الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- وسور أخرى كثيرة- مصائر الغابرين المكاذبين الذين حاربوا بقوة دعوة الله وآذوا أنبياءه. وكانت أمامهم ماثلة ديار بعض تلك الأقوام الذين أهلكهم الله تعالى بذنوبهم، يشهدونها خاوية على عروشها ويمرون باثارها وبقاياها وأطلالها، ويعرفون مواقعها. فهو سبحانه يحدثهم عن أخبارها ليزدجروا ويعتبروا فيهتدوا وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ [القمر:
4] «1» .
*
القرآن الكريم والعبر العامة المستفادة من قصصه:
وبعد فهذا الاستعراض لمصائر ومصارع المكاذبين ومشاهدهم البائسة الماثلة أمامهم التي بينها الله تعالى لهم، يخاطبهم- بهذا القرآن الكريم- ومتوجها إليهم بالخطاب محذّرهم مصيرا كهذه المصائر، فكفار أهل مكة وقريش والعرب وغيرهم على الدوام ليسوا خيرا من كفار تلك الأقوام الغابرة الذين ترون مصارعهم شاهدة، وهم لا ينكرونها. إذا فأفيقوا وتداركوا واسعوا للنجاة والسعادة في الدارين والاستقامة باتّباعكم لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون صدقه وأمانته واستقامته، الذي جاءكم- من عند الله تعالى بهذا الدين الحق الصدق الجد، وكتابه القرآن الكريم.
وأنتم ترون حقيقة النّذر فيما سبقكم من أقوام، مثلما ترون من حقيقته وإعجازه وصدقه وتشهدون به وتقرونه وتلمسونه في كل جانب وقضية وموضوع، وإن الكفرة لا بد أن يهزموا أمام المؤمنين بهذا الدين. فإن النصر لا محالة وبالتأكيد ولا مفر- بعون الله تعالى، وحسب سنة الله وإرادته ووعده للذين اتّبعوا شريعته وأحبوها أكثر من أنفسهم، وهي نفيسة، قدموها رخيصة ولم يدخروا شيئا دونها.
(1) وفي هذه السورة الكريمة كذلك العديد من صيغ الدعوة العظيمة العاملة الماثلة الفاضلة وأخبار أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
وقد حدث هذا في معركة بدر الكبرى (17 رمضان السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة) . وهو أمر دائم، فالله سبحانه وتعالى ينزل نصره على أوليائه، ما داموا على شريعته قائمين، ويجعل ويحلّ الهزيمة على أعدائه، مهما ومن كانوا وما ادعوا وما تبجحوا وأظهروا أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 43- 45] «1» .
وجاء في التنذير والتنبيه والتحذير- بعد تلك الأمثلة والشواهد والمشاهد في سورة العنكبوت للعرب أنفسهم من قريش وأهل مكة والجزيرة وغيرهم- المخاطبين بذلك أولا، ويشمل كل أحد مثلهم- إن هم حاربوا هذا الدين وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت: 18- 20] .
ومن حكمة الله تعالى ونعمته ومنّته أن لم يكن المحق والسحق والدمار للمعاندين في أمر هذه الدعوة الكريمة، الذي كان مصير أمثالهم في دعوات الله السابقة؛ لأن هذا دين الله العام لأهل الأرض أجمعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وهي كذلك رحمة منه، لحكمة يريدها وهو بها عليم.
ولكن جهاد المؤمنين بها، صابرين على كل أنواع الأذى والاضطهاد والتعذيب، حتى نصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وجنده ودعوته بهؤلاء المؤمنين
(1) انظر تفاصيل ذلك كما رواها البخاري في صحيحه: كتاب التفسير، باب قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، رقم (4594- 4596) . علما أن سورة القمر هي مكية ونزلت قبل الهجرة بعدة سنوات. ولم يفهم جمهرة الصحابة الكرام- إن لم يكن كلهم- فهم الواقع العملي لمعنى هذه الآيات إلا عندما نصرهم الله سبحانه وتعالى في بدر أو عند ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميدان المعركة وقبل ابتدائها يتلو هذه الآية الكريمة، كما أشير إلى ذلك في البخاري في الهامشة الحالية توا.
الذين اتبعوه في كل الأحوال، وفي حرب أعدائهم بهذا الدين وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:
62-
64] .
فالله سبحانه وتعالى يذكّر العرب- وغيرهم- الذين حاربوا الإسلام، بمصارع العصاة والعتاة والبغاة من الكفرة المتألهين والظلمة المتجبرين والفسقة المتبخترين، من الغابرين وعلى مدار القرون السابقة للدعوة الإسلامية ويدعوهم إلى الاعتبار، بعد أن تبين لهم أن هناك قوة واحدة هي قوة الله تعالى الذي أراد بالعباد خيرا بإرسال الأنبياء- عليهم السلام التي كانت هذه الدعوة الكريمة خلاصتها وخاتمتها وكمالها في هذا القرآن الكريم، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء وسيد المرسلين- عليهم السلام وبيّن لهم من خلال الآيات في الكتاب- وهو الصدق الأكيد الذي وحده يحمل الحقيقة الوحيدة الأكيدة الرشيدة- ومن خلال واقع الحياة المشهود، مع أن أولئك القوم أو الأقوام كانوا أقوى منهم وأمضى وأعلى، عبرة وتذكرة وتنبيها: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [غافر: 21- 22]«1» .
