الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب القضاء
[يجب على من لا يغني عنه غيره ويحرم على كل مختل شرط ويندب ويكره ويباح ما بين ذلك حسب الحال وشروطه الذكورة والتكليف والسلامة من العمى والخرس والاجتهاد في الأصح والعدالة المحققة وولاية من إمام حق أو محتسب أما عموما فيحكم أين ومتى وفيم وبين من عرض أو خصوصا فلا يتعدى ما عين ولو في سمع شهادة وإن خالف مذهبه فإن لم يكن فالصلاحية كافية م مع نصب خمسة ذوي فضل ولا عبرة بشرطهم عليه] .
قوله: باب القضاء: "يجب على من لا يغني عنه غيره".
أقول: قد اتفق المسلمون أجمعون على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد ذكرنا غير مرة أنهما العمادان الأعظمان من أعمدة هذا الدين وأنهما واجبان على كل فرد من المسلمين وجوبا مضيقا فالقاضي القادر على الحكم بالحق والعدل وبما أنزل الله إذا امتنع من الدخول في القضاء فقد أهمل ما أوجبه الله عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك أعظم ما أوجبه الله على عباده وأهم ما كلفهم به هذا على تقدير أنه يغني عنه غيره أما إذا كان لا يغني عنه غيره فأي واجب أوجب عليه من الدخول وأي تكليف شرعي يعدل هذا التكليف وأي فرار مما تعبد الله به عباده يساوي هذا الغرار ولا سيما من خشي من له حظ من العلم يبلغ به إلى الحكم بين عباد الله بما شرعه لهم أن يثبت على هذا المنصب الشريف الذي هو مقعد من مقاعد النبوة ومنصب من مناصبها من لا يتعقل حجج الله ولا يبلغ به علمه إلى معرفتها فإنه حينئذ يتضيق عليه الوجوب ويتعين عليه الدخول وإلا كان مشاركا في الإثم لمن أجرى أحكام الله على غير مجاريها وأوقعها في غير مواقعها.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا شك في وجوب الدخول في القضاء على من لا يغنى عنه غيره ولا شك في تحريمه على من لا يصلح له إما لقصور في علمه أو في إدراكه أو في دينه لأنه تلبس بما لا يصلح له ودخل فيما ليس هو من شأنه وفي عدا هذين فهو متردد بين أحاديث الترغيب في الولايات والترهيب فيها.
فمن أحاديث الترغيب ما ثبت في صحيح مسلم "1827"، وغيره [النسائي "8/221"، أحمد "2/160"]، من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"، ومن ذلك حديث:"لا حسد إلا في اثنتين"، وفيه:"رجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها بين الناس"، وهو في صحيح البخاري "1409، 7141، 7316"، وغيره مسمل "816"، ابن ماجة "4208"، أحمد "1/358، 432"، وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة [البخاري "7352"، مسلم
"1716"، أبو داود "3574"، ابن ماجة "2314"، أحمد "4/198، 204، 205"] ، وعمرو بن العاص عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر إن اجتهد فأصاب فله أجران"، وفي هذا الحديث فضيلة للقاضي عظيمة لأنه صلى الله عليه وسلم ردده في حكمه بين أجر أو أجرين وجعله مأجورا على الخطأ بل أخرج الحاكم والدارقطني من حديث عقبة بن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر هذا الحديث بلفظ:"إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله عشرة أجور" وفي إسناد فرج بن فضالة وتابعه ابن لهيعة وهما وإن كانا ضعيفين لكن إذا انضم الضعيف إلى الضعيف قوي الحديث ويشهد له ما أخرجه أحمد من حديث عمرو بن العاص بلفظ: "إن أصبت القضاء فلك عشرة أجور وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة" وفي إسناده ضعيف.
وفي الترغيب في القضاء أحاديث قد ذكرناها في شرح المنتقى وفيما ذكرناه كفاية وقد أمر الله في كتابه بالحكم بالعدل وبالحق وبما أرى الله الحكام وقال عزوجل: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] .
وأما أحاديث الترهيب فمنها ما في صحيح مسلم "1826"، وغيره أبو داود "2868"، النسائي "6/255"، من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يا أبا ذر أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم"، وفي صحيح مسلم أيضا من حديثه قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانه وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"، وهذان الحديثان مقيدان بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر:"إني أراك ضعيفا"، وبقوله:"إنك ضعيف"، ولا نزاع في أن الدخول في الولاية لمن يضعف عنها لا يحل ولهذا استثنى في الحديث الثاني بقوله:"إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها".
ومن أحاديث الترهيب ما أخرجه أحمد "2/230، 365"، وأهل السنن أبو داود "3571"، 3572"، ابن ماجة "2308"، الترمذي "1325"، والحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين"، فهذا الحديث هو أشق ما ورد مطلقا عن التقييد من أحاديث الترهيب في الدخول في القضاء وقد أوله جماعة بما يدل على أنه من أحاديث الترغيب لا الترهيب وقد أجبت عنهم بما ذكرته في شرحي للمنتقى ولكن ها هنا جواب آخر عن هذا الحديث يوجب تأويله وهو أنا قد قدمنا حديث أنهم على منابر من نور عن يمين الرحمن وحديث أنه أحد الخصلتين اللتين لا حسد إلا فيهما وأنه متردد بين أجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ وما كان بهذه المنزلة وله هذه المزية فالدخول فيه من أعظم أسباب الفوز بالخير والأجر فيحمل حديث الذبح بغير سكين على أن الدخول في القضاء مصحوب بمانع يمنعه من النهوض به أما الضعف كما قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر وأنه لا يقدر على أن يجتهد كما في الترديد بين الأجر والأجرين والجمع مهما أمكن فهو مقدم على الترجيح بالإجماع وقد أمكن هنا وعلى تقدير جواز المصير إلى الترجيح فالأحاديث الثابتة في الصحيحين من طريق جماعة من الصحابة
أرجح مما لم يثبت فيهما كما هو معلوم في وجوه الترجيح المذكورة في الأصول وفي علم اصطلاح أهل الحديث.
وأما حديث: "القضاة ثلاثة" فلا شك أن القاضي إذا قضى بالجهل عامدا أو جاهلا للحق فهو مستحق لهذا الوعيد الوارد في هذا الحديث ولكن ليس محل النزاع إلا في قاض يعلم بالحق ويقضي به وقد جعله صلى الله عليه وسلم القاضي الذي في الجنة فهذا الحديث ينبغي أن يكون من أحاديث ترغيب المتأهلين للقضاء في الدخول فيه لا من ترهيبهم وهذا الحديث لفظه في سنن أبي داود وسنن ابن ماجة من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار"، وأخرجه أيضا الترمذي "1322"، والنسائي والحاكم وصححه.
وأما سائر الأحاديث الواردة في الترهيب عن الدخول في القضاء فهي على ما فيها من الضعف محمولة على ما قدمنا في الجمع بين حديث: "فقد ذبح نفسه بغير سكين" وبين أحاديث الترغيب فتبين لك بهذا أن الدخول في القضاء إما واجب مضيق وهو على من لا يغني عنه غيره أو حرام بحت وهو على من لا يفي بما هو معتبر فيه ولم يستجمع فيه ما لا بد منه ومن عدا هذين فالدخول فيه قربة كما تدل عليه الأحاديث المتقدمة وقد يكون الدخول واجبا عليه إذا وثق من نفسه بالقيام بالحق وإجراء الأمور مجاريها والوقوف على الحدود التي حدها الله للقائمين بالأمر وإن كان يغني عنه غيره وأما من كان لا يثق بنفسه بما ذكرنا فهو لم يكمل في حقه المقتضي للدخول ولا وجه لما ذكره المصنف من قسم المكروه والمباح.
وأما ما ورد من النهي عن سؤال الإمارة كما في البخاري "6622، 6722، 7146، 7147"، مسلم "1652"، وغيرهما النسائي "8/225"، أبو داود "2929"، الترمذي "1529"، أحمد "5/62، 63"، من حديث عبد الرحمن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها"، فهو نهي عن سؤال الإمارة وهو غير محل النزاع لا عن قبولها من غير سؤال فإنه رغب فيه بقوله:"أعنت عليها"، وهكذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا حرص عليه"، فإنه يدل على عدو جواز توليه من أراد العمل أو حرص عليه وأما على عدم قبوله من غير سؤال ولا طلب ولا إرادة وهذا هو الذي كلامنا فيه ومثله في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة"، فإن هذا تنفير عن الحرص عليها وهو مسلم وهكذا ما ورد في هذا المعنى فإنه محمول على ما وقع فيه من التصريح منه صلى الله عليه وسلم وقد ورد "أنه إذا جلس الحاكم في مكانه هبط عليه ملكان يسدادنه ويوفقانه ويرشدانه ما لم يجر فإذا جار عرجا وتركاه"، أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس والطبراني من حديث ابن الأسقع والبزار من حديث أبي هريرة
وفي أسانيدها مقال لكنه يقوى بعضها بعضا ويشهد لها الحديث المتقدم بلفظ: "وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها" فإن هذا المذكور في أحاديث هبوط الملائكة هو نوع من الإعانة ومن هذا ما أخرجه أحمد "3/118، 220"، وأبو داود "3578"، والترمذي "1323"، وابن ماجة "2309"، من حديث أنس قال قال رسول صلى الله عليه وسلم:"من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل ملك يسدده".
