المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد وتنجيد السيرة النبوية الشّريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- هي التي - السيرة النبوية منهجية دراستها واستعراض أحداثها

[عبد الرحمن علي الحجي]

فهرس الكتاب

- ‌[المدخل]

- ‌الإهداء

- ‌ملاحظات

- ‌تقديم

- ‌تمهيد وتنجيد

- ‌المبحث الأول السيرة النبوية ظلالها وآفاق دراستها

- ‌ استهلال وإطلال وإجلال:

- ‌ التخصص العام والدقيق:

- ‌ المقوّم الأول المهم:

- ‌ اتساع السيرة النبوية والاقتداء بها:

- ‌ السيرة مرآة ومهماز:

- ‌ مصادر دراسة السيرة:

- ‌ صلحاء الأمة وحماتها:

- ‌ كتابة السيرة الشريفة:

- ‌ العيش في جو السيرة عمقا وتعلّقا:

- ‌ كتابة السيرة بين الفقه والتاريخ:

- ‌ دراسة وكتابة السيرة الشريفة وآفاقها:

- ‌ دوام حفظ الله سبحانه لأهل دعوته ونوعيتهم:

- ‌ أسلوب هذه الدراسة:

- ‌ أثر السيرة في المجتمع قوة ودعوة:

- ‌ السيرة وكتابة التاريخ:

- ‌ السيرة وجيل الصّحابة:

- ‌ هذه الدراسة والكتابة:

- ‌ الحب الواضح المتجدّد:

- ‌ الخلوص في التوجه، والنقاء في التلقّي:

- ‌ سبل التعبير عن السيرة النبوية الشريفة:

- ‌ السيرة النبوية مشاهد عملية ومواقف حيّة:

- ‌ معرفة دلائل السيرة المتفردة من خلال تفوّقها ومعالمها:

- ‌ تحقّق الإسلام بالسيرة:

- ‌ القدوة المثالية الواقعية:

- ‌ نعمة حفظ الله تعالى لكتابه وسنّة رسوله:

- ‌ قادة الأمة والسّيرة:

- ‌ واجبات محبّبة كريمة، وثمار مباركة طيبة:

- ‌ علماء الأمة هم حماتها، وبناة حضارتها:

- ‌ جمال أمثلة صياغة الحياة وتفرّد وعمق صبغتها:

- ‌ علماء الموائد:

- ‌ السّنّة وكتابة السّيرة:

- ‌ من يكتب السيرة

- ‌ إرهاصات:

- ‌ أدلة إيضاح وإفصاح:

- ‌ جيلنا والاهتمام بالسيرة:

- ‌ واجب العناية بالسيرة:

- ‌المسلم ودراسة السيرة:

- ‌ موقع السيرة النبوية من التاريخ:

- ‌ الصحابة والاقتداء بالسيرة:

- ‌ الخيرية والجيل المثال:

- ‌ السيرة موئل ومنهل:

- ‌ السيرة بناء وارتقاء:

- ‌ مدلولات فريدة جديدة:

- ‌ ثمار أغنت ميادينها:

- ‌ عصر النبوة وامتلاء ميادينه بالأعلام العالية:

- ‌ الحضارة والأصالة الإسلامية في الدعوة الربانية:

- ‌ الصحابة والولاء للإسلام:

- ‌ أسلموا وأهلهم أعداء:

- ‌ الإيمان وتكاليف تربيته:

- ‌ رهافة الثمرة الإيمانية:

- ‌ إضاآت كريمة ومدلولات فاضلة لقصة ربيعة:

- ‌ دقة الرهافة وأصالتها جعلتهم يشعرون بالتقصير:

- ‌ مدى عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحابة:

- ‌ العناية النبوية الحنون في رعاية الواقع الميمون:

- ‌ تفقد الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وحبّهم له:

- ‌ النساء وفرض الحجاب:

- ‌ جيل الصحابة والإقبال على أمر الله:

- ‌ قصة تحريم الخمر:

- ‌ الترقي الإيماني والإقبال على دخول الإسلام:

- ‌ حضور مشاهد الغابرين:

- ‌ المؤمنون والمعاندون وغيرهم:

- ‌ لله سنة جارية ثابتة بملازمة العاقبة للمتقين:

- ‌ معاني الأحداث السالفة:

- ‌ القرآن الكريم والعبر العامة المستفادة من قصصه:

