الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع الفصل والوصل
قيل للفارسى: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل.
وذهب كثير من بلاغيى العرب إلى ما ذهب إليه الفارسى، وعدّوا الفصل والوصل فنا عظيما، صعب المسلك، دقيق المأخذ لا يحيط علما بكنهه إلا من أوتى فى فهم كلام العرب طبعا سليما، ورزق فى إدراك أسراره ذوقا صحيحا. ولذلك قصر بعضهم البلاغة على معرفته، ولكن آخرين كالقزوينى قال:«وما قصرها عليه لأن الأمر كذلك، وإنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه وأنّ أحدا لا يكمل فيه إلّا كمل فى سائر فنونها، فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه فى البيان» (1).
والوصل عطف بعض الجمل على البعض والفصل تركه، ولذلك نرى أن يبحث هذا الموضوع بعد بحث الجملة لارتباطه بها؛ ولأنه يخص الجمل ومعانيها حينما تفصل أو تربط لا مشاركة الثانى للأول فى الإعراب وحده.
قال العلوى: «ولسنا نريد بتلك الأسرار واللطائف ما يكون متعلقا بعلوم الإعراب من كون الأحرف العاطفة تلحق المعطوف فى الإعراب،
…
بل نريد أمرا أخص من ذلك وأغوص على تحصيل الأسرار الغريبة واللطائف العجيبة» (2).
تكلم الجاحظ (3) وغيره من أوائل النقاد على الفصل والوصل، ووقف عنده أبو هلال العسكرى وقفة طويلة وذكر أقوالا كثيرة تدل على أهمية هذا
(1) الإيضاح ص 147.
(2)
الطراز ج 2 ص 33.
(3)
ينظر البيان والتبيين ج 1 ص 88.
الموضوع من ذلك أن المأمون قال لبعضهم: من أبلغ الناس؟ فقال: من قرب الأمر البعيد المتناول، والصعب الدرك بالألفاظ اليسيرة.
قال: ما عدل سهمك عن الغرض، ولكن البليغ من كان كلامه فى مقدار حاجته، ولا يجيل الفكرة فى اختلاس ما صعب عليه من الألفاظ، ولا يكره المعانى على إنزالها فى غير منازلها، ولا يتعمد الغريب الوحشى، ولا الساقط السوقى، فان البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كاللآلى بلا نظام. (1)
وبحث أبو هلال فى هذا الفصل، ما يتصل بفصول القصيدة ومقاطعها، وهم يعنون بالفصول والمقاطع أواخر الأبيات التى تقابل مطالعها وابتداءاتها وتطرق إلى فواصل كتاب الله. وقال إنّ من حسن المقطع جودة الفاصلة وحسن موقعها وتمكنها فى موضعها، وذلك على ثلاثة أضرب:
الأول: أن يضيق على الشاعر موضع القافية فيأتى بلفظ قليل الحروف فيتمم به البيت كقول زهير:
وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله
…
ولكنّنى عن علم ما فى غد عمى
وقول النابغة الذبيانى:
كالأقحوان غداة غبّ سمائه
…
جفت أعاليه وأسفله ندى (2)
وقوله:
لا مرحبا بغد ولا أهلا به
…
إن كان تفريق الأحبة فى غد
أفد الترحّل غير أنّ ركابنا
…
لما تزل برحالنا وكأن قد
(1) كتاب الصناعتين ص 438.
(2)
غب سمائه: المطر ..
الثانى: أن يضيق به المكان أيضا ويعجز عن إيراد كلمة سالمة تحتاج إلى إعراب ليتم بها البيت، فيأتى بكلمة معتلة لا تحتاج إلى الإعراب فيتممه به، مثل قول زهير:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو
…
وأقفر من سلمى التعانيق فالثقل (1)
ثم قال:
وقد كنت من سلمى سنينا ثمانيا
…
على صير أمر ما يمر وما يحلو (2)
الثالث: أن تكون الفاصلة لائقة بما تقدمها من ألفاظ الجزء من الرسالة أو البيت من الشعر، وتكون مستقرة فى قرارها ومتمكنة فى موضعها حتى لا يسد مسدها غيرها وإن لم تكن قصيرة قليلة الحروف كقوله تعالى:«وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا. وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» (3) وقوله: «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» (4). ف «أبكى» مع «أضحك» و «أحيا» مع «أمات» و «الأنثى» مع «الذكر» و «الأولى» مع «الآخرة» و «الرضا» مع «العطية» فى نهاية الجودة وغاية حسن الموقع.
ومن الشعر قول الحطيئة:
هم القوم الذين إذا ألمّت
…
من الأيام مظلمة أضاءوا
وقول أبى نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت
…
له عن عدو فى ثياب صديق
و «الصديق» هنا جيد الموقع، لأن معنى البيت يقتضيه، وهو محتاج إليه.
(1) التعانيق والثقل: واديان.
(2)
صير أمر: منتهاه.
(3)
النجم 43 - 45.
(4)
الضحى 4 - 5.
ودراسة أبى هلال وغيره من البلاغيين والنقاد لهذا الموضوع تختلف عن دراسة البلاغيين المتأخرين، ولذلك لا نجد فى دراساتهم ما تطرق إليه أبو هلال ولعل عبد القاهر الجرجانى كان من أوائل الذين بحثوه بحثا مفصلا يقوم
على التقسيم والتحديد والتعليل والتحليل وربطه بباب العطف عندما ربط البلاغة بمعانى النحو وجعل النظم توخّيا له. وقد أجمل مواضع الفصل والوصل بقوله: «إنّ الجمل على ثلاثة أضرب:
- جملة حالها مع التى قبلها حال الصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد فلا يكون فيها العطف ألبتة لشبه العطف فيها- لو عطفت- بعطف الشئ على نفسه.
- وجملة حالها مع التى قبلها حال الاسم يكون غير الذى قبله إلّا أنه يشاركه فى حكم ويدخل معه فى معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه فيكون حقها العطف.
- وجملة ليست فى شئ من الحالين، بل سبيلها مع التى قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه فى شئ فلا يكون إياه ولا مشاركا له فى معنى بل هو شئ إن ذكر لم يذكر إلّا بأمر ينفرد به ويكون ذكر الذى قبله وترك الذكر سواء فى حاله لعدم التعلق بينه وبينه رأسا، وحق هذا ترك العطف ألبتة.
فترك العطف يكون إمّا للاتصال إلى الغاية، أو الانفصال إلى الغاية، والعطف لما هو واسطة بين الأمرين، وكان له حال بين حالين، فاعرفه (1)»
وعلى هذا الأساس وضع عبد القاهر أصول بحث الفصل والوصل، وقوانينه، وذكر الأمثلة الكثيرة. وجاء علماء البلاغة فاختصروا بحوثه وبوبوها، وكان تحديدهم أدق ضبطا وقواعدهم أكثر تقييدا. وكان السكاكى من أشهر الذين اتبعوه ولكنه لم يوضح الموضوع ولم يبحثه بحثا جيدا،
(1) دلائل الإعجاز ص 187.