المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الإسلام شفاء وبناء: - السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها

[عبد الرحمن علي الحجي]

فهرس الكتاب

- ‌[المدخل]

- ‌الإهداء

- ‌ملاحظات

- ‌تقديم

- ‌تمهيد وتنجيد

- ‌المبحث الأول السيرة النبوية ظلالها وآفاق دراستها

- ‌ استهلال وإطلال وإجلال:

- ‌ التخصص العام والدقيق:

- ‌ المقوّم الأول المهم:

- ‌ اتساع السيرة النبوية والاقتداء بها:

- ‌ السيرة مرآة ومهماز:

- ‌ مصادر دراسة السيرة:

- ‌ صلحاء الأمة وحماتها:

- ‌ كتابة السيرة الشريفة:

- ‌ العيش في جو السيرة عمقا وتعلّقا:

- ‌ كتابة السيرة بين الفقه والتاريخ:

- ‌ دراسة وكتابة السيرة الشريفة وآفاقها:

- ‌ دوام حفظ الله سبحانه لأهل دعوته ونوعيتهم:

- ‌ أسلوب هذه الدراسة:

- ‌ أثر السيرة في المجتمع قوة ودعوة:

- ‌ السيرة وكتابة التاريخ:

- ‌ السيرة وجيل الصّحابة:

- ‌ هذه الدراسة والكتابة:

- ‌ الحب الواضح المتجدّد:

- ‌ الخلوص في التوجه، والنقاء في التلقّي:

- ‌ سبل التعبير عن السيرة النبوية الشريفة:

- ‌ السيرة النبوية مشاهد عملية ومواقف حيّة:

- ‌ معرفة دلائل السيرة المتفردة من خلال تفوّقها ومعالمها:

- ‌ تحقّق الإسلام بالسيرة:

- ‌ القدوة المثالية الواقعية:

- ‌ نعمة حفظ الله تعالى لكتابه وسنّة رسوله:

- ‌ قادة الأمة والسّيرة:

- ‌ واجبات محبّبة كريمة، وثمار مباركة طيبة:

- ‌ علماء الأمة هم حماتها، وبناة حضارتها:

- ‌ جمال أمثلة صياغة الحياة وتفرّد وعمق صبغتها:

- ‌ علماء الموائد:

- ‌ السّنّة وكتابة السّيرة:

- ‌ من يكتب السيرة

- ‌ إرهاصات:

- ‌ أدلة إيضاح وإفصاح:

- ‌ جيلنا والاهتمام بالسيرة:

- ‌ واجب العناية بالسيرة:

- ‌المسلم ودراسة السيرة:

- ‌ موقع السيرة النبوية من التاريخ:

- ‌ الصحابة والاقتداء بالسيرة:

- ‌ الخيرية والجيل المثال:

- ‌ السيرة موئل ومنهل:

- ‌ السيرة بناء وارتقاء:

- ‌ مدلولات فريدة جديدة:

- ‌ ثمار أغنت ميادينها:

- ‌ عصر النبوة وامتلاء ميادينه بالأعلام العالية:

- ‌ الحضارة والأصالة الإسلامية في الدعوة الربانية:

- ‌ الصحابة والولاء للإسلام:

- ‌ أسلموا وأهلهم أعداء:

- ‌ الإيمان وتكاليف تربيته:

- ‌ رهافة الثمرة الإيمانية:

- ‌ إضاآت كريمة ومدلولات فاضلة لقصة ربيعة:

- ‌ دقة الرهافة وأصالتها جعلتهم يشعرون بالتقصير:

- ‌ مدى عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحابة:

- ‌ العناية النبوية الحنون في رعاية الواقع الميمون:

- ‌ تفقد الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وحبّهم له:

- ‌ النساء وفرض الحجاب:

- ‌ جيل الصحابة والإقبال على أمر الله:

- ‌ قصة تحريم الخمر:

- ‌ الترقي الإيماني والإقبال على دخول الإسلام:

- ‌ حضور مشاهد الغابرين:

- ‌ المؤمنون والمعاندون وغيرهم:

- ‌ لله سنة جارية ثابتة بملازمة العاقبة للمتقين:

- ‌ معاني الأحداث السالفة:

- ‌ القرآن الكريم والعبر العامة المستفادة من قصصه:

- ‌ أجواء السيرة العبقة:

- ‌ الصحابة وسبل الارتقاء:

- ‌ القرآن والسيرة:

- ‌ بين الدرجة والنوع:

- ‌ تذوّق الصحابة نعمة الوحي، وافتقادها لدى انقطاعها:

- ‌ شواهد وفرائد صحابية:

- ‌ الرخص أم العزائم:

- ‌ السيرة مدد وحياة:

- ‌الثمار الطيبة الطّعوم:

- ‌ الإضافة وحديث القرآن:

- ‌ الإسلام منهج أهل الأرض ومستقبلهم المشرّف المشرق:

- ‌ الصحابة فخر الميادين، ازدحمت بهم الساحات:

- ‌ السيرة والتابعون وتابعوهم:

- ‌ الصحابة أئمة ومثل وهم بالرسول صلى الله عليه وسلم مقتدون:

- ‌ حبّ متوارث طهور:

- ‌ عناية الأجيال بالسيرة:

- ‌ وضوح أحداث السيرة:

- ‌ البشارات بالرسالة الخاتمة:

- ‌ عالمية الدعوة الإسلامية:

- ‌ السيرة ونسج المثال:

- ‌ السيرة ونفس المسلم:

- ‌ تفسير السيرة ومكانتها:

- ‌ فاتحة وافتتاح:

- ‌ هذا الاحتفال:

- ‌ أهمية المناسبات:

- ‌ مولد واقتران:

- ‌ تفكر وتفكر:

- ‌ الإسلام وحده هو الشرف:

- ‌ معنى الاحتفال بالمولد الشريف:

- ‌ هيمنة القرآن وإمامة الإسلام:

- ‌ يا حسرة على العباد:

- ‌ ولادة وولادة:

- ‌المسلم قويّ بهذا الدين:

- ‌ أمّة القرآن عودي للقرآن:

- ‌ الحياة البشرية من الجاهلية إلى الإنسانية:

- ‌ المثل والأمثلة:

- ‌ الشرود عن منهج الله هو الدمار:

- ‌ النجاة بهذا الدّين وحده:

- ‌ مهمّة المسلم وآفاقه وقوّته:

- ‌ كيف السبيل

- ‌ أداء حق أمانة الدعوة:

- ‌ المولد الميمون: المناسبة والاحتفال:

- ‌ مدلول حادثة الفيل:

- ‌ عالمية الدعوة الإسلامية:

- ‌ السموّ بالاستمرار والاتصال:

- ‌ صورة مضيئة يهبها الإيمان:

- ‌ السّهمي في بلاط كسرى:

- ‌معجزة نبوية شاهدة:

- ‌ مؤشرات ومبشرات:

- ‌ محنة ومنحة:

- ‌ من الجاهلية إلى الإسلام:

- ‌ العزيمة وقيام الحياة الإسلامية:

- ‌ فطنة المسلم وتضحيته:

- ‌ النور وراء الظلمة:

- ‌ عجائب الإسلام وفرائده:

- ‌ هذه أخلاق القرآن:

- ‌ تعدد دروب النفس:

- ‌ الهجرة والأخذ بالأسباب:

- ‌ لقاء الهجرة والنّصرة:

- ‌ مناسبات وأحفال:

- ‌ بين العلم والعمل:

- ‌ الجيل المسلم والسيرة:

- ‌ الهجرة والدولة:

- ‌ الهجرات الثلاث:

- ‌ إقامة الحياة الإسلامية:

- ‌ الخلوص الكامل لله:

- ‌ الإسلام هجرة وبيعة:

- ‌ الإسلام وطن وقومية:

- ‌ الهجرة هجرة ونصرة:

- ‌ الحق قادم بأهله:

- ‌ بداية وافتتاح:

- ‌ الإسلام كبرى النّعم:

- ‌ ولادة الإنسان الجديد:

- ‌ دعوة اليقظة والارتقاء:

- ‌ تقدم الركب الميمون:

- ‌ حمل الراية المباركة:

- ‌ ذلك الجيل الفريد:

- ‌ قوة التضحية والفداء:

- ‌إنها بيعة دائمة، وعهود قائمة

- ‌ الإقبال خفافا وثقالا:

- ‌ لقاء الهجرة والنّصرة:

- ‌ واجب الشباب الطلاب:

- ‌ تضحيات فائقة رائقة:

- ‌ مناسبات ذات دلالة:

- ‌ قوة الإسلام ذاتية ربانية أودعها الله تعالى:

- ‌ التّسخير لهذا الدّين:

- ‌ الهجرة حبّ وحفظ:

- ‌ النصر حليف الإيمان:

- ‌ عجائب هذا التاريخ:

- ‌ الإسلام ارتقاء وشموخ:

- ‌ الإسلام تعامل وأخلاق:

- ‌ الإسلام شفاء وبناء:

- ‌فهرس الآيات

- ‌فهرس الأحاديث والآثار النبوية

- ‌فهرس الشعر

- ‌فهرس الأعلام

- ‌فهرس الأماكن والبقاع

- ‌فهرس القبائل والجماعات

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ الإسلام شفاء وبناء:

يكرر الإجراآت- وبإصرار وعناد ومتابعة- لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقع أسيرا بين يدي سرية لمسلمين لم تكن تعرفه، فلما جاءت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيّده في المسجد- وأبقاه فيه أياما- لعله ليرى نوعية المجتمع المسلم الذي يحاربه، ويعدّ العدّة لقتل نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ووكل به من يسقيه ويطعمه، بل وحتى من ناقته صلى الله عليه وسلم، ثم أطلقه بدون أي شرط ولا مقابل ولا تكليف. وكان من أمره أن أسلم، ثم واجه قريشا في مكة لعداوتها للإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقاطعهم، وحاصرهم اقتصاديا، حتى فكّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حصار مكة، وقريش ما زالت في حالة حرب مع الإسلام، ونبيه صلى الله عليه وسلم وأهله.

*‌

‌ الإسلام شفاء وبناء:

وكم واجهت المسلمين بعد الهجرة أمور ومشكلات، كان بعضها كافيا لتعويقها وإيقافها، وربما لتفتيتهم، ولكن بهذا الإيمان بشرع الله تعالى حلّت كلها. وما تمت من أمور كانت لذلك عنوانا، فانظر في المؤاخاة «1» ، كيف أظهرت معاني الإسلام بشكلها العملي الناصع، ممارسة ومظاهرة. وهؤلاء رغم قلّتهم، وقلّة إمكانياتهم، حملوا رسالتهم في مجتمعهم، وانطلقوا بها إلى الناس.

فالمسلم يحمل رسالته إلى العالم، لا يبالي أن يواجه الصعاب والأعداء بكل وسائلهم، وهم لا تهمّهم الوسيلة، ولا بدّ للمسلم أن يعرف ذلك، يعرف سبيل الأعداء مثلما يعرف سبيل الإيمان. والمسلمون في كل ذلك يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره وما تلاه من عصور، ينظرونها، ويمرّرونها أمامهم في كل شأن وأمر. فهو القدوة والأسوة والإمام والحادي والقائد والرائد والمرشد، فإذا ما نالهم شيء فقد ناله أكثر.

حتى انتهت تلك الأحداث، ثم توفي بعيد ذلك رضي الله عنه وأرضاه، ورحمه.

(1)

انظر: أعلاه، ص 303- 305، 310- 311، 345- 347.

ص: 368

والدعاة إلى الله يهون عليهم كل ما يلقون، فهم يعرفون الطريق ويعرفون نحيزة الطغيان وديدن الطغاة. فدور الهجرة ومعناها ومقتضاها وطريقها ومبناها مستمر ومفتوح. رسم المسلمون، خلال التاريخ، وعلى مداره:

معانيها، وصوّروا الإسلام بسلوكهم، وأقاموا الحياة بجهادهم، فكانوا في هجرة دائمة بكل ألوانها، يلجؤون إلى الله، ويحتمون بشرعه. وإن الذي يطّلع على الإسلام لا بد أن يهاجر إليه، لا أن يهرب منه. كيف يحدث ذلك؟ ومن هنا كانت الهجرة- ولا بد أن تكون- مستمرة بألوانها الزاهية وصفحاتها الباهية، والأمر كله لله سبحانه وتعالى.

إنّ الهجرة هجرة عقيدة ونصرة؛ لنشر الإسلام، وتخليص أنفسنا وبني الإنسان من ظلمات النفس وظلام الحياة، وندعو أهل الأرض لإنقاذهم، عاملين على إبلاغه إليهم حيثما كانوا.

