الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقول: يدل على ذلك الأدلة المتقدمة التي ذكرناها قريبا ويدل على ذلك أيضا غيرها من العمومات وهو أيضا ولي أموات المسلمين كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فله المطالبة بما يجب لهم وعليهم ولا وجه لقوله ولا عفو بل إليه العفو كما تكون إليه العقوبة لعموم ولايته إذا كان في ذلك مصلحة عائدة على المسلمين أو خصوصا.
باب القسامة
[فصل
تجب في الموضحة فصاعدا إن طلبها الوارث ولو نساء ولا يستبد الطالب بالدية] .
قوله: "تجب في الموضحة فصاعدا" الخ.
أقول: القسامة قد ثبتت في هذه الشريعة في الجملة ولا ينكر ذلك منكر ولا يدفعه دافع وقد أخذ بها الجمهور وعملوا عليها وهي شرع مستقل لا يضرها مخالفتها لبعض ما قد تقرر اعتباره على جهة العموم فإن بناء العام على الخاص واجب وقد قال قوم من السلف إنها غير ثابتة مع اعترافهم بورودها ووقوعها في زمن النبوة وفي أيام الخلفاء الراشدين والقائلون بأنها غير ثابتة هم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن علية ومسلم بن خالد وعمر بن عبد العزيز ومن أهل البيت الناصر وعدلوا على مجرد الاستبعاد لثبوتها مع اشتمالها على أحكام تخالف ما هو المتقرر في غالب الأبواب.
وعندي أنه لا وجه لهذا الاستبعاد ولا مقتضى للجزم بعدم ثبوتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرها على ما كانت عليه في الجاهلية"، كما في صحيح مسلم "7/1670"، وغيره النسائي "8/2، 4"، وكانت أول قسامة وقعت في الجاهلية القسامة التي ادعاها أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم على فخذ من أفخاذ قريش والقصة مستوفاة في صحيح البخاري وغيره وفيها أن أبا طالب قال للذي اتهم بقتل الفتى من بني هاشم اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت حلف خمسون من قومك إنك لم تقتله فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه فأخبروهم فقالوا نحلف فاقسامة المشروعة هي هذه التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم وهي أن يدفع المتهمون بالقتل الدية أو يحلفوا ولا دية عليهم.
وأما ما ثبت في الصحيحين [البخاري "6898"، مسلم ط1669"، وغيرهما أبو داود "4520"، الترمذي "1422"، النسائي "8/5، 6، 7"، ابنماجة "2677"]، في قصة عبد الله بن سهل الذي قتلته يهود خيبر وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على ورثته أنهم يحلفون ويستحقون فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا" فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من
عنده، فينبغي أن يكون هذا على طريق الصلح لأن القسامة التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي قسامة أبي طالب فيحمل ما خالفها كهذه القصة على ما ينبغي أن يحمل عليه ما خالف ما هو الأصل وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف لورثة عبد الله بن سهل ليريهم كيف بطلانها ولهذا أسلم الدية من عنده لئلا يهدر دم المقتول.
وأما الجمع للمتهمين بين الإيمان والدية فمخالف لما وقع في قسامة أبي طالب التي قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ذلك إلا ما يروى عن عمر ولا يجوز العمل به لمخالفته لما صح عنه صلى الله عليه وسلم.
وإذا عرفت ما ذكرناه من وجوب تأويل ما خالف قسامة أبي طالب فمن جملة ما خالفها في قصة عبد الله بن سهل أنه يحلف من قرابته خمسون ويستحقون فإن اليمين إنما تكون على يقين ولهذا قالوا كيف نحلف ولم نشهد وهذا يقوي ما قدمنا من قول من قال إنه تلطف لورثة عبد الله بن سهل ليريهم كيف بطلانها.
فالحاصل أن القسامة ثابتة في هذه الشريعة فمن ادعاها على قوم فيقال لهم يحلف منهم خمسون فإن حلفوا فليس عليهم شيء من الدية وإن نكلوا فعليهم الدية وإن التبس الأمر كانت من بيت المال كما فعله صلى الله عليه وسلم في قصة عبد الله بن سهل وليس غير هذا ولكن في قصة أبي طالب أن الدعوى وقعت على معين فيدل ذلك على أن التعيين لا يبطل القسامة بل يتوجه على قوم ذلك المعين ما يتوجه على قوم وقعت الدعوى على واحد منهم غير المعين وعلى جماعة منهم غير المعينين.
وأما قوله: "تجب في الموضحة فصاعدا" فمبني على صحة إلحاق ما دون النفس بالنفس ولكنه يقال مقتضى قواعدهم أنه لا يقاس على ما ورد مخالفا للقياس بل يقر في موضعه وإن كان الحق ما قدمنا أن كل الشريعة المطهرة واردة على القياس المطابق للحكمة التي ينتفع بها العباد عاجلا وآجلا.