- ‌ أجواء السيرة العبقة:

- ‌ الصحابة وسبل الارتقاء:

- ‌ القرآن والسيرة:

- ‌ بين الدرجة والنوع:

- ‌ تذوّق الصحابة نعمة الوحي، وافتقادها لدى انقطاعها:

- ‌ شواهد وفرائد صحابية:

- ‌ الرخص أم العزائم:

- ‌ السيرة مدد وحياة:

- ‌الثمار الطيبة الطّعوم:

- ‌ الإضافة وحديث القرآن:

- ‌ الإسلام منهج أهل الأرض ومستقبلهم المشرّف المشرق:

- ‌ الصحابة فخر الميادين، ازدحمت بهم الساحات:

- ‌ السيرة والتابعون وتابعوهم:

- ‌ الصحابة أئمة ومثل وهم بالرسول صلى الله عليه وسلم مقتدون:

- ‌ حبّ متوارث طهور:

- ‌ عناية الأجيال بالسيرة:

- ‌ وضوح أحداث السيرة:

- ‌ البشارات بالرسالة الخاتمة:

- ‌ عالمية الدعوة الإسلامية:

- ‌ السيرة ونسج المثال:

- ‌ السيرة ونفس المسلم:

- ‌ تفسير السيرة ومكانتها:

- ‌ فاتحة وافتتاح:

- ‌ هذا الاحتفال:

- ‌ أهمية المناسبات:

- ‌ مولد واقتران:

- ‌ تفكر وتفكر:

- ‌ الإسلام وحده هو الشرف:

- ‌ معنى الاحتفال بالمولد الشريف:

- ‌ هيمنة القرآن وإمامة الإسلام:

- ‌ يا حسرة على العباد:

- ‌ ولادة وولادة:

- ‌المسلم قويّ بهذا الدين:

- ‌ أمّة القرآن عودي للقرآن:

- ‌ الحياة البشرية من الجاهلية إلى الإنسانية:

- ‌ المثل والأمثلة:

- ‌ الشرود عن منهج الله هو الدمار:

- ‌ النجاة بهذا الدّين وحده:

- ‌ مهمّة المسلم وآفاقه وقوّته:

- ‌ كيف السبيل

- ‌ أداء حق أمانة الدعوة:

- ‌ المولد الميمون: المناسبة والاحتفال:

- ‌ مدلول حادثة الفيل:

- ‌ عالمية الدعوة الإسلامية:

- ‌ السموّ بالاستمرار والاتصال:

- ‌ صورة مضيئة يهبها الإيمان:

- ‌ السّهمي في بلاط كسرى:

- ‌معجزة نبوية شاهدة:

- ‌ مؤشرات ومبشرات:

- ‌ محنة ومنحة:

- ‌ من الجاهلية إلى الإسلام:

- ‌ العزيمة وقيام الحياة الإسلامية:

- ‌ فطنة المسلم وتضحيته:

- ‌ النور وراء الظلمة:

- ‌ عجائب الإسلام وفرائده:

- ‌ هذه أخلاق القرآن:

- ‌ تعدد دروب النفس:

- ‌ الهجرة والأخذ بالأسباب:

- ‌ لقاء الهجرة والنّصرة:

- ‌ مناسبات وأحفال:

- ‌ بين العلم والعمل:

- ‌ الجيل المسلم والسيرة:

- ‌ الهجرة والدولة:

- ‌ الهجرات الثلاث:

- ‌ إقامة الحياة الإسلامية:

- ‌ الخلوص الكامل لله:

- ‌ الإسلام هجرة وبيعة:

- ‌ الإسلام وطن وقومية:

- ‌ الهجرة هجرة ونصرة:

- ‌ الحق قادم بأهله:

- ‌ بداية وافتتاح:

- ‌ الإسلام كبرى النّعم:

- ‌ ولادة الإنسان الجديد:

- ‌ دعوة اليقظة والارتقاء:

- ‌ تقدم الركب الميمون:

- ‌ حمل الراية المباركة:

- ‌ ذلك الجيل الفريد:

- ‌ قوة التضحية والفداء:

- ‌إنها بيعة دائمة، وعهود قائمة

- ‌ الإقبال خفافا وثقالا:

- ‌ لقاء الهجرة والنّصرة:

- ‌ واجب الشباب الطلاب:

- ‌ تضحيات فائقة رائقة:

- ‌ مناسبات ذات دلالة:

- ‌ قوة الإسلام ذاتية ربانية أودعها الله تعالى:

- ‌ التّسخير لهذا الدّين:

- ‌ الهجرة حبّ وحفظ:

- ‌ النصر حليف الإيمان:

- ‌ عجائب هذا التاريخ:

- ‌ الإسلام ارتقاء وشموخ:

- ‌ الإسلام تعامل وأخلاق:

- ‌ الإسلام شفاء وبناء:

- ‌فهرس الآيات

- ‌فهرس الأحاديث والآثار النبوية

- ‌فهرس الشعر

- ‌فهرس الأعلام

- ‌فهرس الأماكن والبقاع

- ‌فهرس القبائل والجماعات

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ ‌تمهيد وتنجيد السيرة النبوية الشّريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- هي التي

‌تمهيد وتنجيد

السيرة النبوية الشّريفة- على صاحبها الصلاة والسلام- هي التي أقامت مباني هذا الدين- الذي أنزله الله تعالى، وحيا أمينا صادقا على رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وبه أتمّ نعمته على خلقه، على قواعده الإيمانية بالله تعالى ورسالته الخاتمة، عقيدة وعبادة وشريعة. ورسمت تعاليم الإسلام في الواقع: سلوكا وتعاملا، بذلا وتضحية، احتمالا وفداء.

وهي ثمرة بناء الإسلام- قرآنا وسنّة وسيرة- وأقامت الإنسان والحياة على قواعده المتينة الرصينة الأمينة. ذلك من أجل إقامة المجتمع الفاضل والحياة الإنسانية الكريمة، في واقعية مثالية، أو مثالية واقعية، تبقى دليل الإنسانية ونهجها الميمون الفريد نحو الحياة المرجوة التي أرادها الله لعباده؛ لترسيخ معنى العبودية لله تعالى وحده، وإنجاز الفتوحات المتنوعة في آفاق النفس، وميادين الحياة، وإعمار المجتمع، بصيغة كريمة إنسانية فاضلة، لا يدركونها- صيغة وصبغة ورفعة- إلا به وحده.

ولقد قدّمت السيرة النبوية الشريفة القرآن الكريم- كتاب الله تعالى- شرحا موضّحا بالبيان والتفصيل في السّنة النبوية المطهرة، وبالسلوك والتمثيل في واقع الحياة، في كل إطار وفي أي مجال وحال، في السيرة النبوية العطرة.

وكما أن كلّ ما في القرآن الكريم يشير ويؤكد ويعلن أنه من عند الله تعالى، وحيا منزّلا منه سبحانه على رسوله الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الصادق المصدوق «1» ، الذي تلقاه من ربه العظيم الجليل سبحانه. وبهذا

(1) الصادق المصدوق: وصف للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وهو تعبير كثر وروده عند رواة

ص: 11

كله تماما تتضح نبوته ورسوليته ورسالته من خلاله، مضيئة كالشمس رخية كالنسيم رحبة كالفضاء وكالسماء. والله تعالى يقول: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: 191- 197] .

ويقول سبحانه وتعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] .

والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «1» .

الأحاديث النبوية الشريفة، وعموم الصحابة الكرام ومن بعدهم على مدار الأجيال، ونحن والحمد لله إلى يوم الدين. البخاري، رقم (3036) . وكتاب العلم، باب: قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا. «الصادق» : الصادق في قوله. «المصدوق» : المصدوق فيما يأتيه من الوحي الكريم، وكذلك المصدّق فيه. مسلم، رقم (2643) .

(1)

البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل، رقم (4696) ، مسلم، رقم (152) . جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، (8/ 533، رقم 6333) . «آمن عليه البشر» : أي كل نبي بعثه الله تعالى أعطاه من الآيات والدلائل الواضحة والمعجزات (من خوارق العادات) التي تظهر صدقه، فتقتضي الإيمان به. «أتيته» : أراد القرآن الكريم الذي خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أعطاها الله للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم الموحى به من الله تعالى لفظا ومعنى، وهو المعجزة الكبرى الباقية إلى يوم القيامة، يستمر الإيمان به من غير المسلمين فيؤمنون به ويدخلونه- على مر العصور ومن كل الأقوام، بجانب كل المعجزات الآخرى الكثيرة المتنوعة. «وحيا» : والوحي هنا هو القرآن الكريم، فإنه ليس من كتب الله المنزلة كان معجزا إلا القرآن الكريم.

