المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الترقي الإيماني والإقبال على دخول الإسلام: - السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها

[عبد الرحمن علي الحجي]

فهرس الكتاب

- ‌[المدخل]

- ‌الإهداء

- ‌ملاحظات

- ‌تقديم

- ‌تمهيد وتنجيد

- ‌المبحث الأول السيرة النبوية ظلالها وآفاق دراستها

- ‌ استهلال وإطلال وإجلال:

- ‌ التخصص العام والدقيق:

- ‌ المقوّم الأول المهم:

- ‌ اتساع السيرة النبوية والاقتداء بها:

- ‌ السيرة مرآة ومهماز:

- ‌ مصادر دراسة السيرة:

- ‌ صلحاء الأمة وحماتها:

- ‌ كتابة السيرة الشريفة:

- ‌ العيش في جو السيرة عمقا وتعلّقا:

- ‌ كتابة السيرة بين الفقه والتاريخ:

- ‌ دراسة وكتابة السيرة الشريفة وآفاقها:

- ‌ دوام حفظ الله سبحانه لأهل دعوته ونوعيتهم:

- ‌ أسلوب هذه الدراسة:

- ‌ أثر السيرة في المجتمع قوة ودعوة:

- ‌ السيرة وكتابة التاريخ:

- ‌ السيرة وجيل الصّحابة:

- ‌ هذه الدراسة والكتابة:

- ‌ الحب الواضح المتجدّد:

- ‌ الخلوص في التوجه، والنقاء في التلقّي:

- ‌ سبل التعبير عن السيرة النبوية الشريفة:

- ‌ السيرة النبوية مشاهد عملية ومواقف حيّة:

- ‌ معرفة دلائل السيرة المتفردة من خلال تفوّقها ومعالمها:

- ‌ تحقّق الإسلام بالسيرة:

- ‌ القدوة المثالية الواقعية:

- ‌ نعمة حفظ الله تعالى لكتابه وسنّة رسوله:

- ‌ قادة الأمة والسّيرة:

- ‌ واجبات محبّبة كريمة، وثمار مباركة طيبة:

- ‌ علماء الأمة هم حماتها، وبناة حضارتها:

- ‌ جمال أمثلة صياغة الحياة وتفرّد وعمق صبغتها:

- ‌ علماء الموائد:

- ‌ السّنّة وكتابة السّيرة:

- ‌ من يكتب السيرة

- ‌ إرهاصات:

- ‌ أدلة إيضاح وإفصاح:

- ‌ جيلنا والاهتمام بالسيرة:

- ‌ واجب العناية بالسيرة:

- ‌المسلم ودراسة السيرة:

- ‌ موقع السيرة النبوية من التاريخ:

- ‌ الصحابة والاقتداء بالسيرة:

- ‌ الخيرية والجيل المثال:

- ‌ السيرة موئل ومنهل:

- ‌ السيرة بناء وارتقاء:

- ‌ مدلولات فريدة جديدة:

- ‌ ثمار أغنت ميادينها:

- ‌ عصر النبوة وامتلاء ميادينه بالأعلام العالية:

- ‌ الحضارة والأصالة الإسلامية في الدعوة الربانية:

- ‌ الصحابة والولاء للإسلام:

- ‌ أسلموا وأهلهم أعداء:

- ‌ الإيمان وتكاليف تربيته:

- ‌ رهافة الثمرة الإيمانية:

- ‌ إضاآت كريمة ومدلولات فاضلة لقصة ربيعة:

- ‌ دقة الرهافة وأصالتها جعلتهم يشعرون بالتقصير:

- ‌ مدى عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحابة:

- ‌ العناية النبوية الحنون في رعاية الواقع الميمون:

- ‌ تفقد الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وحبّهم له:

- ‌ النساء وفرض الحجاب:

- ‌ جيل الصحابة والإقبال على أمر الله:

- ‌ قصة تحريم الخمر:

- ‌ الترقي الإيماني والإقبال على دخول الإسلام:

- ‌ حضور مشاهد الغابرين:

- ‌ المؤمنون والمعاندون وغيرهم:

- ‌ لله سنة جارية ثابتة بملازمة العاقبة للمتقين:

- ‌ معاني الأحداث السالفة:

- ‌ القرآن الكريم والعبر العامة المستفادة من قصصه:

- ‌ أجواء السيرة العبقة:

- ‌ الصحابة وسبل الارتقاء:

- ‌ القرآن والسيرة:

- ‌ بين الدرجة والنوع:

- ‌ تذوّق الصحابة نعمة الوحي، وافتقادها لدى انقطاعها:

- ‌ شواهد وفرائد صحابية:

- ‌ الرخص أم العزائم:

- ‌ السيرة مدد وحياة:

- ‌الثمار الطيبة الطّعوم:

- ‌ الإضافة وحديث القرآن:

- ‌ الإسلام منهج أهل الأرض ومستقبلهم المشرّف المشرق:

- ‌ الصحابة فخر الميادين، ازدحمت بهم الساحات:

- ‌ السيرة والتابعون وتابعوهم:

- ‌ الصحابة أئمة ومثل وهم بالرسول صلى الله عليه وسلم مقتدون:

- ‌ حبّ متوارث طهور:

- ‌ عناية الأجيال بالسيرة:

- ‌ وضوح أحداث السيرة:

- ‌ البشارات بالرسالة الخاتمة:

- ‌ عالمية الدعوة الإسلامية:

- ‌ السيرة ونسج المثال:

- ‌ السيرة ونفس المسلم:

- ‌ تفسير السيرة ومكانتها:

- ‌ فاتحة وافتتاح:

- ‌ هذا الاحتفال:

- ‌ أهمية المناسبات:

- ‌ مولد واقتران:

- ‌ تفكر وتفكر:

- ‌ الإسلام وحده هو الشرف:

- ‌ معنى الاحتفال بالمولد الشريف:

- ‌ هيمنة القرآن وإمامة الإسلام:

- ‌ يا حسرة على العباد:

- ‌ ولادة وولادة:

- ‌المسلم قويّ بهذا الدين:

- ‌ أمّة القرآن عودي للقرآن:

- ‌ الحياة البشرية من الجاهلية إلى الإنسانية:

- ‌ المثل والأمثلة:

- ‌ الشرود عن منهج الله هو الدمار:

- ‌ النجاة بهذا الدّين وحده:

- ‌ مهمّة المسلم وآفاقه وقوّته:

- ‌ كيف السبيل

- ‌ أداء حق أمانة الدعوة:

- ‌ المولد الميمون: المناسبة والاحتفال:

- ‌ مدلول حادثة الفيل:

- ‌ عالمية الدعوة الإسلامية:

- ‌ السموّ بالاستمرار والاتصال:

- ‌ صورة مضيئة يهبها الإيمان:

- ‌ السّهمي في بلاط كسرى:

- ‌معجزة نبوية شاهدة:

- ‌ مؤشرات ومبشرات:

- ‌ محنة ومنحة:

- ‌ من الجاهلية إلى الإسلام:

- ‌ العزيمة وقيام الحياة الإسلامية:

- ‌ فطنة المسلم وتضحيته:

- ‌ النور وراء الظلمة:

- ‌ عجائب الإسلام وفرائده:

- ‌ هذه أخلاق القرآن:

- ‌ تعدد دروب النفس:

- ‌ الهجرة والأخذ بالأسباب:

- ‌ لقاء الهجرة والنّصرة:

- ‌ مناسبات وأحفال:

- ‌ بين العلم والعمل:

- ‌ الجيل المسلم والسيرة:

- ‌ الهجرة والدولة:

- ‌ الهجرات الثلاث:

- ‌ إقامة الحياة الإسلامية:

- ‌ الخلوص الكامل لله:

- ‌ الإسلام هجرة وبيعة:

- ‌ الإسلام وطن وقومية:

- ‌ الهجرة هجرة ونصرة:

- ‌ الحق قادم بأهله:

- ‌ بداية وافتتاح:

- ‌ الإسلام كبرى النّعم:

- ‌ ولادة الإنسان الجديد:

- ‌ دعوة اليقظة والارتقاء:

- ‌ تقدم الركب الميمون:

- ‌ حمل الراية المباركة:

- ‌ ذلك الجيل الفريد:

- ‌ قوة التضحية والفداء:

- ‌إنها بيعة دائمة، وعهود قائمة

- ‌ الإقبال خفافا وثقالا:

- ‌ لقاء الهجرة والنّصرة:

- ‌ واجب الشباب الطلاب:

- ‌ تضحيات فائقة رائقة:

- ‌ مناسبات ذات دلالة:

- ‌ قوة الإسلام ذاتية ربانية أودعها الله تعالى:

- ‌ التّسخير لهذا الدّين:

- ‌ الهجرة حبّ وحفظ:

- ‌ النصر حليف الإيمان:

- ‌ عجائب هذا التاريخ:

- ‌ الإسلام ارتقاء وشموخ:

- ‌ الإسلام تعامل وأخلاق:

- ‌ الإسلام شفاء وبناء:

- ‌فهرس الآيات

- ‌فهرس الأحاديث والآثار النبوية

- ‌فهرس الشعر

- ‌فهرس الأعلام

- ‌فهرس الأماكن والبقاع

- ‌فهرس القبائل والجماعات

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ الترقي الإيماني والإقبال على دخول الإسلام:

الرياح أو هشيما تأكله النار فيصبح المحذور منظورا، حين لا ينفع الندم والادعاء التبريري، من عدم الوعي المفتعل. عندها يكتبون عن عودة الوعي واللاوعي ويرون أنفسهم صغارا بعد أن خدعوها، وحتى لو عاقبوها حقيقة، إن كانوا صادقين.

ولكن تلك سنّة الله التي تجنبوها وعقّوها، بفجاجة وغرور صبياني.

أعرضوا عن سنن الله في الأنفس والآفاق والوجود، جهلوها وتجاهلوها واستجهلوها. وما يصيبهم- حاضرا ومستقبلا، مثلما حدث ماضيا ودوما- هو بعض آثار وموجبات ومعطيات سنن الله تعالى في عقاب المكاذبين، كما سنراه في مصارع الغابرين، حين الحديث عنها، يوم ضحكت عليهم شياطين الإنس والجن.

وعلى أي من هذه الاعتبارات والمهمات والمفهومات، فلا منجاة ولا حق ولا استقامة إلا بهذا الدين. نهر زلال موفور ومتوفر لكل أحد، وللإنسان أنزله الله سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم، فليغترف منه من يشاء ما شاء كيف يشاء، وبشرطه وحدوده ومقتضياته وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21] .

وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 109- 111] .

*‌

‌ الترقي الإيماني والإقبال على دخول الإسلام:

لقد غدا مجتمع الصحابة كلّه هكذا يترقى كل يوم في سلّم الإيمان، متقدما نحو قممه التي لا تدرك إلا بهذا الدين. وهذا المجتمع غدا كله ماثر

ص: 174

وكرائم ومحامد. ومن هنا كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدع القادمين إلى المدينة المنورة يقيمون فيها أياما- مسلمين وغير مسلمين- ليروا وليشاهدوا نوعية هذا المجتمع الرباني الذي أنشأه الإسلام ونشّأه بهذا القرآن. فهو تربية وإخراج، كما قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] .

كانت إقامة القادمين إلى المدينة المنورة مقصودة، على ما يبدو، ولمدة كثرت أو قلت، وتكون على الأغلب نحو ثلاثة أيام.

وتبين من خلال متابعاتي في السيرة النبوية الشريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- أن الذي يأتي إلى المدينة من غير المسلمين- بأي دافع وسبب- لا أحد من الصحابة يشرح له الإسلام على الإطلاق، ولم يوجّه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أحدا ليقوم بذلك، بل لعل التوجيه ألا يفعله أحد.