فلنهاجر إلى الله لنبني الحياة، ونفوز بخيري الدنيا والآخرة، وبهذه الروح تتمّ الهجرة، ويتمّ كلّ شيء في حياة المسلم، ما دامت نفسه ونيته عليه قائمة، وحياتها به دائمة، تلتحف بالبشر والسعادة.

ف «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» «1» والهجرة إلى الله تعالى مفاصلة ومهاجرة لكل سوء وانحراف وعصيان وانجراف، وعند ذاك سيمدّ الله المؤمنين بنصره، ويؤيدهم، ويعلي شأنهم، ويرفع قدرهم، ويكتب لهم الأجر، إن شاء الله سبحانه وتعالى، وبمنّه وكرمه. وهو عز وجل الذي يقول: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] .

(1) أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم افتتح مكة: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» . كتاب: أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب: لا يحل القتال بمكة، رقم (1737/ 2) . كتاب: الجهاد والسّير، باب: فضل الجهاد والسّير، رقم (2631/ 3) .

ص: 369

وماذا بعد؟ خاتمة ونتيجة وعبر مستفادة!!

«لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده» «1» . والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه واتبع هداه وأعلاه إلى يوم الدين.

إنه مثلما حفظ الله تعالى القرآن الكريم عمود الدين، حفظ كذلك دعامته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرضيته سيرته، إذ كان هذا الحفظ هو حفظ النصوص وحفظ الدروس، أعني التطبيق العملي والشرح الواقعي لمضامين الإسلام، قرآنا وسنة وسيرة. وكانت السيرة الشريفة مستوعبة- من الناحية العملية- للإسلام كله، قرآنا وسنة وسيرة، بكل أبعاده وأمجاده وإرفاده، وكل جهده وجهاده واجتهاده، بحيث يرى المسلم الإسلام كاملا في السيرة النبوية الشريفة.

لقد هيأ الله سبحانه وتعالى من الأسباب والأفراد والجماعات من يقوم بذلك ويطبقه، بأعلى صيغة وأفخم صورة وأرجى إقبال، بأداء متحفز قوي منطلق لا حدود له، وبشكل رائع، لا يدانيه ما عداه ولا يتخيله أو لا يعرفه أو يفهمه. فيكف يطبقه ومن أين له؟ وحتى لو عرفه لا يستطيع- ولو استطاع- لما وصل لهذا المستوى، وبهذه القوة والفاعلية والوضاءة. وهذا وحده دليل على أنه من عند الله تعالى، أودعه سرا لا يظهر أثره إلا لمن أقبل

(1) من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، يوم فتح مكة (وهو على درجة الكعبة) . زاد المعاد، (3/ 358) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 447) . السيرة النبوية (المغازي) ، الذهبي، (1/ 556) . سيرة ابن هشام، (3/ 412) . أعلاه، ص 235.

ص: 371

عليه، دينا وعقيدة وشريعة. مثلما هي- بنفس الوقت- دليل على أن كل وضع منقطع الصلة بالله، لا يرجى منه خير.

وحتى لو عرف أيّ أحد هذه الأبعاد فالذي جرى يفوق أي خيال وآمال ومال. هذا من ناحية التطبيق، ثم كان الأمر من ناحية التوثيق والدقة والثقة والحرص، بحيث إن هؤلاء أنفسهم كان من ماثرهم، أنهم أدّوا صيغ هذه السيرة العطرة بأخبارها وأقوالها وأوصافها، شمولا وإدراكا وتنقيبا.

حرص هؤلاء الصحب الكرام حرصا كليا، مثلما تجاوز بطبعه كل الحدود تجاوز كذلك تنقيبهم كلّ الصيغ المعهودة، منظورة وغير منظورة، في السعي وراء كلمة، بل حرف، ولو كانت بديلة، بحيث إن أحدهم سافر وفي ذلك الزمان ووسائل الانتقال تلك- من بلد إلى آخر بعيد، ليتأكد فحسب من أمر يعرفه، متعلق بالإسلام عموما أو بشيء من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، قولا وفعلا أو تقريرا «1» .

وكانوا ينقبون عن أحواله صلى الله عليه وسلم وسلوكه الكريم وتصرفاته في كل ميدان، ومع كل إنسان وفي أي أوان، حتى في خصوصياته أو فيما قد يكون فيه حرج أو حياء أو حاجب يستوجب التوقف عنده. لكنهم كانوا يمضون إليه بصراحة أنيقة وعبارة رقيقة وصحبة رفيقة، حتى في أشد الأمور خصوصية، مما يتعلق ببيته الكريم وزوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين «2» .

والإسلام دين شامل كامل باق عام، لم يدع شيئا إلّا وبينه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] . وأن الله جل جلاله هيأ الأسباب

(1) انظر: أعلاه، ص 239- 240.

(2)

وهنا تظهر بعض جوانب حكمة التعدد والخصوصية بذلك للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فكنّ خير من يروي ذلك ويخبرن ويعلّمن الأمة (نساءها ورجالها وأطفالها) كل تلك الأمور وغيرها. كما أن هذا دليل على شمول الإسلام وأنه دين البشرية الكامل التام، يوجه الإنسان في كل أمور الحياة الإنسانية على هذه الأرض حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ص: 372

لكي ينجز كل ما وعد سبحانه مما يتعلق بهذا الدين. فأنت ترى منذ بداية الدعوة الإسلامية، كيف سارت ونمت. تتبدى لك فيها بشرية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ونبوته في عين الوقت، حيث أبلغ منهج الله تعالى للأمة وجاهد له وصبر وضحى، حتى نصره الله تعالى وحققه نافذا وواقعا معاشا، بكل أبعاده. يتعايش الإنسان به ومعه وله، ثم كيف أن سياقاته وحركته وانطلاقته مصونة مأمونة مضمونة، وراءها يد الله القادر تسيّرها.

وكان لا بد أن يتم ما يريده سبحانه وتعالى، من اكتما لهذا الدين- بعد النصوص- في تطبيقه الشامل. ولذلك وإن كان هذا المعنى فهم واضحا؛ لكنه بحاجة إلى تجلية أكثر، تتعمق وراء مضامينه وارتباطاته في واقع الحياة. تحس كأن الله تعالى صرّف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتجري بالكيفية التي تمت بها، محقّقة إرادة الله جل جلاله في اكتما لهذا الدين، نصوصا وتطبيقا، في كل الآفاق والمجالات والصيغ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران: 152] «1» .

وكلما تعمق الدارس- المسلم خاصة- في السيرة الشريفة، يرى بشكل أوضح هذه الآفاق. ومن خلالها وفي هذا الأمر يشهد أيضا في الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بشريته مثلما يرى نبوته، حيث اجتمعت كلتاهما، تلاقيا طبيعيا لا تكادان تنفكان، بل هما تماما كذلك «2» .

ولذلك فإنك ترى- مما ترى- أن كل ما في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول وفعل وتقرير وحركة وسكنة- وتأمل يشير إليك بوضوح- أنه نبي، أرسله الله تعالى بالصيغة المبيّنة في كتابه سبحانه وتعالى. وبهذا فإنك كلما ارتقيت وتعمقت وترققت، لا تسأل عن معجزة أخرى للتدليل على نبوته الكريمة، على الرغم من أن هذا لا يعد من المعجزات المفهومة والمعروفة.

(1) الحس: إخماد الأنفس والاستئصال. التفسير (1/ 493) . أعلاه، ص 16.

(2)

انظر أعلاه، (12، 17) .

ص: 373

ولكن المعجزة هنا متضامنة متضمنة متداخلة «1» .

أما المعجزات الآخرى التي أتمها وأجراها الله تعالى على يديه، ورآها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات، وكذلك المعجزات الإخبارية (الغيبية) التي كان صلى الله عليه وسلم يلقيها، بما كشف الله تعالى له، سواء من معرفة الأشخاص أو دعاء لأحد أو على أحد بإنجاز، منعا وتثبيتا، أو بإخبار من الأحداث، كان الصحابة يعرفون ذلك. مثلما ورد عن عديّ بن حاتم «2» ، وبعضها كانوا يستغربونها أو يستفسرونها لجدّتها، ومثلما جرى لسراقة بن مالك بن جعشم. بل إن ذلك كان مفهوما حتى لغير المسلمين، بل- وأكثر من ذلك- لمن كانوا يحاربونه، كما جرى لأبي بن خلف وأخيه أمية وأبي لهب (عمه)«3» .

وهذه المعاني يكفي أن ترى- من خلال صحبة هذه السيرة- ليس علما يتابع أو يدرس أو يؤلّف أو يحاضر، لكن من خلال المعايشة العملية والوقوف في ميادينها، مستشعرا معانيها ملتصقا بمبانيها معبرا عن تطبيقاتها، بشمول وتكامل وامتداد. والحق أن هذا هو أحد مضامين الهدف المرجو من وراء دراسة السيرة النبوية الشريفة.

وعلى هذا ربما أجد المبرر فيما أردده، من أن كثرة كاثرة من المسلمين لا يعرفون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقول: دعوني أزعم ذلك. وهذا في حالة ما يمكن ألا يكون كثرة يستسلمون لهذه المقولة ولا يقرّون بها ويرونها مبالغة وبعيدة.

فكانت السيرة النبوية الشريفة أعلى مرتقى للإنسانية في صياغة الإنسان.

(1) انظر: هنا، (70- 71، 82، 375، 377) .

(2)

انظر: سير أعلام النبلاء، (3/ 164) .

(3)

السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 652) ، (3/ 84) . السيرة النبوية، الذهبي، (1/ 184- 185) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 126)، (199) . انظر كذلك: أعلاه.

ص: 374

ولكن لا يمكن أن تتم ولو بأصغر صورة مثل هذه الصياغة، دون منهج الله تعالى الذي أودع سبحانه تعالى فيه سرا يقيم الحياة الإنسانية الفاضلة عليه بمستويات وصور وصيغ، تجعلها هي التي تحس بهذا السر المودع، حتى لو لم يمكنك التعبير عنه، لكنك في الواقع تكاد تلمسه، بل تراه وتشهده.

وحتى مع توفر هذا المنهج بين يديك، قد لا يفلح الكثير في الوصول إلى تلك الصيغ التي وصل إليها الصحابة، وبذلك التكامل والشمول والارتقاء، ليس في جانب من جوانب الحياة، بل في كافتها وكلها، بذلك المستوى للفرد، مثلما لم يتم ذلك لفئة أو أفراد أو جماعة فحسب، بل للمجتمع كله صغارا وكبارا نساء ورجالا شيبا وشبابا وشوابّا «1» ، لا يكاد يشذ عنه أحد منذ الجيل القرآني الفريد (جيل الصحابة الكرام) . وفي كلتا الحالتين تحقيق لمعجزة الإسلام وبيان إعجازه المتنوع المتسع المكين. لذلك فالإنسان فيه مولود جديد وهو في نوعيته فريد وفي حياته سعيد، سعادة الدنيا والآخرة.

فإن يتم إنشاء وتنشئة جيل بأكمله، معبّرا عن معاني الإسلام في مسلكه وحياته وإنجازاته التي طبعت بطابع الإسلام المعجز، فكانت إنجازاته بروعتها كذلك، فهو أمر لا يخلو بحال من روائع وروائح عطر الإعجاز والمعجزات.

وتصور ما جرى للمسلمين في الحديبية الذين قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيهم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» «2» . إذا فهذه التربية على منهج الله تعالى وإنجاز صياغة مثل هذا المجتمع هو بذاته معجزة من معجزات الإسلام، أو من ثمارها.

وحيثما تلفّتّ تنظر في حياتهم وجدت ثمار تصرفاتهم موصوفة بذلك.

إنسان ارتقى بهذا المنهج على يدي هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أسوتهم، بيده

(1) جمع شابّة.

(2)

سبق ذكره. انظر: أعلاه، ص 47، 64، 94.

ص: 375

الكريمة رفعهم وبهذا المنهج التقطهم من سفح الجاهلية المتدني ومستنقعاتها الآسنة «1» ، وارتقى بهم برفق إلى قمم لا يعرفها أحد، وما عرفها إلا بهذا الدين. وحتى لو عرفها ليس من السهل- أو بالأحرى لا يكون ممكنا بحال أبدا- ارتقاؤها والوقوف عندها، في كل صيغ الحياة وميادينها ومعتركاتها.