ص: 12

فالقرآن الكريم كتاب الله تعالى المبارك، وشرعه المبين، وحبله المتين، أنعم به على البشرية جمعاء، فضلا منه ومنّة؛ ليبلّغه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، رسالة ربانية لا غنى لأهل الأرض عنها في كل ديارهم وأعصارهم ومرتقياتهم. ولا تستريح البشرية- كما استراحت ورأت في جولة سبقت- إلا في ظله. وتلك تجربة وخبرة وشهادة، تكفيها لأخذه واعتماده والعمل به، مكتفية به وحده ومستغنية به عما سواه، حتى لو فاتتها معرفة ذلك، من خلال القرآن والسنة المطهرة والسيرة النبوية الشريفة.

وحين تتخذه البشرية منهجا تتعامل به في كل جوانب حياتها، ستنال السيادة والتكريم في الدنيا والسعادة الدائمة في الآخرة. ويوم تدركه وتعرفه وتفقهه لا ترتضي- ذاتيا، ولا يصحّ لها- أن تلتفت لغيره وبطبيعتها، اعتمادا على نظرية (أو حقيقة) التقابل والتواصل والتكامل، أو التوافق والترافق والتعانق. عندها يسقط وتسقط كل ما عداه من البرامج البشرية، والمناهج الأرضية، والمبادئ الوضعية؛ إذ لا يجب أن يحكّم المسلم في حياته كلها غير ما أنزله الله سبحانه، ولا يقبل التحاكم إلى ما يضعه الإنسان، مهما كان.

وهذا هو مفهوم العبودية لله تعالى، ومعنى شهادة ألاإله إلّا الله، الذي دعا إليه كافة الأنبياء عليهم السلام ، واستمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يجاهد من أجلها عقودا، تثبيتا وتوكيدا وتحديدا بأمانة.

والله تعالى يقول في سور متعددة مثل الأنعام والأعراف وهود اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء أخوة، أبناء علّات، أمهاتهم شتّى، ودينهم واحد» «1» .

(1) رواه البخاري: كتاب الأنبياء، باب: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها [سورة مريم، 16]، رقم (3259) . ومسلم: رقم (2365) . جامع الأصول، (8/ 523، رقم 6321) . «أولى الناس» : أخص الناس به وأقربهم إليه، لأنه بشّر به. «أولاد علات» : الأخوة لأب واحد، من أمّهات مختلفة. والمعنى: أن

ص: 13

وكم من مرة حدّث القرآن الكريم، من خلال حشد ضخم من الآيات الكريمات عن الغائب عن علم الإنسان وإدراكه وآفاقه، أي عن الغيب الكائن في التاريخ والحياة، وغاب عن علم الإنسان وعن الغيب الذي سيكون في الدنيا والآخرة سواء. وكلها حقائق منظورة، والتي ستقع مثلما وقعت، فضلا عما فيه من أمور كونية ونفسية وعلمية، وغيرها كثيرة مجهولة، مما لم يدرك بعضه الإنسان إلا بعد قرون وأجيال، ومنه لا يزال خارج دائرة إدراكه، كالذي هو خارج دائرة علمه غيبا. بل ما أكثر ما حدّث القرآن الكريم عن بواطن النفوس، وأعماق السرائر، ومكنونات الضمائر، وحتى بما هو مجهول للشخص والأشخاص أنفسهم. فلنبحث كل هذا في القرآن الكريم، ونقرأه من جديد.

كل ذلك وأمثاله يدعو بقوة كلّ إنسان- فضلا عن المسلم- أن يتبع كتاب الله في حياته، ويأخذ به، وردا وإصدارا، وبه تكون النجاة لا بغيره في الدنيا والآخرة. والله تعالى يقول في كتابه العزيز القرآن الكريم: (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] .

وكما هو الأمر هكذا بالنسبة للقرآن الكريم، فإنّ كلّ ما في السيرة الشريفة- والسّنّة الصحيحة كذلك، بعد بيان القرآن الكريم له، تجده ممهورا بطابع النبوة، وختمها الرسالات- يدل على أنه صلى الله عليه وسلم نبيّ كريم ورسول خاتم، بدعوة الله العالمية إلى أهل الأرض أجمعين وإلى يوم الدين.