وأفهم منه أن يترك القادم هو نفسه يتولى معرفة الإسلام من خلال ما يراه من سلوك أهله وأخلاقهم وتعامل مجتمعهم، وذلك يكفيه وزيادة، ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك كله. كما أن الشرح قد يشير- مما يشير إليه- إلى إجبار القادم- بشكل ما- على قبول الإسلام، الذي لا يكون إلا بالقبول الذاتي القلبي الأصيل. يلزم به نفسه ويفرح بأخذه منهجا ويا بني حياته عليه.

وهو بهذا يسعى إليه ولو على حياته. وهذا ما يريده الإسلام، وهو الذي رأيناه من هؤلاء الذين يصرون عليه ويأتون إلى المدينة معتمدين متعمدين محتملين حتى من أهليهم فارين إلى مدينته ومجتمعه ونبيه صلى الله عليه وسلم.

وبهذا انتشر الإسلام. وهذا يدل دلالة واضحة قوية جادة على نوعية المجتمع المسلم وقوة التزامه وشمول إقباله على منهج هذا الدين.

فأينما يلتفت القادم لا يرى إلا عجبا في هذا الدين وماذا صنع بأهله، إذ أخذهم إلى قممه السامقة وأجوائه العبقة ومجتمعه الكريم الذي صاغه هذا المنهج الرباني الوضئ الجديد الفريد.

ص: 175

وإن قصة جبلة بن الأيهم، ملك الغساسنة- الذي أصر الخليفة عمر بن الخطاب على تنفيذ العدل فيه، فهرب وعاد، ثم ندم «1» - لتمثّل دلالة طبيعية معتادة على الإسلام في كل شيء، والذي يقدّم ميزانه دوما على كل اعتبار، دون أي حسابات غير حساب موازينه من منهج الله المنير والسعي لرضاه سبحانه. ولا يجب أن ننتظر منه غيره، مثلما لا ينتظر مثله من أي توجّه أو منهج- إن صح ذلك- أو نظام. بل إنه لمن العبث والضياع والتيه انتظار ذلك من غيره، بل لا نتوقع مطلقا إلا عكسه تماما. أمّا ندم جبلة فلا بد أنه أدرك روعة هذا الإسلام ومحاسنه وتفرده التي حجبت أو تأخرت أو غلبت رؤيتها غروره وزعامته وجاهليته. وقد فات الأوان، إلا لو أنه أقبل من جديد بقوة وثبات وإقدام يعلن موقفه، دون تردد، ولا سيما وهو غارق بدنياه بترفها وأبهتها ونعيمها الزائف الزائل الغرور.

أما موعد شرح الإسلام فكان يتم للمسلمين وللقادمين مسلمين أو بعد أو يدخلوه مؤمنين، أفرادا أو جماعات أو أفواجا.

فكان بقاء القادمين إلى مجتمع المدينة لمدة، ليشهدوا هذا المجتمع القرآني الفريد وليعرفوا من خلال نوعيته هذا المجتمع الذي رباه الإسلام ونشّأه، وأخرجه الله تعالى إلى الحياة مثالا، بهذا الدين العظيم. وكيف وماذا صنع بهم، فكانوا ولادة جديدة للإنسان الفاضل الذي أخذ بهذا المنهج الفريد، المنهج الرباني الوحيد الذي يمكنه أن يصل بالإنسان- فردا ومجتمعا ودولة- إلى هذا الأفق السامي الوضئ، وبه وحده يكون. فكانوا يندهشون مأخوذين بهذا الإنسان الجديد، فيأتي إلى الإسلام فرحا طائعا ويصبح من خيرة أبنائه بعد ما كان من ألد أعدائه، بل ويندم على زمن من عمره أنفقه، معاديا للإسلام أو بعيدا عنه، يحاول ملافاته بمضاعفة جهده واجتهاده وجهاده، مثلما جرى لكثيرين، منهم: الحارث بن هشام بن

(1) أخبار عمر (193- 197) .

