الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رضي الله عنه فقلت: نافقت يا أبا بكر! قال: وما ذاك؟ قلت: نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم يذكّرنا الجنة والنار كأن رأي العين، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا، فقال أبو بكر: إنّا لنفعل ذلك. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: «يا حنظلة، لو كنتم عند أهليكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطريق. يا حنظلة، ساعة وساعة
…
ولو كنتم تكونون كما تكونون عندي لأظلتكم الملائكة بأجنحتها» «1» .
ومثل هذا كان مع أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إنّا إذا كنا عندك رقّت قلوبنا وزهدنا في الدنيا ورغبنا في الآخرة، فقال صلى الله عليه وسلم:
«لو تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لزارتكم الملائكة ولصافحتكم في الطريق، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون حتى تبلغ خطاياهم عنان السماء، فيستغفرون الله فيغفر لهم على ما كان منهم ولا يبالي» «2» . وهذا يشير إلى الآفاق التي يحيا بها الصحابة الكرام وتساميها، يرتقون فيها، بيد الرسول صلى الله عليه وسلم يرفعهم إليها بهذا الدين، ليستمروا عليها في حياتهم ما داموا يستمدون منها. وهم دوما يقتدون بهذا النبي الكريم والرسول العظيم صلى الله عليه وسلم. وهذا وحده لا يكون إلا بنبوة ورسالة من الله تعالى إلى خلقه، يحملها من يختاره بحكمته، فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم واصطفاه ليكون الأسوة الحسنة والقدوة الكريمة لأهل الأرض أجمعين. إنه سيد الأنبياء والمرسلين وقائد البشرية إلى طريق الله المنير.
*
السيرة بناء وارتقاء:
وكان الصحابة الكرام يترقّون ويرتقون في سلّم الهداية ويرفلون في نعمة
(1) حياة الصحابة، (3/ 50) ، (320) رواه مسلم وآخرون.
(2)
حياة الصحابة، (3/ 320) . وتجد تمام الحديث في مسند الإمام أحمد، 2/ 304- 305.
منهج الله تعالى، بعد أن أنقذهم الله سبحانه وتعالى بالإسلام من شفا جرف هار، ورفعهم من سفح الجاهلية ومستنقعها ليسمو بهم إلى القمم العالية التي أرادها الله للإنسان بهذا الدين على يد المصطفى صلى الله عليه وسلم. واقرأ معي- إن شئت- قول الله جلت قدرته وتباركت أسماؤه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 103- 104] .
ودوما كان الصحابة يذكرون الله تعالى ويشكرونه أن أنقذهم من الجاهلية التي عاشوها «1» ، ليضعهم في أعلى قمة عرفها الإنسان. وهذا لا يتم إلا بالإسلام وحده الذي أنعم الله به عليهم ورعاهم به وأكرمهم وكرّمهم.
ولقد ورد عن ربيعة بن كعب الأسلمي «2» أنه قال: كنت أبيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي:«سل» . فقلت: يا رسول الله، أسألك مرافقتك في الجنة. فقال:«أو غير ذلك؟» . قلت: هو ذاك.
قال: «فأعنّي على نفسك بكثرة السجود» «3» .
انظر ماذا سأل ربيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سأله لآخرته، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يعرف أن هذا السؤال بحاجة إلى استعداد، لا بد من توفره لمن يسأله، لا مجرد التمني؛ لأن المسلم يحس بمسؤوليته ويقدم لها مستلزماتها ويرتقي
(1) انظر كذلك في وصف تلك الجاهلية: سير أعلام النبلاء، (1/ 389) .
(2)
ربيعة بن كعب بن مالك (63 هـ) صحابي جليل من أصحاب الصّفّة (عنهم انظر، أعلاه) ومن أهل المدينة. كان يلزم النبي صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وصحبه قديما. انظر: الاستيعاب، (2/ 494) ، رقم (765) . أسد الغابة، (2/ 216) ، رقم (1660) . الإصابة، (1/ 511) رقم (2623) . تخريج الدلالات السمعية، (69- 70) . حياة الصحابة، (2/ 605) ، (669- 671) . زاد المعاد، (1/ 236) .
(3)
أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، رقم (489) . وانظر: زاد المعاد، (1/ 236) . التفسير، (2/ 700) . حياة الصحابة (2/ 605) .
بنفسه لاستعداداتها، حتى يكون أهلا لاستحقاقاتها. والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أصحابه وعنهم، أكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم «1» . وكان يدلّهم صلى الله عليه وسلم على الطريق، وأن التقرب إلى الله لا بد من العمل له، احتمالا وإقبالا وبذلا، يقوم على صدق النية والإخلاص الأكيد الكامل لله رب العالمين. وخلوص المسلم، بكل ما لديه همة ومكنة ووجهة، له سبحانه وتعالى متجردا وفرحا، بما يؤديه ويقدمه. وعند ذاك يعينه الله ويقويه ويستجيب له، وفي الحديث الشريف أن يدعو المسلم الله ربه وهو موقن بالإجابة «2» .
وعلى ذلك، ولأن هذا الرجاء من ربيعة مطلب أساس يتمناه، فهو لا يستبدله ولا يريد غيره، بل أكده لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مستعد لتكاليفه التي تهون، ليتحقق له رجاؤه. فلم يكن حرصه على صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات حدود، محبة عظيمة لا مثيل لها، في صدقها وعمقها وقوتها. وكذلك يحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثرهم على نفسه ويقدم أمورهم ويرعاهم وفتقدهم ويتفقدهم ويحملهم، معينا على ذلك الارتقاء في سلّم الإيمان، ليصلوا باستعداداتهم الإيمانية التي بناها لهم بالإسلام وحده إلى قممه العالية ما استطاعوا.
ولذلك بيّن صلى الله عليه وسلم لربيعة، كيف يمكنه أن تستمر الصحبة من الدنيا إلى الآخرة، وهو أمر كان يشغلهم بعد ما عرفوه وقدروه وذاقوا طعمه في الدنيا، فحرصوا عليه وغدا لهم شغلهم الشاغل «3» ، فقال له صلى الله عليه وسلم:«فأعني على نفسك بكثرة السجود» . إذا حتى يدعو الله له ويستجيب لسؤاله، عليه أن يعين هو نفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحقيق هذا المطلب بكثرة السجود لله رب العالمين.
والرسول صلى الله عليه وسلم رغم كثرة عبادة الصحابة- كان صلى الله عليه وسلم أكثرهم عبادة
(1) التفسير، (2/ 698) .
(2)
بمعناه، ولعله أثر.
(3)
انظر: التفسير (2/ 700) .