قوله: "وشروطه الذكورة".
أقول: قد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بأنهن ناقصات عقل ودين ومن كان بهذه المنزلة لا يصلح لتولي الحكم بين عباد الله وفصل خصوماتهم بما تقتضيه الشريعة المطهرة ويوجبه العدل فليس بعد نقصان العقل والدين شيء ولا يقاس القضاء على الرواية فإنها تروي ما بلغها وتحكي ما قيل لها وأما القضاء فهو يحتاج إلى اجتهاد أصحاب الرأي وكمال الإدراك والتبصر في الأمور والتفهم لحقائقها وليست المرأة في ورد ولا صدر من ذلك.
ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح [البخاري "4425، 7099"]، من قوله صلى الله عليه وسلم:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" فليس بعد نفي الفلاح شيء من الوعيد الشديد ورأس الأمور هو القضاء بحكم الله عزوجل فدخوله فيها دخولا أوليا.
قوله: "والتكليف".
أقول: الصبي قد تقرر بالأدلة رفع قلم التكليف عنه ومن لازم القضاء أن يكلف العباد بما تقتضيه الشريعة المطهرة فكيف يصلح لذلك من لم يصلح لتكليف نفسه وكيف يقوم الظل والعود أعوج وكيف يصح اتصافه بالعدالة التي هي مع العلم رأس مال القاضي وقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمارة الصبيان كما أخرجه أحمد "2/326"، من حديث أبي هريرة وتعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمارة السفهاء كما أخرجه أحمد أيضا بإسناد رجاله رجال الصحيح والصبي سفيه وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من علامات القيامة:"إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله"[البخاري "11/333"] ، والصبي ليس من أهله.
قوله: "والسلامة من العمى والخرس".
أقول: القاضي يحتاج إلى البصر لمشاهدة الخصوم ومعرفة أحوالهم ويحتاج إلى السمع لسماع كلامهم وما يوردونه لهم وعليهم فولاية الأعمى أو الأخرس بلاء مصبوب على الخصوم وتعذيب لهم مع عدم الركون على ما يفعلانه لهذا النقص الظاهر الواضح فهما مانعان من هذه الحيثية مع أنهما فاقدان لأعظم ما لا يتم المقتضي إلا به.
قوله: "والاجتهاد في الأصح".
أقول: القاضي مأمور بأن يحكم بالعدل والحق وبما أنزل الله وبما أراه الله عزوجل كما وقع النص على هذه الأمور في الكتاب العزيز والمقلد لا يقدر على تعقل حجج الله فضلا على أن يقدر على التمييز بين العدل والجور والحق والباطل وعلى الحكم بما أراه الله فإنه سبحانه
لم يره شيئا وفي الحديث الصحيح المتقدم: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران" وأين المقلد من أن يجتهد بمعنى يبلغ الجهد والطاقة في البحث عن حكم الله في الحادثة فإنه يقر على نفسه أنه إنما يطالب من قلده برأيه لا بروايته ويقر على نفسه أنه لا يطالبه بحجة ولا علم له إلا ما تلقاه عن إمامه بهذه الطريقة وعلى هذه الصفة.
والحاصل أن نصب المقلد للحكم بين عباد الله إذن له بالحكم بالطاغوت لأنه لا يعرف الحق حتى يحكم به وما عدا الحق فهو طاغوت ولو قدرنا أنه طابق الحق في حكمه لكان قد حكم بالحق وهو لا يعلم به فهو أحد قاضي النار وإن حكم بغير الحق فهو القاضي الآخر من قضاة النار فيالله العجب كيف يولي الحكم بين الناس بالشرع الذي بعث به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من هو في كلتا حالتيه من أهل النار وكفاك من شر سماعه {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] ، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من علامات القيامة أن يتخذ الناس رؤساء جهالا يفتون بغير علم فيضلون ويضلون ورأس الرياسات الدينية هو القضاء بلا شبهة.
قوله: "والعدالة المحققة".
أقول: قد قدمنا في الشهادات الكلام على العدالة وما يكفي فيها فلا نعيده هنا وإذا كانت العدالة شرطا فيمن يشهد لقضية فردة فكيف لا تكون شرطا فيمن يتولى القضاء في كل قضية ترد إليه.
والحاصل أن من لا عدالة له لا يوثق بحكمه ولا يلزم الخصوم قبوله وبهذا يبطل الغرض من نصبه مع كونه مظنة للحكم بخلاف الحق زاعما أنه الحق لغرض من الأغراض الدنيوية فإن فاقد العدالة لا يتورع من شيء.
قوله: "وولاية من إمام حق".
أقول: وجه هذا أنه لم يتصدر أحد في زمن النبوة للقضاء إلا بأمره صلى الله عليه وسلم ولا تصدر أحد في أيام الخلفاء الراشدين للقضاء إلا بأمر من الخليفة وهذا أمر ظاهر لا ينبغي أن ينكر وأما التحكيم فهو باب آخر ليس من القضاء في شيء لأن الخصمين ألزما أنفسهما بقبول ما حكم به المحكم بينهما فكان هذا الإلزام هو سبب اللزوم وقد فتح الله باب التحكيم في كتابه العزيز وثبت في السنة المطهرة كما في جزاء الصيد وفي حكم سعد في قصة بني قريظة وغير ذلك وهكذا استمر الأمر بعد انقضاء عصر الخلفاء الراشدين فلم يسمع بقاض إلا بولاية من سلطان زمانه إلى هذه الغاية.
وأما اشتراط أن يكون الإمام حق فقد ثبت وجوب الطاعة لمن بايعه المسلمون بالأحاديث المتواترة وثبت الأمر بالصبر على جور الجائرين وظلم الظالمين مع أمرهم بما هو معروف ونهيهم عما هو منكر ومن الطاعة الواجبة أن لا يتولى أحد بولاية إلا بإذن منهم وإلا كان ذلك من المنازعة في الأمر وقد ثبت تحريم ذلك ما أقاموا الصلاة ما لم يظهر منهم كفر
بواح [البخاري "13/5"، مسلم "42/1709"، والأحاديث الصحيحة في مثل هذا أكثر من أن تحصر وقد كان القضاة من التابعين وتابعيهم وهما القرنان اللذان هما خير القرون بعد قرن الصحابة يأخذون الولاية من الملوك المعاصرين لهم من الأموية والعباسية ثم هكذا من تولى القضاء من علماء الإسلام بعد عصرهم إلى الآن وهذا أمر من الجلاء والوضوح بحيث لا يحتاج إلى بيان ولعله يأتي إن شاء الله في كتاب السير زيادة بيان لهذا المطلب.
قوله: "أو محتسب".
أقول: من لم يبايعه المسلمون فلا ولاية له ولا يستحق أن يباشر ما يباشره الإمام كلا ولا جزءا لأن الولاية سببها البيعة وإلزام المسلمين أنفسهم بها بما يجب من الطاعة وهذا الذي قام يحتسب هو كأحد المسلمين في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولمن يصلح للقضاء أن يحتسب كاحتسابه ولا يحتاج إلا ولاية منه لأنه لا مزية له تميزه عن غيره إلا مجرد إظهار نفسه للتصدر لما يأتي إليه من أمور الدين أو يبلغه منها فالصالح للقضاء إذا أظهر نفسه كإظهاره كان مستغنيا عنه.
وأما قوله: "إما عموما" إلخ فوجهه أن النصب من الإمام إذا كان أمرا لا بد منه كما قدمنا وجب على القاضي أن يتوقف على ما يرسمه له من عموم أو خصوص.
قوله: "وإن خالف مذهبه".
أقول: لا وجه لهذا ولا يحل للقاضي أن يعتمد عليه لأن الله سبحانه طلب منه أن يحكم بالحق والعدل وبما أراه الله وبما أنزل الله لا بما يراه الإمام ويأمر به فإن أمره الإمام بشيء يخالف ما يدين الله به أوضح له الحجة فإن قبلها فذاك وإن لم يقبلها فقد تخلص من معرة المخالفة لما أوجبه الله عليه ويحيل الحكم على الإمام أو على غيره من الحكام.
قوله: "فإن لم يكن فالصلاحية كافية".
أقول: هذا الذي ثبتت له الصلاحية له مزيد خصوصية في القيام بالمعروف والنهي عن المنكر ومن جملة ذلك القضاء وتنفيذ الأحكام الشرعية والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم من مظلمته وكل مسلم إذا قدر على ذلك فهو مكلف به وإنما اقتصر على من له الصلاحية لأن مدخليته في وجوب ذلك عليه أتم وهو به أليق وقد قدمنا في قوله ومن صلح لشيء ولا إمام فعليه بلا نصب على الأصح ما يغني عن إعادته هنا.
قوله: "مع نصب خمسة" الخ.