وأما قوله: "إن طلبها الوارث" إلخ فوجهه ظاهر لأن هذا شأن حقوق الآدميين لا تجب إلا بعد الطلب كما تقدم في الدعوى وقد قدمنا هنالك ما ينبغي الرجوع إليه وهكذا لا يبطل حق من لم يعف من عفا وليس في هذا نزاع.
وأما كونه لا يستبعد بالدية الطالب فوجهه أنها عوض عن دم المقتول وهم يستحقونه جميعا ولا يبطل حق الساكت بسكوته.
[فصل
فمن قتل أو جرح أو وجد أكثره في أي موضع يختص بمحصورين غيره ولو بين قريتين استويا فيه أو سفينة أو دار أو مزرعة أو نهر أو لم يدع الوارث على غيرهم
أو معينين فله أن يختار من مستوطنيها الحاضرين وقت القتل خمسين ذكورا مكلفين أحرارا وقت القتل إلا هرما أو مدنفا يحلفون ما قتلناه ولا علمنا قاتله ويحبس الناكل حتى يحلف ويكرر على ما شاء إن نقصوا ويبدل من مات ولا تكرار مع وجود الخمسين ولو تراضوا وتعدد بتعدده ثم تلزم الدية عواقلهم ثم في أموالهم ثم في بيت المال فإن كانوا صغارا أو نساء منفردين فالدية والقسامة على عواقلهم وإن وحد بين صفين فعلى الأقرب إليه من ذوي جراحته من رماة وغيرهم] .
قوله: "فصل فمن قتل أو جرح" الخ.
أقول: وجوده على هذه الصفة مقتض لتعلق التهمة بأهل المحل فكان ذلك سببا لثبوت القسامة وجعلوا هذا قائما مقام اللوث الذي اعتبره بعض أهل العلم.
وأما اشتراط أن يختص المحل بمحصورين فلكونها لا تصح الدعوى على من لم ينحصر كالمدن الكبار وقوله غيره يفيد أنه لو كان المحل مختصا بالمتهم كانت القسامة عليه وحده وقد قيل إن ذلك إجماع وفيه نظر فإن قسامة أبي طالب كانت على فرد معين ولم يكن ذلك قادحا في القسامة فهكذا لا يقدح فيها إذا كان القتيل موجودا في مكان يختص بالمتهم.
قوله: "ولو بين قريتين استويا فيه".
أقول: وجه ذلك أن التهمة قد تعلقت بأهل القريتين جميعا مع الاستواء بينهما بالنسبة إلى الموضع الذي وجد فيه القتيل وأما إذا كان موضع القتيل أقرب إلى أحدهما فالتهمة متعلقة به تعلقا أقوى من صاحب المكان الأبعد ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد "16/46"، والبيهقي من حديث أبي سعيد قال وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا بين قريتين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذرع ما بينهما زاد البيهقي فوجد إلى أحد الحيين أقرب بشبر فألقى ديته عليهم قال البيهقي تفرد به أبو إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما وقال العقيلي هذا الحديث ليس له أصل وروى الشافعي عن عمر أنه كتب في قتيل وجد بين خيوان ووادعة أن يقاس ما بين القريتين قال الشافعي ليس بثابت إنما رواه الشعبي من الحارث الأعور وقال البيهقي روي عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر ومجالد غير محتج به قال وقد روي عن مطرف عن أبي إسحاق عن الحارث بن الأزمع عن عمر قال ابن حجر لكن لم يسمعه أبو إسحاق من الحارث فقد روى علي بن المديني عن أبي زيد عن شعبة سمعت أبا إسحق يحدث حديث الحارث بن الأزمع يعني هذا قال فقلت يا أبا إسحق من حدثك قال حدثني مجالد عن الشعبي عن الحارث بن الأزمع فعادت رواية أبي إسحق إلى حديث مجالد ومجالد غير محتج به انتهى.
وأما قوله: "أو سفينة أو دار أو مزرعة أو نهر" فالأمر كذلك.
وأما قوله: "ما لم يدع الوارث على غيرهم" فوجهه ظاهر لعدم وجود ما هو المناط وهو التهمة.
وأما قوله: "أو معينين" فقد قدمنا الكلام عليه في أول الباب.
قوله: "فله أن يختار" إلخ
أقول: الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن أبي حثمة ورافع ابن خديج وغيرهما بألفاظ ليس فيها إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا"، [البخاري "3173"، مسلم "1/1669"]، وفي بعضها:"فيحلفون"، [البخاري "12/229"] ، وليس في هذا ما يدل على أن لمدعي القسامة أن يختار لليمين من أراد وهكذا في قسامة أبي طالب ليس فيها أنه اختار الخمسين بل طلب أيمان خمسين فالظاهر أن المتهمين يحلف منهم خمسون يعينونهم من أنفسهم وليس للمدعي إلا ذلك.