ولقد أنزله الله تعالى محتويا كلّ أمورهم التي ترفعهم وتقودهم نحو الحياة الكريمة والحضارة الرشيدة، وإلى رضا الله تعالى والسعادة في الدنيا والآخرة.

شرائعهم متفقة في الأصول (مختلفة في الفروع) . «شتى» : متعددة. «دينهم واحد» : دين التوحيد. ويشير هذا إلى أن النسب الحقيقي هو نسب العقيدة والإيمان، وبه وحده لا بغيره يكون التفاضل والقبول والقرب من الله تعالى.

ص: 14

وهذا معلم واحد من معالم هذا الدّين الواضحة، دين أهل الأرض أجمعين، حالا واستقبالا، مثلما هو معلم من معالم السيرة النبوية الشريفة، ومعالمها كثيرة وقوية بينة باهرة، متلألئة مناراتها.

مثلما تلمسه وتراه وتشهده في سيرة الصحابة الكرام- رضي الله عنهم أجمعين- الذين دانوا بالعبودية الكاملة لله رب العالمين في أكمل صورها، وهم يبقون نموذجا للأجيال وعلى مدار التاريخ. فعن عبد الله بن مسعود (32 هـ) رضي الله عنه: (أن الله تعالى بعد أن اختار محمدا صلى الله عليه وسلم وبعثه برسالته، إن الله نظر في قلوب العباد فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار الله له أصحابا، فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيّه صلى الله عليه وسلم «1» .

والكل مقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي إن غاب اليوم عنا شخصه الكريم ووجوده الحي الوضئ وجسده الشريف، فهو باق محفوظ ماثل وقائم، بتوجيهاته وسلوكه ومواقفه وآفاق تربيته وجهاده وعبادته ودعائه، في البيت والمسجد والحياة، حربا وسلما في الرضا والغضب والانتصار والانكسار وفي دلائله وشمائله، حية متحركة متعطرة تفوح بالمسك قويا، عبقة تنشر الطيب، كأنك تراه وتشهده وترقبه أمامك قائما. وتلك هي السيرة النبوية الشريفة بشمولها وكمولها ومضامينها.

نستبين ذلك أيضا جليا من حياة الصحابة الكرام، بكل جوانبها ونواحيها وميادينها، ونراه ظاهرا جاهرا ومنظورا في سيرتهم المقتداة والمقتدية بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، مهما تفاوتوا- وهم يتفاوتون- في الخير والبرّ والنصرة، لكنهم اغترفوا من هذا النبع الصافي المبارك الكريم؛ ولذلك استحقوا الأوصاف الكريمة التي وصفهم الله تعالى بها في قرآنه العظيم،

(1) حياة الصحابة، الكاندهلوي، (1/ 46) .

ص: 15

ومنها كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] . فكلمة «كنتم» خاصة في أصحاب محمدا صلى الله عليه وسلم وكل من صنع صنيعهم بأداء شرط الله منها «1» .

ولعل الواقع نفسه يشير إلى أبعد من ذلك، حيث يستبين أيضا في هذا المضمار المتسع أن الله تعالى قد صرّف السيرة النبوية الشريفة، آخذا بها في ماجريات (مجريات) السّيرة ومجاليها. وهي رعاية أخرى يتمّها ويتولاها ويقودها، فتسير الأحداث والأمور والناس فيما يريد الله، فكانوا دوما يقومون بما يقومون به، ومن ورائهم القدرة الإلهية وإرادتها، لتجري بنسقها الذي تضمنته، لتكون مثالا يقتدى، ودليلا يحتذى، وبها يهتدى، لكل السائرين والسالكين درب الإيمان بالله تعالى والعاكفين على دعوته، في كل زمان ومكان في كل أحوالهم ومجاليهم، أو المجاوزين لها مسلمين وغير مسلمين. فالأولون يرون فيها طريقهم وبها وحدها يهتدون، والآخرون يرون الحقائق ماثلة قوية ساطعة، فلعلهم يحسنون التعامل معها، فيهرعون إلى أحضانها ينعمون بظلالها. وفي حياة الصحابة الكرام دليل على ما أقول.

