الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الهبة
[فصل
شروطها الإيجاب والقبول أو ما في حكمه في المجلس قبل الإعراض وتلحقه الإجازة وإن تراخي وتكليف الواهب وكون الموهوب مما يصح بيعه مطلقا وإلا فلا إلا الكلب ونحوه ولحم الأضحية والحق ومصاحب مالا تصح هبته فيصح وتمييزه بما يميزه للبيع.
قوله: فصل: "وشروطها الإيجاب والقبول" الخ.
أقول: الهبة هي أن يتكرم على غيره بنصيب من ماله عن طيبة نفس فإذا وقع هذا فهي الهبة الشرعية ولا يشترط في ذلك إيجاب ولا قبول ولا مجلس بل إن قبله الموهوب له ورضي بمصيره إليه ولو بعد مدة مهما كان الواهب باقيا على ذلك العزم فهذه هبة صحيحة وليس في الشرع ما يدل على ألفاظ مخصوصة ولا على مجلس ولا على قبض ومن زعم أن في الشريعة ما يدل على شيء من ذلك فهو مطالب بالدليل وأما كونه الهبة تلحقها الإجازة فهذه الإجازة على نفس الهبة لما عرفناك غير مرة أن تصرف الفضولي لا يصح وإن أجازة المالك لما فعله هو نفس التصرف الذى اقتضى نقل الملك ما مالك إلى مالك وأما اشتراط تكليف الواهب فأمر لا بد منه لأن الهبة تصرف في المال والتصرف فيه لا يصح إلا من جائز وجائز التصرف لا يكون إلا مكلفا وأما كون الموهوب مما يصح بيعه فليس المراد إلا أن يكون مما يصح تملكه للموهوب له وأما استثناء الكلب فلا وجه له لأنه مما لا يصح تملكه فلا يصح بيعه ولا هبته ولا وجه لاستثناء لحم الأضحية لأن يصح تملكه وتمليكه كما في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لأهل الضحايا: "كلوا وادخروا وائتجروا"، [البخاري "5569"، مسلم "28/1971"] .
وأما قوله: "والحق" فقد عرفناك فيما سبق أن الفرق بين الحقوق والأملاك وجعل كل واحد منهما مختصا بشيء مما تحت يد الثابت عليه إنما هو مجرد اصطلاح من بعض أهل الفروع وإذا عرفت ذلك هان عليك الخطب ولم تحتج إلى الاشتغال بما في ذلك من التفاريع والتفاصيل.
وأما قوله: "ومصاحب ما لا يصح هبته" فقد قدمنا أنه إذا انضم إلى جائز البيع غيره صح بيع ما يجوز بيعه وبطل بيع لا يجوز بيعه وأنه لا وجه لتعدي البطلان مما لا يصح بيعه إلا ما يصح بيعه.
وأما قوله: "وتمييزه بما للبيع" فالمعتبر بأن يكون معلوما عند الواهب والموهوب له جملة أو تفصيلا فلو وهبه شيئا مجهولا عندهما ثم فسره من بعد كانت الهبة صحيحة.
[فصل
ويقبل للصبي وليه أو هو مأذونا لا السيد لعبده ويملك ما قبله وإن كره] .
قوله: "فصل: ويقبل للصبي وليه" الخ.
أقول: هذا صحيح لأن الهبة للصبي فيها مصلحة له إذا لم تشتمل على مفسدة راجحة على المصلحة وأما ما وهب للعبد فهو في الحقيقة هبة لسيده عند من يقول إن العبد لا يملك وأما عند من يقول إنه يملك فالقبول إليه لا إلى سيده وأما كونه يملك السيد ما قبله العبد وإن كره فذلك مبني على القول الأول ولكن إذا كره لم تصح الهبة وترجع لمالكها لأن هذا الباب مبني على التراضي.
[فصل
وتصح بعوض مشروط مال فتكون بيعا ومضمر وغرض فيرجع لتعذرهما وفورا في المضمر وله حكم الهبة لا البيع إلا في الربا وما وهب لله ولعوض فللعوض وليس على الراجع ما أنفقه المتهب] .
