الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قرين العلم، لا يفترقان- من أو أكبر وسائل النقل والتوريث علما، مما يورثونه، أداء لوظيفتهم، في الإرث والتوريث، تلقيا وتلقينا «وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظّ وافر. (ومن سلك طريقا يطلب به علما سهّل الله له طريقا إلى الجنة) » «1» .
لقد هيأ الله تعالى الصحابة الكرام- رضوان الله عليهم- ليحافظوا دين الله تعالى، حفظ نصوصه وفهم مضمونه وتطبيق مفهومه والعمل لتنفيذه وتمثيله والجهاد لإقامته والحرص على نقله وبثه والدعوة إليه بالقول والعمل.
وتوفرت فيهم كل المواصفات، فاستحقوا وصف الله تعالى لهم* كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] الذي شملهم ومن ماثلهم من الأجيال التالية، ونقلوه إليها. وتوفر فيهم من يمد أروقته وينقلها ويوصلها لمن تلاهم جيلا بعد جيل، في العصور المتتالية المتتابعة والبلدان المتنوعة حتى يوم الدين.
وهكذا ورثت الأمة عن الصحابة دينهم وسّنّة وسيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
*
الخيرية والجيل المثال:
ويبقى الصحابة الكرام هم الجيل المثال الذين استحقوا الخيرية والأسبقية والأفضلية، التي وردت في القرآن الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهم قدوة هذه الأمة بعده صلى الله عليه وسلم. وبهم كانت متوارثة في الأمة إلى يوم الدين.
(1) رياض الصالحين (526) رقم (1388) . والزيادة من البخاري: كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل. وأخرجه أبو داود، رقم (3641- 3643) . والترمذي، رقم (2682)(وفيهما مثال في فضل الرحلة لخدمة الحديث الشريف، وحديث واحد) . وانظر: مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، رقم (2699) .
وهم الذين حملوا الإسلام وأبلغوه، ونقلوا الأمم إلى الإسلام «1» ونشروه وعلّموه وحموه، وحملوه في سلوكهم ونفوسهم وصدورهم هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح: 28- 29] «2» . فأيّا منهم تنظر إليه، ترى فيه الآفاق العجيبة والنفس القوية الرحيبة.
فلقد روي عن عبد الله بن عمر (74 هـ- 693 م) قوله في الصحابة الكرام- وهو منهم- يبين نوعيتهم ومكانتهم من الإسلام وحرصهم على اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم. فلتقتد الأمة بهم، خلف نبينا الكريم ورسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم. وهو يحث على الأخذ بما كانوا عليه من ذلك الاتّباع والالتزام، الذي شملهم بذلك وصف الخيرية، ومن سلك مسلكهم وعمل عملهم والتزم بهدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فوفّاها حقّها وأدى مطلوبها وحمل رسالتها. فيقول رضي الله عنه:«من كان مستنا فليستنّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة، أبرّها قلوبا وأعمقها علما وأقلّها تكلّفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله ربّ الكعبة» «3» .
وحين سئل ابن عمر إن كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون، قال: (نعم
(1) انظر: التاريخ الأندلسي (173) .
(2)
وانظر: حياة الصحابة (1/ 35، 45، 301) .
(3)
سبق ذكره، ص 18. انظر: حلية الأولياء (1/ 35) . حياة الصحابة (1/ 46) . أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر، (450) .
والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال) «1» . كان إيمانهم غامرا وعملهم باهرا وجهادهم موّارا، لا يقف ولا يهدأ ولا يعبأ.
ويشاركهم في ذلك علماء الأمة وأجيالها، التي تلقت ذلك كله بالقبول التام والحب والجد والعمل والصدق والإخلاص، أمانة صانتها وافتدتها، وأفنت ما عندها وأنفقته طائعة راغبة لحفظه وبثّه، لا تألو في ذلك جهدا ولا توفر طاقة ولا تدّخر مكنة. إلا أنه يبقى للصحابة الكرام شرف لا ينال ولا يطال بحال، هو شرف الصحبة والسبق والمستوى، لا سيما من كان في ذؤابتها منهم، مثل المهاجرين والأنصار، فغدا ذلك هو الشرف وهو النسب وهو الميزان. والصحابة هم الذين بلغوا- بهذا الدين- قمة إنسانية سامقة، فكانوا الجيل الفريد السعيد. كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم فيهم يدعوهم ويربيهم على كتاب الله، الذي كان له مثالا، قدوة عالية وأسوة حسنة. والله تعالى يقول: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 8- 10] .