أقول: لا أصل لهذا في الشريعة بل هو مجرد استحسان وهؤلاء الخمسة يكون نصبهم له بمنزلة تحكيمهم له فيما توجه عليهم من الحكومات فيجب عليهم امتثال حكمه ولا يصير ذلك حجة على غيرهم إلا إذا فعل مثلما فعلوا وقد جعل الله من فيه صلاحية في غنى عن هذا بما أوجبه عليه من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قدمنا.
[فصل
وعليه اتخاذ أعوان لإحضار الخصوم ودفع الزحام والأصوات وعدول ذوي خبرة يسألهم عن حال من جهل متكتمين والتسوية بين الخصمين إلا بين المسلم والذمي في المجلس وسمع الدعوى أولا ثم الإجابة والتثبت وطلب تعديل البينة والمجهولة ثم من المنكر درأها ويمهله ما رأى والحكم والأمر بالتسليم والحبس له إن طلبت والقيد لمصلحة إلا والدا لولد ويحبس لنفقة طفله لا دينه ونفقة المحبوس من ماله ثم بيت المال ثم من خصمه قرضا وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح ثم من ذي الحق كالمقتص.
وندب الحث على الصلح وترتيب الواصلين وتمييز مجلس النساء وتقديم أضعف المدعيين والبادي والتنسم واستحضار العلماء إلا لتغير حاله.
ويحرم تلقين أحد الخصمين وشاهده إلا تثبتا والخوض معه في قضيته والحكم بعد الفتوى وحال تأذ أو دهول ولنفسه وعبده وشريكه في التصرف بل يرافع إلى غيره وكذا الإمام قيل وتعمد المسجد وله القضاء بما علم إلا في حد غير القذف أو على غائب مسافة قصر أو مجهول أو لا ينال أو متغلب بعد الإعذار ومتى حضر فليس له إلا تعريف الشهود ولا يجرح إلا بمجمع عليه والإبقاء من مال الغائب ومما ثبت له في الغيبة بالإقرار أو النكول لا البينة وتنفيذ حكم غيره والحكم بعد دعوى قامت عند غيره إن كتب إليه وأشهد أنه كتابه وأمرهم بالشهادة ونسب الخصوم والحق إلى ما يتميز به وكانا باقيين وولايتهما إلا في الحد والقصاص والمنقول الموصوف وإقامة فاسق على معين حضره أو مأمونه وإيقاف المدعى حتى يتضح الأمر فيه] .
قوله: "فصل: وعليه اتخاذ أعوان" الخ.
أقول: قد عرفناك أن القضاء شعبة من شعب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو واجب على كل مكلف وعلى القادر أوجب لا سيما العلماء العارفين بالمدارك الشرعية والمفروض أن القاضي منهم كما قدمنا حينئذ فإذا لم يتم حكم الشرع إلا بأعوان تشتد بها وطأته على المرتكبين للمنكرات والمتساهلين في تأدية الواجبات والمتمردين عن امتثال ما يقضي به شرع الله كان اتخاذ من يحصل به التمام من الأعوان ونحوهم واجبا على القاضي وإذا لم يحصل امتثال الحق إلا بالتشديد وتغليظ الوعيد فذاك أيضا متعين على القاضي بما سيأتي في السير عند الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن مقتضيات اتخاذ الأعوان ما ذكره المصنف من إحضار الخصوم ودفع الزحام والأصوات لأن ذلك يشوش ذهن الحاكم
ويحول بينه وبين سماع الدعوى والإجابة على وجه الكمال والاستقصاء.
وأما قوله: " واتخاذ عدول يسألهم عن حال من جهل متكتمين" فهذا من أحسن السياسة الشرعية وإن كان يغني عن ذلك فتح باب الجرح والتعديل لكن قد يحصل بإخبار هؤلاء للحاكم مالا يحصل بالجرح والتعديل لوثوق الحكم بهم وطمأنينة النفس إليهم زيادة على ما تطمئن بمن يأتي بهم الخصوم من شهود الجرح والتعديل وأيضا قد يعرفونه بحال الخصوم ومن هو منهم جميل الحال كثير الورع ومن هو سيء الحال متهافت على الطمع.
قوله: "والتسوية بين الخصمين".
أقول: هذا أول ما يتبين به عدل الحاكم من جوره فإنه إذا لم يسو بينهما فقد وقع في طريق الجور باديء بدء وهو مأمور بالحكم بالحق وبالعدل وليس هذا منهما وأخرج أحمد "4/4"، وأبو داود "3588"، والبيهقي والحاكم عن عبد الله بن الزبير قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم"، وفي إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وهو مختلف فيه وقد صحح هذا الحديث الحاكم وإذا كانت التسوية بينهما في نفس المجلس واجبة فما عداها من التسوية في الخطاب والجواب والتقريب والتبعيد بالأولى ومثل هذا حديث أم سلمة عند أبي يعلى والدارقطني والطبراني في الكبير بلفظ:"ومن ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ومجلسه ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر"، وفي إسناده عباد بن كثير وهو ضعيف.
وأما قوله: "إلا بين المسلم والذمي" فوجهه ما أخرجه أبو أحمد الحاكم في الكنى عن إبراهيم التيمي قال عرف علي بن أبي طالب درعا له مع يهودي فقال يا يهودي درعي سقطت مني وفيه أنه رافعه إلى القاضي شريح فجلس علي بجنب شريح وقال لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تساروهم في المجلس قال أبو أحمد وهو منكر وأورده ابن الجوزي في العلل وقال لا يصح تفرد به أبو سمية ورواه البيهقي من وجه آخر عن الشعبي عن علي وفي إسناده ضعيفان جدا وقال ابن الصلاح في الكلام على الوسيط لم أجد له إسنادا يثبت وقال ابن عسكر في الكلام عن أحاديث المهذب إسناده مجهول.
قوله: "وسمع الدعوى أولا ثم الإجابة".
أقول: وجه هذا أن المدعي هو الطالب لحكم الشرع فلو سمع الحاكم من المدعى عليه قبل أن يسمع من المدعي لكان ذلك عكس قالب ما تقتضيه الخصومة عقلا وقد أخرج أحمد "1/111"، وأبو داود "3582"، والترمذي "1331"، وحسنه وابن حبان وصححه من حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء"، وله طرق استوفيناها في شرح المنتقى.
قوله: "والتثبيت".
أقول: وجهه أنه لا يتم الحكم بالحق كما ينبغي إلا بذلك وإلا كان إيقاع الحكم على غير الوجه الذي يقتضي به العدل والحق وقد أمر الله سبحانه بالحكم بالعدل والحق وبما أنزل وأيضا التثبيت هو من الاجتهاد المذكور في الحديث السابق بلفظ: "إذا اجتهد الحاكم" لأن المراد بالاجتهاد هذا بلاغ الجهد في تتبع وجوه الحكم والنظر في مشتبهات الأدلة والموازنة بين الحجج التي لها مدخل في تلك الحادثة.
قوله: "وطلب تعديل البينة المجهولة".
أقول: البينة ما لم تكن قد ثبت للحاكم ما يعتبر فيها من العدالة فليست ببينة ولا يترتب عليها حكم فإذا أتى الخصم ببينة لا يعرف الحاكم حالها فلا يقبلها حتى يأتي من جاء بما يصححها وأما طلب درئها من المنكر فليس هذا من وظيفة الحكم ولا الحاكم بل على الحاكم أن يخبر من عليه البينة بأنها قد شهدت بكذا وأنه لا قادح قد تبين له فيها فإن قال له ما يدفعها أمهله وإن لم يقل حكم عليه إلا أن يتبين له أن المشهود عليه لما يدر أن الجرح مسلك شرعي فله أن يعرفه بذلك ولا يكون تلقينا ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه"، ويقول:"ألك بينة؟ ".
قوله: "والأمر بالتسليم".
أقول: هذا هو الثمرة المستفادة من التخاصم إلى الحاكم فإذا استوفى طريق الحكم أمر من عليه الحق بتسليمه إلا من هو له فإن أبي فهو آب من حق أوجبه الله عليه وأمر قضى به شرعه عليه وقد نفى الإيمان عمن لم يقنع بحكم الله عزوجل فقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65] ، فعلى الحاكم وعلى كل قادر أن يأخذ على يد هذا الذي لم يذعن لحكم الله ويأطره على الحق أطرا فإن كان لا يتخلص مما عليه إلا بالحبس ونحوه من أنواع التغليظ عليه فذاك واجب إذ لا يتم الواجب إلا به وما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه كما تقرر في الأصول.
وأما إنكار كثير من الفضلاء لما يقع من الحاكم من حبس من امتنع من الخروج مما يجب عليه فهو من قصور الفهم عن إدراك المدارك الشرعية وقد بسطت القول في الحبس في شرح المنتقى فليرجع إليه.
قوله: "إلا والد لولده".
أقول: لا وجه لإطلاق هذا الاستثناء فإنه وإن استقام في المال لحديث: "أنت ومالك لأبيك" لم يستقم في سائر ما يصدق عليه أنه ظلم من الأب لابنه ليس فيه شبهة فإنه يجب على الحاكم أن يأمره بالكف عن ذلك لأن الظلم حرمه الله بين عباده ولم يستثنى والد ولا ولد فإذا لم ينزع الأب عن ذلك كان للحاكم أن يحبسه حتى يتخلص من ظلمه لولده وإن كان حق
الأبوين عظيما لكنهما لا يقران على ما هو ظلم منع منه الشرع.
