الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقول: هذا مندوب كما قال ووجهه ما أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بإسناد صالح قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى" [ابن ماجة "301"، وأخرج نحوه النسائي وابن السني من حديث أبي ذر وإسناده صحيح.
وينبغي أن يضم إلي الحمد الاستغفار لما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك"[أحمد "6/155"، أبو دأود "30"، الترمذي "7"، ابن ماجة "300"] ، وصححه ابن حبان وابن خزيمة والحاكم.
قوله: "والاستجمار".
أقول: ظاهر الأحاديث أنه واجب لاجتماع الأمر به والنهي عن تركه وظاهرها أنه يكفي ولا يحتاج بعد ذلك إلي أن يستنجي بالماء بل مجرد فعل الاستجمار بالأحجار مطهر وإن لم يذهب الأثر إذ قد فعل ما أمر به من استعمال ثلاثة أحجار.
فإن عدل عن الاستجمار إلي الاستنجاء بالماء فهو أطيب وأطهر وإن جمع بينهما فقد فعل الأتم الأكمل
وأما الأيتار بأحجار الاستجمار فليس ذلك إلا سنة لما في حديث "من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج".
قوله: "ويلزم المتيم إن لم يستنج"
أقول: وكذلك يلزم غير المتيم لأن رفع أثر النجاسة واجب وهي نجاسة معلومة بالضرورة الدينية وقد جعل الشارع الاستجمار بالأحجار كافيا في رفعها فإذا لم ترتفع بالأحجار وجب رفعها بالماء وإذا لم ترتفع بالماء وجب رفعها بالأحجار.
قوله: "ويجزئه جماد جامد" إلي آخر الباب.
أقول: المعنى الذي وقع لأجله الأمر بالاستجمار هو قطع أثر النجاسة ورفع عينها باستعمال ما أمر به الشارع فما نهى الشارع عن الاستجمار به كان غير مجزىء وما لم ينه عنه إن كان لا حرمة له ولا يضر استعماله فهو مجزئ.
وأما الحكم على بعض أضداد هذه الأمور بالإجزاء وعلى بعضها بعدمه والحكم علي بعض أضدادها بالتحريم وعلي بعضها بعدمه، فليس كما ينبغي.
[باب الوضوء
شروطه التكليف والإسلام وطهارة البدن عن موجب الغسل ونجاسة توجبه]
قوله: "شروطه التكليف والإسلام".
أقول: الشرط ما يؤثر عدمه في عدم المشروط كما صرح به أهل أصول الفقه وقد يكون شرطا للطلب وهو المعبر عنه في الفروع شرط الأداء.
وقد يكون شرطا للمطلوب وهو المعبر عنه في الفروع بشرط الصحة وشرط الوجوب والشرط الأول هو الذي يقولون فيه تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب والثاني هو الذي يقولون فيه ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه وهو الذي يعبر عنه أهل الأصول بمقدمة الواجب.
إذا عرفت هذا فالتكليف شرط الطلب أي لا يطلب فعل الوضوء إلا من مكلف وتحصيل هذا الشرط لا يجب لأنه ليس في وسع العبد ذلك والإسلام شرط للصحة أي لا يصلح الوضوء إلا من مسلم ويجب على من لم يكن مسلما تحصيل هذا الشرط بالإسلام ولا يصح منه قبل ذلك وإن كان مكلفا به بمعنى انه يعاقب على تركه لتفريطه في تحصيل شرط ما هو واجب عليه فاعرف هذا فهو واضح ظاهر ومجرد التشكيك في مثله على المقصرين والقعقعة عليهم وصوغ عبارات تبعد عن أذهانهم ليس من دأب من قصد نشر العلم ونفع عباد الله بما يؤلفه لهم ويدونه لقصد إرشادهم.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أن رفع قلم التكليف عن غيرالمكلفين لا ينافي ثبوت الأجر لهم بما عملوه من خير لأن معنى رفع التكليف أنهم غير مكلفين بالأمور الشرعية وليس معناه أنهم لا يؤجرون في شيء مما يفعلونه من القربات وهكذا لا ينافي أمرهم بالصلاة وضربهم على تركها رفع التكليف عنهم فإن ذلك من باب التأديب لهم والتعويد لطبائعهم والتمرين لما يشق عليهم إذا تركوا فعله قبل وجوبه عليهم.