ص: 176

المغيرة «1» أخو أبي جهل، فرعون هذه الأمة وعدوها اللدود.

فيندفع هذا المسلم الجديد بهذا المنهج الجديد يحمله بين أضلعه، منطلقا به في الحياة يمثله في كل أحواله وتعامله. وقد يكون حرصه على خدمته أكثر قوة من شدته في عداوته له، والأمثلة كثيرة. وكم من أحد أو جمع جاؤوا ليوقعوا بالمجتمع وأهله وينالوا منه، بل ويتامروا على نبيه صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، فيعودون مسلمين، يعملون للإسلام بكل ما يملكون وبكل طاقتهم.

جرى ذلك لعديد: من مثل:

1-

ثمامة بن أثال «2» ملك اليمامة «3» ، الذي بعد أن كان يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه، لكنه بعد إسلامه غدا يقاتل أعداء الإسلام حتى لو كانوا من قومه وعشيرته (بنو حنيفة) . وكان ممن ثبت على الإسلام أيام الرّدّة بل وقاتلهم، حتى ضد من ارتد من قومه من المرتدين وقاتلهم، ومنهم مسيلمة الكذاب، حتى مكّن الله منه وتم القضاء عليه والحمد لله.

2-

كذلك قصة إسلام عمير بن وهب، الذي أتى إلى المدينة بعد معركة بدر، رمضان السنة الثانية للهجرة. وكان يريد الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، بحجة فداء ابنه من الأسر، وكان قد حضر بدرا مع المشركين هو وابنه وهب، فنجا هو وأسر ابنه. وتعهد له ابن عمه صفوان بن أمية بن خلف أن يكفل عياله

(1) انظر ترجمته: أسد الغابة، (1/ 420) ، رقم (979) . الإصابة، (1/ 293) ، رقم (1504) . سير أعلام النبلاء، (4/ 419) ، رقم (167) .

(2)

انظر ترجمته: وقصة إسلامه: البخاري، كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال، رقم (4114) . مسلم: رقم (1764) . أبو داود: رقم (2679) . أسد الغابة، (1/ 294) ، رقم (619) . الاستيعاب، (1/ 213) ، رقم (278) . الإصابة، (1/ 203) ، رقم (961) . طبقات ابن سعد، (5/ 401) ، زاد المعاد، (3/ 227) . الوافي، رقم (34) .

(3)

«اليمامة» : منطقة في نجد، وتقع فيها الرياض، وتسمى العارض، ومن مدنها: العيينة والدّرعيّة.

ص: 177

ودينه وجهازه ليذهب إلى المدينة لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسيف مسموم مصقول مشمول. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحدثه في المسجد- وعمير يخفي نيته- كشف له، بما أوحى الله إليه، اتفاقه مع صفوان في الحجر (في الكعبة) فقال صلى الله عليه وسلم:«تحمّلت له بقتلي على أن يعول بنيك ويقضي دينك، والله حائل بيني وبينك!» . قال عمير: أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.

يا رسول الله، كنا نكذبك بالوحي، وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحجر، والحمد لله الذي ساقني هذا المساق، وقد آمنت بالله ورسوله. ففرح المسلمون حين هداه الله «1» .

3-

وشبيه بذلك إسلام نوفل بن الحارث بن عبد المطلب «2» . وهو ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. أسر يوم بدر كافرا، ولما فداه عمّه العباس أسلم. وكان أسنّ إخوته (أبو سفيان وربيعة) ومن سائر من أسلم من بني هاشم.

ولقد ذكرت في إسلامه رواية أخرى أراها أجود، وقد رواها حفيده عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، قال: لما أسر نوفل بن الحارث ببدر، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«افد نفسك» . قال: ما لي مال أفتدي به. قال صلى الله عليه وسلم: «افد نفسك برماحك التي بجدّة» فقال: والله ما علم أحد أن لي بجدّة رماحا، بعد الله غيري، أشهد أنك رسول الله. ففدى نفسه بها، وكانت ألف رمح «3» .