وأما قوله: "ويحبس لنفقة طفله لا دينه" فوجهه أنه أخل بواجب عليه وهكذا إذا أخل بما يجب عليه لولده الكبير مع تمكنه فإنه لا فرق بينه وبين الطفل.
قوله: "ونفقة المحبوس من ماله".
أقول: وجه ذلك محبوس في حق قد تبين لزومه له عند الحاكم فامتنع منه فهو الجاني على نفسه فلا يخاطب أحد بنفقته حال حبسه حتى يتخلص مما عليه فإذا بقي بعد ذلك كان إنفاقه على الحابس له لأنه ظالم له وما لزمه بسبب هذا الظلم رجع به على ظالمه وإذا كان المحبوس فقيرا ولم يمتثل للحق فهو أحد المحاويج إلى بيت مال المسلمين من جهة كونه فقيرا سواء كان محبوسا أو غير محبوس لا من جهة كونه متمردا عن حق واجب عليه وهذا إذا كان محبوسا في غير مال عليه من حد أو قصاص أو جسارة أو نحو ذلك وأما المحبوس في المال فإذا عجز عن نفقة نفسه فهو عن القضاء أعجز وكفى له بذلك سببا لإطلاقه.
وأما قوله: "ثم من خصمه قرضا" فلا وجه له لأنه إيجاب ما لم يوجبه عليه الشرع والمفروض أنه مطالب بحق وأن المحبوس ممتنع منه ولم يظهر ما يوجب إطلاقه.
قوله: "وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح".
أقول: هذا صحيح لأنه يحصل بهم إنفاذ حكم الشرع وتمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تعذر الأخذ لهم من مال المصالح كان لهم الأجرة ممن تمرد عن الحق فلم يمتثل لحضور مجلس الشرع إلا بإحضار الأعوان له ومن المحبوس بحق لأنهما الجانبان على أنفسهما بسبب الإخلال بما هو واجب عليهما.
وأما قوله: "ثم من ذوي الحق" فلا وجه له لما قدمنا قبل هذا ولا وجه لقياسه على المقتص لأن المباشر للقصاص نيابة عمن هو إليه لا واجب عليه بخلاف الخصم الذي لم يمتثل للإجابة إلى الشرع أو صار في الحبس بسبب عدم تخلصه مما يجب عليه فإن الحق عليه ثابت وهو مخل بما يجب عليه شرعا فأين هذا ممن يتولى القصاص بالنيابة فإنه أجير كسائر الأجراء.
قوله: "وندب الحث على الصلح".
أقول: ينبغي للحاكم أن يذكر القوارع والزواجر عمن قضى له بباطل أو خاصم في خصومة باطلة كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"، وكما في صحيح مسلم "223/139"، وغيره أبو داود "3623"، أحمد "4/317"،/ من حديث وائل بن حجر في قصة الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أدبر الرجل:"أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض"، وكما أخرجه أبو داود "3597"، بإسناد لا مطعن فيه من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع"، وفي لفظ له:" من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله".
فتعريف الغرماء بهذا قد يكون سببا لارتداع المبطل عن باطله من الأصل لأن في ترغيبه إلى الصلح باديء بدء تجرئة له على أن يأخذ البعض مما هو باطل بذريعة الصلح وقد يظن خصمه أن الحاكم إنما رغبهما إلى الصلح وسيلة بين يدي الحكم فيستفدي الحكم عليه بالكل بالبعض تخلصا من معرة الحكم بالباطل.
قوله: "وترتيب الواصلين".
أقول: هذه طريقة حسنة من طرائق العدل لأن الأحق بالوصول إلى مجلس المحاكمة هو أول الواصلين ثم من بعده وترتيبهم على خلاف هذا يخالف طريقة العدل وهكذا تمييز مجلس النساء لما في اجتماعهم مع الرجال من وسائل المنكر وذرائع الوقوع في المعصية.
وأما قوله: "وتقديم أضعف المدعيين" فلا وجه له بل الواجب عليه التسوية بين القوي والضعيف على وجه لا يطمع القوي في جوره ولا ييئس الضعيف من عدله هذا هو العدل الذي قامت به السموات والأرض ولا يجوز تأثير الضعيف بشيء على القوي فيما يرجع إلى التسوية وإلا كان ذلك ظلما للقوي وجورا عليه.
وأما تقديم البادي من المتخاصمين على الحاضر منهم فوجهه أنه يصحب البادي من المشقة ما لا يلحق الحاضر فهذا التقديم فيه ضرب من الصلاح وللحاكم أن يفعل ما يراه أوفق لمراد الله وأرفق بأهل الخصومات وهكذا التنسم لأنه مع اجتهاده لنفسه قد يوقع الحكم حال الفتوى المقتضي لعدم التثبت أو للحكم حال الغضب ففي هذا ضرب من الصلاح وهو لا يؤاخذ إلا بما يقدر عليه ويدخل تحت طاقته.
قوله: "واستحضار العلماء"
أقول: هذا الاستحضار قد يتسبب عنه تحفظ الحاكم وتحريه لما تقتضيه المسالك الشرعية وإن كان الحاكم العدل المتورع يفعل في تثبته مع الخلو ما يفعله مع الحضور ويراقب الله سبحانه في كل حالاته نعم أعظم فوائد حضور أهل العلم الذين هم أهله أن يستعين بهم في تقويمه إذا زاغ من الحق ويأذن لهم بذلك فإن هذه فائدة عظيمة وإن كان من الأئمة المجتهدين فإنه قد تتشعب طرائق الاجتهاد فيكون بعضها أوفق من بعض وأقرب إلى قطع الخصومة وطيبة نفس الخصوم والموافقة للحق.
قوله: "ويحرم تلقين أحد الخصمين وشاهده إلا تثبتا".
أقول: أما تعريف الخصم لما يجب له وعليه فهو واجب على الحاكم كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ألك بينة؟ "، وقال:"فلك يمينه"، وقال:"شاهداك أو يمينه".
والحاصل أن أحكام الشرع ليست بمقامرة ولا مخادعة ولا مماكرة بل هي الجادة الواضحة التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا جاحد فإذا أوضح الحاكم للخصمين أو أحدهما
يجب وما لا يجب في وجه الشرع فذلك من عهدته ومن تمام ما يتحصل به الحكم بالحق والعدل ومما أنزل الله وأما إذا كان التلقين بتنبيه أحد الخصمين على ما يدل على عدم إقراره بالحق واعترافه بما يجب عليه ونحو ذلك فهذا من أعظم المحرمات وليس الفاعل لهذا منزل نفسه منزلة الحكم بين الخصمين بل منزلة خصم ثالث أخرج نفسه من القضاء وأدخلها في الخصومة.
قوله: "والخوض معه في قضيته".
أقول: هذا من أقبح ما يفعله حكام الجور لأن التسوية بين الخصوم واجبة عليه فالخوض مع أحد الخصمين في قضيته مخالف لما هو واجب عليه من التسوية وعلى فرض أنه ما أراد إلا التحقيق فقد وقع في أمرين محظورين أحدهما إحراج صدر الخصم الآخر والثاني إدخال نفسه في التهمة فهذان الأمران منضمان إلى ما يحرم عليه من ترك التسوية.
قوله: "والحكم بعد الفتوى".
أقول: إن كان هذا الذي أفتى مظنة تهمة بتعصبه لما سبق به القول منه في فتواه كما يقع ذلك في كثير من طباع من سبق ذهنه إلى قول وتسارع فهمه إلى معنى فإنه بعد ذلك يجادل عنه ويناضل ويقوم ويقعد محاماة للناموس الطاغوتي وتقويما لصنم محبة الرفعة والغلبة والظهور فلا ينبغي تفويض أمر الحكم إليه بعد فتواه بل لا يحل تفويض شيء من أحكام الله إليه لأنه متعصب متعسف قد اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم وإن لم يكن المفتي بهذه المنزلة فلا مانع من توليه للحكم لأن ورعه وعلمه يزجرانه عن مخالفة الحق لتقويم حظ النفس.
قوله: "وحال تأذ".
أقول: إن كان هذا التأذي بما أصيب به يقتضى أن يقصر في البحث عن مسالك الحق وطرائق الحكم أو عن استيفاء ما يورده الخصوم من الحجج التي لهم وعليهم فهو ممنوع من هذه الحيثية لأنه مأمور بالحكم بالعدل والحق وقد حدث له ما لا يتمكن معه منهما تمكنا كاملا فيؤخر الحكم إلى وقت آخر وليس عليه أن يحكم قبل أن يتمكن من المقتضي للحكم أو بعد إن وجد المانع منه وهكذا إذا انتهى ما عرض له من التأذي إلى أن يقع في الغضب فيحكم وهو غضبان فإن ذلك لا يحل له كما ثبت في الصحيحين [البخاري "8158"، مسلم "16/1717"] ، وغيرهما [أبو داود "3589"، الترمذي "1334"، النسائي "8/237"، ابن ماجة "2316" [، من حديث أبي بكرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقضين الحاكم بين اثنين وهو غضبان"، ولا يصح الاستدلال للجواز بما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الحكم للزبير في شراج الحرة [البخاري "2359، 2360"، مسلم "2357"، أبو داود "2637"، الترمذي "1363"، النسائي "5409"، ابن ماجة ط2480"] ، بعد أن أحفظه خصمه أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم فلا يصح إلحاق غيره به وقد قيد حديث النهي عن الحكم حال الغضب بعض أهل العلم بما إذا كان الغضب لغير الله وأجيب عنه بأنه تأويل مخالف لظاهر الحديث بدون دليل يدل على التقييد.