قوله: "مثل ويصح بعوض مشروط".
أقول: الهبة شرعا ولغة هي التي تكون على جهة المكارمة إذا وقعت المكافأة عليها فذلك أيضا على جهة المكارمة وأما إذا كانت مشروطة بعوض فليس هذه هبة شرعية ولا لغوية بل هذه مبايعة خارجة عن باب الهبة داخلة في باب البيع فتكون كما قال المصنف بيعا فإذا لم يحصل العوض المشروط كان ذلك كعدم تسليم ثمن المبيع فترجع العين لمالكها لفقدان التراضي الذي هو المناط الشرعي كما تقدم وهكذا إذا كان العوض مضمرا وغرضا فإنه إذا لم يحصل رجع الملك لمالكه لأن ذلك كشف على عدم التراضي وطيبة النفس وأما اشتراط الفور فلا جه له لأنه مهما لم يحصل العوض المضمر ولا وقع منه الرضا بمصيره إلى الموهوب له بغير عوض فالملك باق له لفقدان المناط الشرعي وهو التراضي وأما كون للموهوب على عوض مضمر حكم الهبة لا حكم البيع فمن بناء أحكام الشرع على الخيال تارة هكذا وتارة هكذا تأثيرا لمجرد الألفاظ.
قوله: "وما وهب لله ولعوض فللعوض".
أقول: لا مانع من جعل بعض الشيئ هبة خالصة لا عوض فيها وبعضها هبة بعوض فيكون للبعض الأول أحكام الهبة وللبعض الآخر أحكام البيع وأما استدلال من استدل لكلام المنصف بحديث: "إن الله يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك"، فليس المراد بهذا إلا أنه لا يقبل
من الأعمال ما كان على جهة الرياء وليس من هذا هبة بعض الشيء خالصا لله وهبة البعض الآخر بعوض فإن الله سبحانه لم يشاركه غيره فيما هو له ولا فرق بين جعل كل الشيء أو بعضه هبة ولا ورد ما يدل على المنع من ذلك.
أما قوله: "وليس على الراجع ما أنفقه المتهب" فلا وجه له لأنه غرم لحقه بسببه وقد بطل المطلوب من تملك الموهوب فيرجع عليه بما أنفق لأنه انكشف أنه أنفق على مالك الواهب وقد أثم الراجع عن الهبة وصار "كالكلب يعود في قيئة"[البخاري "5/216"، مسلم "5/1622"، أبو داود "3538"، الترمذي "1298"، النسائي "6/265"، ابن ماجة "2387" أحمد "1/217"] ، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحل ما وقع منه من التغريم للموهوب له نعم إذا كان الموهوب له قد علم بأنها لا تطيب نفس الواهب إلا بالعوض المضمر أو كان العوض مشروطا وحصل منه عدم الوفاء بالعوض فهو الجاني على نفسه بعدم تسليم العوض وبالانفاق على ما لم يخلص له ملكه.
[فصل
وبلا عوض فيصح بالرجوع مع بقائهما في عين لم تستهلك حسا أو حكما ولا زادت متصلة ولا وهبت لله أو لذي رحم محرم أو يليه بدرجة إلا الأب في هبة طفله وفي الأم خلاف وردها فسخ وتنفذ من جميع المال في الصحة وإلا فمن الثلث ويلغو شرط ليس بمال ولا غرض وإن خالف موجبها والبيع ونحوه ولو بعد التسليم رجوع وعقد] .
قوله: "فصل: وبلا عوض فيصح الرجوع فيها".