(1) وسورة غافر من السور التي تعالج قضية الحق والباطل والإيمان والكفر والضلال والعلو والتجبر في الأرض، وتقدم الأمثلة الكثيرة لدعوة الله تعالى وأحوال أنبيائه عليهم السلام وما لقوه من أقوامهم، وما كانت مصائرهم النكدة البائسة التسعة، مقابل أهل الإيمان الذين نصرهم الله تعالى، وكيف نجا ونصر وأعز أولياءه وأهلك أعداءه، ليري سبحانه وتعالى أهل مكة وقريشا والعرب والعالم في ذلك العصر وفي كل العصور مصير كل فئة، ليتعظوا ويعتبروا ويهتدوا بهذا الدين الكريم.
وهكذا يضرب الله تعالى الأمثلة في القرآن الكريم للإيمان بدعوته وجبهة الحق والمؤمنين به في عصور سبقت، سواء ممن نصر من الأنبياء- عليهم السلام في وقتهم أو بعدهم، من النساء والرجال. فزوجة فرعون المتأله كانت مؤمنة، وسحرة فرعون كانوا له ومعه، لكنهم لما رأوا الحق فاجتذبهم وأراد الله كرامتهم، آمنوا واحتملوا تهديد فرعون وتخويفه وتنكيله بهم- وقد أعلمهم به- لكنهم آثروا الحق الذي أنزله الله ورغبوا بما عنده تعالى من الأجر والثواب والجنة فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه: 70- 76] .
وهكذا يستعرض لنا القرآن الكريم هذه الصور والصيغ والمشاهد بأسلوبه المعجز وتعبيره المتفرد وكلمات الله القوية- وتلك حقيقتها وطبيعتها وأحقيتها المؤكدة المتجددة المتفردة- في هذا البيان لدعوات الله السابقة، منذ البداية وحتى نوح- عليه السلام إلى إبراهيم- أبي الأنبياء- عليه السلام وموسى، أنبياء. ثم داود وسليمان، أنبياء وملوكا. ثم بأقوام آخرين من المؤمنين بالله تعالى والعاملين بمنهجه الآخذين بكلمته. فذو القرنين «1» كان ملكا مؤمنا صالحا. وقصة الفتية المؤمنين أصحاب الكهف «2» ، وأصحاب الأخدود «3» . وكلها أمثلة على مواجهة الإيمان الأعزل للكفر المدجج
(1)[سورة الكهف: 83- 98] .
(2)
[سورة الكهف: 9- 22] .
(3)
[سورة البروج] .
المتجبر. ولكنها مع ذلك تنتهي بانتصار الإيمان الصادق بدعوة الله تعالى.
ويد الله تعالى القادرة دوما مع عباده المؤمنين، ما داموا آخذين بمضامينه وعاملين بمحتوياته مجاهدين له، وهم يرفضون ما عداه، وتلك هي سنة الله.
والمثال الواقع المتواتر المشهود وبأجلى الصيغ وأعلاها وأحلاها تجده في الإسلام ودعوته التي حملها محمد صلى الله عليه وسلم وجاهد له ومن معه، أعلى ما يكون الجهاد، مقبلين على الله تعالى يتسابقون في الأخذ بشرعه والتزام طاعته، يتقربون بذلك له راغبين برضاه سبحانه وتعالى وبجنته.
وهذا بعض ما يجعل دراسة السيرة الشريفة مهمة وواجبا إيمانيا ينبغي على المسلم الاهتمام به، إذ من خلالها ندرك حقيقة هذا الأمر وصدقه ووضوحه، كما ندرك تماما واقعه وواجبه وطريقه، ليبقى ماثلا للناس، ضمن سلسلة الدعوة إلى الله في عقدها الكريم، وأن هذا سنة الدعوات في المواجهة بين المؤمنين بالله ودعوته وبين الكافرين بها، ويكون الصراع وتقوم المواجهات وتقدم التضحيات. فإذا ما صدق أهل الدعوة وأدوا ما عليهم وثبتوا عليها، تمتد إليهم يد الله سبحانه وتعالى القاهرة بالعون والتأييد والنصر، ويذهب الكفر وأهله.
وذلك حسب سنن الله تعالى من أخذ المؤمنين بالأسباب، فينصرهم على عدوهم، ما داموا لا يدخرون وسعا، بإقبال بيّن وصدق واضح وفداء أكيد، في موعد وحال يقدره الله سبحانه وتعالى. وهذا ما يجعل أمر الدعوة إلى الله في كل مراحلها، ولا سيما سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ضرورة لازمة لمن التحق بموكب هذه الدعوة الكريمة ويعمل على نصرتها في كل أحواله.
وإذا كنا نرى اليوم ضعفا في ذلك، فلا بد أن يهيئ الله تعالى لدينه من ينصره، إنه على ما يشاء قدير، وإنه بالغ أمره، وهو الغالب بقوته وقدرته وحكمته.