الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مليئا بالشوق لخدمته، ابتداء من دائرة النفس الإنسانية، بأن تجدها به سلوكا أسنى، ثم يأتي العمل على نشره. ويوم تخلو النفس من هذه المعاني والسلوك من صورها، فإن العمل أو الدعوة تصبح أمرا دنيويا لمصلحة أو منفعة، وهو أمر يرفضه الإسلام. فالإيمان بهذا الدين الكريم يشعر صاحبه بالتوق والشوق والتعطش له.
ومن فقه المسلمين الأوائل، والمرأة المسلمة بالذات، في الهجرة، كما هي في الحياة الإسلامية، جنّدت نفسها مهاجرة ومحضّرة ومدبّرة، افتدت ذلك بنفسها. وهي مهمة تتكامل مع جهود الرجل، أو تنفرد بإجادتها في الهجرة وغيرها لخدمة الإسلام في كل ميدان وآن، ولدينا من هذا قمم عالية وأعلام هادية. فخديجة وسميّة وأم سلمة وعائشة وأسماء ونساء المقاطعة وأم معبد وغيرهن ما أكثرهن.
جزى الله ربّ الناس خير جزائه
…
رفيقين حلّا خيمتي أمّ معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به
…
وأفلح من أمسى رفيق محمد
وكم شاركن في بناء الدولة بعد الهجرة، وانتصرن لله ورسوله، فكن مثالا وأيّ مثال!
*
العزيمة وقيام الحياة الإسلامية:
الأخذ بالعزيمة شأن ذلك الجيل القرآني، ومن سار على نهجهم ونهل كما نهلوا- من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد أخذ أكثرهم بالعزيمة «1» ، ولديه متسع في الأخذ بالرخصة
…
وخدمة الإسلام تحتاج إلى العزائم والأخذ بها، لا تقدّم عليها دنيا المال والمناصب والشهرة وغيرها. ومن مقتضى الصدق في الإيمان بالله تعالى ودعوته والجدية فيه: ظهور ذلك بوضوح تام ظاهر، سلوكا قراءة وأخلاقا.
(1) مرت أمثلة كثيرة على هذا الأمر الواضح. انظر أعلاه: 218.
إن الكفر والشرك- والعياذ بالله- مرض يسد منافذ النفس، ويبيد رغباتها الفطرية، فهم- ككل إنسان- عطاش لدعوة الله بالفطرة، والماء قريب، خلقه الله للارتواء، وهم يرفضونه، ويجعلون حربهم لتياره الكاسح، بقوته الذاتية المستمدة من الله تعالى، ويذيقون أهله كل فنون المواجهة والتعذيب، ترطبت به نفوسهم، وبللت أرواحهم ينبوع (وينابيع) الإيمان من غير نضوب.
والمرأة المسلمة كانت قوية صلبة، رغم ما يعرف عن جنسها من رقة لا تتحمل، إلا أنها أعطت صورة الإيمان بدعوة الله تعالى، إذا استقرت في قلب إنسان. فكم تحملت وبذلت المرأة المسلمة من كل لون بنفسها أو بأولادها أو بالأعزة عليها، وهذا يسري في كل آن، وكانت خلال القرون تجاهد في أكثر من ميدان، وأكبرها تنشئة الأبناء في محاضن القرآن.
أيتها المرأة المسلمة! يا شقّ النفس المؤمنة! اكتحلت بك العيون، والفرح بمواقفك، أغلقت على الدموع الجفون. فروعة كل أحد مستمدة من هذا الدين ليس الرجال فقط، بل المؤمنات الفضليات، وكذلك الأطفال، بنين وبنات، ارتضوا جميع الأحوال، ولو أن يهلكوا عيانا لأمر الله، كما استسلم إسماعيل- عليه السلام فاستعلوا على كل محرم، وانشغلوا بذكر الله، وعملوا لرضاه. فكل شيء لشرع الله مبذول، في السلم والحرب والسلامة والسامة، وطلب الجنة، بعد الدنيا، وكيف ينام طالبها «1» ، أو يركن لدنيا راغب فيها، فإن سلعة الله غالية إلا إن سلعة الله الجنة «2» ؟!
(1) معنى حديث شريف.