أقول: قد قدمنا حكم الهبة بعوض وأنها لا يحل للموهوب له إلا بالعوض المشروط أو المضمر وإلا كانت ردا على الواهب لأن الرضا الذي هو المناط الشرعي مقيد بحصول العوض ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجه "2387"، عن عب الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل ابن مجمع عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة مرفوعا:"الواهب أحق بهبته ما لم يثبت منها"، قال ابن حجر والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه عن عمر قال البخاري هذا أصح ورواه الدارقطني من هذا الوجه ورواه البيهقي من حديث ابن وهب عن حنظلة عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر عن عمر:"من وهب هبة يرجو ثوابها فهي رد على صاحبها ما لم يثبت منها"، قال البيهقي ورواه عبد الله بن موسى عن إبراهيم ابن إسماعيل عن حنظلة مرفوعا قال ابن حجر صححه الحاكم وابن حزم.
وأما الهبة بلا عوض فاعلم أن أصل معنى الهبة عدم انقضاء العوض لأنها من باب المكارمة فلو لم يرد فيها ما يدل على امتناع الرجوع فيها لكان هذا الأصل يكفي فكيف وقد
يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "2621"، مسلم "7/1622"] ، وغيرهما [النسائي "6/266"، ابن ماجة "2385"ن أحمد "1/280، 342"]، من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه"، وفي لفظ للبخاري "5/234"، "ليس لنا مثل السوء"، فإن هذا الحديث المشمل على هذا التشبيه المفيد للتكريه للرجوع بأبلغ ما يكرهه الإنسان وأعظم ما تنفر عنه نفوس بني آدم يدل أبلغ دلالة على عدم جواز الرجوع فيها ومما يدل على عدم جواز الرجوع ما أخرجه أحمد "2/27، 78"، وأهل السنن [أبو داود "3539"، الترمذي "2132"، النسائي "3703"، ابن ماجة "2377"، وصححه الترمذي "4/442"، وابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس وابن عمر رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده"، والحلال ضد الحرام كما ثبت في اللغة فالرجوع عن الهبة حرام إلا هبة الوالد لولده فإن الشرع قد سوغ له الرجوع كما في هذا الحديث ويؤيده حديث عائشة عند أحمد وأهل السنن "ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم هنيئا"، وصححه حبان وأبو زرعة ويؤيده أيضا ما أخرجه أحمد وأبو دواد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال:"أنت ومالك لوالدك إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئا"، وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن الجارود ويؤيده أيضا ما أخرجه ابن ماجه "2291"، من حديث جابر أن رجلا قال يا رسول الله إن لي مالا وولدا وإن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال:"أنت ومالك لأبيك"، قال ابن القطان إسناده صحيح وقال المنذري رجاله ثقات وفي الباب أحاديث قال ابن حجر في الفتح وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب الجمهور إلا هبة الوالد لولده قال الطبري يخص من عموم الحديث من وهب بشرط الثواب ومن كان والدا والموهوب له ولده والهبة لم تقبض والتي ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء كل ذلك انتهى.
ومن الهبة التي يراد بها العوض وإن لم تذكر هبة الفقير للغني فإنه لا يراد بمثل ذلك المكارمة عرفا بل استجلاب الفائدة بزيادة على ما يحصل للفقير لو باعها وأما هبة الغني للفقير فملعوم أنه لا يراد بها العوض فلا يكون له الرجوع وهكذا الهبة الواقعة بين المتماثلين غنى وفقرا.
أما قوله: "مع بقائهما" فظاهر لا يحتاج إلى تعليل عند مثبتي الرجوع وأما عند غيرهم فبطريق الأولى وهكذا قوله لم تستهلك حسا أو حكما أو زادت زيادة متصلة.
وأما قوله: "ولا وهبت لله" فليس في هذا مزيد تأثير لامتناع الرجوع وإن كان المصنف قد ادعى الإجماع عليه.
وأما قوله: "أو لذي رحم" فليس في هذا التخصيص من المرفوع شيء ما روي عن بعض الصحابة لا تقوم به الحجة فالحق امتناع الرجوع على كل حال بالأدلة التي قدمنا ذكرها إلا الأب في الهبة لولده فإنه يجوز له الرجوع فيها كما قدمنا ولا فرق بين أن يكون الولد صغيرا أو كبيرا.