تجدهم في الأمور كلها على ذلك المستوى العجيب في البذل والعطاء والإقدام والعفة والوفاء والكرم والصبر والاحتمال والجهاد والفداء، جنديا كان أو قائدا حاكما أو محكوما تابعا أو متبوعا، بل حتى مذنبا ومعاقبا ومحروما. فانظر إلى قضية المثنى بن حارثة الشيباني (14 هـ) وخالد بن الوليد (21 هـ) وأبو عبيدة بن الجراح (18 هـ) وعديّ بن النّعمان «2» ، ثم انظر إلى تلك الغامدية وماعز وأبي محجن والبكائين ومواقفهم.

حتى حين كان يرتكب المسلم إثما- قياسا إلى إيمانه- فذلك إنما يقوده لخير، ويثمر لديه ارتقاء جديدا، كما في قصة أبي لبابة وما أدركه واعتبره ذنبا «3» .

والإثم نفسه كان يوزن- لديهم- بمقدار الإيمان، وقد يكون في الآخرين، حتى لا يوصف بأنه ذنب، كالذين تخلفوا في غزوة تبوك «4» ، انظر مواقفهم وهي في حالة الضعف المردي المتردي. ليس هذا كأفراد لكن (أركز) كمجتمع. والأمجاد التي تواجهها لا تحسبها أفرادا- وهي كذلك تكوّن المجتمع- ولكن (اركز) المجتمع. لا يأخذه النصر ولا تقعده الهزيمة والشدة. والأمر تساوى وروافده له في أول الدعوة، وهي مطاردة أو يوم انتصرت وحققت.

ففي مكة مرت سنوات كان كل من يأتي إلى الدعوة الإسلامية يوضع

(1) انظر: التفسير، (2/ 44- 845) وبعدها، (3/ 1548) .

(2)

عنه انظر: أعلاه، 170.

(3)

السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 407- 408) .

(4)

السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 511- 518) .

ص: 376

تحت السياط، وحتى الدعوة الإسلامية، وهي مطاردة كان أعداؤها- وهم يحاربونها- يدركون أن حربهم لها ليس معتادا لهم، إنما هناك في الأمر جديد، سر كامن لا تمت إلى بشر لكنه فوق طاقته، يحسون ويكادون يدركون- أو يدركونها فعلا- أنها من عند الله، بل فعلوا ذلك إقرارا باللسان حين استمعوا إلى كتاب الله تعالى. وانظر قصة الوليد بن المغيرة المخزومي (أبو خالد بن الوليد وأخوه الوليد بن الوليد) . ومثلها قصة عتبة بن ربيعة «1» .

ثم إن ذلك الجيل النبوي استمر يأتي بالعجائب- بمسحة المعجزات- التي حتى لو كان بناء الأفراد بذلك المستوى قد يتفلّت كثير منها في الأعمال الجماعية لا سيما الشديدة القوية، تفوق طاقاتهم وإمكاناتهم، أعني بذلك- بصورة رئيسية- الفتوحات الإسلامية وأمثالها من المواجهات، كحروب الرّدّة مثلا.

إن مواجهة المسلمين للامبراطوريتين الرومية والفارسية الساسانية، اللتين حكمتا العالم المعروف يومها، وكانتا تمتلكان القوة العسكرية والبشرية والمادية، أمر تجاوز حدوثه حدا وراء الخيال. بل إن مواجهة واحدة منها ودون القضاء عليها، بل وحتى أن يتناوبا الهزيمة والنصر سجالا، لكان شيئا غير اعتيادي ولا مألوف ولا مسموع ولا يمكن تصوره، فكيف لو انتصرت عليها، بل فكيف لو قضت عليها. إذن فما القول في مواجهتهما معا والقضاء عليهما جميعا في وقت قصير وذهابهما إلى الأبد. «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده

» «2» .

وهذا أمر لا يمكن تصور حدوثه أبدا في أي عصر من العصور. علما

(1) عن قصة الوليد بن المغيرة، انظر: التفسير، (6/ 3756) . وعن قصة عتبة، انظر: التفسير، (6/ 3422) .

(2)

انظر: أعلاه، (81- 82) . أستشعر أن هذا الحديث- وقد قيل قبل هلاكهما ببضع سنين- فيه الحث والإخبار والتعريف بحدوث ذلك، فهو- لا شك- من المعجزات المحمدية.

ص: 377

أنهما- وعلى انفراد- ما كان بهما ضعف معنوي أو مادي، لا سيما عن مواجهة هؤلاء الحفنة الذين كانوا خاضعين لهم دوما. بل على العكس كانوا يحسبون- كلّا على انفراد- أنهم سينتهون من موضوع هذه الدعوة الإسلامية في أقصر وقت، ويعدّ بالأيام وبأقل جهد وأدنى مؤونة. بجانب أنه ما كان يخطر على بال أحد أن هؤلاء العرب ممكن أن يفكروا في مواجهة أيّ من هاتين الدولتين. كيف وهم كانوا مستعبدين لهم وعملاء (المناذرة للفرس والغساسنة للروم) ، فما كانوا يفكرون في حربهم، وما لهم بهم طاقة.

لكن الذي حدث لم يصدقه أهل ذلك الزمان، ولا يصدقه أهل أي زمان، لولا أنه وقع فعلا «1» . وكان أيضا من أثر ذلك ليس جريان هذه الأحداث فحسب، بل تبدل الحياة وآفاقها وطبيعتها ومثلها وإنسانها، التي تثبتت في نفوسهم وما كادوا يتصورون غيرها.

إذا فما الذي أحدثه هذا الدين بتربيتهم على منهج الله تعالى، وبيد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فأي رسول كان هو، باستحقاق هو سيد المرسلين وإمامهم. وهو كما وصفه رب العالمين وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] .

ومع أني لم أقدّم الأحداث والوقائع في هذه الخاتمة، الأحداث التي مر عرضها- أو كثير منها- فيما سبق من مباحث، لكن مع ذلك فإن هذه الشروح مستنبطة وقائمة ومستمدة من الأحداث والوقائع والصنائع التي مضت رتيبة منسابة طيبة، لا يكاد يجد أحد شذوذا فيها. مما يجعل أن طبيعة الأفراد في ذلك المجتمع المسلم كانت طبيعة مستقرة متجانسة ذات بناء رصين طيب متناسق، في أفراده وفي تجمعاته.

جرى ذلك رغم التناقضات العميقة المتجذّرة والاختلافات الغائرة وحروبها المدمرة والتحالفات المتأصلة، التي كانت بينهم قبل الإسلام.

(1) انظر: أعلاه، (81- 83) وبعدها.

ص: 378

وبقدر ما كانت هذه العداوات مركّزة ومركسة كذلك- مما كان يبدو من المستحيل حتى تخفيفها، فضلا عن القضاء عليها- غدت علاقاتهم الأخوية وبناء الحب الرصين فيهم قائما وفعالا وقائدا، شاملا وكاملا ودائما، إلى حد غدا سمتا وصبغة مميزة وصيغة معتمدة مشهودة ومرئية، إلى حد بحيث يثير أعلى درجات الاندهاش والانتعاش لدى كل أحد من سامع أو قارئ.

وصدق الله تعالى- وهو أصدق القائلين- حيث يقول:

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] .

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164] .

وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 63] .

وهذه الانتصارات لا تنحصر في المواجهات بل في كل ميادين الحياة- كانت بنفس تلك المواجهات- فكانت الفتوحات في أوسع معناها في كل جوانب الحياة. وذلك بعد أن كان الفتح الأساسي هو فتح القلوب لهذا الدين ولكافة مضامين الإسلام ومعانيه، التي بها قامت مبانيه فامتلأت تلك القلوب والنفوس والأرواح وكل مكونات النفس الإنسانية. فتحت مقبلة على شرع الله تعالى ومنهجه وكلماته، عقيدة وعبادة وشريعة، قامت بكل ذلك، تسير في الحياة وتحييها من جديد وترفعها. وبهذا انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا، بما رأوا من روعة منهجه المنير، وجديته الواقعية الراقية موضحة بسلوك أهله. ولكن الفتوحات المعهودة هي صيغة ملموسة، مثلها كانت بقية الفتوحات. ومثلما هي تحمل سرا ترى آثاره واضحة، كان الأمر كذلك بالنسبة لكل ما يتعلق بالمجتمع المسلم ذاك.

ص: 379

فما القول في أن ينتصر جمع قليل- هم حفنة- بخبرة محدودة، إن وجدت، وبإمانيات ضعيفة ومهيّات أولية، على جموع مؤلّفة ضخمة، ذات خبرة ومجد تاريخي قديم وعدة متقدمة عالية، هي أشبه بالدول الغربية اليوم التي تمتلك التقنيات بل والخطط والخبرات، تجعلها مترقية متقدمة تأخذ بالمبادرة.

كانت تلك الجولات تقوم وتتم أيضا في أرضها التي تعرفها وتجيد هي الانتفاع بأحوالها وتضاريسها وأجوائها ومناخها، مع روح معنوية عالية، مستهينة بهذه الحفنة القليلة. ومع ذلك يكون الانتصار لهذه الحفنة القلة، والاندحار للكثرة بكل إمكانياتها.

لو أن هذا جرى في معترك واحد فهو يشير إلى سر كامن، فيه المؤشر على نوعية هذه القلة. فكيف إذا استخرجنا قاعدة لا نكاد نجد لها شذوذا أو تخلفا أو توقفا، هو أن جميع المعارك ومع كافة الأقوام- ابتداء من سيرة رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم كان عدد المسلمين أقل وعدتهم وخبرتهم وكل المتطلبات اللازمة في تلك المواجهات والمعتركات، ومع ذلك يكون لهم الانتصار. والحقيقة أن هذا كان من بعد الهجرة النبوية الشريفة وعلى مدار التاريخ.

ربما يمكنني أن أقول: إن هذا نفسه كان في العهد المكي، وإن لم تكن فيه مثل تلك المعتركات- وإن كانت بحاجة إلى قوة إيمانية لا تقل عن تلك- لكن الحقيقة أن كان الانتصار الباهر النادر للمسلمين.

أية قوة امتلكتها هذه المرأة المسلمة، جارية بني مؤمّل- حي من بني عديّ بن كعب- ومن أين أتتها وهي أمة (عبدة) تباع وتشترى وتضرب بالعصا أو بالحربة قتلا، إذا اقتضى (كما جرى لسمية أم عمار بن ياسر) .

فكان عمر بن الخطاب يعذبها كل يوم- قبل إسلامه طبعا- حتى يملّ فيقول لها: ما تركتك رحمة بك بل مللا منك، فتقول له: ستبقى كذلك

ص: 380

يا عدو الله حتى تشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله «1» . فمن يا ترى هو الأقوى، هو أم هي؟ ومن هو القوي منهما، مواجهة واستضعافا ودعوة؟ ومن منهما المنتصر؟ «2» .

ومثلها زنّيرة (عبدة، كذلك) التي كانت تعذّب، ربما لذلك فقدت بصرها، بعد أن أعتقها أبو بكر الصديق مع ستة (ست) آخرين من الرجال والنساء «3» . فادّعت قريش أن آلهتهم هي التي فعلت بها ذلك. فردت عليهم هي نفسها قائلة: كذبوا وبيت الله ما تضر آلهتهم وما تنفع. فردّ الله سبحانه وتعالى بصرها، وعاد كما كان «4» . فانظر مدى ثقة المسلم والمسلمة بالله رب العالمين.

وأبو بكر الذي كان من التجار الأغنياء أنفق ماله منذ يوم أسلم في خدمة الإسلام. وحين أسلم كان له أربعون ألف درهما، فهاجر بما تبقى من ماله:

خمسة آلاف درهم، ومات- وهو خليفة المسلمين- وما ترك دينارا واحدا ولا درهما «5» .

هكذا كان جيل الصحابة متعلقا بالإسلام باذلا كل شيء، وكان أحدهم يستقل نفسه، وكلهم كان يودّ أن يموت شهيدا، وقبل صاحبه.

وهذا يعني أنه منذ استقرار الإيمان في قلب أحدهم وامتلك بناءه وحياته تحقق ذلك الانتصار، وإن أخذ أوضاعا وأشكالا وأحوالا متنوعة، حسب الظروف التي تلفهم.

عجائب وأعاجيب وتعاجيب، ولا عجب من أمر الله تعالى. كيف ارتقى

(1) انظر: سيرة ابن هشام، (1/ 319) .

(2)

انظر: التفسير، (5/ 3086) .

(3)

هم: بلال الحبشي وعامر بن فهيرة وأم عبيس وزنير والنهدية وبنتها وجارية بني مؤمل. وكلهم- مع كثيرين آخرين- كان يعذّب في الله، وهم أقوياء صابرون.

(4)

سيرة ابن هشام، (1/ 318) .