(2)
حديث رواه الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب:(18)، رقم (2450) وتمامه:«من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» . انظر: جامع الأصول (4/ 9) رقم (1981) . «أدلج» : سار أول الليل، من الإدلاج. والمراد هاهنا (التشمير في أول الأمر، فإن
تبدل في حياتهم كل شيء، مذ بدعوة الله كانت ولادة الإنسان الجديد.
غدا المسلم عبدا لله- بعد الأصنام- متوجها إليه عارفا طريقه. باعوا أنفسهم إيمانا، وارتبطوا بشرعه، تعبّدوا له، بعد العبودية لغيره، تابوا عن الفواحش، وعشقوا الفضائل الربانية.
وبهذا التكوين الجديد الذي استهل الفداء طريقا، قائما على الإيمان بالله والحب فيه: حب دعوته وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب المؤمنين وحب مستقبل الإسلام، يفعل ما يريده غير سائل عن لونه أو كنهه ولا مبال بضخامته وعتوه، يدور مع القرآن حيث دار «1» ، لا يريده في غير ذلك الاتجاه، ولا يتهاون في إدارته، يتنازل عن كل شيء له، ولا يتنازل منه بأي مقدار لشيء.
بهذه الروح كانت تلك الأمور، وكانت الهجرة، وكانت الدولة، وكانت الفتوحات والحضارة والحياة الكريمة الفضلى والمثل العليا الكبرى والبطولات الفذة القصوى.
ألم يأتكم خبر عبد الله بن حذافة السّهمي «2» ، حين وقع في أسر الروم- في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه واستقدمه القيصر هرقل ليعرض عليه- ترغيبا وترهيبا- ليترك دين الإسلام. فقال- أخذا بالعزيمة دون الرخصة، ودولة الإسلام قائمة- (والله لو ملكتني ملك العرب والعجم ما تركت دين الله (دين محمد) طرفة عين) . ولما قتلوا أمامه بعض أسرى المسلمين رميا بالزيت المغلي إرهابا، لعله يضعف، وجيء به يبكي استبشروا، وسألوه إن كان يبكي ضعفا ويوافق؟ فلم يتغير جوابه، أو يتزحزح من موقعه. إذا لماذا كان يبكي؟ قال: (أبكي لأني لا أملك غير
من سار من أول الليل كان جديرا ببلوغ المنزل في وقت مبكر) .
(1)
من حديث شريف.
(2)
أسد الغابة (3/ 212- 213) . سير أعلام النبلاء (2/ 14- 15) . ويذكر صاحب الاستيعاب (3/ 891) أن أسره كان سنة (19) للهجرة النبوية الشريفة في خلافة عمر.
نفس واحدة إذا استشهدت انقطع جهادي في سبيل الله، وكنت أتمنى أن لي بكل شعرة في بدني نفسا تموت الواحدة تلو الآخرى في سبيل الله) .
فلا عجب، ألم يقل رسولنا وقائدنا وقدوتنا وزعيمنا ومعلمنا وهادينا، ولا زعيم لنا غيره ولا نبي بعده صلى الله عليه وسلم:«ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل» «1» .
وحين اشترت قريش في مكة أسيرا مسلما خبيب بن عديّ «2» ، في السنة
(1) أخرجه البخاري: كتاب: الإيمان، باب: الجهاد من الإيمان، رقم (36) . وورد عنده بأطول من هذا: كتاب: الجهاد، باب: تمني الشهادة، رقم (2644) . ونصّه:«والذي نفسي بيده! لولا أنّ رجالا من المؤمنين، لا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده. لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل» . أدناه، ص 406.