وإن الصيغ المثبتة عن الصحابة الكرام لتشي- أي: تعلن وتعلم- بقوة لا تقاوم، لتعلنها مدوّية عن روعة هذا الدين؛ كيف وماذا صنع الإسلام بهؤلاء وبأهله كافة، حيث أخذهم من سفوح الجاهلية ووهادها السحيقة بكل ضلالاتها وانحرافاتها والتواآتها- ليرفعهم إلى أعلى القمم الفاضلة، يمكن أن يرتفع إليها إنسان، لا يرتفع إليها إلا بهذا الدين، وبكل جوانبها، بتوازن وانسجام واكتمال. وهو أمر معجز في حقيقته، يشير إلى معجزة الإسلام نفسه في وجه آخر جديد، والتي يمكن أن تتكرر بعواملها.

فالقرآن الكريم بيننا وقد حفظه الله تعالى، نصّا كاملا، وحسّا عاملا،

(1) حياة الصحابة (1/ 45- 46) .

ص: 16

وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة. فهو صلى الله عليه وسلم الإنسان النبي، والنبي الإنسان، ورسول الله الخاتم. ولا فصل بين كل ذلك. ولا يجوز غير هذا الفهم، ولا تتم له حياة في دائرته بحال وبأي اعتبار ومن أي منظار، حتى لكثير من غير المسلمين، ممن كانت لهم رؤية صحيحة، ولو بعضها، فكيف بالمسلمين؟ بل كيف يصحّ له إسلام بدون ذلك؟

ولو أنصف، حتى غير المسلمين نساء ورجالا ومن كل قوم وملة كانوا، لأحبوه كما لم يحبوا أحدا غيره، ووقروه، وأدنوه من نفوسهم، سواء قادهم ذلك إلى الإسلام- وغالبا ما يقود، والمفروض أن يقود، وذلك أتم وأشم- أو لم يتم.

وهذا الذي مضى كله واضح تمام الوضوح في القرآن الكريم والسّنّة النبوية والسيرة الشريفة. وهما لا بد أن يكونا المصدر الأساس لهذه السيرة الشريفة، كتابة ودراسة وتدريسا. ولا علمية ولا منهجية ولا موضوعية بدون ذلك أبدا أبدا. بل منها يجب أن تبدأ دراسة ذلك كله، كما يجب أن يا بنى بها المنهج السليم لدراسة التاريخ الإسلامي وغيره من تواريخ الأمم الآخرى، ويكون عليه الاعتماد في قضية تفسير التاريخ بشكل شامل عام، لتجنب الوقوع في التّيه، أو الخروج منه، الذي أدخلتنا فيه التفاسير المبتسرة الفجة السطحية، والتي مازالت التعديلات والترقيعات والتجميلات تدخل عليها وهي تزداد تشويها، به أو بغيره أو بنفسه. والله تعالى يقول: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء: 18] .

ولقد كان هؤلاء الصحابة الكرام الصورة الوضيئة العجيبة التي رسمها القرآن الكريم، بأسلوبه البديع المعجز. إنه كلام الله الذي أراده سبحانه أن يكون معجزة هذا الدين الخالدة الدائمة على مدار الأجيال. أولئك الأخيار الأفذاذ والنماذج المثال، الذين صعدوا ذلك المرتقى العال، فكانت سموّا في الحياة، تحقّق في هذه النماذج القمة الفريدة السعيدة، التي ما كان لها أن تعرفها أبدا- فضلا عن ارتيادها- إلا بهذا الدين الذي أراده الله تعالى

ص: 17

للبشرية، ولا يقبل من أحد دينا غيره، ولا انتماء سواه.

والصحابة الكرام هم الجيل المثال الفريد، الذي تربّى على مائدة القرآن الكريم، وقادهم لذلك محمد بن عبد الله الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم الذي علمه الله تعالى، وأعدّه، وأدّبه للقيام بهذه الدعوة، مما هو واضح من الإشارات والبشارات، حتى قبل النبوة بل وأسبق منه، ومن كل ما يحيط به. أما النبوة منذ تلقيها- فذلك واضح كل الوضوح في القرآن والسّنّة والسيرة.

فكان هؤلاء الصحابة هم أنفسهم كذلك القدوة، والذين كان الإيمان بالله تعالى ودعوته ونبيه صلى الله عليه وسلم في قلوبهم أعظم من الجبال، حتى في ضحكهم ومرحهم ومزاحهم «1» . فالاقتداء- إذا- بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالذين اتبعوه من المهاجرين والأنصار وغيرهم هو طريق الهداية.