(5)

الإصابة، ترجمة أبي بكر الصديق.

ص: 381

أولئك الصحب الكرام وكيف رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد تلك الحياة الجاهلية المعتمة المظلمة الآثمة، التي لم تدع في الإنسان ونفسه وحياته شيئا إلا طحنته وأذهبته وأقعدته، حتى دون الحد الأدنى من الفطرة- إلا ما ندر- وفي حالات أتت على كل ذلك. وساد ذلك حتى أهل مكة المكرمة- وهي موطن دين إبراهيم عليه السلام وفيها الكعبة المشرفة- كما ساد الجزيرة العربية والعالم الظلم والظلام ولفّه القتام «1» .

شمل ذلك كل شيء حتى العبادات التي جرى تحريفها والافتئات عليها بل وفي امتطائها، زورا وبهتانا وادعاء وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة: 198] . وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام: 115] . هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة: 2- 4] .

إنه القرآن الكريم الذي أنزله الله، وحيا صادقا، وإنها النبوة الكريمة التي بعث بها الله سبحانه وتعالى، وأعدّ لها محمدا صلى الله عليه وسلم لتؤدي هذه المهمة، وذلك بوحي الله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] .

رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة: 129] .

وأرادها سبحانه وتعالى أن تكون الخاتمة والأسوة، فهي كذلك استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام «2» . تجد أن الإعداد واضح والتهيئة مبكرة وتصريف الحسنة لأهل الأرض أجمعين. وإذا نظرت عليها قبل النبوة اختارها الله تعالى وهي لا تعرف عن ذلك شيئا ولم تتطلع إليه. قُلْ لَوْ

(1) التفسير، (3/ 3566) .

(2)

انظر: أعلاه، 244.

ص: 382

شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: 16] . كان ذلك تكريما ورقيا وتحقيقا لإنسانية الإنسان وإعدادا إياه للخلافة في أرض الله. وبذلك وحده يمكن، وبدونه يبقى حلما حتى لو أمكن تصوره وتخيله وتأمله، وأبعد منه آمادا متطاولة لا يصل إليه، حتى لو عرف الطريق إليه، وهو لا يعرفه، بل كيف يمكنه أن يعرف؟

إن تربية هؤلاء الصحب الكرام والقدوة الإمام صلى الله عليه وسلم والجيل المثال، بهذا القرآن العظيم وعلى يدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ووقوفهم أو جلوسهم على هذه القمم لأكبر من إزالة الجبال وما هو أكبر من ذلك. ولعل هذا بعض ما يمكن فهمه من الآية الكريمة أو وجه من وجوه المعاني التي تحملها وتتحملها:

وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد: 31] . وقد أحسّ بهذا- كله أو ببعضه- غير المسلمين، بل الأعداء المحاربون «1» .

ارتقوا بهذا الدين إلى قمم ما كانوا يعرفونها وما كان لهم ذلك، حتى لقد بلغت بهم الرهافة مثلا أنهم مهما ارتقوا يرون أنفسهم مقصرين «2» . وكانوا يعملون بما يعرفون ويسارعون لكل تعليم يسمعون. فهذا حكيم بن حزام (54 هـ) الذي أسلم يوم فتح مكة وكان من المؤلفة قلوبهم. وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فاستقله فزاده فقال: يا رسول الله أي عطيّتك خير:

«الأولى» وقال: «يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس وحسن أكلة بورك له فيه ومن أخذه باستشراف نفس وسوء أكلة لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع» فقال: (فو الذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا) . فلم يقبل ديوانا ولا عطاء حتى مات «3» .

(1) انظر: التاريخ الأندلسي، (121) .

(2)

انظر: أعلاه.

(3)

سير أعلام النبلاء، (3/ 48) .

ص: 383

وهذا المرتقى يستطيع اعتلاءه من أخذ به إيمانا وعقيدة وعملا «1» . يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل» . كما يقول صلى الله عليه وسلم: «الإيمان تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان» «2» . ويقول ابن عمر: تعلمنا الإيمان ثم القرآن.

والصعود من السفوح لها متطلبانهم، والحصول على مستوى رفيع من الفقه الراقي العجيب لهذا الدين وآفاقه. وانظر أنه حين قدم خراج العراق إلى عمر، خرج مع مولى له يعدّ الإبل فإذا هي كثيرة، فجعل عمر يقول: الحمد لله تعالى، ويقول مولاه: هذا من فضل الله ورحمته. فنهره عمر وقال:

ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] . فالرحمة عنده- وعندهم- هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى، وكل ما عداه تابع «3» .

فبهذا الدين وحده تقوم البشرية- من أي جنس كانت- وهو الموجّه إلى أهل الأرض أجمعين، وبه وحده يحقّق إنسانيتها وترقى إلى مستوى تعمر الحياة وتبنيها وتعرف مهمتها وتقيم حضارتها. وما يصنعه هذا الدين دوما كثيرا وكثيرا جدا، كما جرى ذلك في الجولة الأولى.

وبجانب علو البناء الإنساني بمنهج الإسلام، ولا يكون بغيره، المتمثل في واقع الحياة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن تبعهم، فإن هذا يفصح كذلك عن أن الإسلام منهج عملي- وتلك من معالمه وطبيعته وحقيقته- لا ينفك عن ذلك. وبجانب كل ما يفهم من وصفه عملي- تنفيذيته وحياتيته ومثاليته (حب وبناء) - جاء ليطبق في واقع الحياة.

والمسلم الذي يفشل أو يتخاذل أو يتجاهل ذلك- إهمالا وعجزا وضعفا

(1) انظر: أعلاه.

(2)

انظر: أعلاه.

(3)

انظر: التفسير، (3/ 1799) وبعدها. أدناه، ص 407.

ص: 384

- ربما هو مقصر ومتأخر ومتحدر عن الإسلام ومراميه وأهدافه، وفهمه سقيم ومستواه ردئ ونوعيته فجّة متدنية متردية. وهو بأشد الحاجة إلى إعادة تفهّمه وتجديد ولائه وترقية حيويته؛ لينطلق يا بني نفسه بمعانيه وقوته بحياته وإقامة أمره بحقائقه. وبدونه- مهما ادعت وامتلكت وأبدعت- لا تعرف شيئا من ذلك بحال. تنزلق وتتناقض وتتناقص وتهوي وتذهب شذر مذر، وتقع فرائس سهلة لكل آكلة وأكول، وتتوزعها الكوارث أيدي سبأ، مهما أعلت مبانيها ناطحات، وأرسلت أقمارها مسرعات، وقمعت (تلقت) أسلحتها جامحات.

وكم ذكر القرآن الكريم صورا مشهودة من هذا وأمثاله، من التخلف والانحراف والانحياز، في معسكر الكفر وحربه لدين الله ورسالاته وأنبيائه، فيما قص علينا- سبحانه وتعالى من مصائر الغابرين الذين كفروا والذين تخلفوا وألفوا المعاصي ورضوا بالدنية. وفيما ورد في القرآن العظيم- عن موسى عليه السلام وبني إسرائيل ومواجهتهم لفرعون- وضوح تام شامل، تبرز فيه طبيعة الإنسان- فردا أو جماعة- عن كل ذلك وفي كافة الأحوال.

وكأني أشعر أن هذه القصص التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن العظيم هي الصور- والتي هي مكشوفة في علم الله تعالى- تتكرر في الحياة في كل حين بطبيعتها وحقيقتها وأساليبها، لتكون مواجهة جموع المؤمنين لها على خبرة ومعرفة واضحة وأساس، ليتولوا أمرهم ويجهزوا أحوالهم ويتخذوا العدة له.

فانظر ما عمل فرعون- وما أكثرهم اليوم- هو والملأ من حوله «1» .

وهؤلاء يندفعون معه ولما يريده ويأمرهم به، بل ويزينون ذلك- قناعة

(1) الملأ، هم: أنصاره وأتباعه ومساندوه، وربما هم من المتزعمين الذين تمكنوا أو مكّنوا في المجتمع، جمعهم أعوانا له. فارتبطت- أيضا- مصائرهم معه، فيحركهم كيف يشاء ولا يتخلفون. وإلا فسينالهم منه أشد النكال والعذاب، لا يدخر عنهم وسيلة إيذاء، كما حدث لسحرة فرعون الذين آمنوا بموسى عليه السلام، حيث أعدمهم جميعا وبأبشع صورة. انظر: أعلاه، 182 وبعدها.

ص: 385

متعاقبة مدعاة، بسطحية وسذاجة وقصر نظر غريب، بعوامل متنوعة تأخذهم إلى الهاوية، وكأنهم مشدودين نحوها. وهكذا دوما يفعل الضلال بأهله، حتى لكأنه يجردهم من مقوماتهم الإنسانية الفطرية التي خلقهم الله تعالى بها فينطلقون معه، ربما أكثر مما يريد وكأنهم منزوعون من إنسانيتهم وبشريتهم. وهو ما نراه في الحياة بكل تفاصيلها هنا وهناك وهنالك، صورا مكرورة مشهورة مشهودة.

وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص: 38- 40] . وانظر إلى أي حد وصل استمراؤه وادعاؤه الألوهية.

وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ [غافر: 36] .

وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ [الزخرف: 51- 54] .

بل إن فرعون كان يدّعي لنفسه الصلاح ويتهم موسى- عليه السلام بالفساد وأنه غيور على الدين دين قومه وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غافر:

26] . مع ملاحظة أنه يصف ضلاله بأنه دين، للمماثلة والمقابلة والمحاربة.

ولكن مهما جال الباطل وأهله وصال، فإن نصر الله تعالى لا بد أن يكون للمؤمنين أهل دعوته، ما داموا قد وفّوا ما عليهم في الأخذ بدين الله ودعوته وراموا الفداء لأجلها. وهو وعد قائم من الله سبحانه وتعالى الذي لا يخلف وعده أبدا.

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا

ص: 386

يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 51- 52] .

وقد يكون هذا العناد والكبرياء والحرب لدين الله تعالى من الأمم والولاء للظلم وأهله، سبب بلائها وعظيم لأوائها وسر زوالها، فتغدو أثرا بعد عين، غير مذكورة إلا بهذا الاعتبار العبرة المثار، تناقصت فذرت وذهبت.

ولعل هذا مشمول ببعض معاني وإشارات هذه الآيات الكريمة.

يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ [الرعد: 39- 41] .

أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الأنبياء: 44] .

والصحابة الكرام جيل القرآن الفريد السعيد، نجدهم قد فهموا الإسلام أروع فهم وأخذوا به خير أخذ، وعملوا به أجمل عمل، حتى صاروا صورة لهذا الدين، تنظر الأجيال فيهم ترى حقيقة الإسلام ماثلة في الحياة. بل هم لا مثيل لهم في أيّ من الأمم الآخرى ممن كان قبلهم- حتى من أتباع الأنبياء السابقين، عليهم السلام، ومن الحواريين وغيرهم- ولا بعدهم إلا بهذا الدين وعلى مثالهم ومستواهم وتفانيهم، وبلا نظير.

استعرض تواريخ الأمم الآخرى كلّها، بكل وقائعها وتفاصيلها، فإنك لست واجدا مثيلا أبدا أبدا، نوعا وكما وكيفا، ولا شبيه بها بأي مقدار، وأنى لها بحال! صفات كريمة سارت في كل اتجاه طيبة الطّعوم وطيبها متنوع تسقى بماء واحد.

وقد عرفت الأمة- بكل أجيالها- مكانة الصحابة الكرام- رضوان الله عليهم- وأدت حقهم ورعت حرمتهم، حمية وهيبة واقتداء، إلا من هوى به الهوى، مهما ادعى واحتوى. ونرجو الله تعالى الهداية ونستعين به سبحانه وتعالى بالبراءة من كل غواية.

ص: 387

وبجانب ما كانت الأمة تتبرك بهم كانت تقومهم وتستوضحهم. فما كان المسلمون أيامهم يولون غير الصحابة في الأحداث والملمات والمهمات، ومنها المعارك في الفتوحات.

