الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا تتكامل حقائق السيرة المذكورة في القرآن الكريم بعمقها وصدقها، بإخبارها عن غيبها وحاضرها معلومها ومجهولها غيبا وشهادة، في كل الأحوال، مثلما يبين جل جلاله ما يصلح لهذا الإنسان من تشريع وتوجيه يكون دائما على مدى الحياة ويجعل الإنسان في وضعه الطبيعي الذي أراده الله له وخلقه من أجله وأعده لبناء الحياة الفاضلة، مستديرا بنفسه كما استدارت الحياة والكون على وضعها وفلكها ومسارها يوم خلق الله السموات والأرض.
وهكذا تتعانق في القرآن الكريم موضوعات السيرة الشريفة مع موضوعاته الآخرى كالتشريع وغيره ليبقى كلها مرتبطا بالإنسان في كل زمان ومكان يريده ويطلبه ويرغبه، ليا بني حياته بهذا وذاك. وكل هذا لا غنى للإنسان- وطبعا للمجتمع المسلم- عن كل ما في القرآن الكريم، فكله دائم وصالح وضروري لإقامة الحياة الإنسانية بدروبها وفروعها وجوانبها. وهذا الفهم بحاجة إلى دراسة مستقلة فتح الله به وأنا أراجع هذا المبحث لتقديمه إلى الطباعة «1» .
*
بين الدرجة والنوع:
وعلى كل أحد يريد أن يقيم مجتمع الإسلام، أن ينحو هذا المنحى وينظر إلى هذه الآفاق، يرتقي بها فهما وعمقا، حبا وصدقا، علما وعملا، ليقترب- مقتديا برسول الله صلى الله عليه وسلم من مستوى أولئك الصحب الكرام. فهو وإن تخلف عنهم في الدرجة، لا يحب أن يتخلف أو يختلف عنهم في النوعية.
ولهذا أسبابه وعزمه وعزائمه وجدّه وإقباله، بحيث هؤلاء يتنسّمون وينسمون
(1) كان ذلك أثناء مراجعة المبحث، بعد كتابته، وتنقيحه، لرفعه إلى ضربه على الكومبيوتر، مساء الثلاثاء (27/ 2/ 1990) . وهذا يشير إلى المتابعات المتكررة والمراجعات الكثيرة وتوالي إعادة النظر الدائم للكتابة المتأنية، ابتداء من (1981 م) وحتى اليوم (11/ 4/ 1998) حيث أجهزه للطباعة وإن كان أحيانا وكثيرا على تتابع أو تراخ لوقت ما. وأعتبر هذا أطروحتي الأولى، أو الآخرى على أقل تقدير.
روائع السيرة ويشفّون عنها ويشفون بها ويشون بها ويتمثلون روائعها، ينشرون شذاها وينثرون عبقها، تحبّهم كلما اقتربت منهم، تعرفهم بمواقفهم في كل الميادين، يقعون في النفس موقع التقدير حتى لو كانوا آخر الأفواج.
لا يشقى بهم جليس بل يجد فيهم الأنس الأنيس وينتشي البئيس.
