الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نبينا المجتبى، وأسوتنا الحسنة، وحادي الهداية دوما للبشرية أجمعين.
إن الذي كان يسلم- في العهد المكي- يرى ويعرف مقدما ما سيصيبه من عذاب وحرمان، ويغدو أرملا بعد أن يكون أرفلا. وفي العهد المدني يعلم ما يترتب على ذلك، تضحية وإقداما، ورضوا بكله بمحبة جامحة، وسعي حثيث، ورغبة متدفقة، مقبلة، قوية مسرعة أبية.
فموكب الهجرة دائم، حيث تبقى مهاجرا إلى الله، وتموت مهاجرا، مناديا: يا رباه! نداء يجمّل الحياة، وينميها، ويمنحها، ويعطيها، بنظر يرافقه ويناغيه، فلا يصارعه أو يباهيه. فهو ليس في صراع مع الكون والحياة، بل مع الباطل وأهله، يأتي الحق لمواجهته ليزهقه، وليا بني حضارة الإنسان، وينير دربه، ويسدد خطوه.
*
الهجرة هجرة ونصرة:
لم تكن الهجرة خطوات لقطع طريق خطر، والنجاح في التخلص من مطارد، للوصول إلى مكان آمن، أو النجاح بانتقال مجموعة، من موطن إلى آخر جديد، إنما هي الخلوص لله والتضحية بالنفس، وكل شيء، من أجل الإسلام، فلولا الهجرة إلى الله لما كانت الهجرة، ولما كانت النصرة، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] .
وإذا تلاقت الهجرة والنصرة، فالكل في نصرة، والكل في هجرة.
وأدرك أولئك أنه لا بد أن يكون للإسلام وطن، وللشريعة سكن، فكان مرة، ولا بدّ أن تكون له الكرة، إن شاء الله.
ولعل القرن الخامس عشر يمثل باب الهجرة إن شاء الله، فيكون القرن الرابع عشر أشبه بالعهد المكي، والقرن الخامس بالعهد المدني، نبني به الحياة الإسلامية، ومجتمع الإسلام، وقيام آماله.
فهي هجرة: بين- من وإلى- حياة الجهاد والمجاهدة والاصطراع، إلى قرن تقوم فيه خلافة الإسلام ودولة الإسلام، إن شاء الله تعالى وبعونه ومنّه،
فهي تماثل بالمعنى الأساس لكل هجرة، يقوم بها الذين هاجروا إلى الله تعالى على الدوام.
فهذا مصعب بن عمير «1» ، زين شباب أهل مكة، جمالا ودلالا ونعمة وقوة وفتوة وعبثا ولهوا وغنى وزهوا، مضرب المثل بما يلبس، ويتزين، ويتطيّب كذلك تماما.
وحين أسلم حرمه أهله من كل ذلك، وقاوموه، فاستغنى، واستعالى،
(1) مصعب بن عمير (3 هـ 625 م) القرشي، مصعب الخير: صحابي، شجاع، من السابقين إلى الإسلام. ولما أسلم حاربه أهله، وحرموه من غناهم. واحتمل كل ذلك راضيا قويا أبيا. هاجر إلى الحبشة، وعاد إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة. وكان أول من قدم إليها من المسلمين مع ابن أم مكتوم (عنه انظر: أعلاه) . وكانا يقرئان القرآن (البخاري، فضائل الصحابة، باب: مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، رقم 3709- 3710) . فهو السيد الشهيد السابق البدري، وحامل لواء المسلمين يوم معركة بدر ويوم أحد، واستشهد فيها، وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (حياة الصحابة، 1/ 595) . قال البراء بن عازب: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير، ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الأعمى رضي الله عنه. ثم قدم علينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عشرين راكبا. فقلنا له: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو مكانه، وأصحابه على أثري. ثم أتانا بعده عمرو بن أم مكتوم أخو بني فهر الأعمى. وقال خباب:(هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لسبيله لم يأكل من أجره شيئا، منهم: مصعب بن عمير قتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطّينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر» ، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها) . وذكر أنه حين أتي عبد الرحمن بن عوف بطعام بكى، وقال:(قتل حمزة، فلم يوجد ما يكفن فيه إلا ثوبا واحدا، وقتل مصعب بن عمير فلم يوجد ما يكفن فيه إلا ثوبا واحدا، لقد خشيت أن يكون عجّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا) . وجعل يبكي. «النمرة» : بردة من صوف. «الإذخر» : نبت معروف طيب الرائحة يبيض إذا يبس. «يهدبها» : يجتنيها. (سير أعلام النبلاء 1/ 145- 147. كذلك: الاستيعاب، 3/ 468. الإصابة، 3/ 421 رقم 8002. حياة الصحابة، 2/ 267. البداية والنهاية، 4/ 33. الأعلام، 7/ 248) .