لقد نقل هؤلاء الصحابة صيغ السيرة النبوية الشريفة التي تلقوها من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهم وإن لم يبلغوا القمم النبوية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم تلقوا عنه وجلسوا على أعلى قمة يمكن أن يصلها إنسان بعد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بهذا الدين. وتجد فيهم نكهة تلك الثمار ولألاء تلك الأنوار وعبق ذلك الإزهار، طبعا في النوع وليس في الدرجة، ليبقى هو صلى الله عليه وسلم القدوة دوما، ليس للأجيال التالية بل حتى لجيل الصحابة الكرام الذي رباه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالعلم والعمل والتقويم والتوجيه، أليس هو الأسوة للأمة، بكل أجيالها، حتى الصحابة الكرام؟ فكان الصحابة الكرام يستقون منه صلى الله عليه وسلم بكل ترتيب واعتبار وحال، سواء في الإقبال على توجيهاته والأخذ بتعليماته أو بالإسراع إلى محاكاته. ووصلوا إلى حد أنه مجرد الإشارة يسارعون إليها متنافسين. وتربوا على ذلك مستمدين من مائدة القرآن الكريم وبيده الكريمة صلى الله عليه وسلم. فإذا ذكر شيئا حاثا بشكل عام سارعوا إليه، ولا تكاد تجد استثناء.

انظر مثلا بيعتهم في الحديبية! فهذا عمير بن الحمام، فانظر ما فعل في معركة بدر. بل إن أحدهم يسأل عما يقربه إلى الله سبحانه وتعالى أكثر، لا يسأل عن تكاليفه مهما كانت حتى لو بذل نفسه، مقبلا غير مدبر. بل ويستقلها، كما قال خبيب حين أتوا به للقتل. استمع إلى قصة عوف بن الحارث «1» .

إن أمر هذه السيرة عجيب، كيف وقد صرّفها الله تعالى وجعلها تحتوي الإسلام كله، مطبقا عمليا مرسوما في الحياة قام به أفراد ومجتمع وتمثّله ومثّله. وإذا نظرت فيها جيدا وجدت يد الله العلي القدير كانت توجهها وترعاها وتسيرها حيث يريد سبحانه لتحقيق هذا الأمر.

(1) انظر عن كل ذلك: أعلاه.

ص: 388

وهذا التصريف لها ترى فيه صياغتها مستوعبة التعاليم محوّلة إلى واقع عملي. خذ مثلا الأحداث الاعتيادية اليومية في مكة والمدينة كلها في أية شريحة أو مقطع أو جزء تجدها ناطقة بذلك. والمعارك والأحداث وتوسع الدعوة وانتشارها. ذلك واضح في شدة الأمور ودرجاتها ومسيرتها ونصرها وفي مشقاتها وتيسراتها. وهي خلال ذلك لا تكشف عن حقيقة الإيمان وطبيعته وآثاره فحسب، بل تكشف لك أيضا طبيعة الكفر والعدو، سر معها خطوة خطوة منذ البداية يوميا.

عسر الدعوة ومشقاتها وأساليب حرب الأعداء لها، والمؤمنون وصبرهم واحتمالهم واستشهادهم، ورفض الآخرين لها وتنوع استجاباتهم وتحجر مجالاتها أحيانا، كما في مكة والطائف، حتى يصل لليأس، لولا أنها نبوّة لا تعرف اليأس بأي حال، بل تستمر بذلك. وهذا دليل على أنها نبوة من الله تعالى وإن كان كل ما فيها على ذلك دليل.

وإذا بدون ترقب، وبكل يسر وسهولة يسلم الستة الأوائل من الخزرج من أهل المدينة، ثم يستمر ذلك حتى كانت البيعات والهجرة والنصرة.

وكلها بشكل قوي، العداء والولاء سواء. ثم أحداث المدينة بكل ألوانها، الحربية وغيرها. وخذ أي قطع من هذا وذلك، تجد أن يد القدرة الإلهية من ورائها وأداتها المجتمع وأفراده وأحداثه تجري في اتجاهه.

خذ بدرا وكيف أن المسلمين خرجوا للقافلة وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ [الأنفال: 7] . ثم تفلت القافلة فيكون اللقاء والحرب وتكون النتيجة المعروفة وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123]«1» .

وانظر فتح مكة حيث كانت معاهدة صلح الحديبية عشر سنوات، وكيف

(1) انظر: سورة التوبة: 25.

ص: 389

تنقضها قريش ليكون ذلك معجلا لفتح مكة، حتى تتم الصيغة ويتلوها أن يزول الشرك من العاصمة الكعبة ويقصم ظهر الوثنية وأهلها، وكلها تخلص: هذه المدن ثم الجزيرة للإسلام. وذلك كي يتم نزول القرآن كما تم تطبيق كل الإسلام بأركانه وعباداته ونصوصه وتطبق في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.

فما إن ينتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد تم الإسلام نصوصا ودروسا وتطبيقا. وتعرف الفروض وتطبق عمليا.

ويعلن في حج السنة التاسعة انتهاء الجاهليات في الحج، حيث جاء في صحيح مسلم أنه: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافا «1» . تجعله على فرجها! وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

فما بدا منه فلا أحلّه

فكان الأذان (الإعلان والإعلام) في الناس يوم النحر (حج السنة التاسعة) : لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان «2» ، لأن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس هي قريش «3» .

ثم يتم في حجة الوداع التي خلصت للإسلام كل تعليماتها وأركانها، ويتم بذلك الإسلام قائما مرئيا في الواقع العلمي.

تجد في السيرة النبوية كل المعاني الإسلامية وصيغ تطبيقات الإسلام لتعرف الأمة ذلك بوضوح، بل عليها تقيس وبها تستشهد وتجد لكل أمور الحياة. حتى في بعض التصرفات المتناسبة مع التعليمات الإسلامية ومنهج دعوته وتصريف ذلك حتى فيما حولها مما يتناسب مع معانيها وأمورها.

(1) مسلم، رقم (3028) (شرح النووي) (18/ 162) . التطواف: ثوب تستعيره للطواف به، ثم ترميه.

(2)

البخاري، (5/ 212) ، مسلم، رقم (1347)(شرح النووي، (9/ 116) .

(3)

مسلم (شرح النووي، (8/ 196- 197) . زاد المعاد، (1/ 55) ، (3/ 520) . التفسير (3/ 1277، 1282- 1283) . كذلك أعلاه، 256.

ص: 390

ففي المقاطعة التي أرادتها قريش ضد المسلمين وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة لحصر المسلمين ومن عاونهم من بني عبد المطلب وإجاعتهم حتى يسلّموا لهم محمدا صلى الله عليه وسلم. وفي هذا تصحيح لما هو معروف من أن هذه المقاطعة كانت لإجاعتهم، بل هو حتى يسلموهم محمدا صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، وبذلك ينتهون من هذا الأمر، أمر الإسلام ودعوته. وكان ابتداء هذه المقاطعة من ليلة هلال المحرم من سنة سبعة للبعثة ولمدة ثلاث سنوات إلى السنة العاشرة، وظهرت في ذلك المعجزات المادية والمعنوية في الصبر والإصرار والتقوية.

ويبدو لي أن الذين يحاربون الإسلام، فيهم غباء، يورثه إياهم بعدهم عن الحق وحربهم له، فماذا يفعلون؟ فهم يعرفون أن محمدا صلى الله عليه وسلم حق وأن هذه الأمور لا تقوم له، ولكن كيف يصنع مبطلون يحاربون دعوة حق، مثل ما يفعل المعاصرون، أنظمة وحكاما ومؤسسات (المستشرقون وأتباعهم، والكنيسة) وما يشيعونه من شبهات على التاريخ الإسلامي، ابتداء من السيرة الشريفة، يدل على غبائهم وأشد أنواع الغباء ودرجاته. شجعهم على ذلك جهل المسلمين بتاريخهم.

فحين أتمّ صلى الله عليه وسلم فتح الفتوح (فتح مكّة) سأله أسامة بن زيد: أين ننزل غدا يا رسول الله؟ قال: «وهل ترك لنا عقيل دارا» . وطلب أن تضرب قبته (خيمته) في نفس المكان الذي حاصرت قريش فيه المسلمين في شعب أبي طالب في خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر، حيث قال صلى الله عليه وسلم:«نحن نازلون غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» «1» .

ومن أعاجيب هذه الدعوة الكريمة وتعاجيبها- ولا عجب من أمرها لأنها من الله تعالى- أن هؤلاء الصحابة الكرام حين عادوا إلى مكة فاتحين- رمضان

(1) السيرة النبوية، المغازي الذهبي، (1/ 709- 710) . زاد المعاد (2/ 271) ، ومسلم، رقم (1314) .

ص: 391

السنة الثامنة للهجرة- لم يأخذ أي أحد منهم ولم يفكر بمال أو عقار، أثاث أو دار، مما تركه وأخذته قريش، ولم يكن ذلك على بالهم أو في حسابهم، لا سيما بعد توجيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من سأل منهم عن هذا الأمر «1» .

كانوا يريدون أن يكون جهادهم خالصا لله تعالى، وهذا في كل الأعمال. وكانوا يحافظون على ذلك ولا ينقصون منه، سائلين الأجر من الله تعالى في كل هذا وغيره، ديدن مألوف.

وحين سأل أسامة بن زيد بن حارثة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في فتح مكة- عن مكان نزوله قال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور (من منزل) » «2» .

لكنه صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وفي حجة الوداع- نزل في خيف بني كنانة، حيث ضربت له القبة. وكان هذا توجيه صلى الله عليه وسلم حين أراد أن ينفر من منى:

«نحن نازلون غدا- إن شاء الله- بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» «3» ، يعني: المحصّب، وهو الأبطح.

(1) زاد المعاد، (3/ 105- 106) ، (5/ 70) .

(2)

أخرجه البخاري في الحج، باب: توريث دور مكة وبيعها وشرائها. وفي الجهاد، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب. ومسلم في الحج (1351) وشرح النووي له (9/ 120) . زاد المعاد، (3/ 106) ، (383- 384) .

(3)

أخرجه البخاري في الحج، باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ومسلم (1314) في الحج، باب استحباب النزول بالمحصّب. زاد المعاد، (2/ 267، 271) . السيرة النبوية، المغازي، الذهبي، (709) . «تقاسموا على الكفر» : تحالفوا وتعاهدوا عليه. وهو تحالفهم على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب من مكة إلى هذا الشعب وهو خيف بني كنانة، وكتبوا بينهم الصحيفة المشهورة، وكتبوا فيها أنواعا من الباطل وقطيعة الرّحم والكفر. فأرسل الله تعالى عليها الأرضة فأكلت كل ما فيها من كفر وقطيعة رحم وباطل، وتركت ما فيها من ذكر الله

فكان نزوله صلى الله عليه وسلم شكرا لله تعالى على الظهور (النصر) - بعد الاختفاء- وعلى إظهار دين الله تعالى. شرح مسلم، النووي، (9/ 59- 62) . المقصود هو موضوع القضية المعروفة، وهي الصحيفة أو المقاطعة: ألّا يعاملوا

ص: 392

وكان الصحابة الكرام يحرصون أن يحافظوا على خلوص أعمالهم لله تعالى ويحزنون لو جرى أمر ينقص من ذلك. وفي قصة عيادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع- سعد بن أبي وقاص (55 هـ) في مرضه في مكة خلالها وتخوّفه أن يموت بمكة أو لا يستطيع- لأي سبب- العودة إلى المدينة، فيذهب منه الكثير من أجر الهجرة التي تمثّل معلما مهما في السير النبوية الشريفة، ومثلها في حياة كل مهاجر، ألّا يحرم من العودة إلى المدينة مهجره وأن يحدث له ما يبقيه في مكة أو يموت فيها بعيدا عن مهجره، وهي دليل على من عاش بهذه الهجرة ألا يغبّش شيء مؤداها ومعناها ومبناها.

والمحاورة التي جرت بين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبين سعد بن أبي وقاص «1»

المسلمين ومن أيدهم ويمنعوا عنهم حتى الطعام، كي يسلّموا إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم ليقتلوه. وذلك حين تعاهدت قريش وتعاقدت على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب من مكة إلى شعب أبي طالب (وهو خيف بني كنانة) واجتمعوا إليه. والشّعب هو كالوادي. السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 350) وبعدها. السيرة النبوية، المغازي، الذهبي، (709- 710) . وهذه اللفتة الكريمة مهمة (نزول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا المكان) ليتذكروا ما أصابهم من بلاء فيشكروا الله على ما أنعم عليهم من الفتح العظيم ومبالغة في الصفح عن الذين أساؤوا، ومقابلتهم بالعفو والإحسان. وكان هذا الخيف يقع مقابل الشّعب. السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 444) . وهذا في فتح مكة وتكرر ذلك في حجة الوداع. نفس المصدر، (2/ 580) . كما قصد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يا بنى مسجد الطائف موضع اللات والعزّى. زاد المعاد، (2/ 271) . وهناك لفتة أخرى كريمة مماثلة، ذلك أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما يروى عن ابن عباس حين نحر يوم الحديبية (6 هـ) سبعون بدنة أهدى جملا كان لأبي جهل (كان قد غنمه صلى الله عليه وسلم يوم بدر) في أنفه برة (حلقة تكون في أنف البعير) من ذهب (أو فضة) أهداه ليغيظ به قريشا والمشركين. السيرة النبوية، ابن هشام، (3/ 320) . السيرة النبوية، (المغازي) الذهبي، (1/ 392- 393) . زاد المعاد، (1/ 129) ، (3/ 266، 268) .