وأما اشتراط أن يكون الحالفون من مستوطنيها الحاضرين وقت القتل فوجهه أن مناط القسامة التهمة ولا تهمة على من لم يحضر وقت القتل.
وأما اشتراط كونهم أحرارا فوجهه أنهم يدفعون عن أنفسهم باليمين لزوم الدية ولا يلزم العبيد من ذلك شيء فلا يمين عليهم.
وهكذا اشتراط كونهم ذكورا لأن التهمة لا تتعلق بالنساء وأما استثناء المريض والمدنف فوجهه أن التهمة غير متعلقة به فهو كمن لم يحضر.
قوله: "يحلفون ما قتلناه ولا علمنا قاتله".
أقول: قد ثبت في صحيح البخاري "7/155"، في قسامة أبي طالب التي أقرها الشرع بلفظ:"وإن شئت حلف خمسون من قومك بأنك لم تقتله" فهذا يدل على أنه لا بد أن يحلف الخمسون على أن المعين لم يقتله أو على أنهم لا يعلمون له قاتلا حيث لم يكن معينا وهذا من جملة ما ورد خاصا بالقسامة فإن اليمين على أن المعين لم يقتله وبعد وقوع الدعوى عليه لا يكون إلا باعتبار الرجوع إلى الأصل وهو عدم صدور الفعل من المدعي عليه وفيه ما فيه.
قوله: "ويحبس الناكل حتى يحلف".
أقول: قد قدمنا أن إيجاب اليمين عليهم لأجل إسقاط الدية على ما قررناه من أنه لا دية عليهم بعد حلفهم فمن نكل منهم خوطب بتسليم نصيبه من الدية كما يخاطب من نكل عن اليمين في سائر الحقوق ولا وجه للحبس لأنه قد يكون فيه إكراه عن اليمين الفاجرة.
قوله: "ويكرر على من شاء إن نقصوا".
أقول: قد تقرر أن أيمان القسامة خمسون فحيث لا يتم إلا بالتكرار على بعض من حلف كان ذلك حقا للمدعي لأنه سيترتب على كمال القسامة وهي الخمسون اليمين سقوط الدية ولكن ليس له أن يختار من تكرر عليه اليمين كما قدمنا لأنه ليس له أن يختار من يحلف بل لهم أن يعينوا من يكون التكرار عليه.
وأما كونه يبدل من مات فوجهه انه لا بد من الخمسين اليمين لكن يكون البدل ممن تتعلق به التهمة لا مطلقا.
وأما كونه لا تكرار مع وجود الخمسين فظاهر لأنها ألجأت الضرورة إلى التكرار فلا تكرار مع السعة.
وأما كونها تتعدد القسامة بتعدد ما تجب فيه فظاهر لأنها واجبة لكل قتيل كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "وتلزم الدية عواقلهم".
أقول: قد عرفناك ما هو الصواب في أول الباب فلا نعيده فلا يجب عليهم إذا حلفوا ولا على عواقلهم ويجب في بيت المال مع اللبس كما تقدم.
وأما قوله: "فإن كانوا صغارا أو نساء منفردين" إلخ فالذي ينبغي اعتماده أن التهمة إذا تعلقت بالنساء والصغار حلف من تعلقت به التهمة من النساء وينتظر بلوغ الصغار ثم يحلفون فإن حلفوا أو حلفن فلا ديه عليهن ولا عليهم ولا على عواقلهم وإن لم يحلفوا كانت الدية عليهم وعليهن وأما العواقل فقد تقدم في فصل ضمان العاقلة ما لا يحتاج معه إلى إعادته هنا.
قوله: "فإن وجد بين صفين" الخ.
أقول: قد ثبتت القسامة في وجوده بين قريتين فثبوتها في وجوده بين صفين أولى لأن التهمة أقوى والسبب أظهر فإن كان أحد الصفين أقرب من الآخر كان تعلق التهمة به أقوى إلا أن لا يكون في سلاحهم ما هو المؤثر في الجناية عليه ووجد ذلك في سلاح الصف الأبعد فإن التهمة تنصرف عن الأقربين إلى الأبعدين فما ذكره المصنف هاهنا صواب لأن قوله فعلى الأقرب إليه من ذوي جراحته تدل على أنهم إذا لم يكونوا من ذوي جراحته كانت على ذوي جراحته وإن كان صفهم بعيدا منه.
[فصل
فإن لم يختص أو لم ينحصروا ففي بيت المال ولا تقبل شهادة أحد من بلد القسامة وهي خلاف القياس وتسقط عن الحاملين في تابوت ونحوه وبتعيينه الخصم قبل موته والقول للوارث في إنكار وقوعها ويحلف] .
قوله: "فصل: فإن لم يختص" الخ.
أقول هذا وجه من وجوه الالتباس وقد قدمنا أنها تكون معه على بيت المال وأيضا لا يهدر دم امرئ مسلم.
وأما قوله: "ولا تقبل شهادة أحد من بلد القسامة" فوجهه ما تقدم في الشهادات من أنها