قوله: "أو ذهول".
أقول: لا شك ولا ريب أن الذهول مانع من البحث عن مستندات الحكم لأنه في تلك الحالة قد استغرق عقله بما طرأ عليه من الأمور التي اقتضت ذهوله وليس له أن يعرض نفسه للحكم في دماء العباد وأموالهم وأعراضهم ولا يجوز له ذلك بوجه من الوجوه لأنه لم يؤمر بالحكم كيفما اتفق وعلى أي صفة وقع بل أمر بأن يحكم بالحق والعدل وأنى له الوقوف على ذلك وهو ذاهل العقل مستغرق الفكر متشوش الفهم مبلبل البال.
قوله: "ولنفسه" الخ.
أقول: وجه هذا أن الحاكم مأمور بأن يحكم بين الناس وهو إن كان من الناس فهو خارج عنهم من هذه الحيثية لأن الحكم لا يصدق عليه هذا المعنى وهو أحد الخصمين وقد قدمنا في الشهادات الأدلة الدالة على المنع من شهادة المتهم وأي تهمة أقوى من أن يحكم الحاكم لنفسه وهو وإن كان من له وازع من الورع وزاجر من الدين لا يقدم على الحكم لنفسه بالباطل لكن الحكم للغالب ولا اعتبار بالنادر وهكذا الحكم لعبده لأنه حكم لنفسه لأن ماله لسيده عند من يقول بأن العبد لا يملك وهكذا الحكم لشريك فإنه حكم لنفسه فكان يغني عن التطويل الاقتصار على قوله ولنفسه وهو يتناول الحكم لها على استيلاء والحكم لها بواسطة والحكم لها ولغيرها ولا حاجة إلى قوله بل يرافع إلى غيره لأن منعه من الحكم لنفسه يستلزم أن يكون الحاكم غيره.
وأما قوله: "وكذلك الإمام" فهو وإن كان صحيحا لكنه ينبغي أن يذكر في الأحكام المتعلقة بالأئمة وسيأتي في كتاب السير إن شاء الله.
قوله: "قيل وتعمد المسجد".
أقول: قد كان يقع القضاء في مسجده صلى الله عليه وسلم منه ومن خلفائه الراشدين ولم يرد ما يدل على المنع من ذلك ولا ثبت في النهي عنه شيء وأما ما روي من النهي عن رفع الأصوات في المساجد على فرض قيام الحجة به فغاية ما هناك أنه يزجر من رفع صوته من الخصوم ويعاقب فإن القاضي إذا فعل ذلك تجنب الخصوم ما يشوش على المصلين من أصوات وغيرها وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف المسجد وهم باقون على شركهم وأذن للحبشة بأن يلعبوا فيه بحرابهم وكانوا يتناشدون فيه الأشعار وفي هذه الأمور من التشويش على المصلين زيادة على ما يحصل من قعود خصمين أو أكثر بين يدي الحاكم في المسجد مع ما هو معلوم مع أن القضاء بالحق هو من العمل بالشريعة وتبليغها إلى العباد ونشر أحكامها بينهم وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى.
قوله: "وله القضاء بما علم".
أقول: اعلم أن غاية ما يحصل للحاكم بشهادة الشهود أو يمين المنكر أو إقرار المقر هو مجرد الظن المختلف قوة وضعفا لأن الصدوق قد يكذب والمقر على نفسه قد يقر بالباطل
لغرض ولكن هذه لما كانت أسبابا شرعية وردت في الكتاب والسنة وأجمع عليها أهل الإسلام كان للقضاء بها حقا في ظاهر الشرع وجاز للقاضي الاستناد في حكمه إلى الظن لأن هذه الأدلة الواردة في أسباب الحكم هي من جملة مخصصات الأدلة الواردة في النهي عن العمل بالظن والوعيد عليه كما قيل في أخبار الآحاد ونحوها من الظنيات ومعلوم لكل عاقل أنه إذا كان الحاكم يعلم بالقضاء ويدري بالشيء على جليته وحقيقته فهذا مستند فوق ما يحصل له من تلك الأسباب لأنه علم والحاصل بتلك الأسباب ظن ولا خلاف في أن العلم أقوى من الظن وأن الاستناد إليه مقدم على الاستناد إلى الظن بل لا يبقى للظن تأثير مع وجود العلم أصلا فالحاكم الذي حكم بما يعلمه قد حكم بالعدل والحق والقسط بلا شك ولا شبهة ولم يكن من عمله مجوزا لكون حكمه باطلا وليس ذكر تلك الأسباب إلا لبيان ما هو ممكن في الواقع من التوصل إلى معرفة الحق مع عدم القطع والبت بمطابقة الحكم للواقع ولهذا يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"، هكذا لفظ الحديث في الصحيحين وغيرهما فلا شك ولا ريب أن قضاء الحاكم بعلمه أسكن لخاطره وأقوى لقلبه وأقر لعينه من الحكم بالظن والعمل بما هو أولى هو مقبول لا يخالف فيه إلا من لا يتعقل الحقائق كما ينبغي كما تقرر في الأصول في الكلام على فحوى الخطاب.
هذا لو قدرنا أن تلك الأسباب لم يرد ما يدل على سببية غيرها ومعلوم أن التنصيص على بعض الأسباب لا ينفي سببية غيرها وأما ما قيل من أنه قد ورد ما يدل على انحصار الأسباب فيها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وليس لك إلا ذلك"، بعد قوله:"شاهداك أو يمينه"، [البخاري "5004"، مسلم "1497"] ، فيجاب عنه بأن هذا إنما يكون دليلا لو علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بالواقع في تلك القضية وترك العمل بعلمه وعدل إلى طلب البينة واليمين ولم يثبت ذلك على أنه يرد على هذا الحصر إقرار من عليه الحق فإنه أقوى في السببية للحكم من البينة واليمين.
فالحاصل أن الحاكم بعلمه حاكم بالعدل والحق والتعليل بالتهمة لا وجه له ولا التفات إليه فإنه التهمة عن الحكام العادلين العارفين بما شرعه الله المتعلقين لحجج الله سبحانه منتقية ولا يعود عليهم من ذلك غرض يصلح لجعله علة أصلا وليس محل النزاع هو الحاكم المتهم بل محل النزاع هو الحاكم الجامع لما قدمنا ذكره في شروط القضاء وهو أبعد عن الريب وأنزه من أن يزن بعيب.
وأما استثناء الحدود فوجهه أنه إذا لم يحصل النصاب المعتبر فيها كان ذلك شبهة وهي تدرأ بالشبهات وأما ما استدل به على هذا الاستثناء من قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها"، كما تقدم في قصة الملاعنة فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بوقوع الفاحشة منها ولكنه استدل على ذلك بما ظهر من القرائن كما تضمنته القصة وليس ذلك من باب العلم ومع هذا
فالبينة هي ما يتبين به الشيء وتظهر عنده حقيقته والعلم من الحاكم من هذه الحيثية بينة بل هو أقوى بينة ولعله يأتي في الحدود ما يزيدك بصيرة إن شاء الله.
قوله: "وعلى غائب" الخ.
أقول: قد جعل الله لحكم الحاكم أسبابا معلومة يعرفها الحاكم وهي الإقرار أو البينة أو اليمين ويلحق بذلك مثل النكول والرد وقد تقدم تحقيق الكلام فيهما فالحاكم إذا قامت لديه الشهادة العادلة المرضية بثبوت الحق على الغائب أو الذي لا يعرف أين هو أو المتردد عن حضور مجلس الحكم فقد أوجب الله عليه إنصاف المحكوم له بحكم الله والقضاء بما شرعه الله ولا يتم ما أمر الله سبحانه من الحكم بالعدل والحق وبما أنزل إلا بهذا وهكذا لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بهذا ومن زعم أن غيبة الذي عليه الحق عذر للحاكم في مطل من له الحق وعدم إنصافه ورفع ظلامته فعليه الدليل وهذا إذا كان الدي عليه الحق في موضع لا يعرف فإن جواز الحكم عليه أظهر من جواز الحكم على من كان غائبا في مكان معروف وهكذا إذا كان من عليه الحق متمردا عن حضور مجلس الحاكم تاركا لما أوجبه الله عليه من الإجابة إلى شرعه فإن جواز الحكم عليه أظهر من الأمرين السابقين ولو تم للمتمردين عن الشرع تمردهم لم ينفذ الحق على غالب الناس وحينئذ تبطل الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملة بين العباد ويبطل ما هو رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومثل قيام البينة عند الحاكم المتصفة بثبوت الحق عليه على ما تقدم تقريره ولكن على الحاكم أن يؤذن الغائب بأنه قد توجه الحكم عليه فإن بقي له ما يدفع به عن نفسه أورده إذا كان غائبا في مكان لا يلحق مشقة زائدة بالإعذار إليه وهكذا يعذر إلى المتمرد على أنه قد ورد في الحكم على من لم يحضر إلى مجلس الشرع دليل يخصه وكتبنا على ذلك رسالة مطولة وذكرنا فيها ما ينشرح له صدر المنصف وينثلج به قلبه فمن أحب الوقوف عليها فليقف عليها.