(2)
خبيب بن عدي الأنصاري: أوسي من بني النجار، شهد بدرا وأحدا. وهو أحد العشرة أو الستة- الذين بعثهم إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبائل عضل والقارة، في أواخر السنة الثالثة للهجرة أو أوائل الرابعة- وهو الأرجح- بعد أحد. وكان أميرهم عاصم بن ثابت ابن أبي الأقلح، جدّ عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه. هذا ما تقوله بعض المصادر، وهو يعني أن عمر بن الخطاب تزوج بنت عاصم بن ثابت. لكن الذي يبدو أن أم عاصم بن عمر بن الخطاب هي جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح، أي: أن أم عاصم بن عمر بن الخطاب هي أخت عاصم بن ثابت، وليست ابنته. انظر: التاريخ الأندلسي (189)، حيث تجد التفاصيل. قدم المدينة المنورة رهط من هذه القبائل وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يا رسول الله إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلّموننا شرائع الإسلام)(سيرة ابن هشام، 3/ 169. حياة الصحابة، 1/ 521) . فبعث صلى الله عليه وسلم هؤلاء الصحابة الكرام، فخرجوا مع القوم. والصحابة هم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن أبي الأفلح، وخبيب بن عديّ، وزيد بن الدّثنّة بن معاوية، وعبد الله بن طارق. وهذا في حالة كونهم ستة نفر، كما يقول ابن إسحاق (السيرة 3/ 169) . لكن آخرين يقولون إنهم عشرة نفر ستة من المهاجرين وأربعة من الأنصار (مغازي الذهبي، 230) . فخرجوا مع القوم حتى إذا وصلوا ماء الرجيع (بين عسفان ومكة بناحية الحجاز) (وعسفان: مدينة تبعد
نحو (130) كيلومتر (كيلا) شمال مكة باتجاه المدينة المنورة) غدروا بهم، واستصرخوا عليهم قومهم، فأحاط بهم نحو مئة أو يزيد، بأسلحتهم. فلم يستسلم الصحابة، وجرى قتال، ولم يكن معهم غير سلاح الراكب (السيوف في القرب جمع قراب) ، ولم يكن معهم سلاح المحارب، فقتل سبعة من الصحابة، منهم أميرهم، ثم قتل آخر، وبقي اثنان: خبيب بن عدي، وزيد بن الدّثنة. فأخذوهما إلى مكة، وباعوهما لمن يطلب الثأر منهما في قتلى بدر، فسجنا، وكان خبيب في بيت امرأة، رأت منه عجبا فأسلمت. ثم جيء بهما، فقتلا صبرا (قتل محبوسا محكوما، وليس في حرب) في يوم واحد. ولما أرادوا قتل خبيب قال لهم: ذروني أركع ركعتين، فتركوه، ولم يطل فيهما، قائلا:(لولا أن تظنوا أنّ ما بي جزع لطوّلتها) . فكان أول من صلب في الإسلام، وأول من سنّ الركعتين لكل مسلم قتل صبرا. وحين رفعوه على الخشبة قال:(اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا)(سيرة ابن هشام، 3/ 173) . ثم أنشد شعرا، وهو المذكور أعلاه، وهو في المصادر أطول.
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزع
فلست بمبد للعدو تخشّعا
…
ولا جزعا إني إلى الله مرجعي
فو الله ما أرجو إذا متّ مسلما
…
على أيّ جنب كان في الله مصرعي
ثم سألوه (هو أو زيد) : أتحبّ أن محمدا صلى الله عليه وسلم عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: (والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي) . فعجبوا من ذلك وقالوا: ما رأينا أحدا يحبّ صاحبه كما يحبّ هؤلاء محمدا. (سيرة ابن هشام، 3/ 172. حياة الصحابة 1/ 521، 523) . ثم قتلا، رحمهما الله تعالى، ورضي عنهما وأرضاهما. (أخرجه البخاري: كتاب الجهاد، باب: هل يستأسر الرجل، رقم 2880. كذلك رقم: 3858، ورقم 6967) . سيرة ابن هشام، (3/ 169- 183) . زاد المعاد (3/ 244، 246) . الإصابة (1/ 418) رقم (2222) . وعند الذهبي تلخيص جيد لحادثة يوم الرجيع (أو سرية الرجيع، أو ماء الرجيع) ذلك الذي وقع في صفر من السنة الرابعة للهجرة الشريفة حين الحديث عن خبيب يقول: شهد أحدا، وكان فيمن بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع بني لحيان، فلما صاروا بالرجيع، غدروا بهم، واستصرخوا عليهم، وقتلوا فيهم، وأسروا خبيبا، وزيد بن الدّثنّة، فباعوهما بمكة، فقتلوهما بمن قتل النبي صلى الله عليه وسلم من قومهم (في المعارك والحرب) وصلبوهما