الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الهجرة والدولة:
لقد أقامت الهجرة دولة في مبتدأ تاريخ الإسلام؛ الذي قام منذ نحو أكثر من ألف وأربعمئة عام، حيث بداية التاريخ الإسلامي، وقامت دولته بكليتها، تحمل راية الحق، فواجهت صراعا في كل ميدان وهجمات من كل اتجاه ومكائد بكل لون، كان بعضها كافيا لسحق الدولة الإسلامية، وحضارتها الفريدة، وتفتيت كيانها، لولا- بعد عون الله- قوة البناء الإسلامي لمجتمعه الكريم، وحضارته الفذة، وبنيته المكينة.
واليوم يقف المسلمون في وجه ذلك كله، ولا خلافة- أو ما يماثلها- في الأرض، تحملهم وتحميهم، ولا مجتمع يضمهم، يحتكم بكليته إلى الله، ويؤول لشرعه. وهذا لون آخر من الدروس.
إن قوة وقوف أي تجمع إسلامي ليس مقتصرا- فحسب- حين تقوم الحياة الإسلامية، وتكون لها دولة، بل بغيرها أو بدونها أيضا. فهو الذي يسعى ليقيم الحياة الإسلامية ودولتها، ويعلي الراية في مجتمع ترفرف عليه، خضراء نضرة. ولا بدّ من مسعى لإقامة المجتمع المسلم الذي قام أولا في تاريخ الإسلام ثمرة لتلك الهجرة، هجرة إلى الله تعالى، منذ أول يوم التحق المسلم فيه بموكب الإيمان.
*
الهجرات الثلاث:
فكانت هجرات ثلاث «1» : الهجرة إلى الحبشة «2» ، وهي الوجهة
(1) يعدّ كاتب هذه السطور- منذ مدة- بحثا لكتابة ودراسة هذا الموضوع (الهجرات الثلاث) ، وأسأل الله سبحانه وتعالى العون.
(2)
كانت هجرة الحبشة- وهي أول هجرة في الإسلام- في نهاية السنة الخامسة للبعثة النبوية الشريفة، أو بداية السادسة منها. وهجرة الحبشة هجرتان أو مرتان. هاجر أولا عدد قليل، نحو ستة عشر مسلما، بينهم أربع نسوة (رجب السنة الخامسة من البعثة النبوية الشريفة) . وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون أميرهم. ثم عادوا كلهم أو
بعضهم، ومنهم من لم يذهب للهجرة إليها ثانية (سيرة ابن هشام، 1/ 322- 323) . وهاجروا ثانية مع آخرين. بلغ عدد جميع من هاجر هذه المرة- نساء ورجالا- نحو مئة أو يزيدون. وهذا يعني أن أكثر المسلمين- حتى ذلك الوقت- هاجروا إلى الحبشة. وكانت لهم هناك أحداث ومواقف. وعادوا مجموعات في أوقات، بعضهم إلى مكة- قبل الهجرة إلى المدينة، وهم الأكثر، على ما يبدو- وآخرون إلى المدينة (حياة الصحابة، 1/ 357) ، وعلى مراحل متباعدة. وكان آخرهم عودة جعفر بن أبي طالب مع آخرين- بعد فتح خيبر في السنة السابعة للهجرة (زاد المعاد، 1/ 102) . أما جعفر فقد استشهد في معركة مؤتة السنة الثامنة للهجرة. وكان قد عاد مع هؤلاء أبو موسى الأشعري- ومن كان معه- حيث قد هاجروا من اليمن إلى الحبشة. وهذه القضية فيها غموض واختلاف في المصادر، بحاجة إلى متابعة وتجلية، ولكن ابن قيم الجوزية يلقي عليها ضوآ جيدا (زاد المعاد، 3/ 28. وانظر: حياة الصحابة، 1/ 357) . ومن المهم- وهو مطلوب- تحديد المدينة التي لجأ إليها المسلمون في هذه الهجرة، وفيها كانت مقابلاتهم للنجاشي (أصحمة) الذي أسلم. أخرجه البخاري، كتاب: فضائل الصحابة، باب: هجرة الحبشة، رقم (3659) وبعده. وهل هذا النجاشي هو نفسه الذي كتب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم كتابا يدعوه إلى الإسلام، وبعث بالكتاب- في السنة السابعة للهجرة- مع عمرو بن أمية الضّمري (زاد المعاد، 3/ 689) ، بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة؟! ويبدو هذا الأمر مضطربا في بعض المصادر، فلا وضوح في أن الذي لجأ إليه المسلمون غير الذي بعث إليه الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري بعد الحديبية بكتابه يدعوه إلى الإسلام، وكذلك إن كان هو نفسه. فيفهم من العديد أنهما نجاشيان (البداية والنهاية، 4/ 262. السيرة النبوية، الندوي، 255- 265. إمتاع الأسماع، 1/ 20، 308) . لكن يبدو من استعراض الأحداث، والنظر في ماجرياتها (مجرياتها) والاطلاع على رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوابات النجاشي له (مجموعة الوثائق، 43، 99، 107) ، إن النجاشي (أصحمة أو أصحم) الذي لجأ إليه المسلمون هو نفسه الذي كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية كتابا حمله عمرو بن أمية الضمري يدعوه إلى الإسلام. وموضوع الحبشة- مقرّ هجرة المسلمين- بحاجة إلى بحث مجتهد أصيل، أرجو الله تعالى أن يهيئ له. عن هجرة المسلمين إلى الحبشة راجع كذلك: التفسير (1/ 28- 33) . سيرة ابن هشام (1/ 344)(الخشني، 1/ 397) . البداية والنهاية
الأولى، ولم يكن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحين سأله عثمان بن عفان رضي الله عنه «1» عن ذلك قال صلى الله عليه وسلم:«أنتم مهاجرون إلى الله وإليّ» «2» . وهذا هو المعنى الدائم للهجرة، وكان جواب عثمان: فحسبنا الله يا رسول الله!
ثم كانت هجرة الطائف «3» ، هاجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده. كانت بحثا
(3/ 66- 95) . الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم (99) . زاد المعاد (3/ 23) وبعدها (515) . سيرة الذهبي (183) . إمتاع الأسماع (1/ 20) . مجموعة الوثائق السياسية (43، 99- 107) .
(1)
كان عثمان بن عفان رضي الله عنه أول المهاجرين إلى الحبشة، ومعه امرأته رقية- رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي الهجرة الأولى إلى الحبشة، وأول هجرة في الإسلام، في رجب السنة الخامسة للبعثة النبوية الشريفة. وعادوا إلى مكة مع المهاجرين الآخرين جميعا في شوال منها (سيرة ابن هشام، 1/ 344 الخشني، 1/ 397. البداية والنهاية 3/ 66. حياة الصحابة، 1/ 346) . وربما لم يعودوا جميعا (إمتاع الأسماع، 1/ 21) . ثم كانت الهجرة الثانية التي ذهب فيها بعض من هاجر الأولى (فرجع من رجع منهم، ومكث آخرون بمكة، وخرج آخرون من المسلمين إلى أرض الحبشة، وهي الهجرة الثانية) . البداية والنهاية (3/ 67) . والظاهر: أن عثمان وزوجته رقية رضي الله عنهما لم يكونا فيها، وهذا غير واضح عند ابن إسحاق، ولا من المصادر التي توفرت لي. ويفهم- من ابن إسحاق- أن عثمان وزوجته رضي الله عنهما هاجرا الهجرة الثانية، ولكن لا يبدو ذلك راجحا. بل إن ابن إسحاق يتناول موضوع الهجرة إلى الحبشة على أنها هجرة واحدة، تتابع المسلمون إليها على مجموعتين منفصلتين.
(2)
هذا الحديث الشريف نقلته من أحد المصادر، لكني لم أجده في المتوفّر لي حاليا. وعن موضوع الهجرة ومعانيها وأمثلة منها انظر: باب الهجرة (والنصرة) في كتاب: حياة الصحابة (1/ 335- 373) .
(3)
كانت هجرة الطائف في السنة العاشرة للبعثة النبوية الشريفة، بعد انتهاء المقاطعة وموت أبي طالب، وبعده بأيام قليلة موت خديجة- رضي الله عنها (سيرة ابن هشام، 1/ 416. البداية والنهاية، 3/ 122، 127. الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، 105) . وقبل الإسراء والمعراج (البداية والنهاية، 3/ 108) . ذهب صلى الله عليه وسلم أو هاجر إلى الطائف، بصحبة زيد بن حارثة رضي الله عنه. وبقي فيها عشرة أيام يدعو الناس إلى دين الإسلام، فلم يؤمن منهم أحد، ولم يلق من أهلها غير الصدّ والكيد، ورموه صلّى الله عليه وسلم