ويحتاط الحاكم حيث لم يكن الإعذار إلى الغائب أو المتمرد بالتولف على المحكوم له بأن لا يتصرف فيما حكم به له حتى ينظر ما يقوله الغائب بعد حضوره والمتمرد بعد رجوعه عن تمرده وكذلك مجهول المكان حتى يظهر مكانه.
فإن قلت إذا كان المطالب بالحكم فليس عليه إلا اليمين بأن يكون الظاهر معه قلت ينبغي أن يحكم له بيمينه المسندة إلى الظاهر الذي معه ويؤخذ عليه أن لا يتصرف فيه لجواز أن يكون مع خصمه الغائب أو المجهول أو المتمرد ما يترجح على يمينه وينقل عن الظاهر الذي معه فهكذا ينبغي أن يقال في هذا المقام وأما منع المانعين عن الحكم على هؤلاء فهو سد لباب حكم الشرع وإهمال لما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظلم بحت لمن جاء يشكو ظلامته ويعرض المستند الذي أمر الحكام بالحكم به.
وأما قدر مسافة الغيبة فينبغي تفويض النظر فيه إلى الحاكم المجتهد لاختلاف الأحوال باختلاف الأشخاص والأموال ومتى حضر هو أو المجهول أو المتمرد مجلس الحاكم عرض عليه
الحاكم المستند الذي حكم به عليه فإن جاء بما يخالفه ويترجح عليه عمل عليه وإلا أقنعه بما تقدم من الحكم عليه ولا وجه للاقتصار على قوله فليس إلا له تعريف الشهود لأن مستندات الحكم أكثر من ذلك.
وأما قوله: "ولا يجرح إلا بمجمع عليه" فلا وجه له بل يثبت الجرح بما يوجب سلب العدالة المعتبرة في الشهود لأنها إذا سلبت ذهب المقتضي للحكم ووجد المانع فلا أثر للحكم بعد عدم المقتضي ووجود المانع.
وأما ما ذكره من الإبقاء من مال الغائب فهو صحيح مع التوثق منه بألا يخرجه عن ملكه قبل معرفة ما ينتهي إليه الحال.
وأما الفرق من المصنف بين ما ثبت للغائب بالإقرار والنكول بين ما يثبت له بالبينة فوجهه أن ما ثبت له بالاعتراف أو بما هو في حكمه قد ثبت بمستند لا يحتمل النقض بخلاف ما ثبت بالبينة ولكنه يمكن أن يقال أن الإقرار ونحوه إذا رده المقر له بطل كما تبطل البينة إذا أقر بعدم صحتها فالاحتمال كائن في الجميع والتجويز يدخل الكل ولا وجه لما علل به بعضهم من أن الحكم بالبينة حكم الغائب ولا يجوز إجماعا لأنا نقول وهكذا الحكم بالإقرار وما هو في حكمه حكم لغائب.
قوله: "وتنفيذ حكم غيره" الخ.
أقول: إذا كان المتولى للحكم بمكان مكين من العلم والدين فالظاهر أن حكمه حق وعدل وما كان كذلك فتنفيذه حق وعدل ولا سيما إذا كان لا ينفذ إلا بهذا التنفيذ فإنه واجب تنجيزا لحكم الله عزوجل وقياما بحق المظلوم وأخذا له من الظالم.
وأما قوله: "والحكم بعد دعوى قامت عند غيره" فلا مانع من هذا وليس قيام الدعوى عند الغير مما يوجب أن لا يحكم فيها غيره من الحكام ولكن لا بد من أن يسمع الحاكم الآخر ما يقوله الخصمان للحديث الذي قدمناه في قوله ويسمع الدعوى أولا ثم الإجابة.
وأما قوله: "إن كتب إليه وأشهد أنه كتابه وأمرهم بالشهادة" إلى آخر ما ذكره فإن كان يحصل للحاكم الأخر بهذه المكاتبة ما يحصل له بالسماع من الخصمين أغنى ذلك عن إعادة الدعوى وإلا فلا بد من إعادتها لديه ولا وجه لاستثناء الحدود والقصاص والمنقول الموصوف والتعليل الذي عللوا به لا ينتهض للمانعية.
والحاصل أن العمل في هذا البحث راجع إلى مسألة العمل بالخط وقد ثبت العمل به الأدلة المتكاثرة كما بيناه في رسالة مستقلة فإذا كان خط الحاكم الأول معروفا لدى الحاكم الآخر بحيث لا يعتريه فيه شك ولا شبهة كان ذلك قائما مقام مشافهته وإلا فلا.
قوله: "وإقامة فاسق" الخ.
أقول: لا ملجيء ها هنا إلى إقامة من لا يؤتمن لا سيما مع اشتراط أن يحضر معه الحاكم أو مأمونه فإن حضور أحدهما يغنى عن حضور الفاسق فإن كان للفاسق مزيد خبرة وكمال
معرفة بذلك المعين وفرضنا أنه لا يوجد في العالم من له مثل حاله فللضرورة إلى إقامته حكمها.
قوله: "وإيقاف المدعي حتى يتضح الأمر فيه".
أقول: هذا إذا اقتضته المصلحة جائز للحاكم فقد يكون للحاكم في ذلك نظر يعين على تبين الحق واتضاح وجهه.
[فصل
وحكمه في الإيقاع والظنيات ينفذ ظاهرا وباطنا لا في الوقوع ففي الظاهر فقط إن خالف الباطن ويجوز امتثال ما حكم به من حد وغيره ويحب بأمر الإمام إلا في قطعي يخالف مذهب الممتثل أوالباطن ولا يلزمان الغير اجتهادهما قبل الحكم إلا فيما يقوى به أمر الإمام كالحقوق والشعار لا فيما يخص نفسه ولا في العبادات مطلقا ويجاب كل من المدعيين إلى من طلب والتقديم بالقرعة ويجيب المنكر إلى أي من في البريد ثم الخارج عنه إن عدم فيه] .
قوله: "فصل: وحكمه في الإيقاع والظنيات" الخ.
أقول: هذا التعرض للمحكوم فيه مع التعرض للفرق بين الإيقاع والوقوع وبين القطعية والظنية كلام قليل التحصيل فإن حكم الحاكم إنما يكون بالمستندات التي ورد الشرع بها وهي ظنية فالحكم بها لا يخرج عن كونه ظنيا ولكنه ورد التعبد بالعمل بهذا الظن وقبوله ووجوب امتثاله ولهذا يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"، فتقرر بهذا أن حكم الحاكم ظني سواء تعلق بمحكوم فيه قطعي أو ظني في إيقاع أو وقوع فلا ينفذ إلا ظاهرا لا باطنا فلا يحل الحرام به ولا يحرم به الحلال للمحكوم له والمحكوم عليه ولكنه يجب امتثاله بحكم الشرع ويجبر من امتنع منه فإن كان المحكوم له يعلم بأن الحكم له به باطل لم يحل له ولا يجوز له استحلاله بمجرد حكم الحاكم من غير فرق وما أظن المصنف ومن يوافقه يخالفون في هذا وإن استلزمه كلامهم ها هنا ولعل التعرض لمثل هذا شعبة من شعب مذهب الحنفية القائلين بأن حكم الحاكم يحلل الحرام ويحرم الحلال وإن كان في نفس الأمر وفي الواقع على غير الصفة التي وقع الحكم عليها وهذه مقالة باطلة وشبهتها ضاحضة وقد دفعها الله سبحانه في كتابه العزيز بقوله:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]، ودفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"، هذا على تقدير أنهم يعممون المسألة في الأموال وغيرها والذي في كتبهم تخصيص ذلك
بما عدا الأموال ولا يختلف في هذا من يقول بأن كل مجتهد مصيب ومن لا يقول بذلك لأن القائل بالتصويب لا يريد بذلك أن المجتهد قد أصاب ما في نفس الأمر وما هو الحكم عند الله عزوجل وإنما يريد أن حكمه في المسألة هو الذي كلف به وإن كان خطأ في الواقع ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران"، فجعله مصيبا تارة ومخطئا أخرى ولو كان مصيبا دائما لم يصح هذا التقسيم النبوي وبهذا تعرف أن المراد بقول من قال كلا مجتهد مصيب أنه أراد من الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي تنافيه.
قوله: "ويجوز امتثال ما أمر به" الخ.
