الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسجودا، فهو أعرفهم بالله سبحانه وتعالى. وهكذا كان عليه الصلاة والسلام في كل الأمور عالي الآفاق، بعيد الأغوار، وفير الأذكار.
*
مدلولات فريدة جديدة:
في قصة ربيعة مدلولات متعددة، كلها ذات معان رفيعة، ولكني أبرز هنا اثنين منها، هما:
1-
شمول وعمق ودقة معرفة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بنفوس أصحابه، واستعداداتها ومداخلها ودواخلها وإمكانياتها ونوافذها ومقدار إقبالها، مثلما تشمل رعايتها وتربيتها ومعاونتها لتحقيق مستويات متراقية في تسلق وارتقاء واعتلاء قمم التقدم المتعالية في سلّم الإسلام. والأمر كذلك في أخذ هؤلاء الأصحاب الكرام بخير وأكرم وأفعل الأساليب للوصول إلى ذلك، بأبرك سبيل وأروع ثمرة وأزهى غرس، في تعميق الرغبة للاستمرار في هذا الاتجاه، وذلك اعتمادا على بنائهم الإيماني الرباني الذي شاده الإسلام وبوحي الله تعالى في قرآنه المنزل ثم بجهاد وجهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت الإشارة والتلميح والنظرة كافية لتفعل ما لا يفعله المجهود الضخم والقوة الآمرة والقوانين الساهرة «1» .
(1) وهذا واضح في الأفراد والجماعات والتجمعات. والأمثلة لكل هذا كثيرة جدا، فالسيرة أحداث ومواقف وأخلاق وتعامل وبذل والتزام بالإسلام كله وفي كل الأحوال والدوائر. ولقد ورد ويرد بعض هذه الشواهد. خذ مثلا تعيير أبي ذر بلالا الحبشي رضي الله عنه بأمه السوداء، وماذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية
…
» . رواه البخاري: كتاب الإيمان. باب المعاصي من أمر الجاهلية، رقم (30) . كذلك: أرقام (2407)، (5703) . ومسلم: رقم (1661) . وأبو داود، رقم (5157) . والترمذي، رقم (1945) . ومسند الإمام أحمد، (5/ 161) . وهو حديث حسن صحيح. وبالمناسبة فقد كان لعبد الله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما ابن اسمه بلال،
وهذا هو البناء العميق القوي المؤمن بالله ورسوله ودعوته، الذي أقامه الإسلام، يحافظ عليه صاحبه ويستمر في إعلائه ذاتيا، فتأتي ثماره في الحياة بكل أحواله، صورا جاهرة بارّة ناطقة، فتراه سلوكا ظاهرا وضيئا متلألئا. وهكذا يستمر ويقوى ويشتد عوده ثم يعلو وبشكل متواصل، بحرص من ذات النفس، ويقدّم بقوة عطاءه واضحا في مسالك الحياة ودروبها، وفي كل مجال، ليصبح لهم سمة خلقية، حتى غدوا يأخذون بالعزائم مع وجود الرّخص. فكانت حياتهم بناء وإعلاء وعطاء، تتناسب والمهمة التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، وبه يحققونه. وهي الخلافة في الأرض، لبنائها وعمارتها وإنارتها كلها، بشرع الله الذي أنزله على رسوله الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، مقتدين به آخذين بسنته الكريمة. وكل يوم يزداد ذلك ويتضح ويتقدم، وكان يتم جميعا في هذا الجو الكريم وفي المعترك والمواجهة ومضطرب الأحداث.
2-
بهذا البناء الإيماني الرباني الوحيد، أصبحت نفوسهم كلما وصلت
فمدحه أحد الشعراء بقوله: وبلال عبد الله خير بلال. فقال عبد الله بن عمر للشاعر: كذبت، بل: وبلال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير بلال. سير أعلام النبلاء (1/ 349) . ولهذه مدلولات كثيرة. وانظر عبد الله بن عمر حين علم ما قاله صلى الله عليه وسلم فيه عن طريق أخته أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهم حيث قال صلى الله عليه وسلم: «نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي بالليل» . فما ترك صلاة الليل (التهجد) حتى وفاته (فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا) . البخاري، (3530) . هذه الشواهد للأفراد، أما الجماعات فما أكثرها، لأنها تتكون من هؤلاء الأفراد. وانظر مثلا في الهجرة والمهاجرين والنصرة والأنصار واستجابة المسلمين ومواجهاتهم، بل وإقدامهم وبذلهم وتضحياتهم- أفرادا وجماعات- في المعارك والفتوحات وهروعهم للمعاونات. يتعاونون في كل الأحوال والتجمعات على الخير والطاعة والاستجابة، للنساء والرجال والأطفال. خذ مثلا استجابتهم في فعل الأمر بالمعروف والانتهاء عن النواهي. من ذلك ما فعلت النساء المسلمات حين نزلت آية الحجاب (سورة النور، 31) وما فعل الرجال حين نزلت آية تحريم الخمر (سورة المائدة، 90- 91) . وسيأتي شرح ذلك بتفصيل إن شاء الله تعالى.
إلى قمة، نظرت وتطلعت إلى التي تليها لتعتليها. وتلك طبيعة الإسلام وصياغته التي اصطبغت بها كل تصرفاتهم، شأن كل من يقبل على هذا الدين، الذي لا يقبل الله سبحانه وتعالى من أحد دينا غيره، متوكلا على الله جل جلاله، ملتزما بشرعه العظيم مقتديا بنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. ولكن بالاتجاه الرباني الذي يريده الإسلام والذي كلما تقدّمت فيه تقوى أكثر، آخذا بأسباب الترقي فيه، باتساعه الذي لا حدود له.
وكان هذا الترقي- في سلّم الإيمان- النبع الذي جرى عذبا زلالا نقيا إلى التابعين ومن بعدهم، وسيبقى- إن شاء الله- إلى يوم الدين. والكل كان مهتما بدراسة ومعرفة السيرة الشريفة ويستقون منها. وتجد آثارها وثمارها ماثلة في حياتهم، ابتغاء رضوان الله تعالى وثوابه وجنته تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] .
فهم لذلك يعملون ويجتهدون ويجدّون في هذا الاتجاه، وهو كل همهم لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8] . فكان هو بناؤهم ورّثوه لمن بعدهم من الأجيال التالية.
وهذه التربية والبناء جعلت سمتهم الذاتية بهذه المعاني عالية جدا، إلى حد أن الخليفة عمر بن الخطاب- مثلا- رضي الله عنه يقول:(لو عثرت بغلة بالعراق لرأيتني مسؤولا عنها أمام الله تعالى لم لم أسوّ لها الطريق) . ومع ذلك فحين طعن قال لابنه عبد الله: خذ رأسي عن الوسادة فضعه في التراب، لعل الله يرحمني وويل لأمي إن لم يرحمني الله عز وجل، وأنشد:
ظلوم لنفسي غير أني مسلم
…
أصلي الصلاة كلّها وأصوم «1»
إذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول هذا ويعتبر نفسه مقصرا، فما الذي نقوله نحن إذا، وما موقفنا؟ وقل معي:
(1) الاستيعاب، (3/ 1157) . أسد الغابة، (4/ 177) .