الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
إرهاصات:
ألا يمكن اعتبار مثل هذه الأمور- رغم وضع المسلمين وحالهم- علامات تشير إلى مستقبل هذا الدّين؟! وإن هذه المواقف، ممن ليسوا مسلمين من بلدان التقدم العلمي والعمران المدني، وهم من علية القوم فيهم، إنها إرهاصات لمستقبل الإسلام، تذيب جدران الشرك والوثنية وبعضها بأيدي أهلها وبلادها- لتفتح الباب أمام الدعوة الإسلامية إلى بيانه، والاقتناع به، واعتناقه؟!
وكم كان هذا طريقا لاعتناق الإسلام فيهم، مثلما جرى مع العديد من الأدباء والكتاب الأوربيين والغربيين والشرقيين؛ الذين ألّف كلّ منهم كتابا بلغته عن الرسول صلى الله عليه وسلم فاعتنق الإسلام.
إن الدعوة الإسلامية اليوم هي دعوة العصر، رغم كل القيود والسدود والاضطهاد والمطاردة، في الداخل والخارج، ومهما تكاثروا عليها، وما ذلك إلا لشعورهم بأنها كذلك. والعمالات المتنوعة التي تملّكت القوى والوسائل لترى ازدهارها واندحارها هي، أمام هذه الدعوة الكريمة بقوة الإيمان القوي المتدفق المتجدّد الوضئ.
قارن بين وضع دعوة الإسلام اليوم وقبل نصف قرن أو يزيد، حتى ليصبح أمر الإسلام هو الوحيد، تطارد دعوته فلول الظلام، وهي في عنفوانها، وهو مجرد مأسور أعزل، لينتصر بعون الله سبحانه تعالى، والأدلة حولنا تكثر وتزيد.
وانظر إلى ما يجري في العالم شرقه وغربه من عجز أنظمته عن حلّ مشاكل الحياة الإنسانية، والارتقاء بها إلى الآفاق الكريمة.
*
أدلة إيضاح وإفصاح:
وقل مثل ذلك في الغرب بما ادعاه، وإن كانت هنالك فروق
…
الغرب وحضارته مهدّدة اليوم بالانهيار؛ الذي بدت نذره واضحة لكثير من زعمائه وعلمائه وعقلائه، سواء السياسيين والاجتماعيين والعلميين؛ الذين ما فتئوا يحذّرونه من ذلك، مثلما حدث لحضارات أسلافها وامبراطوريات أمثالها، مما عدّ أكبر إمبراطوريات التاريخ العتيدة وحضاراتها، كاليونانية (الإغريقية) ووريثتها الإمبراطورية الرومانية (شرقا وغربا) ثم الفارسية.
والحضارة الحالية تجري مجراها، ومهما امتلكت من إيجابيات- قد تؤجّل انهيارها- لكنها في النهاية لا تستطيع الإفلات من مصيرها المحتوم.
فهي تحمل في طياتها عوامل الانهيار والاندثار، ويوم تذهب- بإرادة الله تعالى- لا تخلّف وراءها غير سجلّات التاريخ التي دوّنت أخبارها، كما جرى لمن مضى وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الرعد: 6] «1» .
إن للحياة سننا ونواميس وقوانين، خلقها ويجريها الله سبحانه بإرادته، بلا تبديل ولا تحويل فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: 43] وهذه السّنن الإلهية هي التي لها وحدها الحتمية.
وكم من أمم في التاريخ سادت بقوتها، وتغلبت بأجنادها، وتحكّمت بسطوتها وتسلّطها، لقرون عدة، ثم لم يبق منها غير أخبارها وآثارها، بل وربما أساطيرها، وحسبها ذلك وزيادة.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر: 44] .
وظنّي أنّ أحد أسباب غلبة هذه الحضارات الجاهلية المعاصرة، وتوليها
(1)«المثلات» : (جمع: مثلة) : العقوبات المثكّلات، وهي العقوبة الفاضحة التي تجعل من تقع عليه مثالا يرتدع به غيره.
الزّمام اليوم، وتحكّمها في الرقاب- إن لم يكن كلها- هو الغياب الإسلامي، يواجهها، ويظهر عوارها وعورها، وينهيها؛ لذلك فهي تحارب الإسلام بكل قواها، وبكافة الأساليب الخفية والجلية، وتتعاون في ذلك متحالفة، واقفة في وجهه، وهو ما نشاهده من هذا التقارب والتالف بل والامتزاج، هو كالزواج بعقد سفاح- بين الصهيونية العالمية والصّليبية العالمية.
وذلك كله تراه رغم تناقضاتها وعداواتها وتناحرها، فالكفر ملّة واحدة؛ لأن ظهور الإسلام، وقيام مجتمعه وحضارته يعجل بها- كما جرى لأمثالها- بل ويعمل لتواريها- لعجزها وضعفها أمامه- فلا تثبت له فواق زمن، وبذلك تغدو كأمس الدابر، أو تصبح أثرا بعد عين.
وغير بعيد عنا أخبار ما جرى لأكبر إمبراطوريتين في العالم يومها (الرومانية- الرومية- والفارسية الساسانية) ، وكيف واجههما الإسلام في عين الوقت، في العقد الثاني من الهجرة النبوية الشريفة، بحفنة من جند الله الأخيار، فزالتا من على وجه الأرض وإلى الأبد. وتلك سنّة الله في مصارع الضالين، ونصره المؤمنين بدعوته أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ «1» [الرعد: 41] .