أقول: لا وجه لهذا بل يجب امتثال ما أمر به من حد أو غيره ولهذا يقول الله عزوجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]، فهذه الآية وإن كان الخطاب فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالحاكم الذي سيحكم بين المشتجرين بحكم الله يثبت له مثل هذا الحكم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكره الله في هذه الآية هو الحكم بالشريعة الموجودة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والكتاب والسنة موجودان والحكم بهما متيسر لكل من يفهم كلام الله وكلام رسوله ومن هذا قول الله عزوجل:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، والمراد إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله فقوله:{أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} يدل على وجوب الامتثال لا على مجرد جوازه والمراد من الامتثال تسليمه نفسه لذلك والرضا به ولا وجه لتعليق الوجوب بأمر الإمام فإن الإمام لا يأمر إلا بما قضى به الشرع فإن خالفه أو أسقط ما أوجبه فليس بإمام بل هو ضال مضل.
قوله: "إلا في قطعي يخالف مذهب الممتثل" الخ.
أقول: وجه هذا ما ورد في الأدلة من أنه: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وورد:"إنما الطاعة في المعروف"[البخاري "7257"، مسلم "1840"، أحمد "1/94"، أبو داود "2625"، النسائي "7/109"، وورد: "من أمر أن يطيع الله فليطعه ومن أمر أن يعصيه فلا يعصه"، [أحمد "3/67"، ابن ماجة "2863"] ، ولكن لا وجه لاعتبار مذهب الممتثل بل المراد ما هو الحق في الواقع وفي نفس الأمر بدليل الكتاب والسنة وهذه التقييدات وردت مقيدة لطاعة أولي الأمر مع كون الأدلة قد دلت على وجوب طاعتهم كما وردت الأدلة بوجوب امتثال أحكام حكام الشرع فعلى المحكوم عليه بما يخالف ما هو الحق قطعا أو يخالف ما في الواقع وفي نفس الأمر أن يوضح ذلك بغاية ما يقدر عليه فإن أمكنه الفرار فعل ولا ترد عليه الأدلة القاضية بوجوب الامتثال لأنه على يقين بأن الحكم واقع على جهة الغلط ومن شرط عدم جواز الامتثال أن يكون للمحكوم عليه بصيرة يعرف بها الحقيقة لأن من عداه قد يظن الحق باطلا والصواب خطأ لقصور فهمه عن إدراك الحقائق.
قوله: "ولا يلزمان الغير اجتهادهما قبل الحكم".
أقول: وجه هذا أن العمل في الخصومات على ما يحكم به الحاكم المترافع إليه إذا كان جامعا لتلك الشروط السابقة وأما العبادات وما يختلف فيه الناس من المعاملات فلهما أن يلزما الناس بالعمل بالراجح الذي دل عليه الدليل الصحيح وترك العمل بالرأي المجرد الذي لا يكون العمل به إلا عند عدم الدليل رخصه للمجتهد فقط لا يجوز تقليده فيه كما قد حققنا هذا البحث في مؤلفاتنا في غير موضع ومن ذلك ما قدمناه في مقدمة هذا الكتاب فإذا كان الإمام والحاكم من العلماء المجتهدين المؤثرين للدليل على القال والقيل والرواية على الرأي فلا شك أن العمل عندهما بالرأي مع وجود الدليل منكر عظيم فمن حق القيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين هما أعظم أعمدة الدين وأهم مهماته أن يأمر الناس بالعمل بالحق الذي أمر الله بالعمل به وشرعه لعباده ونهاهم عن العمل بالباطل الذي لم يأذن الله سبحانه بالعمل به ولا شرعه لعباده
فالحاصل أن من أوجب ما يجب على الإمام ومن له قدره أن يحيى ما أحياه الكتاب والسنة ويميت ما أتاه ويدعو الناس إلا ما دعاهم الله ورسوله إليه ونهاهم عما ينهاهم الله ورسوله عنه وبهذا تعرف أن عدم الإلزام في مسائل الخلاف كما يقول كثير من أهل الفروع هو شعبة من محبة التقليد الذي نشأوا عليه ودبوا ودرجوا فيه وحنين منهم إلى الإلف المألوف فليكن هذا منك على ذكر ولعله يأتي له مزيد بيان إن شاء الله عند الكلام على قوله ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه وبهذا تعرف أنه لا وجه للفرق بين ما يقوى به أمر الإمام وبين ما لا يقوى به وبين ما فيه شعار وما لا شعار فيه وبين العبادات وبين المعاملات.
قوله: "ويجاب كل من المدعيين إلى من طلب".
أقول: وجهه أن المدعي طلب خصمه إلى حكم الله على يد الحاكم الذي طلب الحضور إليه فوجب على خصمه أن يقول سمعنا وأطعنا وهكذا هذا الخصم إذا كان له دعوى على المدعي وطلبه إلى حاكم آخر كان الكلام فيه كالكلام المتقدم لأنه له مثلما عليه ولكن إنما تجب الإجابة بشرطين.
الأول: أن يكون الذي طلب إليه جامعا للشروط السابقة وإلا فهو ليس بحاكم بل متوثب على ما ليس له داخل فيما لا يحل له الدخول فيه قاعد في مقعد يجب من باب النهي عن المنكر إقامته منه.
الشرط الثاني: أن لا يكون في طلب الوصول إلى الحاكم الذي طلب الوصول إليه بإضرار الخصم واتعاب له إذا كان يمكن وجود غيره بدون ذلك.
وما ذكره من التقدم بالقرعة صواب مع الاختلاف وقد قدمنا أنها وردت بها الأحاديث الصحيحة فد دفع خصومات فضلا عن تقدم من تقدم من المدعيين.
وأما قوله: "ويجيب المنكر إلى أي من في البريد" إلخ فلا بد من اعتبار الشرطين اللذين ذكرناهما ها هنا.
[فصل
وينعزل بالجور وبظهور الارتشاء لا بالبينة عليه إلا من مدعيه فيلفو ما حكم بعده ولو حقا بموت إمامه لا الخمسة وعزله إياه وعزله نفسه من وجه من ولاه وبقيام إمام] .
قوله: "فصل: وينعزل بالجور".
أقول: وجه هذا الانعزال أنه قد صار بالجور غير عدل والعدالة شرط كما تقدم والشرط يؤثر عدمه في عدم الشروط وهكذا إذا وقع من الحاكم قبول الرشوة فإنه ينعزل لبطلان عدالته بصدور هذه المعصية الكبيرة منه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم"، أخرجه أحمد "2/386، 387، 388"، وأبو داود والترمذي "1336"، وحسنه وابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد "2/164، 190، 194، 212"، وأبو داود "3580"، وابن ماجه "2313"، والترمذي "1337"، وصححه من حديث عبد الله بن عمرو وأخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والطبراني وأخرجه أيضا أحمد "5/279"، والحاكم من حديث ثوبان وفي إسناده كما قال ابن حجر ليث بن أبي سليم إنه تفرد به وقال البزار في مجمع الزاوائد إنه أخرجه أحمد "5/279"، والبزار والطبراني في الكبير وفي إسناده أبو الخطاب وهو مجهول انتهى.
وأما قوله: "لا بالبينة عليه" الخ فلا وجه له فإن قيام البينة عليه يفيد ثبوت ارتشائه وسواء كان ذلك على جهة الشهادة أو الإخبار وسواء كان هناك من يدعي عليه أم لا وليس الوقوف عند هذه الاعتبارات إلا مجرد تقليد لا أصل له وأما كونه يلغو ما حكم به بعده فهو ثمرة انعزاله فإن العزل حجر له عن إيقاع الأحكام.
قوله: "وبموت إمامه".
أقول: قد قدمنا في الوقف عند قول المصنف: "وتبطل تولية أصلها الإمام بموته" ما يغني عن إعادته هنا فليرجع إليه.
وأما قوله: "وبقيام إمام" فمبني على بطلان الولاية بموت الإمام الأول الذي ولاه وقد قدمنا دفعه فولاية الإمام الذي ولاه باقية لا موجب لبطلانها لا من شرع ولا من عقل.
وأما قوله: "أو محتسب" فقد قدمنا الكلام عليه عند قوله: "وولاية من إمام حق أو محتسب".
وأما قوله: "وعزله نفسه في وجه من ولاه" فوجهه أن القاضي إذا اختار التخلي عن القضاء والخلوص من تكاليفه كان له ذلك ولكنه إذا لم يأذن له الإمام بذلك كان آثما لوجوب طاعة الأئمة وإذا كان لا يغني عنه غيره كان إثما آثما آخر من هذه الجهة لأنه ترك ما أخذه الله عليه من البيان للناس الذي أوجبه على الذين أوتوا الكتاب وأخذ به ميثاقهم فهو قد ترك واجبين وباء بإثمين.
[فصل
ولا ينتقص حكم حاكم إلا بدليل علمي كمخالفة الإجماع ولا بحكم خالفه إلا بمرافعة ومن حكم بخلاف مذهبه عمدا ضمن إن تعذر التدارك وخطأ نفذ في الظني وما جهل كونه قطعيا وتدارك في العكس فإن تعذر غرم من بيت المال وأجرته من مال المصالح ومنصوب الخمسة منه أو ممن في ولايته ولا يأخذ من الصدقة إلا لفقره] .
قوله: "فصل: ولا ينتقص حكم حاكم إلا بدليل علمي" الخ.