(1) أسد الغابة، (4/ 300- 301) . كذلك: الاستيعاب، (3/ 1221) ، رقم (1997) . سبل الهدى، (4/ 110) . مغازي الواقدي، (1/ 62) ، (125- 127) . الإصابة، (3/ 36) ، رقم (6058) .

(2)

أسد الغابة، (5/ 369) ، رقم (5310) . الاستيعاب، (4/ 1512) ، رقم (1542) ، رقم (2642) . الإصابة، (3/ 577) ، رقم (8826) . سير أعلام النبلاء، (1/ 199) . الخلفاء الراشدون، الذهبي، (155) . طبقات ابن سعد، (4/ 44- 47) . سبل الهدى، 4/ 105.

(3)

أسد الغابة، (5/ 369) . كذلك: الاستيعاب، (4/ 1512) . طبقات ابن سعد، (4/ 46) .

ص: 178

ورجع إلى مكة ثم هاجر هو والعباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق.

وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنين والطائف وثبت يوم حنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعان يومها بثلاثة آلاف رمح.

وهكذا ترى بوضوح كبير أن أكثر الصحابة حاربوا الإسلام أولا أشد الحرب، ثم أسلم من أسلم منهم بعد ذلك، فكان أحدهم يتمنى أن يفدي الإسلام وقرآنه ورسوله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله وأهله، وهو بذلك سعيد.

وكان أحدهم لا يود إلا أن يموت شهيدا في سبيل الله؛ ولذلك فإن خالد ابن الوليد بن المغيرة الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد معركة مؤتة (8 هـ)«سيف من سيوف الله» «1» . قال حين حضرته الوفاة: (لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في بدني (جسدي) موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم. ثم ها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، وما من عمل أرجى من (لا إله إلا الله) وأنا متترّس بها) «2» .

وكان حريصا أشد الحرص على الشهادة في سبيل الله، فيقول:(ما أدري من أي يوم أفر: يوم أراد الله أن يهدي لي فيه شهادة، أو يوم أراد الله أن يهدي لي فيه كرامة)«3» . وقال أيضا (عند الوفاة) : (ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محبّ (أو أبشّر فيها بغلام) أحبّ إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية (من المهاجرين) أصبّح فيها العدوّ (فعليكم بالجهاد)«4» .

(1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب خالد، رقم (3547) . الاستيعاب، (2/ 429) ، رقم (603) .

(2)

الاستيعاب، (2/ 430) ، رقم (603) . أسد الغابة، (2/ 111) . سير أعلام النبلاء، (1/ 371، 382) .

(3)

سير أعلام النبلاء، (1/ 375) .

(4)

سير أعلام النبلاء، نفسه. الإصابة (1/ 414) .

ص: 179

وقال أيضا عند الوفاة: (لقد طلبت القتل مظانّه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي. وما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتّها وأنا متترّس، والسماء تهلّني ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار. ثم قال:

إذا متّ، فانظروا إلى سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله) «1» .

انظر إلى هذا التحول العجيب، فبعد ذلك العداء المتناهي يصبح لا همّ له في حياته إلا خدمة هذا الدين؛ الذي غدا عنده أغلى من حياته، وخير ما يفرحه خدمته والعمل له وبه والجهاد بكل الطاقة الإيمانية الجديدة في سبيل الله بل أصبح يتبرك حتى بشعر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن أبا سليمان خالد بن الوليد افتقد يوم اليرموك قلنسوته «2» ، فبحثوا عنها فلم يجدوها.

واستمر البحث حتى وجدوها، فإذا هي خلقة (خلقة بالية) فقال:

(اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فحلق رأسه فابتدر الناس شعره فسبقتهم إلى ناصيته الكريمة الشريفة فجعلتها في هذه القلنسوة، فلم أشهد قتالا وهي معي إلا رزقت النصر)«3» .