فالرسول صلى الله عليه وسلم هو نبيّ الله، اختاره الله لدعوته الكريمة. وكان هؤلاء الصحابة الذين عاشوا معه، وتربوا على الإسلام بين يديه بشرا ترقّى، يوم اقتدوا به، واستجابوا لدعوة الله على يديه، وعضّوا عليها بالنواجذ، مما يشير إلى الاقتداء بهم. ونتعلّم منهم كيف تلقوا هذا الدين، واستجابوا له، وارتقوا به ببشريتهم، لنأخذ نحن به مثلهم مقتدين بهم بعد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وهم خير الأصحاب الذين تلقّوا عنه مباشرة، معتمدين في ذلك كله على القرآن الكريم والسّنّة الصحيحة والسّيرة الشريفة، متلمّسين كيف أن كلّ ذلك تحول في حياتهم إلى واقع عملي قوي ملموس. وفي ذلك يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (74 هـ) : (من كان مستنّا فليستنّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمّة، أبرّها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلّها تكلّفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبّهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على

(1) حياة الصحابة (1/ 48) .

ص: 18

الهدى المستقيم والله ربّ الكعبة) «1» .

وبذلك كانوا هداة هذه الأمة والإنسانية، ومبلغي دعوة الله إليهم، حملوها أمانة وصيانة وديانة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعوة وسلوكا وحياة.

ملؤوا الدنيا ضياء وهداية وعدلا، فكانوا ينابيع صافية يستقي منها الآخرون.

من الوجوه المصابيح الذين هم

كأنهم من نجوم حية صنعوا

أخلاقهم نورهم من أي ناحية

أقبلت تنظر في أخلاقهم سطعوا

وقد وصفهم أحد التابعين مبيّنا بعض أوصافهم، وهو التابعي الجليل مسروق بن الأجدع (63 هـ 683 م) :(شاممت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم أشبه بالإخاذ، تكفي الإخاذة الراكب، وتكفي الإخاذة الراكبين، وتكفي الإخاذة الفئام من الناس، والإخاذة لو صدر عنها الناس جميعا لكفتهم)«2» .

فلنحاول العيش ابتداء- ولو لحظات، وحتى من بعيد- بقربهم، نتذوق ما تذوقوه، ونرى حلاوة الإيمان الذي يعمر القلوب، ويأخذ إلى باحة الإسلام ومجاليه وميادينه. وبذلك يكون إعادة الموكب الكريم، وتنطلق به الحياة، مستقيمة رضية وضيئة. وبها يرى الناس عجائب هذا الدين ومعجزاته، مما لم يخطر لهم على بال. فهل نطيق عن ذلك انفكاكا منها، أو ابتعادا عنها، أو إهمالا لها؟

ولعلك وجدت بعض ذلك في أتباع الأنبياء السابقين- صلوات الله وسلامه عليهم- كالحواريّين. ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته

(1) حياة الصحابة (1/ 46) . ولعبد الله بن مسعود (كلام قريب من هذا. جامع الأصول، (1/ 292) . «المستن» : الذي يعمل بالسنة.

(2)

«شاممت» : عرفت. «الإخاذ» : جمع إخاذة، وهي غدير الماء. «الفئام» : الجماعة من الناس.

ص: 19

ويقتدون بأمره

» «1» .

لكن الصحابة الكرام- وكلهم عدول- أولياء الله تعالى وأصفياؤه وخيرته من خلقه، بعد أنبيائه ورسله، خير من الحواريين «2» . ولقد جاء هذا الوصف على لسان بعض النصارى الذين أسلموا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

ولقد كرّم الله صحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في آياته الكثيرة «3» ، مما يعرفه المسلم، الأمر الذي يدعو إلى توقيرهم وتقديرهم ومحبتهم جميعا، وهو شأن كل المسلمين، لا ينفكّ عنهم، ولا يتحول، ولا يستبدل.

ومن صفة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم، والكتب السّابقة- مما يجعل البشارة بهم ثابتة مع البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح: 28- 29]«4» .

كذلك ذكر الله تعالى في آية أخرى، أنّ صفة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ونعته

(1) رواه مسلم: كتاب الإيمان- باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان رقم (50) .

(2)

تفسير القرطبي (16/ 299) .

(3)

حياة الصحابة (1/ 35- 40) .