وأما قوله: "وفي الأم خلاف" فلا يخفاك أن الحديث المشتمل على الاستثناء هو بلفظ
الوالد فإن كان يصدق على الأم كما يصدق الولد على الأنثى فالأم كالأب وإن كان لا يقال على الأم إلا بطريق التغليب فهي داخلة في الاستثناء ويؤيد هذا ما في المصباح قال الوالد الأب وجمعه بالواو والنون والوالدة الأم وجمعها بالألف والتاء والوالدان الأب والأم للتغليب انتهى ويؤيده أيضا الحديث المتقدم بلفظ: "أنت ومالك لأبيك".
قوله: "وردها فسخ".
أقول: هذا مبني على أنه قد وقع العقد إيجابا وقبولا كما تقدم للمصنف فإذا ردها بعد هذا كان الرد فسخا للعقد الواقع بينهما أما لو ردها ابتداء فلا يقال لهذا الرد فسخ لأنه لم يتقدم شيء يصدق عليه مسمى الفسخ بل هذا الرد يوجب عدم ثبوت مقتضى الهبة من الأصل أما عند المصنف فلعدم القبول الذي هو أحد جزئي العقد وأما عندنا فلعدم التراضي من الجهتين الذي هو المناط الشرعي في نقل الأملاك.
قوله: "وينفذ من جميع المال في الصحة وإلا فمن الثلث".
أقول: الهبة إخراج قطعة من المال لمن وهبها له مالكه والكلام في نفوذها مع عدم المانع لا شك فيه وأما التفصيل بين ما كان منها في الصحة وما كان في المرض فمبني على أن الهبة في المرض لها حكم الوصية كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "الثلث والثلث كثير"، ولكن تنزيل غير الوصية من التصرفات منزلة الوصية إذا وقعت حال المرض سيأتي الكلام فيه في الوصايا إن شاء الله تعالى والظاهر نفوذ تصرف المالك في ملكه صحيحا أو مريضا من جميع ماله وينبغي له مع هذا أن لا يدع ورثته عالة يتكففون الناس كما ورد في الحديث فلا يجوز له أن يتصرف بكل ماله لأنه إذا فعل ذلك فقد خالف قوله صلى الله عليه وسلم:"لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"، وهو في الصحيحين [البخاري "3/164"، مسلم "5/1628"، وغيرهما [أبو داود "2864"، الترمذي "2116"، النسائي "6/241، 242"، ابن ماجة "2709"، أحمد "1/179"، من حديث سعد بن أبي وقاص والقصة معه ولكن هذا الحديث ليس فيه إلا مجرد بيان ما هو الأولى والأفضل وليس بعزيمة ومثله حديث: "خير الصدقة ما كان على ظهر غنى"، كما في الصحيحين [البخاري "1427"، مسلم "1034"، وغيرهما [النسائي "3543"، أحمد "3/402، 403، 434"] ، من حديث حكيم بن حزام وفي الباخري من حديث أبي هريرة نحوه.
وأما قوله: "ويلغو شرط ليس بمال ولا عرض وإن خالف موجبها" فلا يخفاك أن يقال الشرط من الواهب يدل على أن الرضا منه منوط بحصول ذلك الشرط فإذا لم يحصل كشف ذلك عن عدم الرضا وإن كان ليس بمال ولا عرض وإن رفع موجبها.
وأما قوله: "والبيع ونحوه" الخ فمبني على ما قدمه المصنف من جواز الرجوع في الهبة بغير عوض وقد قدمنا رد ذلك بالأدلة المتقدمة.
[فصل
والصدقة كالهبة إلا في نيابة القبض عن القبول وعدم اقتضاء الثواب وامتناع الرجوع فيها وتكره مخالفة التوريث فيهما غالبا والجهاز للمجهزإلا لعرف والهدية فيما ينقل تملك بالقبض وتعوض حسب العرف وتحرم مقابلة لواجب أو محظور مشروط أو مضمر كما مر ولا تصح هبة عين لميت إلا إلى الوصي لكفن أو دين والقول للمتهب في نفي الفساد غالبا وشرط العوض وإرادته في التالف وفي أن الفوائد من بعدها إلا لقرينة وأنه قبل إلا أن يقول الشهود بها ما سمعناه أو الواهب وهبت فلم تقبل واصلا كلامه عند "م" أي المؤيد بالله] .