(1) سير أعلام النبلاء، (1/ 381) . الإصابة (1/ 414) . أسد الغابة، (2/ 111) .

(2)

وهو لباس للرأس متنوع الأشكال والألوان.

(3)

سير أعلام النبلاء، (1/ 374- 375) . الإصابة، (1/ 414) . وكان هذا في عمرة حجة الوداع، التي كانت رابع عمرة من عمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. انظر: صحيح البخاري، كتاب العمرة، باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1685- 1689) . كذلك صحيح مسلم، كتاب الحج، باب عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن، رقم (1253) . وفي هذه المعركة (اليرموك، 15 هـ) من فتوحات الشام، عزل عمر بن الخطاب خالد ابن الوليد عن القيادة وتولاها أبو عبيدة بن عامر بن الجراح، فلم يخبر خالدا إلا بعد المعركة. وهنا موقف فريد من الاثنين، حيث يقول خالد: إن الأمر عنده سواء أن يكون قائدا أو جنديا، لأنه يقاتل في سبيل الله تعالى. وأبو عبيدة لا يخبره إلا بعد انتهاء المعركة، بينما الأمر بذلك وصله قبل المعركة!!! ولكن عزل خالد لأسباب رفيعة أصيلة وكريمة غير التي يرددها الجهلة والحاقدون

ص: 180

وهذا ما فعله الإسلام بأتباعه يكسبهم طاقات جديدة، وينمي ما لديهم باتجاه العمل لله تعالى وطلب ثوابه وجنته. وعلى ذلك ففي معركة مؤتة (8 هـ) وقد آلت قيادة الجيش الإسلامي بالافه الثلاثة التي واجه جيش الروم بالافه المئة بمشيئة الله على أقل تقدير أو يزيدون، وبعد مقتل القادة الثلاثة، وتولي خالد القيادة، فيحارب ببطولة الإسلام الجديدة الوليدة الفريدة، وينسحب بعد أن تدقّ (تكسر) بيده تسعة أسياف، فما بقي في يده إلا صفيحة يمانية «1» .

بهذا الدين غدا خالد بن الوليد علما في الحياة الإسلامية، عرفه المسلمون وغير المسلمين. فهو منا موضع التقدير والحب والاقتداء، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

والأعداء. وإن موقف كل من خالد وأبي عبيدة (أمين هذه الأمة) في الفتوحات الإسلامية وفي الجبهة الغربية (الشام) له أمثلة متعددة في تاريخ الفتوحات الإسلامية- ثمرة البناء الكريم بالمنهج الرباني بهذا القرآن، وعلى يد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منها موقف في جبهة الفتوحات الإسلامية في الشرق (العراق وفارس) بين المثنى بن حارثة وسعد بن أبي وقاص، قبل القادسية سنة (15 هـ) . وقد مرّ بنا موقف النعمان بن عديّ العدوي. ولقد جعل خالد تنفيذ وصيته إلى الخليفة عمر (سير أعلام النبلاء، (1/ 382) . الإصابة (1/ 415) . وتوفي خالد سنة (21 هـ) وعمره دون الخمسين عاما، مجاهدا في سبيل الله وقائدا وعاملا للإسلام، وطلب الشهادة فلم يرزقها، وندبه المسلمون وحزنوا عليه، حتى قال عمر:«ما على نساء آل الوليد أن يسفحن على خالد من دموعهن ما لم يكن نقعا أو لقلقة» . سير أعلام النبلاء، (1/ 381، 383) . «النقع» : التراب على الرؤوس، و «اللقلقة» : الصراخ. وندبته أمه وهي تقول:

أنت خير من ألف ألف من القو

م إذا ما كبّت وجوه الرجال

(1)

رواه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة، رقم (4017- 4018) . سير أعلام النبلاء، (1/ 375) . الإصابة، (1/ 414) . أسد الغابة، (2/ 110) . «والصفيحة اليمانية» . سيف عريض النصل (الحديدة) من صنع اليمن.

ص: 181