(4)

المعنى: هذا الوصف الوارد في الآية الكريمة، إنه لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله. ووصف الصحابة الكرام بهذه الصفات. وكل تلك الصفات مذكورة في التوراة والإنجيل، ومبشّر فيهما بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبالصحابة. وما دام أن الله قد ذكر ذلك في القرآن الكريم (وقل مثل هذا في السنة الصحيحة الثابتة) ، فهو لا بدّ حقا مذكور فيهما، مهما بلغ التحريف والإخفاء والادعاء. ولا نحتاج بعده إلى أي دليل- مهما كان- والأمور كلها تستمد الدليل من القرآن الكريم.

ص: 20

يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 156- 157] .

وبعض هذه الصفات التي وصف الله تعالى بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في القرآن العظيم، منها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 45- 47] ، وردت في الكتب السابقة، منها التوراة والإنجيل، كما أشارت إليه الآيات السابقة. روى البخاري أن عبد الله بن عمرو بن العاص حين سئل عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال:(أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب: 45] . وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكل، ليس بفظّ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر (ويصفح) ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلّا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا) «1» .

(1) البخاري: رقم (2018)، ورقم (4558) . «حرزا للأميين» : حصنا للعرب (ولغيرهم) ، وقد بعثه الله فيهم منهم أولا، فدعاهم إليه أولا. «سخاب» : رفع صوته على الناس. «يقيم به الملة العوجاء» : ينفي الشرك عنها ويثبت التوحيد فيها. «غلف» : غطتها ظلمة الشرك، فهي به مغلفة مظلمة قاتمة.

ص: 21

هذه السيرة الشريفة التي عاشت الصورة القرآنية، وائتسى بها الصحابة الكرام خير ائتساء، فكانوا خير مؤتسين لأحسن أسوة، تبقى النموذج الأفضل والقدوة الأمثال لبني الإنسان، وخصوصا للمسلمين في كل وقت وحال. استمدت كلّ ما فيها من هذا الدين الذي أوحاه الله تعالى إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليكون المبلّغ بالنص، تشرحه السّنّة، وتمثيله بالسيرة.

وهذه السيرة الشريفة مليئة بالذخائر والكنوز واللآلئ والدرر، ولا بد من الغوص وراء أصدافها الحافظة لها، واستخراج دررها الفريدة من داخلها. عجائبها غزيرة، وعقودها باهرة، أتت بالعجائب والنجائب والمراتب في كل باب، وأنتجت الفتوحات متنوعات في كل درب، وقدمت الصيغ الإنسانية التي تربت على مائدة القرآن الكريم، في أحضانها وأجوائها في كل موقع وصوب وحدب، مقتدية في ذلك كله بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كيف وقد جاء للتطبيق العملي القائم في الحياة الواقعية والمجتمع، بلا تجاهل ولا تماهل ولا تساهل أبدا بحال؟!

ذلك لأنها مستمدّة وقائمة على القرآن الكريم. فهي عجب من عجائبه، ومعجزات من إعجازاته؛ التي لا تفنى ولا تنضب. ويبقى لكل زمان وأحد وجيل كذلك، ما ادّخره الله سبحانه وتعالى له برحمته.

ومن هنا فلا بدّ من منهجية جديدة مستقلة ومتساوقة ومتعانقة مع هذا التاريخ الإسلامي وبقيته وتوابعه، ابتداء من السيرة النبوية الشريفة، فهي تاجه الرفيع، وعزه المنيع، وقوامه البديع.

وقد احتوت السيرة الشريفة ذلك كلّه، ولذلك فكلما عاشها الإنسان، وعاشت به، عرفها أكثر، وأدركها أعمق، واقترب من مضامينها وأسرارها، وأحسن التعبير عنها وتمثّلها، بمقدار العيش فيها، قدرا ومقدارا وإصرارا.

وأحسّ- والحمد لله وبفضله- أنني كل يوم أتقدم وأتفهم وأتعلم

ص: 22

لاستشراف هذه المعاني والمشاهد والأجواء في هذا المجال وفي غيره سواء بسواء، متعرّفا على جديد من ذلك كله، وأقطف مزيدا من ثمارها الكريمة، فهما وإدراكا وتحصيلا، وكلما تفيأت ظلالها كلما أدركت أبعادها، واقتربت، ووعيت من آفاقها، دراسة ومتابعة وتعمقا.

وكل هذا نعمة ومنّة وبركة من الله تعالى رب العالمين، فالحمد لله على نعمه الكثيرة، ونسأله سبحانه الدوام وحسن الختام في ظل الإسلام.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ص: 23