قوله: "فصل: والصدقة كالهبة إلا في نيابة القبض عن القبول".
أقول: القبض ينوب عن القبول في الهبة كما ينوب في الصدقة وأصل الهبة أنها لا تقتضي الثواب كما قدمنا فإن اقتضته فذلك لشرط مظهر أو مضمر ويخرج عن باب الهبة ويصير من باب البيع.
قوله: "وتكره مخالفة التوريث فيهما".
أقول: الأدلة القاضية بتحريم تخصيص بعض الأولاد بشيء دون البعض الآخر أوضح من شمس النهار فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم في هبة بشير لولده النعمان دون سائر أولاده قال: "له إخوة؟ "، قال: نعم قال: "فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ "، قال: لا قال: "فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق"، وهكذا اللفظ في صحيح مسلم "19/1624"، وغيره وفيه التصريح بأن ذلك لا يصلح في الشريعة المطهرة وهو معنى بطلانه وفيه أيضا التصريح بأنه غير حق وغير الحق باطل وفي لفظ عند أحمد من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تشهدني على جور"، فسماه جورا والجور باطل وهذه الألفاظ هي في حديث جابر الذي حكى فيه قصة هبة النعمان من أبيه بشير وفي الصحيحين [البخاري "5/211"، مسلم "9/1623"، وغيرهما [أحمد "4/168"، أبو داود "3542"، الترمذي "1368"، النسائي "6/258، 259"، ابن ماجة "2375"]، من حديث النعمان نفسه قال إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ " قال: لا، قال:"فأرجعه"، ففي هذا الأمر بإراجاع الهبة وليس على هذا زيادة وقد تكلف المجوزون لتخصيص بعض الأولاد بالهبة دون بعض بأجوبة أجابوها من عشرة وجوه ذكرناها في شرح المنتقي ودفعنا ما يستحق الدفع منها فليرجع إليه والحاصل أنه ليس في المقام ما يدفع ما ذكرناه من الروايات الدالة على تحريم التخصيص وأنه باطل مردود غير حق.
قوله: "والجهاز للمجهز إلا لعرف".
أقول: هذا صحيح لأن خروج الشيء عن ملك مالكه لا يكون إلا بما يقتضي خروجه من وجود التراضي بينه وبين من خرج إليه فإن لم يحصل ذلك فالملك باق وإذا جرت الأعراف بأن ما
وقع التجهيز به يصير ملكا لمن وقع التجهيز له فهذا العرف هو في حكم المقصود لهما المتراضى عليه بينهما فكأنه عند التجهيز قد أخرج ذلك عن ملكه بطيبة من نفسه إذا كان هذا عرفا عاما بحيث لا يوجد عرف يخالفه.
قوله: "والهدية فيما ينقل تملك بالقبض".
أقول: الهدية تملك بالتراضي وطيبة النفس وإن كانت باقية في يد المهدي ولو بقيت في يده أعواما فإنها قد صارت في يد المهدي إليه ولا فرق بين منقول وغيره ويجوز له التصرف فيها وهي يد المهدي إلا بما يشترط في القبض كما تقدم في النهي عن بيع الرجل ما ليس عنده ولما لم يكن في قبضه ومن قال إنه يشترط في ملك الهدية القبض فعليه الدليل والحاصل أنه لا فرق بين الهبة والهدية في عدم اشتراط القبض وأما ما أخرجه الحاكم من أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى النجاشي بهدية فمات النجاشي قبل وصولها إليه فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلح للاستدلال به على اشتراط القبض لأناقد عرفناك أن الهدية إنما تملك بالتراضي من الجهتين فهي قبل أن تبلغ إلى المهدي إليه باقية على ملك المهدي حتى يبلغ خبرها إلى المهدي إليه ويرضى بها فتصير حينئذ ملكا له والنجاشي مات قبل أن تصل إليه الهدية وقبل أن يبلغه خبرها ويرضى بها.