وهم الذين أثنى الله عليهم بقوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح: 18] . وكان هذا في أولئك الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية في ذي قعدة السنة السادسة للهجرة، وكان عددهم ألفا وخمسمئة (خمس عشرة مئة) ، جاؤوا للعمرة وغير مستعدين- من كل ناحية- للمواجهة والقتال. ومع ذلك بايعوه صلى الله عليه وسلم جميعا، على الموت وعلى أن لا يفرّوا. حقا إنه الجيل الفريد؛ الذين استحقوا هذه المكانة من الله تعالى،
(1) انظر: حلية الأولياء (1/ 311) . حياة الصحابة (1/ 48) .
وكانوا- أهل الحديبية- جديرين بها وبوصف الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» «1» .
ولعل وصفهم هذا غير قاصر على زمانهم بل كذلك شامل لكل زمان ومكان وإنسان، بعد منزلة الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام. فهنيئا لهم تلك الصحبة والمكانة. والرسول صلى الله عليه وسلم بيّن ذلك في أحاديث كثيرة، جملة وتفصيلا. ودعا إلى محبتهم والاقتداء بهم والأخذ عنهم. فهم الحفظة والأمنة، على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وانظر ما ورد في كتب الحديث الشريف في مناقب وفضائل الصحابة الكرام، من ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم «لا تسبّوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» «2» .
فإذا كان هذا موجّها للصحابة أنفسهم، فكيف بمن بعدهم؟
فلينظر كل هؤلاء الذين يتقوّلون على الصحابة الكرام رضي الله عنهم أو ينالون منهم أو يتهجمون عليهم. فماذا يكونون هم إذا، الذين يفعلون ذلك؟
والله تعالى قد رضي عنهم وأثنى عليهم في أكثر من موضع من القرآن الكريم، ووقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة. إذا فما الذي يتبعونه في إسلامهم، وهم من أي نوع من المؤمنين المسلمين؟ أم أنهم في أية قافلة يلتحقون ويسيرون وينتمون؟ «3» .
وإن كان لمن بعدهم أيضا، شرف الاتباع والاقتداء والأخوّة، التي بينها
(1) سبق ذكره أعلاه، ص 64. أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم (3923) انظر كذلك: سير أعلام النبلاء (3/ 192) .
(2)
أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لو كنت متخذا خليلا» ، رقم (347) . وأخرجه مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، رقم (2540) . ويرد ذكره أدناه.
(3)
انظر كذلك على سبيل المثال الواضح: سورة التوبة (100) ، سورة الفتح (18) ، سورة الحشر (8- 10) .
الرسول صلى الله عليه وسلم ويا له من شرف، حين قال يوما لأصحابه:«أي المؤمنين أعجب إليكم؟» . قالوا: الملائكة. قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟» . قالوا: فالأنبياء. قال: «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟» . قالوا: فنحن. قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟
ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها» «1» . ونحن إن شاء الله من هؤلاء، والحمد لله رب العالمين على نعمة هذا الدين. ولقد اعتبر صلى الله عليه وسلم الأجيال المؤمنة التالية للصحابة بأنهم إخوانه، فنعمت هذه الأخوة وكرمت ونفست.
فلقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى البقيع فقال:
«السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنّا قد رأينا إخواننا» قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد» قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: «أرأيت لو أن رجلا له خيل غرّ محجّلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال:«فإنهم يأتون غرّا محجّلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض» «2» .
فالصحابة الكرام كانوا مثلا يهتدى بهم ويقتدى، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تربوا على كتاب الله فهو نور وهدى لهم ولأهل الأرض أجمعين، وهو الحق الذي تتبين آياته في كل حين. بلّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بلاغ وأدّاه خير أداء وجاهد له أعظم جهاد تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)
(1) التفسير (6/ 3483) .
(2)
رواه مسلم: كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرّة، رقم (249) . انظر: رياض الصالحين (429- 430) ، رقم (1029) . ودّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية إخوانه- ونحن منهم، إن شاء الله تعالى- في الدنيا. ولئن فاتنا هذا في الدنيا، فنرجو رؤيته واللقاء به والاجتماع تحت رايته في الآخرة، إن شاء الله. الغرّة: بياض في وجه الفرس. والتحجيل: بياض في قوائمه. الدّهم: السود. البهم: لا يخالط لونهم لونا آخر غير السواد.