الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل ذلك؛ لأنه امتلأ بالإسلام، واتصل بالله، مصدر العزة والقوة والهداية وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:
8] .
كان ابن حذافة عالي الهامة، مشدود القامة، تملأ نفسه معاني الإيمان، وتعليه حياة وكلمات الإسلام، ورفض أن يسلّم الرسالة إلّا لكسرى نفسه، يدا بيد، تنفيذا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى كسرى نفسه؛ الذي أبى أولا، كبرياء وجهالة، إلا بوسيط، لكنه استجاب أمام الإصرار.
وما أن قرئت له سطورها الأولى حتى غضب واستشاط، لكنه استمعها كاملة، ومزّق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم راميا إياها في وجه ابن حذافة، وأسمعه كلمات التهديد والوعيد الأجوف الأضعف المنهوك «1» .
وعاد ابن حذافة مسرعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا الخبر، فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال:«مزّق الله ملكه» . وفي رواية: «اللهم مزّق ملكه» «2» .
معجزة نبوية شاهدة:
هذا مشهد من مشاهد تلك الحادثة، لكن المشهد الثاني فيها يبهرك ويبدهك ويفجؤك، ذلك أنّ كسرى بطغيانه وضلاله وجاهليته لم ير أنه من الممكن أن يدعوه أحد إلى حقّ، أو يسمعه كلمة العدل، أو يقدم له صيغة أو
(1) ككل متجبر ضللّيل وغشوم مستهتر متأله ومغرور كفور، نعوذ بالله تعالى مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ [غافر: 27] .
(2)
انظر: البخاري، كتاب: المغازي، باب: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، رقم (4162) . المسند (1/ 243، 305)(قديمة) ، رقم (2184 و 2780/ 4)(جديدة) . زاد المعاد (1/ 121) . سير أعلام النبلاء (2/ 11- 12) . الاستيعاب (3/ 888) . أسد الغابة (3/ 211- 212) .
صبغة صدق، إذ قد أعلن ألوهيته أو كاد، وأطاعه الناس الذين أضلّهم، مثلما فعل ويفعل أمثاله. وقد حكى الله سبحانه وتعالى في القرآن المجيد عن فرعون مثل ذلك، فقال عز من قائل: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [الزخرف: 54] .
فكتب في الحال إلى ملك اليمن باذان، عامله هناك، أن يرسل إلى محمد صلى الله عليه وسلم من يأتيه به أسيرا مقيدا. فأطاعه باذان، وأرسل هذا في الحال وزيره مع أخيه إلى المدينة المنورة؛ ليقودا- في زعمهم- رسول الله صلى الله عليه وسلم كيما يحضره أمام كسرى ليحاسبه ويعاقبه، في زعمه!!!
وكذلك الطغاة الذين أحلّوا أنفسهم في العباد مقام الألوهية والاستبداد، وجعلوا رغباتهم وأهواءهم وأوامرهم بديل مقام شريعة الله، واستلبوا حق الحاكمية في أرض الله؛ التي لا تكون إلا لله رب العالمين، فاعتدوا على سلطان الله، وتحكّموا في رقاب خلقه. ولقد قصّ الله سبحانه وتعالى علينا من ذلك في القرآن الكريم أكثر من مثال، والأمثلة كثيرة ووفيرة جدا.
كان النصر في تلك المواجهات لجند الله، فالله تعالى لا يتخلى عن جنده، وهو معهم يرعاهم بعنايته ونصره، بعد ما أخذوا بشرعه وأمره.
ولما وصل رسولا باذان إلى المدينة المنورة طلب إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمكثا فيها يوما أو أكثر، وهكذا كأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ليبلّغهم دعوة الله، ويدعوهم إلى رسالته السامية الخالدة، ويعلمهم إياها، يرونها خلقا وسلوكا، مثلما يسمعونها كلمات تنفرج عنها الشفاه.
ثم أخبرهما صلى الله عليه وسلم بمعجزة، وربما في نفس اللحظة التي تمّت فيها تلك الحادثة أو قريبا منها، فأخبرهما صلى الله عليه وسلم بأنه في هذه الليلة- وكانت ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الآخرة من السنة السابعة للهجرة، بعد غروب الشمس بست ساعات «1» - قتل كسرى أبرويز بيد ابنه شيرويه (قباز) ، فدهشا
(1) السيرة النبوية، ابن كثير (3/ 510) . السيرة النبوية، الندوي (256- 257) . السيرة
بهذا الخبر، وحملاه إلى الملك باذان، ورأيا- وفد باذان- أن تنفيذ ما أراده كسرى أخرف من خرافة، أو خرافة الخرافة.