وقد أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قبل حدوث ذلك كله وببضع سنين، بما علّمه الله سبحانه، وأوحاه إليه، يوم لم يكن في الأفق ما يدعو له أو يشير إليه، حتى لقد تعجّب فرحا متأكدا موقنا من سمعه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، حين قال صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده! لتنفقنّ كنوزهما
(1) التفسير، 3/ 2065.
(لتنفقنّ كنوزهما) في سبيل الله» «1» .
وتفهم من هذا الحديث الشريف أمور كثيرة، منها: أنه بمجئ الإسلام أو قيامه تزول وتذهب وتندثر كلّ جاهلية مهما كانت، ومنها أنه حين يقوم الإسلام لا يبقى أمامه عند المواجهة لا كسرى ولا قيصر- وقد ذهبا نهائيا- كناية عن زوال الظلم والظالمين والقائمين به وعليه، وكل العتاة والبغاة والطواغيت. وذلك آت بعون الله، وكائن بإذنه سبحانه، وتلك من مهمات هذا الدين الإسلامي الذي لا بد أن يتحقق به ذلك، وهذه بعض ما أراده الله سبحانه وتعالى.
وكان الذي جرى لتلك الإمبراطوريتين بما لم يكن ليخطر على بال أحد في العالم- يومها ولا اليوم أو غدا- لهم ولا من حولهم، لولا أنه قد حدث فعلا بشكل لا مجال لإغفاله أو إهماله أو تجاهله، سواء في إمكانية وقوف هؤلاء الأخيار من جند الله الأبرار، أو زوال أولئك الضالين المضلّين، وبهذه السرعة المذهلة، مما يعتبر واحدة من معجزات هذا الدين- أو عليها مسحة منه- بانت في تلك الفتوحات وفي ذلك الزمان على يد أولئك الذين تربّوا على مائدة القرآن الكريم في ظلّ السّيرة النبوية الشريفة، ومقتدين بصاحبها صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء الأعداء يعرفون جيدا صدق هذا الدين وحقيقته وأحقيته الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] لذلك هم يستميتون في حربه، فهم ما فتئوا كلما استطاعوا لذلك سبيلا- مهما تبدلت الأساليب- يقفون حائلا دون قيام أهله وأبنائه به، ويقاعدون لهم كل مرصد؛ لمنعهم من صراط الله المستقيم، يرتجفون أن يجتمع عليه وبه الأفاضل العماليق أو العمالقة، كما يسمّونهم؛ لذلك فهم يعملون- حسب تعبيرهم- على عدم إيقاظ العملاق وإبقائه نائما،
(1) أخرجه البخاري: كتاب الخمس، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لكم الغنائم)، رقم (2953) . ومسلم: رقم (2918، 2919) . انظر كذلك: سير أعلام النبلاء (3/ 164) .
ويا ليت المسلمين يعلمون ما جاء- مثلا- في تقرير اللورد «كامبل» عضو مجلس اللوردات البريطاني، سنة (1907 م) مما يعتبر في وقت جدّ مبكر، لم يدركه جمهرة وكثرة كاثرة من المسلمين، حتى بعد هذا التاريخ ببضعة عقود، إن كانوا أدركوه الآن.
فالإسلام هو الدين الوحيد، والمنهج الفريد، والشرع القديم الجديد، الذي يمكن أن يرتقي بالإنسان- كل إنسان، أراد ذلك، وعمل له بشرطه- وينقذه من شقوته النّكدة، وبؤسه الخانق المقيم، وضياعه المتواصل.
لذلك أراده الله سبحانه وأبقاه وحفظه- بروعته- متولّيا بقوته العمل والقيادة مع جميع الأحوال، ولكلّ الأقوام والشعوب والأمم- بكل أجناسها وانتما آتها وعقائدها- في كل زمان ومكان، ومع كافة مراقي تحصيلهم، ودرجة علمهم، ومستوى معايشهم، فهو- بما أودع الله فيه، وجعله آخر الأديان، وخاتمة الشرائع، وسيد المناهج- قويّ بذاته وطبيعته، يتقدّم بنفسه بلا سيف أو مدفع لما فيه من التوافق المعشق والترافق المتدفق والتنادي أو التّداعي المتألّق، ولاستقامته المتيسّرة مع الفطرة الإنسانية وتساوقه معها بل واشتياقها له- ومع حقائق الحياة، ونواميس الوجود.
فهو يلبّي ببساطة وعمق وسهولة كل حاجات الجسم والعقل والروح، والعمران المادي والمعنوي والروحي، والتقدم لكافة البيئات المتنوعة، وحاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة واستعلاء، من شعوب رعاة الكلأ، وساكني الخيام إلى سكنة ناطحات السحاب، وما يجدّ لأي أحد من جديد الأسباب. وهذا للأسف الشديد ما لا يدركه- كله أو بعضه- إلا القليل من أهله وأبنائه، وأدركه بوضوح كل أو جلّ أعدائه؛ لذلك هم يخافونه، ويخشون تقدّمه، وسيادته، وإقبال الناس عليه.
ولذلك فإنّ هذا محسوب لديهم- في مجمل الأحوال، وعلى الدوام، وفي كل اتجاه- في غاية الدقة والعناية والاهتمام، مهما تظاهروا بغيره أو برروا من سيره أو عظموا- مداراة- من أمره، لا ينفكّون من ذلك بحال.