فما الذي يدعو إذا إلى محبة بلال وسمية «1» وياسر وغيرهم، وهم حتى
(1) لقي هؤلاء وغيرهم كثيرا من العنت والإرهاق والتعذيب المتنوع المتكاثر والاضطهاد الكبير المريع، وكل المسلمين في العهد المكي. وأصروا بعناد قوي وواجهوا المشركين وأعلنوا إسلامهم وجاهروا به وأبوا إلا الإعلان عموما، رغم أن الدعوة كانت سرية. أما بلال الحبشي، بلال الخير (20 هـ) ، فهو مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم أذّن في حياته صلى الله عليه وسلم حضرا وسفرا، وأذّن يوم الفتح على ظهر الكعبة. أسلم قديما، فكان أحد أول سبعة أظهروا الإسلام: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد (وذكر خبّاب بدل المقداد) ، سير أعلام النبلاء، (1/ 347) . أسد الغابة، (4/ 130) ، (7/ 152) . سيرة ابن هشام، (1/ 318، 632) . وكانت الدعوة الإسلامية في بداية العهد المكي سرّية، لكن بلالا أظهر الإسلام وأعلنه. وكان عبدا لأمية بن خلف، وكان يعذبه بوضع صخرة عظيمة على صدره في الرمضاء وهو صابر محتسب ويقول: أحد أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه. ولذلك يقول عمر بن الخطاب: (أبو بكر سيّدنا وأعتق سيدنا) يعني بلالا. البخاري: فضائل الصحابة، باب مناقب بلال بن رباح، رقم (3544) . حضر المشاهد (المعارك الغزوات) كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى له أصحاب الصحاح الستة عشرات الأحاديث. وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الشام للجهاد وفيها كانت وفاته. وحين حضرته الوفاة كان يقول:(غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه، وافرحتاه) . انظر: الطبقات الكبرى، (3/ 169) . سيرة ابن هشام، (1/ 339) . الإصابة، (1/ 165) ، رقم (736) . الاستيعاب، (1/ 178) ، رقم (213) . الوافي بالوفيات، (10/ 276) ، رقم (4776) . سيرة الذهبي، (217) . أما سميّة (نحو 7 ق. هـ 615 م) وزوجها ياسر وابنهما عمار فقد عذّبوا كثيرا وفيهم قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» . (سبق ذكره أعلاه) ، ثم قتل أبو جهل سمية بأن طعنها بحربة في موطن العفة منها، فكانت أول شهيدة (شهيد) في الإسلام ثم استشهد زوجها ياسر، وهو يعذب بيد المشركين غرقا. أما عمار فعذب
لم يورّثوا علما ولم يرووا سنة إلا في حدود، ومنهم من استشهد مبكرا جدا، مقبلا ومقدما، يقبلون على الإسلام ويتمثلونه بتوازن واتزان.
ولا بد لكل هذه أن تكون بارزة ظاهرة في تولي عملية البناء ورعايتها في الحديث عن الجماعة المؤمنة التي تريد وتعمل و «تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع، التي غلبت عليها الجاهلية، وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة!» «1» .
وهكذا كلما مضيت وعشت، فهمت وتقويت واقتربت واستنتجت وتمثلت وانطلقت. وكلما زاد إيمان الشخص دقّ نظره وثقب بصره وعلا إدراكه، وكان فهمه أعمق وآفاقه أوسع وعمله أشجع. والصحابة الكرام كانوا يزاولون القرآن الكريم، ذوقا وإدراكا، ويعيشونه عملا وواقعا.
وورد عن عبد الله بن مسعود «2» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم القرآن
كثيرا ثم قال كلمة لإرضاء قريش وندم عليها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم طمأنه. انظر: أسد الغابة، (4/ 129) ، (5/ 467) ، (7/ 152) . الأعلام، (3/ 140) ، (5/ 36) ، (8/ 128) . الوافي بالوفيات، (15/ 457) ، رقم (617) .
(1)
التفسير، (3/ 1478) .
(2)
عبد الله بن مسعود (32 هـ 653 م) من أجلّاء الصحابة وأكابرهم ونجبائهم، فضلا وعقلا وقربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو من أهل مكة ومن السابقين إلى الإسلام وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة، وكان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمين وصاحب سره ورفيقه في حلّه وترحاله وغزواته. وقال صلى الله عليه وسلم:«استقرئوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل» . وحين سئل حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذوا عنه، قال:(ما أعرف أحدا أعرف سمتا وهديا ودلّا (شكلا وشمائل) بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد (ابن مسعود)) . (البخاري، فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، رقم (3549، 3551)) . أسلم قديما وهاجر الهجرتين وشهد بدرا والمشاهد بعدها، وشهد فتوح الشام. روى عنه كثير من الصحابة والتابعين. وكان يقول: (أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة
…
والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل. وما أحد أعلم