فعادا بهذا الخبر في رسالة حمّلهما إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما ما يكادان يصدّقان، فأنهيا به إلى باذان الذي كان يتطلع إلى معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره، ويبحث صدق دعوته، فجاءه، وفاجأه الدليل.
يالله! إنها لمعجزة تدعوهم وأمثالهم ليعيدوا النظر في مواقفهم، لا سيما إذا سلمت الفطر- ولو بعض السلامة- من التهتك والتحطم والتلوث، بل لتزيل ما عليها من صدأ، تطرقها طرقا، تزيل عنها الصدأ، وتثيرها إثارة تبهرها، تحكها وتدفعها إلى الإدراك، تستدرك ما فات وتلتزم الطريق، طريق الله المنير وشرعه الجديد الفريد.
وبينما هم يتعجبون ويستنطقون، إذا ببريد فارس يأتي إلى باذان لينهي إليهم الخبر كاملا بمقتل كسرى أبرويز على يد ابنه، مثلما كان مدونا في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنفس التحديدات التي فاه بها عليه الصلاة والسلام، فأسلم باذان والعديد ممن معه ومنهم أخته وأفراد كثيرون من أسرته.
وهكذا إذا ظنّ الضالون والظالمون والطغاة والعتاة والمتألهون والجبابرة المنكرون أنهم قادرون على دين الله وجند الله، يأتيهم أمر الله وقضاؤه من حيث لا يحتسبون ولا يظنون، ويأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلا يفلت أحد من قبضته، وهو مصير الطغاة في كل حين. فليحتفظ وليتيقظ كل أحد، وطريق التوبة مفتوح لمن أراد.
فليكن الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتفال النفوس باستقبال حياة جديدة والسير على طريق الإسلام، حثيثا قويا ملتزما واعيا متفهما جريئا مصمما شجاعا باذلا، متمثلا لشرع الله وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25] .
النبوية، أبو شهبة (2/ 360- 361) .
والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد الهادي الأمين، ونرجو الله تعالى أن يأخذ بأيدينا إلى سواء السبيل، ويجعلنا من جنود محمد صلى الله عليه وسلم الأمين آمين آمين.
المبحث السادس الهجرة النبوية بين الفداء والبناء
* مؤشرات ومبشرات
* محنة ومنحة
* من الجاهلية إلى الإسلام
* العزيمة وقيام الحياة الإسلامية
* فطنة المسلم وتضحيته
* النور وراء الظلمة
* عجائب الإسلام وفرائده
* هذه أخلاق القرآن
* تعدد دروب النفس
* الهجرة والأخذ بالأسباب
* لقاء الهجرة والنّصرة
الهجرة النبوية بين الفداء والبناء الحمد لله رب العالمين الهادي الرحيم «1» ، أرسل النبي الخاتم رحمة مهداة، فالصلاة والسلام على هذا الرسول الأمين، صاحب الهجرة، وحامل لواء الدعوة، ومبلغ الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض أجمعين. فتح الله به آذانا صمّا، وعيونا عميا، وقلوبا غلفا «2» ، فكانوا الهداة، وكانوا الرعاة، وكانوا الدعاة، وخير أمة أخرجت للناس، بما عملت بشرع الله، فاجعلنا اللهم منهم بعونك ولطفك.
إنه لسنة حسنة أن تحتفل جامعتنا بهذه المناسبة الإسلامية الكريمة، ذات الدّلالة الرائعة المتفردة- كأخوات لها كثيرات- نبتت في جو الإسلام، وارتوين به، واستمددن سمته وصبغته صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ [البقرة: 138] .
والمرجو أن تمتد هذه السّنّة لتحتضن كلّ المناسبات الإسلامية، متعالية ومتجاوزة حدود الرسمية إلى الذاتية الخيرة، اعتزازا بها، وفرحا بوقتها، واحتفالا بمناسبتها.
(1) ألقيت في قاعة الاحتفالات الكبرى بكليات البنين بجامعة الإمارات، بمناسبة الاحتفال بالهجرة النبوية الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- ربيع النبوي (الأول) سنة 1399 هـ (1979 م) . وألقيت مرة أخرى، في كليات الطالبات- في نفس الموسم- بعد تغيير يناسب مخاطبة المرأة؛ ولذلك فالأمثلة كثيرة، منها ما تخص المرأة، ثم أدمجت الصيغتان- لتقدم هنا- بعد تنقيح وتحسين وزيادات وإضافة الهوامش والعناوين الفرعية.
(2)
مقتبس من حديث أخرجه البخاري: كتاب: البيوع، باب: كراهية السخب في السوق، رقم (2018) . وكتاب التفسير، باب إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب: 45] ، رقم (4558) وقد سبق ذكره آنفا، أعلاه، ص 21.