(1)

سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري (من بني زهرة) المكي، من أخوال رسول الله

ص: 393

رضي الله عنه خلال ذلك توضح هذا المعنى، أوردها كما في صحيح مسلم.

يقول سعد: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال:«لا» ، قال قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: «لا، الثلث، والثلث كثير. إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللّقمة تجعلها في في امرأتك» قال: قلت: يا رسول الله أخلّف بعد أصحابي؟ قال: «إنك لن تخلّف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة. ولعلك تخلّف حتى ينفع (ينتفع) بك أقوام ويضرّ بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردّهم على أعقابهم. لكن البائس سعد بن خولة» . قال (الراوي) : رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن توفي بمكة «1» .

وكان المشركون يعرفون عن هذه الأخلاق منذ وقت مبكر، إلى حد أنهم يريدون قتله وهو يدعوهم إلى الله، دعوة فيها خير الدنيا والآخرة، ولما كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشجّ في رأسه فجعل يسلت الدم (يمسحه ويزيله) عنه ويقول: «كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيّهم وكسروا رباعيته

صلى الله عليه وسلم. أسلم قديما بمكة. وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وآخرهم موتا (55 هـ) . وهو قائد معركة القادسية (15 هـ) وقائد فتح المدائن (16 هـ) وأحد أهل الشورى الستة الذين اختارهم عمر ليكون الخليفة بعده منهم. وولي إمارة الكوفة أيام الخليفة عمر بن الخطاب. وكان مستجاب الدعوة بما دعا له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اعتزل الفتنة في خلافة علي بن أبي طالب. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء، الذهبي، (1/ 92- 124) .

(1)

مسلم (1628/ 3)(الرقم الأول- قبل الخط المائل- يشير إلى رقم الحديث والثاني- بعده- إلى رقم الجزء. شرح مسلم للنووي، (11/ 76- 82) . زاد المعاد، (3/ 105- 106) . وانظر: السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 45) . السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 329، 368، 685) . الإصابة، (3/ 73) . سير أعلام النبلاء، (1/ 121) .

ص: 394

وهو يدعوهم إلى الله» «1» . فأنزل الله عز وجل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [آل عمران: 128] .

والرسول صلى الله عليه وسلم رغم ذلك يستمر يدعوهم، ويدعو لهم بالهداية:«اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» «2» . وكان صلى الله عليه وسلم يرجو «أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا» «3» .

لقد كان الأولى بأهل مكة أن يكونوا أول المؤمنين، لكنهم كانوا له من أكبر المعاندين والمحاربين! فأين الرابطة القومية التي يتحدثون عنها؟ هل حقيقة أن دعاتها يصدقون ويصدّقون ذلك؟ لكن الذي يبدو أنهم أدرى من غيرهم ببطلان هذا الكلام. وهم لا يدعون إليها عن إيمان بها، بل مؤامرة على الإسلام ومواجهة له، ومتى كانت القومية رابطة؟ فضلا عن أن تكون فكرة أو منهجا، لا سيما بالنسبة للإسلام «4» . لماذا لا يتحدثون عنها رابطة وصلة. ومجتمعا قبل الإسلام؟ إنه من العجيب أن يتكلم أحد بذلك في البلاد الإسلامية. ومن كان يدعو إليها فيما سبق هجرها، وهؤلاء الأوربيون تخلوا عنها، وجدوا أيّ بلد غير إسلامي يدعو لقومية «5» . أما الأتباع فللأسف إنهم تابعوا لأسباب قلّ فيها التأصيل، كما قلّ فيهم النظر الثاقب والدليل.

بل وصل الأمر في العهد المكي أن المشركين وهم يحاربونه صلى الله عليه وسلم مع ذلك يضعون أماناتهم عنده. ولكن رغم هذا العداء والعناد، فقد بلغت الدعوة

(1) أخرجه البخاري في المغازي. ومسلم في الجهاد والسير (1719) . وأحمد، (3/ 99) . زاد المعاد، (3/ 184) .

(2)

السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 639) .

(3)

نفسه.

(4)

التفسير، (2/ 1006) ، (3/ 1434) .

(5)

راجع كتاب: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، ص 100 وبعدها.

ص: 395

ونبيها ودعاتها وأتباعها من العلو والسمو والوضوح، في مسالكهم وتعاملهم وأخلاقياتهم أن ذلك أمر مسلّم به. فهم يعترفون بإصرار بهذه الأخلاق العوالي التي لا يمكن إخفاؤها، بل كانت القوة والظهور والاعتزاز، أنهم يعترفون بها بإعجاب وإصرار.

فهذا أبو جهل فرعون هذه الأمة وهو يقود قريشا وأهل مكة لقتال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وإبادة الإسلام والقضاء على المسلمين، إلى معركة بدر (17 رمضان، سنة 2 هـ) وبعد فشل كل المحاولات- من عدد من زعماء قريش ومكة- لترك الحرب والعودة إلى مكة بعد نجاة العير القادمة من الشام، بقيادة أبي سفيان وحماية سبعين من فرسان قريش وشجعانها- التي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتراضها- أصر أبو جهل على مواجهة المسلمين والقضاء على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه «1» .

وفي الطريق سأل الأخنس بن شريق أبا جهل منفردا- خلا به- فقال له:

يا أبا الحكم أخبرني عن محمد: أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا! فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قطّ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسّقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ «2» .

ولدى ابن إسحاق في سيرته أورد هذا المعنى- بعد أن يذكر استماع زعماء قريش إلى القرآن الكريم- فيقول: ثم خرج (الأخنس) من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الرّكب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل

(1) التفسير، (3/ 1453- 1463) .

(2)

التفسير، (2/ 1075) . أعلاه، ص 305.

ص: 396

هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدّقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه «1» .

وقد وصف الله تعالى ذلك بقوله العظيم، مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم:

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] .

ومضى الصحابة بهذا الخلق مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمعون فيهرعون إلى الامتثال، بكل محبة وشوق وفرح. فكانوا يسعون لكل أمر يقربهم إلى الله تعالى، مهما كان شاقا، سواء يسمعونه فيأتمرون، أو يسألون عنه فيسارعون.

فانظر إلى عمير بن الحمام حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة بدر يقول: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة» . فقال عمير بن الحمام، أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء. ثم قذف التّمرات من يده وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل «2» .

ويذكر ابن القيم كلاما إضافيا في هذه القصة، فيقول: ولما دنا العدو وتواجه القوم، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فوعظهم وذكّرهم بما لهم في الصبر والثبات من النصر والظّفر العاجل وثواب الله الآجل، وأخبرهم أن الله قد أوجب الجنة لمن استشهد في سبيله، فقام عمير بن الحمام، فقال:

يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟ قال:«نعم» . قال: بخ بخ يا رسول الله، قال:«ما يحملك على قولك بخ بخ» ، قال: لا والله يا رسول الله إلّا أن أكون من أهلها، قال:«فإنك من أهلها» . قال:

(1) السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 316) .

(2)

السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 627) .

ص: 397

فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل. فكان أول قتيل «1» .

وصورة أخرى في معركة بدر كذلك- وما أكثر الصور فيها وفي غيرها- إذ سأل عوف بن الحارث «2» ، فقال: يا رسول الله، ما يضحك الرّب من عبده؟ قال:«غمسه يده في العدو حاسرا» . فنزع درعا كانت عليه فقذفها! ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل «3» .

وهذا وأمثاله يقوم على الإيمان القوي العميق الوثيق بالله تعالى وكتابه العظيم ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. فهو يأتي بالعجائب غير المسموعة ولا المنطورة ولا المعروفة، والتي لا تخطر على بال أحد.

لكنه برز أمام العيان أن المجتمع المسلم- كمجتمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن على منوالهم وعلى مدار التاريخ- يكون في أموره وحياته ومعيشته صورة مصغرة عن الحياة في الآخرة من الرقي المثال والخلق الرفيع والتعامل الفاضل. فهي تكون معيشته من ناحية الاكتفاء والاستمتاع وروعة النّتاج وتوفره لكل أحد. وهذا بطبعه- في الحياة الدنيا- ينتفع منه من يحيا في المجتمع المسلم ويظلّله بوارف ظله ومن يقتبس منه ممن في خارجه أو مارا به أو حتى سامعا عنه. وهذا لكي يشهد غير المسلمين روعة هذا الدين مما هو محروم منه، لكي يكون مجتمعه دوما متميزا يرى الناس فيه صيغ هذا الدين ماثلة أمامهم شاهدا على دين الله تعالى ومنهجه. وهو بذاته دعوة قائمة لا مجال لتجاهله أو إنكارها وعندها يبقى الناس بين معجب يقوده ذلك إلى الانضواء تحت لوائه أو مسالم يقترب يوما فيوم منه ليطرق بابه

(1) زاد المعاد، (3/ 162- 163) . انظر: السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 141) . نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، (73- 74) .

(2)

ابن عفراء؛ الصحابية الجليلة ذات المواقف، شأن كل الصحابيات، رضي الله عنهن.

(3)

السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 627- 628) . «يضحك» : تعني: يرضي.

ص: 398

ويدخله، أو حقود عنود حسود، مثل أبي جهل ومن معه، الذين ساقتهم إرادة الله إلى بدر ليقتلوا، ويزالوا من أمام دعوة الله تعالى، بتصريف الله سبحانه وتعالى لأمر هذه الدعوة الكريمة المباركة.

وهؤلاء يستمرون في العداء والحرب والتجييش، ويقضى عليهم بسواعد المؤمنين بهذه الدعوة التي بنتها الشريعة الإسلامية باسم الله تعالى وبكتابه وعلى يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. عند ذلك يؤيدهم سبحانه بأي من جنده وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] «1» . يتم بقدرته المطلقة وإرادته القوية ورحمته الواسعة، كما جرى للصحابة الكرام بقيادة رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم في معركة بدر الكبرى، وهي فاصلة في التاريخ الإسلامي والإنساني على السواء.

وبهذا يتوفر الحبّ لله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم فيأتي بعجائب الصور التي يستغرب حدوثها ولا يقدر عليها- وما قدر- إلا بهذا الدين، فليتق الله تعالى امرؤ، ويلزم التقوى، ثم ليرى ما سيكون.

هكذا تلقى الصحابة الكرام رضي الله عنهم هذه المعاني وارتقوا قممها وجلسوا فوق صهواتها، فكانوا نموذجا يحتذى طوال الزمان، وبالنسبة لأي أحد لا تنال ولا تطال بأي حال، إلا تباعا واتّباعا لهذا الدين، ويا ليتها، اقترابا وتسديدا.

وكلهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المعاني ووفّوا، وتكررت هذه البيعة، وأدوا حقها بأعلى المستويات، وكانوا لا يعرفون غير الوفاء، كانوا على الهدى المستقيم وربّ الكعبة المشرفة.

بلغت محبة هؤلاء الصحابة الكرام للرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم ليست أعلى درجات الحب فحسب، ولكنه الحب الذي لا مثيل له، وهذا يعني أن كل

(1) وآيات أخرى بهذا المعنى، انظر: سورة الفتح: (4، 7) . سورة الأحزاب: (9) . سورة التوبة: (26، 40) .

ص: 399

الأمور والأحداث والمعاني التي تبنى على الإسلام لا مثيل لها بالتأكيد؛ لأن صناعته المتفردة عديمة النظير.

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ [البقرة: 138] .

كانوا يفدونه بالنفس والمال والأهل والولد، ومع ذلك يستقلونها «1» .

ومع أن هذا شرع ودين لكن كان أيضا رغبة النفس وهوى القلب وفيض العاطفة. وهذا يعني أن أمور الإسلام وتشريعاته وأوامره لا بد أن تؤخذ بهذا الأسلوب والمستوى والطريقة، وإلا فهي لا تقبل إلا بهذه النوعية وخالصة لله تعالى، إيمانا واحتسابا وطلابا. وغدت هذه الأمور تؤدى من قبلهم، ليس فقط رغبات يسعون إليها بل هوى وعشق يجعلهم يؤدون أكثر منها لو استطاعوا، فيقدمون أقصى الطاقة، ولكن أي طاقة: الطاقة الإيمانية بهذا الدين وبما ابتنت عليه من المعاني العالية التي ترفع صاحبها فوق كل مستوى عرفه ويعرفه أي إنسان، مستوى لا يكون إلا بهذا الدين.

