظر دلائل الإعجاز ص).
إنّ الذين غدوا بلبك غادروا
…
وشلا بعينك لا يزال معينا
غيّضن من عبراتهنّ وقلن لى:
…
ماذا لقيت من الهوى ولقينا (1)
- وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه كقول لبيد بن ربيعة:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه
…
والمرء يصلحه الجليس الصالح
- وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه، كقول الأعشى فى امرأة:
وفوها كأقاحى
…
غذاه دائم الهطل
كما شيب براح با
…
رد من عسل النّحل
ولم يشر ابن قتيبة إلى لفظة «الفصاحة» فى كتابه «الشعر والشعراء» ولكنه استعمل كلمة «الألفاظ» ، ويرى أنّ المحدث ليس له أن يتبع المتقدم فى استعمال وحشى الكلام ككثير من أبنية سيبويه، ولا أن يسلك فيما يقول الأساليب التى لا تصح فى الوزن ولا تحلو فى الأسماع. يقول:
«وهذا يكثر، وفيما ذكرت منه ما دلك على ما أردت من اختيارك أحسن الروىّ وأسهل الألفاظ وأبعدها من التعقيد والاستكراه، وأقربها من أفهام العوام. وكذلك اختار للخطيب إذا خطب والكاتب إذا كتب فانه يقال:
«أسير الشعر والكلام المطمع» يراد الذى يطمع فى مثله من سمعه وهو مكان النجم من يد المتناول» (2).
وفى كتابه «أدب الكاتب» حديث عن الألفاظ والأبنية، ولكنه لا يسميها «فصاحة» وإنما هى قواعد يستعين بها الكاتب. وعقد فى كتابه «عيون الأخبار» بابا سماه «كتاب العلم والبيان» تحدّث فيه عن الإعراب واللحن والتشادق والغريب والبيان والألفاظ التى تقع فى كتب الأمان والعهود والخطب. وهو فى هذه الأبواب والفصول ليس
كالجاحظ الذى أرسى كثيرا من قواعد الفصاحة ووضع أمثلتها التى تتردد فى كتب البلاغة والنقد.
(1) البيتان فى ديوان جرير، ص 578، وهما من قصيدة فى هجاء الأخطل.
(2)
الشعر والشعراء، ج 1 ص 103.