قوله: "ويعوض حسب العرف".
أقول: لما كانت المهاداة مبنية على المكارمة واستجلاب المودة كان من تمام ذلك أن تقع المكافأة عليها فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثبت عليها وإذا كان المهدي طالبا للمكافأة قاصدا بها ذلك كما يكون في كثير من الحالات من الفقراء إلى الأغنياء فهذه ليست هدية يراد بها ما يراد بالهدايا من استجلاب المودة واتحاد القلوب كما في حديث أبي هريرة عند البخاري في الأدب المفرد والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا تحابوا"، قال ابن حجر في التلخيص وإسناده حسن وأخرجه مالك في الموطأ من حديث عطاء الخراساني مرفوعا وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة إنما هي ذريعة إلى استجلاب الإحسان من الأغنياء والملوك فيكون لها حكم الهبة بعوض مظهرا أو مضمرا وقد تقدم والمهدي إليه بالخيار إما ردها أو كافأ عليها مكافأة يرضى بها صاحبها كما أخرجه أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح وابن حبان وصححه من حديث ابن عباس أن أعرابيا وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها قال:"أرضيت؟ " قال: لا، قال: فزاده قال: "أرضيت؟ " قال: لا فزاده قال: "أرضيت؟ " قال: نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي"، وأخرجه أبو داود "3537"، والنسائي "6/279، 280"، من حديث أبي هريرة بنحوه وطوله والترمذي "3945"، وذكر أن الثواب كان ست بكرات وكذا رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم وبعض ألفاظ هذا الحديث ورد بلفظ الهدية وبعضها بلفظ الهبة وفي لفظ لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وأيم الله لا أقبل هدية بعد يومي هذا من أحد إلا أن يكون مهاجرا قرشيا أو أنصاريا أو دوسيا أو ثقفيا"، وأما كون الهدية تحرم على واجب أو محظور فظاهر والوجه في ذلك ما تقدم في حلوان الكاهن وفي مهر البغي وما ورد في تحريم
الرشوة وفي هدايا الأمراء فإن الهدية للأمير والقاضي وكذلك الهبة له رشوة وإن كانت مسماة باسم الهدية والهبة وأما كونها لا تصح هبة عين لميت فوجهه فقدان ما قدمنا من وقوع التراضي من الجهتين وهكذا لا يصح إسقاط الدين عنه بل إسقاطه عنه إسقاط عن ورثته لأنه قد تعلق بعد موته بتركته وأما التبرع بالالتزام به عن الميت كما وقع من امتناعه صلى الله عليه وسلم من الصلاة على المديون حتى التزم عنه بعض الحاضرين فوجه ذلك أن الإثم الذي كان لاحقا للميت بترك القصاء قد قام به غيره فسقط عنه ما كان عليه من العقوبة ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "الآن بردت عليه جلدته"، ولا فائدة لقوله إلا إلى الوصي لكفن أو دين لأن هذا إن كان هبة للوصي ليكفن به الميت أو ليقضي دينه فلا شك أن ذلك صحيح لأن الموهوب له حي يقبل الهبة ويرضى بها وإن كان المراد أن الهبة تصح للميت بوساطة الوصي فلا يصح ذلك لأن تمليك الميت باطل سواء كان بواسطة أو بغير واسطة.
قوله: "والقول للمتهب في نفي الفساد".
أقول: لأن الأصل عدمه بعد وجود المناط الشرعي وهو التراضي وهكذا القول قوله في نفي شرط العوض لأن الأصل عدم الشرط وعدم إرادته وأما تقييد المصنف لذلك بالتالف فلا وجه له بل لا فرق بين أن يكون الموهوب باقيا أو تالفا لأن الأصالة المذكورة متحققة فيهما وأما كون القول قوله في أن الفوائد من بعد الهبة إلا لقرينة فينبغي أن يقال إن كانت تلك الفوائد مما لا يمكن حدوثها بعد الهبة كان القول للواهب وإن كانت مما لا يمكن وجودها قبل الهبة كان القول للمتهب وإن حصل الاحتمال فثبوت يد المتهب عليها موجب لكون القول قوله.
