الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعله قد مرت بك أقوال وموقف ربعي بن عامر الصحابي الجليل (أو التابعي)«1» ، التي كانت وخاطب بها رستم قائد الفرس في مقابلته له قبل معركة القادسية (15 هـ) حين سأله عما جاء بهم، فقال ربعي:(الله ابتعثنا لنخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله، قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي)«2» .
*
العيش في جو السيرة عمقا وتعلّقا:
ولكل ذلك متطلبات ومواصفات. وإن أيّة دراسة لا تقرأ القرآن الكريم سواء ما يتعلق بالسيرة وغيرها- وما يخص السيرة والدعوة، ولا تعيشها وتعايشها وتحملها، في النفس والفكر والسلوك والحياة، وتتفاعل معها، لا تستطيع أن تتقدم وتتقوم بصورة حسنة. ولا بد من أجل ذلك من تذوّقها وفهمها؛ لأنها ليست مسألة عقلية فحسب، بل تتولى الكيان الإنساني بكافته، منيرة الإيمان.
فالمؤرخ المسلم، التقي الورع المتعلم الفقه المتفتح اللّقن الفهم، المزود بكل ذلك، وبالمؤهلات العلمية اللازمة، والإمكانيات البحثية المطلوبة، أقدر وأعمق وأدق وأصدق وأحق، على تناول السيرة النبوية
(1) الإصابة (1/ 503) ، رقم (2572) .
(2)
البداية والنهاية، ابن كثير (7/ 39) . الكامل في التاريخ، ابن الأثير (2/ 320) . القادسية، أحمد عادل كمال (106) . انظر كذلك: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (127) . حياة الصحابة (1/ 220، 3/ 690) . (حيث أورد تفصيلات وأمثلة أخرى) . قارن: حياة الصحابة (1/ 45) وبعدها.
الشريفة، وعموم التاريخ الإسلامي، بل وآمن وأضمن وأطمن على كتابة تواريخ الأمم الآخرى وأي تاريخ آخر، بل وعلى أية معرفة وتعامل واشتغال في حقل علمي ودراسي، وغيره من حقول الحياة الإنسانية وحضارتها وجوانبها.
وهذا ماض وكامن في كلّ دراسة وتدريس، كما هو محفوظ ومعروف وموروث في كل بحث وتأليف وتحقيق، في نتاج علمائنا، ومهما تفاوتوا فيه فهم على هذا الطريق، نشأة وتربية وأداء وخدمة وكتابة وسعيا ووعيا متعمقا.
وهاتان الصفتان لازمتان متلازمتان لهذا المؤرخ، وهذا اللون من الدراسات والكتابات التاريخية وغيرها، ولا سيما السيرة النبوية الشريفة.
فالأولى منهما: الصفات والمواصفات النوعية، أي: التقوى والورع والفقه والولاء والالتزام بالإسلام والوفاء بكل مستلزماته، وأداء كافة مقتضياته، إيمانا بعقيدته، وقياما بعباداته، وولاء لشريعته، وأخذا بخلقياته- قولا وعملا- وأداء لنصرته، وحضورا لخدمته، مضامين وميادين.
والثانية: القيام بحق العلم وحيازة مؤهلاته وإمكانياته، والتمكن في معانيه، والأخذ بأسبابه ووسائله.
فهذه المواصفات: النوعية والعلمية، كل منها أساسيّ وضروريّ، سواء بسواء. فالمؤهّل النوعي والعلمي كلاهما كان وراء هذا النّتاج الجمّ الكريم الجليل والعمل النوعي والعلمي الباهر المتسع في التأليف التاريخي وغيره، ابتداء من السّنّة المطهرة والسيرة الشريفة، وكافة الميادين الآخرى.
ولا بدّ أن تكون هناك مواصفات مطلوبة، لكل عمل خيّر منير، معتبرة ومعترفة، للقيام بهذا العمل العلمي الجدير، شبيهة بالصفات المطلوبة فيمن يدوّن السّنّة النبوية المطهرة- ومنها الحديث الشريف- أو يؤخذ عنه. وهكذا علت الثقة بعلمائنا الأفاضل وسلفنا الصالح من قبل كلّ أحد، وبأعمالهم
الإنسانية، لا سيما السيرة النبوية الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- وعموم التاريخ الإسلامي.
وإن هؤلاء لم يعتكفوا على الكتابة بل- بجانب التأليف والتدريس- خاضوا الحياة، وحملوا إليها معانيها علما وعملا. وكنت تجدهم في المقدمة وقت الشدائد، وفي القيادة في المعامع، وفي ساحات الجهاد كانوا يحثون الناس، وهم أول الشهداء في الميادين.
وإن الأمر الأساسي الوجيه في ذلك، قراءتها بهذا الشكل، وصياغتها، وتقديمها من خلال رؤيتها في النفس، تشقّق وتفتّق ينابيع الإيمان. وكم من غير المسلمين وباطلاعهم على ذلك تأثروا فأسلموا!
والذين يعيشون في أجواء السيرة الشريفة، فقها وسلوكا، هم أقدر الناس على تصوّرها والتعبير عنها، وأصبر وأخلص على تقصّي أخبارها، وفهم دقائقها، وتتبع نصوصها، واستخلاص عبرها، والعيش بمعانيها، وحبّهم في التجول بين بساتينها ورياضها. وهم أفضل منهجية وإدراكا وربطا وتقويما، وأعمق رؤية، والأمر في ذلك مطّرد.
ومن هنا فالذين عبّروا خير تعبير: هم الذين عاشوا في ظلالها، ونشهد كل هذا، مشمولا به كل المعاني الإسلامية؛ ولذلك نجد هذا الأمر شائعا عند السلف والخلف، قدماء ومحدثين، وحتى يوم الدّين.
ولقد فتح الله عليهم جميعا بفهم كريم؛ لذا- وكمثال سالف للعصر- كان ما كتبه علماء الأمة وشهداء الجهاد، أمثال: أبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي الأندلسي (634 هـ 1237 م) الذي كان من كبار أئمة الحديث الشريف والسيرة النبوية، وله كتاب (الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء) ، وغيره من شهداء العصور وشهوده عميقا، سواء ما يتعلّق بالتفسير، أو السيرة النبوية الشريفة، قويا ومعبرا، وهو قائم على تلك المواصفات، من الفهم العميق، والحفظ الدقيق، والعيش السليم، وأخذ النفس بمنهاج الله تعالى الكريم، والتضحية من أجل ذلك