انظر إلى ما جرى مع عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصيّ القرشيّ المطلبي أحد السابقين الأولين، ومن عمومة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسنّ منه عشر سنين في معركة بدر (صبيحة يوم الجمعة 17 رمضان 2 هـ)، حيث أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من أصحابه للمبارزة: عبيدة (من أبناء العمومة) لعتبة بن ربيعة، وحمزة (عمه) لمبارزة شيبة بن ربيعة، وعلي (ابن عمه) لمبارزة الوليد بن عتبة.

أما حمزة وعلي فقتل كل منهما خصمه (شيبة والوليد) ، أما عبيدة فاختلف هو وخصمه (عتبة) ضربتين، «فأثبت كل منهما الآخر، وشدّ عليّ وحمزة على عتبة فقتلاه (فذفّفا عليه: أجهزا عليه) ، واحتملا عبيدة وبه رمق، ثم توفي بالصفراء» «2» . ثم حملا صاحبهما عبيدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(1) انظر: أعلاه.

(2)

السيرة النبوية، الذهبي، (1/ 306) . الإصابة، (4/ 254) . السيرة النبوية، ابن

ص: 400

ففرش له قدمه فوضع خده عليها وقد طابت نفس عبيدة بذلك، ثم قال عبيدة: أما والله لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لعلم أني أحق منه بقوله «1» :

كذبتم وبيت الله يبزا محمد

ولمّا نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وفي بدر لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل صفوف الصحابة استعدادا للقتال، وبيده سهم يعدل به القوم فمر بسواد بن غزيّة، وهو مستنتل (متقدم) من الصف فأشار صلى الله عليه وسلم إليه قائلا:«استو يا سواد» . فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال:«فأقدني» فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه الشريفة وقال: «استقد» . قال: فاعتنقه فقبّل بطنه، فقال:«ما حملك على هذا يا سواد؟» . قال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير «2» .

فلا يوجد وما وجد في العالم كله أحد أحب أحدا كما أحب أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وسلم «3» . والحق أن هذا دائم، فالحب هو طبيعي لكل مسلم حق، على مر العصور حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وانظر هذه الصورة كذلك: أن رجلا من أهل الكوفة قال لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا بن

هشام، (1/ 325) ، (3/ 41- 42) . لاحظ أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أخرج أهله وأقاربه للمبارزة، للقتال والقتل. وهكذا يفعل صلى الله عليه وسلم دوما في الأخطار، ويبدأ بنفسه وأهله، آخذا بأشق التكاليف وأثقلها وأخطرها، وهكذا دوما!!!.

(1)

السيرة النبوية، ابن هشام، (3/ 24) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 139) . وتجد القصيدة كاملة: سيرة ابن هشام (1/ 272- 280) . «نبزى» : لا نبزى: يقهر ويغلب. والكلام على حذف (لا) والبيتان من قصيدة أبي طالب اللامية المشهورة. ويقسم أنه لا يسلمون محمدا صلى الله عليه وسلم حتى يموتوا حوله. «الحلائل» : الزوجات.

(2)

السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 626) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 139) .

(3)

السيرة النبوية، ابن هشام، (3/ 172) .

ص: 401

أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. قال:

فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا «1» .

وهذا الحب العظيم لم يكن مقصورا على أحد دون أحد، الكل كذلك، وهو أمر طبيعي، كما سبق بيانه قبل قليل «2» . وكان هو صلى الله عليه وسلم يبادلهم هذا الحب، يحبهم ويرعاهم ويؤثرهم، تشهد ذلك في كل موطن.

فلدى وصول موكب النبوة الكريم إلى المدينة المنورة في الهجرة الشريفة، استقبله نحو خمسمئة من الأنصار بأسلحتهم، وخرج أهل المدينة والعواتق «3» فوق البيوت، يقلن: ما رأينا منظرا شبيها به، الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء رسول الله. ويصف أنس بن مالك ذلك اليوم فيقول:(شهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوما قطّ، كان أحسن ولا أضوأ (أنور) من يوم دخل المدينة علينا، وشهدته يوم مات فما رأيت يوما قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه) «4» . وخرجت الجواري (النساء) من بني النجار يضربن الدفوف وينشدن:

نحن جوار من بني النجار

يا حبذا محمد من جار

فقال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتحببنني» ؟ قلن: أي والله يا رسول الله.

فقال: «وأنا والله أحبكم» قالها ثلاثا «5» .

كان الصحابة جميعا يحسون بقربهم منه وقربه منهم، متواضعا للجميع وإلى أبعد الحدود، لأنه تواضع لله تعالى، ومن يتواضع لله يرفعه، ومن لا يتواضع لله لا يتواضع لغيره ولا يعرف التواضع إليه سبيلا. ففي فتح مكة (20 رمضان 8 هـ) حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصل إلى ذي طوى «وقف

(1) السيرة النبوية، ابن هشام، (3/ 231- 232) .

(2)

وانظر، أعلاه، (60- 65) .

(3)

«العواتق» : جمع عاتق، وهي الشابة.

(4)

رواه الإمام أحمد، (3/ 122) . زاد المعاد، (3/ 55) .

(5)

السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 25) .

ص: 402

على راحلته معتجرا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرّحل» «1» .

وكذلك دوما في كل تصرفاته. وكان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» «2» .

ومعلوم- طبيعيا- أن التوجه في كل ذلك إلى الله تعالى وحب لقائه وثوابه في نعيم الآخرة إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54- 55] . وغدا هذا هو بناء الصحابة الكرام إلى حد أن أصبح لديهم طبيعة لا يفكرون فيه فهم يصدرون عنه ويردون. فحين حضرت الوفاة أبا بكر الصديق رضي الله عنه (22 جمادى الآخرة سنة 13 هـ) أي حين كان يحتضر دخلت عليه عائشة رضي الله عنها وكان يعاني سكرات الموت، هي معاناة حقة. والرسول صلى الله عليه وسلم لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول:«سبحان الله إن للموت لسكرات» «3» . فلما رأت عائشة رضي الله عنها ذلك قالت لأبيها أبي بكر متمثلة بقول الشاعر:

لعمرك ما يغني الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فنظر إليها أبو بكر معاتبا غير راض، ثم قال لها: لا تقولي هكذا، ولكن قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19] .

كان همّ الصحابة الكرام- رضي الله عنهم أجمعين- الآخرة ورضا الله تعالى وحسن لقائه. وفي كل أحوالهم، وقدوتهم وأسوتهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فلا يصدر عنهم في كل ذلك إلا ما يرضي الله تعالى حتى في مزاحهم ولهوهم وغنائهم، وهو أمر طبيعي لا يتكلفونه.

(1) السيرة النبوية، ابن هشام، (3/ 405) . العثنون: طرف اللحية.

(2)

رواه البخاري. السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 633) .

(3)

التفسير، (6/ 3364) .

ص: 403

وحين كان المسلمون- والرسول صلى الله عليه وسلم معهم- يبنون المسجد النبوي الكريم، بعد الهجرة في المدينة المنورة، كان صلى الله عليه وسلم يا بني مع الصحابة الكرام، ويحمل التراب وينقل اللبن والحجارة بنفسه، ويقول وهم يرددون:

اللهم لا عيش إلّا عيش الآخره

فاغفر للأنصار والمهاجره

كما كان صلى الله عليه وسلم يقول:

هذا الحمال لا حمال خيبر

هذا أبرّ- ربّنا- وأطهر «1»

وهم ينقلون اللبن ويرتجزون:

لئن قعدنا والنبي يعمل

لذاك منّا العمل المضلّل

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم في كل التكاليف- وفي أشقّها- يأخذ بنفسه ويبدأ بها وبأهله، مع ترفقه بالمسلمين.

والمتابع للسيرة الشريفة لا يخطئ أبدا هذا الأمر، ولا يجد مطلقا- ولا يمكنه مهما بحث وحاول- أي عمل أو جهد أو جهاد إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أوله، ويتولى أثقله وأكبره وأجهده، مع إلحاح المسلمين عليه بالقيام به دونه. ومثل ذلك تنفيذ الأمور الشرعية كما جرى في تحريم الربا وإبطال الأخذ بالثار حين أعلنه صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع، حيث قال:«ألا إنّ كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع، وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب. وإنّ دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدا به دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب» «2» .

وهذا الأمر يعتبر معلما بارزا من معالم السيرة النبوية.

كان صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالتطوع في كل الأمور، ابتداء من العبادة بأشقها

(1) زاد المعاد، (3/ 56) . السيرة النبوية، الذهبي، (1/ 290) . السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 30) .

(2)

السيرة النبوية، أبو شهبة، (2/ 572) . «موضوع» : يعني: باطل.

ص: 404

وإلى أشق الأمور جميعا. ويتخفف أحيانا، حتى لا تكون رتيبة، قد تصل إلى حد الفرض فيما تبدو للمسلمين، فيأخذونها كذلك.

وفي هذا جانبان من روائع البناء الإيماني:

الأول: ما يخص النبوة الكريمة، وإلى أي مدى إيماني يدفعها ويرفعها إلى هذه الآفاق الوضيئة، فتأخذ بالتطوع حتى لكأنها فروض تستمر في القيام بها. فهو صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق لله تعالى، وأخشاهم له، وأعبدهم له سبحانه.

فيقول صلى الله عليه وسلم: «فو الله لأنا أعلمهم بالله، وأشدّهم له خشية» «1» . ولعله لأنه صلى الله عليه وسلم أعلمهم بالله فهو أخشاهم له. وهذا يعني أن المسلم كلما كان أعلم بالله وشرعه زادت خشيته له، وهذا الأمر طردي.

إنها نبوة كريمة، تبقى الأسوة الحسنة طول الآماد والأزمان والإرفاد لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21] .

الثاني: ما يخصّ الصحابة الكرام وإلى أي حد هم متابعون للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويقدمون على الأخذ به دوما، حتى بالتطوع، لمجرد ما يرون فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما بدا، وكان ذلك شاقا، حتى في التطوع بل حتى بالفروض «2» .

والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ذلك من أصحابه الكرام أعرف وأعمق وأدق معرفة «3» ؛ ولذلك كان يشفق عليهم فلا يحملهم في هذه الأحوال أحمالا، وإن تحملتها طاقتهم التي لا حدود لها.

ولم يكن هذا فقط في العبادات، بل حتى في الجهاد والإنفاق في سبيل الله تعالى، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف مقدار بذلهم وإقدامهم واحتمالهم فيه، فهم قد

(1) مسلم، رقم (2356) .

(2)

انظر: أعلاه، ص 136- 138.

(3)

انظر: أعلاه، ص 95- 96، 137، 143.

ص: 405

عشقوا الجهاد والبذل والاستشهاد في سبيل الله؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يرضى هو في أقصى الطاقة التي يحبها ويرغبها ومستعد لها، يتوقف أحيانا من أجلهم. فقد كان صلى الله عليه وسلم يرغب أن يخرج في كل جهاد يتولاه المسلمون، رغم واجبات النبوة والرسالة الكريمة التي اختاره الله تعالى لها، واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] . وما أكثر هذه الواجبات المضنية؛ ولذلك كان حين يقوم بالأمور التطوعية وحده، بعيدا عن عيون الناس يقوم بها أكثر وأشد وأطول، والأمثلة كثيرة شاهدة.

وفي العبادات وغيرها. فكان في تهجده في بيته يطيل ويكثر العبادة تطوعا «1» .

ومن المفيد هنا ذكر الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه «2» :

«تضمّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة.

والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه (عرفه)«3» مسك «4» .

والذي نفس محمد بيده لولا أن يشقّ (أشقّ على المؤمنين) ما قعدت خلاف (خلف) سرية تغزو في سبيل الله أبدا. ولكن لا أجد سعة فأحملهم. ولا يجدون سعة. ويشقّ عليهم أن يتخلفوا عنّي.

والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل» .

(1) زاد المعاد، (1/ 311) وبعدها. (2/ 83) وبعدها.

(2)

مسلم، رقم (1876) . كتاب الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله.

(3)

«العرف» : الرائحة.

(4)

سبق ذكر هذا المقطع. وعن بقيته، انظر: أعلاه، ص 300.

ص: 406

كان إحساس الصحابة عاليا بواجبهم وحبهم لتأدية ما هو مطلوب وأكثر.