وأما قوله: "وأنه قبل" فلا وجه له بل ينبغي أن يكون القول قول الواهب في نفي القبول على ما تقدم للمصنف من اعتبار العقد سواء قال الشهود ما سمعنا أو لم يقولوا وسواء وصل والواهب كلامه أو فصله لأن الأصل عدم القبول.
[فصل
والعمرى والرقبى مؤيدة ومطلقة هبة يتبعها أحكامها ومقيدة عارية تتناول إباحة الأصلية مع الفرعية إلا الولد إلا فوائده والسكنى بشرط البناء إجارة فاسدة ودونه عارية يتبعها أحكامها.
قوله: "فصل: والعمرى والرقبي" الخ.
أقول: الأحاديث الواردة في العمرى والرقبى تدل على أنها هبة للمعمر والمرقب وتورث عنه فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرى ميراث لأهلها"، أو قال:
"جائزة" وفي الصحيحين [البخاري"5/238"، مسلم "25/162"، أيضا من حديث جابر قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له وفي صحيح مسلم وغيره نم حديث جابر:"أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فمن أعمر عمرى فهي للذي أعمر حيا وميتا"، وأخرج وأبو داود والنسائي من حديث زيد بن ثابت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أعمر عمرى فهي لمعمره محياه ومماته لا ترقبوا من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث"، وأخرجه أيضا ابن ماجه "1381"، وابن حبان وفي لفظ لأحمد "3/302" والنسائي "6/274"، من هذا الحديث:"جعل الرقبى للذي أرقبها"، وفي لفظ لأحمد "3/302"، "جعل الرقبي للوارث"، وأخرج أحمد "1/250"، والنسائي "3710"، من حديث ابن عباس بإسناد صحيح العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها وأخرج أحمد والنسائي أيضا بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته"، فهذه الأحاديث تدل على أن العمرى المؤبدة والمطلقة وكذلك الرقبي تقتضي الملك وتورث عمن جعلت له وورد ما يدل على أن العمرى التي تكون للمعمر ولعقبه هي التي يقال فيها:"له ولعقبه" كما في لفظ من حديث جابر: "من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمر وعقبه" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه وفي لفظ لأبي داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث جابر: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبله فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث"، وفي لفظ لأحمد ومسلم وأبي داود عن جابر قال إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقول هي لك ولعقبك فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها وفي رواية للنسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالعمرى أن يهب الرجل للرجل ولعقبه الهبة ويستثنى إن حدث بك حدث ولعقبك فهي إلي وإلى عقبي أنها لمن أعطيها ولعقبه وأخرج أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث جابر أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت فجاء إخوته فقالوا نحن فيه شرع سواء قال فأبى فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها بينهم ميراثا فهذه الروايات كلها عن حديث جابر ومن قوله قد اختلفت كما ترى فإن الروايات الأولى عنه دلت على أن العمرى التي تورث هي ما قيل فيها له ولعقبه والحديث الآخر المروي من طريقة في الرجل الذي جعل لأمه الحديقة حياتها فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها لورثتها تدل على خلاف ذلك.
فالحاصل أنه إذا قيل في العمرى والرقبى لك ولعقبتك كانت تمليكا لمن وقعت له ولمن بعده وإن قال أعمرتك أو أرقبتك فظاهر الأحاديث التي ذكرناها أنها تمليك له وتورث عنه وما روى عن جابر فقد اختلف ما هو مرفوع منه وما كان مدرجا فلا حجة فيه فيجب الرجوع إلى سائر الأحاديث وهي كما عرفت مصرحة بأنها ملك له ولورثته فكان حكم هذه المطلقة عن ذكر العقب حكم ما ذكر فيها العقب وهكذا المؤيدة إذا قال أعمرتك أبدا أو أرقبتك أبدا فإنها