فإن قلت قد زعمت أن الكفار مخاطبون بتحصيل شرط صحة ما شرعه الله لعباده مكلفون بذلك معاقبون على تركه فهل من دليل يدل على ذلك؟.
قلت الكثير الطيب من الكتاب والسنة ولو لم يكن من ذلك إلا قوله سبحانه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 42 – 45]، وقوله سبحانه:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7] . وقوله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 33، 34] .
قوله: "وطهارة البدن عن موجب الغسل".
أقول: لم يدل على هذا الاشتراط دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح بل الثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقدم الوضوء حتى لا يبقى منه إلا غسل الرجلين ثم يفيض الماء على بدنه ثم يغسل رجليه بعد الفراغ من غسل بدنه ثم يصلي ولا يحدث بعد ذلك وضوءا.
هذا معلوم من فعله صلى الله عليه وسلم وأمته أسوته ولم يثبت ما روي أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم تقديم الغسل على الوضوء لا من وجه صحيح ولا من وجه حسن.
قوله: "ونجاسة توجبه"
أقول: لا وجه لهذا الاشتراط لأن خروج النجاسة التي توجب الوضوء لا يلزم منه وجوب
غسلها أو شرطيته قبل الوضوء فإن الناقض للوضوء إنما هو مجرد خروجها وقد خرجت قبل أن يشرع في هذا الوضوء الذي جعل غسلها شرطا لصحته نعم إذا كانت النجاسة في الفرجين أو أحدهما فتقديم غسلها متعين لأن لمس الفرج من نواقض الوضوء إذا كان باليد أما إذا كان غسلها بشيء غير اليد فلا بأس بأن يتوضأ ثم يزيل النجاسة من فرجيه أو أحدهما.
ولا شك أن رفع هذه النجاسة واجب ولكن النزاع في وجوب تقديم رفعها على الوضوء في كون رفعها شرطا للوضوء لا يصح إلا به وهذا وإن لم تقبله أذهان أهل التقليد فليس علينا إلا أيضاح الحق وإبطال ما لم يقم عليه دليل.
[فصل:
"وفروضه غسل الفرجين بعد إزالة النجاسة والتسمية حيث ذكرت وإن قلت أو تقدمت بيسير ومقارنة أوله بنيته للصلاة أما عموما فيصلي ما يشاء أو خصوصا فلا يتعداه ولو رفع الحدث إلا النفل فيتبع الفرض والنفل ويدخلها الشرط والتفريق وتشريك النجس أو غيره والصرف لا الرفض والتخيير والمضمضة والاستنشاق بالدلك والمج مع إزالة الخلالة والاستنثار وغسل الوجه مستكملا مع تخليل اصول الشعر ثم غسل اليدين مع المرفقين وما حإذاهما من يد زائدة وما بقي من المقطوع إلي العضد ثم مسح كل الرأس والأذنين فلا يجزىء الغسل ثم غسل القدمين مع الكعبين والترتيب وتخليل الأصابع والأظفار والشجج] ".
قوله: "فصل وفروضه غسل الفرجين بعد إزالة النجاسة".
أقول: جعل الفرجين عضوا من أعضاء الوضوء لم يثبت عن عالم من علماء الإسلام قط لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من تابعيهم ولا من أهل المذاهب الأربعة ولا من الأئمة من أهل البيت.