كما كان كذلك بأن الفضل لله تعالى لدينه، وهذا فوق كل ما في الحياة من متع ونعيم ومرابح.

لما قدم خراج العراق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج عمر ومولى له، فجعل عمر يعدّ الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل يقول:

الحمد لله تعالى، ويقول مولاه: هذا والله من فضل الله ورحمته. فقال عمر: كذبت، ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «1» [يونس: 57- 58] .

من هذا الخلق العالي أنه كان صلى الله عليه وسلم والصحابة ثم المسلمون يحفظون المعروف حتى للأعداء، مثلما قال صلى الله عليه وسلم عن المطعم بن عديّ في أسرى معركة بدر (وكان قد توفي قبلها) :«لو كان المطعم بن عديّ حيّا، ثم كلّمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» «2» . بل يحسن إلى أعدائه، كما جرى مع أسرى بدر ومع الثمانين المسلحين الذين هاجموا المعسكر الإسلامي في صلح الحديبية (6 هـ) يريدون غرّته «3» ، فأسرهم جميعا ثم منّ عليهم دون مقابل ودون أي شرط، بل ولا بطلب من قريش. وكما جرى مع ثمامة بن أثال «4» . حيث أحسن صلى الله عليه وسلم معاملته بعد أن كان يعمل لقتله، فكان من ذلك أنه أسلم، وغدا مجاهدا.

وهكذا كانت السيرة شرحا للإسلام وأخلاقياته حبا في الله تعالى، وطاعة له وبحثا عن رضاه ونعيمه سبحانه وتعالى.

والحمد لله رب العالمين في الأولى والآخرة.

(1) انظر أعلاه، 384.

(2)

سبق ذكره. انظر: أعلاه، 194.

(3)

أخرجه مسلم، رقم (1808) . والإمام أحمد، (3/ 124) .

(4)

سبق ذكره. انظر: أعلاه، 366.

ص: 407

المصادر والمراجع

(القرآن الكريم) الأساس في التفسير، سعيد حوى.

تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي.

تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) الطبعة القديمة (الحلبي) والجديدة (دار المعارف) .

تفسير ابن كثير تفسير القرآن العظيم.

التفسير في ظلال القرآن، الطبعة القديمة والجديدة، الشهيد سيد قطب.

الأربعون النووية، النووي.

جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ابن الأثير (مجد الدين الجزري، 606 هـ) .

رياض الصالحين، النووي.

سنن البيهقي السنن الكبرى.

سنن الترمذي.

سنن الدارمي.

سنن أبي داود.

ص: 409

سنن ابن ماجه.

سنن النّسائي.

صحيح البخاري وشرحه فتح الباري لابن حجر العسقلاني.

صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

مسند أبي بكر البزار.

مسند الإمام أحمد، الطبعة القديمة والجديدة.

مسند الفردوس، الديلمي.

المعجم الكبير، الطبراني.

الأخلاق والسير في مداواة النفوس، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي.

الأساس في السنة، سعيد حوى.

الاستيعاب في معرفة الأصحاب، أبو عمر يوسف بن عبد البر الأندلسي.

أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير عز الدين الجزري.

الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني.

أضواء على الحضارة والتراث (*) هذه النجمة في نهاية العنوان تعني أن الكتاب للمؤلف.

الأعلام، خير الدين الزّركلي.

إمتاع الأسماع، المقريزي.

البداية والنهاية في التاريخ، ابن كثير: عماد الدين أبو الفدا إسماعيل الدمشقي.

ص: 410

أبو بكر الصديق، علي الطنطاوي.

تاريخ الإسلام (الخلفاء الراشدون) ، شمس الدين الذهبي.

التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة (*) .

تاريخنا من يكتبه؟ (*) .

تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي.

تاريخ عمر بن الخطاب، ابن الجوزي.

تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب، راهب إسباني (أنسيلمو ترميدا) ، أسلم وسمّى نفسه عبد الله بن عبد الله الترجمان، وألف هذا الكتاب.

تخريج الدلالات السمعية فيما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوظائف والصنائع والعمالات الشرعية، علي بن مسعود الخزاعي.

تذكرة الحفاظ، شمس الدين الذهبي.

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي.

جوامع السيرة، ابن حزم الأندلسي.

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، أحمد بن عبد الله بن أحمد.

حياة الصحابة، محمد يوسف الكاندهلوي.

دراسات إسلامية، سيد قطب.

زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية.

سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي.

ص: 411

شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد الحنبلي.

سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي.

سيرة عمر بن عبد العزيز، ابن الجوزي.

السيرة النبوية، شمس الدين الذهبي.

السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة.

السيرة النبوية، ابن كثير: أبو الفدا إسماعيل الدمشقي.

السيرة النبوية، أبو الحسن الندوي.

السيرة النبوية، ابن إسحاق وتهذيب ابن هشام، وشرح الخشني لها.

الطبقات الكبرى، محمد بن سعد.

عبد الله بن عمر (الصحابي المؤتسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، سلسلة أعلام المسلمين رقم (6) ، محيي الدين مستو.

العبر في خبر من غبر، شمس الدين الذهبي.

الفصل في الملل والنحل، ابن حزم الأندلسي.

القادسية، أحمد عادل كمال.

القاموس المحيط، الفيروز آبادي.

قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، دار ابن كثير.

الكامل في التاريخ، ابن الأثير: عز الدين أبو الحسن علي الجزري.

ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي.

مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، د. محمد حميد الله الحيدر آبادي.

مختصر منهاج القاصدين.

المستشرقون، نجيب العقيقي، دار المعارف.

ص: 412

المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة.

المغازي، الواقدي، تحقيق مارسدن جونس، بيروت.

من معين السيرة، صالح أحمد الشامي.

نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي (*) .

الوافي بالوفيات، الصفدي.

وفيات الأعيان، ابن خلكان، تحقيق د. إحسان عباس.

ص: 413

للمؤلف

(1)

تحقيق ودراسة لسفر من كتاب المقتبس في أخبار بلد الأندلس، للمؤرخ الكبير ابن حيان القرطبي (377- 469 هـ) ، بيروت (1965 م) . يتحدث هذا الجزء من المقتبس عن خمس سنوات (360- 364 هـ 970- 974 م) من أيام الحكم الثاني، المستنصر بالله (350- 366 هـ 961- 976 م) .

CRITICAL EDITION OF AL MUQTABIS FI AKHBAR BALAD AL- ANDALUS، BY IBN HAYYAN) 964 6701 (BEIRUT، 5691.

THIS VOLUME، OF AL- MUQTABIS، DISCUSSES ALMOST FIVE YEARS) 4- 079 4- 063 (OF- THE RIEGN OF AL- HAKAM II (67- 169 66- 053 (

(2)

تحقيق ودراسة للنص الجغرافي المتعلق بالأندلس وأوربا من كتاب المسالك والممالك، للجغرافي الأندلسي الكبير أبو عبيد البكري (عبد الله بن عبد العزيز، 406- 487 هـ) . ظهر هذا النص تحت عنوان: جغرافية الأندلس وأوروبا، بيروت (1387 هـ 1968 م) .

CRITICAL EDITION- OF THE GEOGRAHPHY OF AL- ANDALUS AND EUROPE FROM THE BOOK AL- MASALIK WAL- MAMALIK، BY ABU UBAYD AL- BAKRI) 4901 784 (

(3)

أندلسيات، المجموعة الأولى، بيروت (1388 هـ 1969 م) .

المجموعة الثانية، بيروت (1389 هـ 1969 م) . وتضم بحوثا ومقالات غالبيتها في التاريخ الأندلسي.

(4)

نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت (1389 هـ 1969 م) . الطبعة الثانية، دمشق (1395 هـ 1975 م) . الطبعة الثالثة، دمشق (1399 هـ 1979 م) . وهي طبعة مزيدة ومنقحة. الطبعة الرابعة، القاهرة (1400 هـ

ص: 415

1980 م) . الطبعة الخامسة، الكويت (1407 هـ 1987 م) ، وهي تصوير الطبعة الثالثة. والطبعة الجديدة تجهز بعون الله.

(5)

الحضارة الإسلامية في الأندلس، بيروت (1389 هـ 1969 م) .

(6)

تاريخ الموسيقي الأندلسية، بيروت (1389 هـ 1969 م) .

(7)

الدكتوراه (بالإنجليزية) عن: «العلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وأوربا الغربية حتى نهاية الخلافة» :

ANDALUSIAN DIPLOMATIC RELATIONS WITH WESTERN EUROPE DURING THE UMAYYAD PERIOD، BEIRUT، 0931) 07091 (.

(8)

التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة (92- 897 هـ 711- 1492 م) ، الطبعة الأولى، دمشق (1396 هـ 1976 م) . الطبعة الثانية، دمشق (1984 م) . الطبعة الثالثة، دمشق (1407 هـ 1987 م) . الطبعة الرابعة، القاهرة. الطبعة الرابعة (الخامسة) بيروت 1994 م. الطبعة الخامسة (السادسة) بيروت، 1997.

(9)

جوانب من الحضارة الإسلامية، الطبعة الأولى، بيروت (1979 م) . الطبعة الثانية، الكويت (1987 م)(تصوير) .

(10)

مع الأندلس لقاء ودعاء، بيروت (1980 م) .

(11)

محاكم التفتيش الغاشمة وأساليبها، الكويت (1407 هـ 1987 م) .

(12)

ابن زيدون السفير الوسيط، الكويت (1407 هـ- 1987 م) .

(13)

أضواء على الحضارة والتراث، الكويت (1408 هـ 1987 م) .

(14)

تاريخنا من يكتبه، دار الفضيلة، القاهرة (1418 هـ 1997 م) .

ص: 416

(15)

هجرة علماء الأندلس لدى سقوط غرناطة، ظروفها وآثارها، دار الفضيلة، القاهرة (1419 هـ 1999 م) .

(16)

بحث بالإنجليزية:

INTERMARRIAGE BETWEEN ANDALUSIA AND NORTHERN SPAIN IN THE UMAYYAD PERIOD، THE ISLAMIC QURTERLY، LONDON، VOL. XI، NOS. 1- 2، 1387- 1966.

نشر بالعربية ضمن المجموعة الأولى من أندلسيات.

(17)

نقد) REVIEW (بالإنجليزية، لكتاب:

A HISTORY OF ISLAMIC SPAIN، W. MONTGOMERY WATT) ISLAMIC

SURVEY 4) ، EUP، 5691.IN THE ISLAMIC QURTERLY، VOL.X،

NOS.3- 4، 6831) 6691 (.

نشر (النقد) باللغة العربية ضمن المجموعة الأولى من أندلسيات.

(18)

بحث بالإنجليزية يتناول جانبا من شخصية الرحالة الأندلسي (إبراهيم بن يعقوب الإسرائيلي الطّرطوشي) :

AL- TURTUSHI THE ANDALUSIAN TRAVELLER، AND HIS MEETING WITH POPE JOHN XII، THE ISLAMIC QURTERLY، VOL.XI، NOS.

) 7691 (7831 ،4 -3. نشر باللغة الإيطالية في مجلة:

RIVISTA STORICA ITALIANA، NAPOLI، ANNO LXXIX، FASC.

1، 7691، PP.461- 371.

(19)

بحث: «القضاء ودراسته في الأندلس» ، نشر في العدد الأول (1392 هـ 1972 م) من مجلة كلية الإمام الأعظم (بغداد) .

(20)

بحث: «الكتب والمكتبات في الأندلس» ، نشر في العدد الرابع (1392 هـ 1972 م) من مجلة كلية الدراسات الإسلامية (بغداد) .

(21)

بحث: «العلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وبيزنطة حتى نهاية القرن الرابع الهجري» ، نشر في صحيفة معهد الدراسات الإسلامية

ص: 417

في مدريد، المجلد الثاني والعشرون (1983- 1984 م) .

(22)

بحث: «المورسكيون في المصادر والمخطوطات الأندلسية» ، قريبا تحت الطبع، بالعربية وكذلك بالإنجليزية.

(23)

كتاب: دراسة للظاهرة العلمية في المجتمع الأندلسي، من خلال الكتاب الأندلسي والمكتبات فيه، يجهز قريبا للطباعة.

(24)

كتاب: السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها، دار ابن كثير، دمشق- بيروت، وهو هذا الكتاب.

ص: 418

الفهارس العامة

فهرس الآيات القرآنية فهرس الأحاديث والآثار النبوية فهرس الشعر فهرس الأعلام فهرس الأماكن والبقاع فهرس القبائل والجماعات فهرس الموضوعات

ص: 419