وهذا يجعلها تسمو على مجرد حفل ينفضّ بعد حين، واجتماع ينتهي في ساعات. بل المرجو أن يمضي أثره- إن شاء الله- لليوم والغد، لهنا وهناك، ندخر به عند الله أجرا وذخرا يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88- 89] .
فلا تتحول الهجرة وأمثالها إلى مناسبات تذكر، أو احتفالات تقام، أو كلمات تلقى. فليس الإسلام شعارات ترفع، أو عبارات تسمع، ولا شيء بعد ذلك. وبه يكون حجة علينا أمام الله، ومسؤوليتنا في الجامعة أكبر
…
مسؤولية الجامعة- ككل- باعتبارها أداة توجيه، ومسؤولية كلّ فرد فيها باعتبار موقفه وموقعه ومكنته. بل لا بد من استنبات بذوره- وبشكل مطرد- ورعاية شجره، ليأتينا بيانع ثمره. وعندها سنقول: يا ريح الإيمان هبّي، خيرا وبركة ونعمة، وفتوحا في كل ميدان، وتقدما كريما فريدا، وهجرة إلى الله وطاعة.
وعلى هذا الأساس سيكون لهذا الاحتفال، والاحتفالات الإسلامية الآخرى، مدلول يجعل اهتمامنا بها جيدا، يفوق أية مناسبة أخرى. وعندها سوف لا يقف الأمر بحدودها، بل ستتّسع هذه السنّة لتتبنى كل قضية إسلامية والمعاني الإسلامية، في كل اتجاه. والجودة: أن تسير الجامعة- بأركانها- على هذا الطريق، يكون لها طابعا ودليلا وهاديا. وعندها لا تكون هذه المناسبات الرافد الوحيد لإمداد المسلم في حياته، والتامه في أجوائها متعطرا بالإسلام، وإلا فإن آثاره تنتهي عما قريب، ليبقى حالنا ماثلا بانتظار مثيله.
لقد آن الأوان، لمن تعلق بصاحب الهجرة- عليه الصلاة والسلام وبنيها وأتباعها، ليجعلهم أسوة وقدوة، بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحقيقة التعلق بصاحب الهجرة، اتخاذه أسوة، فهو قائدنا، ولا قيادة قبلها ولا بعدها ولا غيرها، فإننا نحتفل بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه، شعورا منّا بالارتباط بهم، وذلك يحثنا على السير في الطريق الذي ساروه.
والهجرة والاحتفال بها، موسم إسلامي، جرى التنازل عن كثير من معانيها، فنزلت حالنا عن آفاقها، لكن الخير كل الخير في الأخذ بمنهج الإسلام وحده، واتّباع نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وأمته الربانية المؤمنة إلى يوم القيامة.
ومثل هذا الاحتفال محطة وواحة؛ للترميم والمداواة والتجديد والترشيد في كافة الأحوال، تركن إليها كلما تكشف غطاء الحنين، واقتربت تقتبس الضياء، وأحست شدّتها اللاهثة عطشا فلا ماء، إلّا من هذا المورد الصافي الزلال الأصيل، لكن متى تأتي هذه الأمة لترتوي فتصح، وتسمو، فتفلح؟
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي في المواسم قائلا: «أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» «1» . فالفلاح في الدارين، بهذا الدين وحده؛ لتكون كل حياتها خضرة نضرة، تعمر الدنيا والآخرة، وتفوز برضوان الله والجنة.
ليست الهجرة الشريفة حدثا ظاهريا، ولا قضية منقطعة؛ لظاهرة مبتورة، فهي فداء وعطاء
…
كانت إحدى ثمار مقدمات ومقومات، هي التي فعلت، فكانت الهجرة التي استجاب المسلمون لأمرها سراعا، بحب وفرح، ولو طلب منهم أيّ شيء لتنافسوا في تقديمه.
والاتجاه في الهجرة هو الاتجاه الإسلامي في تناول الأمور، القائم على الإيمان والحب والفداء، والأخذ بكل الأسباب- سنّة الله تعالى- معتمدين عليه سبحانه. وبه قامت دولة الإسلام الأولى وما تلاها وما بعدها، والفتوحات الإسلامية وحضارتها. ووصلنا الإسلام؛ الذي قصرنا فيه، ولعل الكثير من الأسباب والنتائج والآثار معروفة ومشهودة واضحة.
وحين يكون احتفالنا بهذه الصفة الصافية، متجهين بالنية إلى الله، فهو عبادة، ولا نحتاج إلى زيادة في التحضير والإنفاق، غير اتجاه القلب إلى الله ليتم لنا ذلك إن شاء الله تعالى.
(1) سبق ذكره. انظر: سيرة ابن هشام (1/ 423) . حياة الصحابة (1/ 98، 107) .