وذكر المصنف له في كتابه هذا قد تبع فيه من تقدمه من المصنفين في الفروع من أهل هذه الديار وكلهم يجعل ذلك مذهبا للهادي وهو أجل قدرا من أن يقول به وليس في كتبه حرف من ذلك قط.
ولا أظن هذه المقالة إلا صادرة من بعض الموسوسين في الطهارة وأهل العلم بأسرهم بريئون عنها كما أن الشريعة المطهرة بريئة عنها وليس في الكتاب ولا في السنة حرف يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ومن استدل لهما بما ورد في الاستنجاء بالماء فهو لا يدري كيف الاستدلال فإن النزاع ليس هو في رفع النجاسة من الفرجين بل في غسلهما للوضوء بعد زالة النجاسة كما ذكره المصنف هنا وذكره غيره.
وقد قدمنا لك أن الاستجمار بالأحجار يكفي كما دلت عليه الأدلة ودين الله غير محتاج إلي أن يبلغ شكوك أهل الشكوك في الطهارة إلي إثبات عضو زائد للوضوء الذي شرعه الله.
وقد كان شكهم مرتفعا بما جزموا به من إيجاب رفع نجاستيهما بالماء وعدم الاكتفاء بالأحجار فما بالهم لم يقنعوا بذلك بل أوجبوا غسلا آخر بعد رفع النجاسة وجعلوا هذا الغسل فرضا على عباد الله وجزموا بأن الفرجين عضوين من أعضاء الوضوء وأن من ترك غسلهما للوضوء بعد غسل النجاسة فهو كمن ترك غسل أحد أعضاء الوضوء المذكورة في القرآن فيا لله العجب.
قوله: "والتسمية حيث ذكرت وإن قلت أو تقدمت بيسير"
أقول: حديث "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"[أحمد "2/418"، أبو دأود "101"، ابن ماجة "399"] ، وقد روي من طرق عن جماعة من الصحابة أبي هريرة وأبي سعيد وسعيد بن زيد وعائشة وسهل بن سعد وأبي عبيدة وأم سبرة وكذلك روي من طريق علي وأنس وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها.
قال أبو بكر بن أبي شيبة ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وقال ابن كثير في الأرشاد طرقه يشد بعضها بعضا فهو حديث حسن أو صحيح.
وقال ابن حجر الظاهر أن مجموع الأحاديث تحدث منها قوة فتدل على أن له أصلا وهذه الصيغة أعني قوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" - إن كان النفي فيها متوجها إلي الذات كما هو الحقيقة دل ذلك على انتفاء الوضوء بانتفاء التسمية والمراد انتفاء الذات الشرعية.
وإن كان متوجها إلي الصحة كما هو المجاز الأقرب إلي الحقيقة لأن نفي الصحة يستلزم نفي الذات دل على عدم صحة وضوء من لم يسم.
وإن كان متوجها إلي الكمال الذي هو أبعد المجازين من الحقيقة لأنه لا يدل على نفي الذات ولا على نفي صحتها دل ذلك على صحة الوضوء لكن لا على جهة الكمال.
فالواجب الحمل على المعنى الحقيقي فإن قامت قرينة تصرف عنه وجب الحمل على المجاز القريب من الذات وهو الصحة فإن وجدت قرينة تدل على الصحة كان النفي متوجها إلي الكمال.
فاعرف هذا واستعمله فيما يرد عليك تنتفع به.
وقد جعل صاحب ضوء النهار هذا النفي متوجها إلي الكمال قال قالوا حديث: "من ذكر الله أول وضوئه طهر جسده كله ومن لم يذكره لم يطهر منه إلا مواضع الوضوء" أخرجه رزين من حديث أبي هريرة انتهى.
ولا يخفاك أن هذه النسبة في التخريج إلي رزين ليست كما ينبغي فرزين رجل أراد أن يجمع بين الأمهات الست في مصنف مستقل ثم وجدت في مصنفه أحاديث لم يكن لها في الأمهات أصل ولا وجدت في شيء منها ثم تصدى للجمع بين الأمهات ابن الأثير في كتابه الذي
سماه جامع الأصول وذكر تلك الأحاديث التي زادها رزين معزوة إليه فأجاد وأفاد.
