الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يرث الله الأرض ومن عليها، هي وحدها سفينة النجاة وموئل الحياة وجمال الحقيقة، هداية وسيادة وسعادة، ولا بديل في كل حال ومال. وفي هذا يقول ابن حزم الأندلسي:(من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها، فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل (وليعتمد) أخلاقه وسيره ما أمكنه) «1» .
والإسلام في ذاته- قرآنا وسنّة وسيرة- ملئ بالمعجزات الواضحات المتنوعات، في كل أمر وقضية وحدث، بل هو نفسه يصنع المعجزات، ويضع الإنسان في أماكن فريدة ويحقق كل جديد، لا يخطر على بال أحد بحال، بله أن يعرفه أو يحققه، وصولا إلى موقع فيه أو جلوسا لدى ملتقياته، فضلا عن تواجده عند مرتقى من مرتقياته، أو وقوفا قرب أيّة قمّة من قممه، أو اعتلاء شامخاتها.
*
تحقّق الإسلام بالسيرة:
فالسيرة النبوية الشريفة، شرح عملي عميق في واقع الحياة، وتصوير للقرآن الكريم والإسلام كله، في ميادينها كافة، وإمحاض مخلص وأصيل وتطبيقي وحقيقي وصادق وناطق، أكيد وسديد وجديد؛ لمضامين هذا الشرع الحنيف، بقرآنه الكريم- كما أنزله الله سبحانه وتعالى وأراده- وبسنّته الصحيحة المطهرة.
وكان من لطف الله تعالى أن الذي أراده الله من هذا الدّين، أسلوبا ووضوحا وثبوتا وشمولا وسعة وامتدادا، كله قد تم وقام في الحياة عمليا وقويا ومهيبا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كيلا يفتقد أيّ أحد القدوة والمثل
(1) الأخلاق والسير في مداواة النفوس، ابن حزم (24) . كذلك له: جوامع السيرة (6)(المقدمة)(7- 14، 40- 44) .
والمثال، في أي موضوع في دعوة ونبوّة ورسالة إلهية، هي خاتم النبوات، ودعوة هي أكرم الدعوات، ورسالة هي آخر الرسالات.
وما دامت هي كذلك، فلا بدّ أنها تحتوي على كل ما تحتاجه البشرية لسعادة الدّارين، في كل زمان ومكان. وتجد- بالأخذ بها- برد الظّلال النّديّة، تحميها من حر الهجير، وتلف الشرود، وتيه الانحراف. وتحسّ بالأنس إلى جوارها من موحشات الحياة، وتفرح بإنسانيتها، وتنجو بها من التشتّت والتّفتّت، وتسعد بورودها، وتنعم بحضارتها الفريدة، ملتصقة بها، محافظة عليها. وتلجأ إليها دوما، وتحيا بها دون تراخ أو انفكاك، وفيها تجد الحل الجميل الكريم كلما عنّت لها مشكلات، أو واجهتها صعوبات، لا تبحث في ذلك عن غيرها، ولا في إصلاح حالها من خارجها. وكذلك تحيا بها في كل أحوالها لتأخذ في طريق الحضارة الإنسانية الفاضلة الكريمة، ترتقي بها في سلّمها الكريم، وآفاقها الرحيبة الوضيئة والروحية المتكاملة القوية.
ولعلّ الأبيات الآتية تعتبر تعبيرا لهذا المعنى:
يا مسلمون ألا أقبلوا
…
نحو الرسول وهلّلوا
فهتافه كلّ الورى
…
درب الحقيقة ماثل
لتحكّموا شرع الهدى
…
فالأرض منه تنهل
اسقوا العطاش مرامهم
…
إذ هم بهذا يمتلوا
ولوحده ريّ النعيم
…
وبغيره لا تأملوا
وإذا اكفهرّت غبرة
…
واسودّ جوّ ممحل
وإذا اضمحلّت خضرة
…
إذ زال عنها آمل
أو أقفرت من بلدة
…
قد غاب عنها سائل
لا تبحثوا عن غيره
…
كلا، عداه قوّل
وما دامت أيضا هي كذلك، فلا بدّ أن تكون من الشمول والاكتمال وعلو المثال ما يحقق كلّ ذلك بأفضل حال، في كل الأجيال، مهما بلغوا من
العلم والرقي والتقنيات، بل يكون ذلك عندها أوضح تأكيد لحاجتها إليه.
وهي تجتذب دوما كلّ أحد. وفيها ما لا يملكه الإنسان ولا يعرفه ولا يصل إليه. إذ بها وحدها يستغني ويغتني ويستعلي عن كل ما عداها، ويستصغر ما سواها، معتزا فخورا مبرورا، مدركا للنعمة، ومقبلا عليها، وبه لا بغيره كانوا الأمة الخيّرة كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] .
يجد كل ذلك في الكتاب مسطورا، حفظه الله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] . مثلما حفظ السّنّة والسيرة. كما يجده في الحياة منظورا بصيغته العلمية والعملية، كاملة متكاملة شاملة، يقتدي بها وينسج على منوالها، في مجتمع أقامه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم، وهو الذي (كان خلقه القرآن)«1» .
جرى ذلك بوحي الله تعالى وأمره وفضله وقدرته وإرادته ورحمته، ممثّلا في ذلك الجيل المقتدي به والمهتدي بهديه. وقد قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 23] .
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «أما بعد، فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» «2» .
(1) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل (746/ 1) . ونصّه:(فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن) . ثم انظر البخاري: كتاب الأدب، باب: الكنية للصبي (رقم 5850) حيث روى أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا. ومثله في مسلم: كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود (2150/ 3) .
(2)
رواه البخاري (بأقل منه، وزيادة) : كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (رقم: 6849) . جامع الأصول (1/ 289) .