أقول: إذا كان الحاكم الذي حكم جامعا للشروط المتقدمة فقد صار حكمه لازما للمحكوم عليه يجب عليه أن يتلقاه بالسمع والطاعة وأن لا يجد في صدره حرجا من ذلك ويسلم تسليما كما ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز ولكن أهلية الحاكم ليست تعصمة ودين الله هو ما شرعه لعباده في كتابه وسنة رسوله فإن كان هذا الحاكم المتأهل قد أصاب الحق في حكمه فلا شك ولا ريب أنه لا يجوز لمسلم كائنا من كان أن يتعرض لنقض هذا الحكم بل لا يجوز لمسلم أن يترك الامتثال له فضلا عن أن يحاول نقضه ومخالفته ومعنى كونه قد أصاب في حكمه أن يوقعه موافقا لما في كتاب الله أو لما في سنة رسوله فإن لم يجد فيهما ما يقتضي ذلك عول على القياس عليهما بجامع مقبول كالنص على العلة أو عدم الفارق ووجه هذا ما في حديث معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن للقضاء فأمره بالحكم بكتاب الله فإن لم يجد فبما في سنة رسول الله فإن لم يجد اجتهد رأيه وهو حديث صالح للعمل به كما بيناه في غير هذا الموضع ولا يصلح لنقض حكم الحاكم المتأهل مع وجود دليل يعارض دليله إذا كان ما عمل به صالحا للاحتجاج به لأن ذلك هو فرضه عند تعارض الأدلة أما إذا تبين أن الحاكم المتأهل أخطأ في الحكم فلا يجوز إقرار حكمه بل يجب على الحاكم الآخر نقضه لما قدمنا لك أن مجرد تأهل الحاكم للقضاء ليس يعصمه ولهذا يقول الصادق المصدوق في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران"، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حكمه مترددا بين الصواب والخطأ فليست الأهلية بعصمة عن الخطأ كما في هذا القول النبوي وذلك بأن يستند في حكمه إلى رأي والدليل الصحيح الذي تقوم به الحجة موجود فإن الحكم المبني على هذا الرأي منقوض بالدليل الصحيح الذي مضروب به وجه الحاكم لأن شرع الله سبحانه واحد لا يخرج بخطأ الحاكم عن كونه شرعا والتعبد به للعباد ثابت قبل الحكم وبعده في هذا القضية التي حكم فيه الحاكم وغيرها وعلى هذا المحكوم له أو عليه وعلى غيرهما أما إذا كان القاضي المتولي للحكم غير متأهل للقضاء فحكمه باطل من أصله لأنه صادر عن غير حاكم لكنه إذا وافق الحق فقبوله واجب من حيث كونه لا حقا من حيث كونه صادرا عن غير من يصلح للقضاء لأن الحق حق في
نفسه لا يخرج بحكم من ليس بمتأهل للقضاء عن كونه حقا وإن كان القاضي الذي ليس بمتأهل آثما لأنه قضى بالحق وهو لا يعلم به فهو أحد قاضيي النار كما تقدم في الحديث لأنه لا يعرف كون الحكم الذي حكم به حقا أو باطلا إذ هو لا يتعقل الحجة فضلا عن أن يحكم بها بين الناس.
وإذا تقرر لك هذا عرفت أن مرجع لزوم حكم الحاكم ووجوب امتثاله وتحريم نقضه يرجع إلى كونه مطابقا للحق وعدم لزومه وجواز نقضه يرجع إلى كونه مخالفا للحق ومثل هذه الموافقة والمخالفة لا تخفى على المحققين من أهل العلم المشتغلين بأدلة الكتاب والسنة ولن يخلي الرب عزوجل عباده وبلاده عن وجود من يقوم بالبيان لما في الكتاب والسنة ويرشد العباد إلى ما اشتملا عليه مما عليه مما شرعه لهم وبهذا تعرف أن ما خالف الدليل القطعي أو خالف إجماع المسلمين من الأحكام كان أولى بالنقض وأحق بعدم وجوب الامتثال.
وأما قوله: "ولا بحكم خالفه إلا بمرافعة" فقد قررنا لك فيما سبق أن التحكيم جار مجرى إلزام النفس بالقبول لما حكم به فلا يجوز الرجوع عنه ولا يحل لحاكم أن يتعرض لنقضه لكنه إذا وقع على خلاف الحق وخرج عن صوب الصواب فمعلوم أن من حكمه إنما حكمه أن يحكم له أو عليه بالشرع فالتزامه منصرف إلى هذا لا إلى مجرد ما حكم به على أي صفة وقع وإن خالف الشريعة الواضحة فالكلام ها هنا كالكلام في حكم الحاكم وقد عرفته.
قوله: "ومن حكم بخلاف مذهبه عمدا ضمن".
أقول: إذا حكم الحاكم بخلاف الحق فقد جار وبجوره تبطل ولايته كما تقدم ولا مذهب للمجتهد إلا ما بلغت إليه قدرته من النظر في الأدلة والجمع بينها أو ترجيح الراجح منها فإن حكم بغير ما يصح له اجتهادا عمدا فقد حكم بالباطل وهو يعلم بأنه باطل وكفى بهذه الجراءة والجسارة والمخالفة لما أمر الله به فإن تلف ما حكم به باطلا وتعذر الرجوع على من أتلفه ضمنه القاضي لأنه قد تسبب بسبب متعد فيه عامدا معاندا لشرع الله مضادا للحق.
وأما غير المتأهل فليس حكمه بشيء إلا إذا وافق الحق لكن صحته إنما هي لكونه وافق الحق كما قدمنا وأما إذا حكم بخلاف الحق عامدا على فرض أنه قد اعتقد اعتقادا جهل أن الحق هو كذا فهذا يضمن من هذه الحيثية إذا تعذر رجوع العين المحكوم بها ورجوع قيمتها.
وأما قوله: "وخطأ نفذ في الظنى وما جهل كونه قطعيا" فالكلام في هذا هو ما قدمنا تحريره وتقريره فلا نعيده.
قوله: "فإن تعذر غرم من بيت المال".
أقول: الحاكم معذور بالخطأ وقد قدمنا أن تأهله ليس يعصمه عن الخطأ فإذا حكم بخلاف الحق خطأ فلا ضمان عليه بل له أجر كما تقدم في الحديث الصحيح ولكنه ها هنا
قد كان حكمه هذا الواقع على جهة الخطأ سببا لذهاب مال المحكوم عليه فهو مظلوم ورفع ظلامته واجب وقد تعذر الرجوع بالعين والرجوع بقيمتها على المحكوم له ولم يتعلق بالحاكم الضمان ولا يجوز تضمينه مع الخطأ فلم يبق إلا جبر ما لحقه من الخسر من بيت المال فيكون له حكم الغارم وقد تكفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أيام النبوة بعد أن فتح الله على المسلمين بأن من ترك دينا أو ضياعا فهو عليه وإليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة فمال هذا المحكوم عليه بالخطأ هو دين على من استفرقه وقد تعذر الرجوع عليه فكان دينا على بيت مال المسلمين.
قوله: "وأجرته من مال المصالح".
أقول: قد ثبت ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجعل لمن عمل عملا يرجع إلى مصالح المسلمين رزقا ومن ذلك أرزاق المصدقين والأمراء الذين يؤمرهم على البلاد وهكذا ثبت في أيام الخلفاء الراشدين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، أنهم كانوا يجعلون للولاة والقضاة ومن يعمل في الصدقات رزقا من بيت مال المسلمين وكان يفرضون للأئمة رزقا يقوم بما يحتاجون إليه مع حاجتهم إلى ذلك وعدم وجود ما يقوم بمؤنتهم من خالص أموالهم ولا شك أن انتصاب القاضي المفتي للفتيا قيام بمصلحة عامة فله نصيب في بيت مال المسلمين من هذه الحيثية وليس ذلك بأجرة على واجب بل ثبوت حق له في بيت مال المسلمين وقد كان الصحابة يأخذون عطاءهم من بيت المال وإن لم يلوا عملا كما هو معلوم فكيف إذا قاموا مع ذلك بما لم يقم به سائر المسلمين وقد جعل الله سبحانه العاملين على الصدقة أحد الأصناف الثمانية المستحقين لها ولا سبب لذلك إلا ما فعلوه من العمل وهكذا منصوب الخمسة بل وكل ذي ولاية دينية راجعة إلى القيام بمصالح المسلمين.
وأما قوله: "أو ممن بلد ولايته" فلا بد من حمله على أنهم يدفعون إليه من أموال الله التي بأيديهم لا أنهم يدفعون إليه من خالص أموالهم فإن ذلك لا مساغ له في الشرع.
وأما كونه لا يأخذ من الصدقة إلا لفقره فقد قدمنا في الزكاة الكلام على الأصناف التي يشترط فيها الفقر والأصناف التي لا يشترط فيها الفقر فارجع إليه.
وأما سائر الأموال التي هي معدودة في بيت مال المسلمين فلا يشترط بها فقر القاضي ولا غيره وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك"، [البخاري "3/337"، مسلم "1045"] ، بعد أن قال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطيه من هو أحوج إليه منه وقد كان الصحابة يأخذون من العطاء الألوف المؤلفة كما هو معلوم بل كان الحسنان وعبد الله بن جعفر وأمثالهم يأخذون المائة الألف وما هو أكثر منها.