فما هو معزو إليه فالمراد أنه ليس في الأمهات التي تعرض رزين للجمع بينها.
وقد قدح فيه بعض أهل العلم ولعمري إن ذلك قادح فادح وهو وإن كان من علماء الإسلام ولكنه فعل ما لا يفعله الثقات.
إذا عرفت هذا فاعلم أن عزو الجلال للحديث إليه لا طائل تحته فليس رزين ممن يخرج الأحاديث وفي الأحاديث التي زادها تهمة ظاهرة فليس فيما ينقل عنه وينسب إليه حجة أصلا.
فإن قلت فهل أخرج هذا الحديث الذي عزاه إلي رزين أحد من المخرجين للأحاديث قلت أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعيفان مرداس بن محمد ومحمد بن ابان وأخرجه الدارقطني والبيهقي أيضا من حديث ابن مسعود وفي إسناده يحيى بن هاشم السمسار وهو متروك وأخرجاه أيضا من حديث ابن عمر وفيه أبو بكر الداهري وهو متروك.
قال البيهقي بعد إخراجه وهذا أيضا ضعيف أبو بكر الداهري غير ثقة عند أهل العلم بالحديث ولا يخفاك أن هذه الطرق لا تقوم بها حجة اصلا ولا يصح أن يكون من الحسن لغيره لأنها من طريق المتروكين والضعفاء بمرة فلا يقوى بعضها بعضا.
وقد استدل البيهقي على عدم وجوب التسمية بحديث رفاعة بن رافع بلفظ: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه" الحديث.
واستدل النسائي في المجتبي وابن خزيمة والبيهقي عن استحباب التسمية بحديث أنس قال طلب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءا فلم يجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل مع أحد منكم ماء؟ " فوضع يده في الإناء وقال: "توضؤوا باسم الله".
وأصله في الصحيحين بدون هذه الزيادة وأنت خبير بأنه لا دلالة في هذين الحديثين على ما استدلوا بهما عليه لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام.
ومما يؤيد دلالة أحاديث التسمية على الوجوب بل على عدم صحة الوضوء بدونها حديث "كل أمر ذي بال لا يذكر على أوله اسم الله فهو أجذم" لا كما زعم بعضهم أن هذا الحديث يدل على عدم وجوب التسمية في الوضوء.
قوله: "ومقارنة أوله بنيته للصلاة".
أقول: ظاهر حديث "إنما الأعمال بالنيات"[البخاري "6689"، مسلم "155/1907"، أبو دأود "2201"، الترمذي "1647"، النسائي "75" و "3437"] ، وحديث "لا عمل إلا بنية" ونحوهما أن النية إذا عدمت عدم الوضوء وما كان هكذا فهو شرط فقول من قال إن النية شرط هو الظاهر.
وأما قولهم: إن الشرط يجب استصحابه في جميع المشروط فالمراد أنه يستمر عليه ولا
يجيء بما يبطله كالوضوء فإنه شرط في الصلاة وليس معنى استصحابه فيها إلا أنه لا يقع منه حدث قبل فراغها فيبطل وضوءه.
وهكذا النية في الوضوء والصلاة وغيرهما ليس المراد باستصحابها في المشروط وهو المنوي إلا مجرد البقاء عليها وعدم صرفها إلي غيره.
فهذا معنى استصحاب الشرط في جميع المشروط.
فإن قلت ما الدليل على أن النية إذا عدمت عدم الوضوء ونحوه من المنويات؟.
قلت لأن هذا التركيب هو الذي يسميه أهل الأصول المقتضي وهو ما لا يتم معناه إلا بتقدير محذوف يتم به الكلام والمقدم تقدير المعنى الحقيقي أي إنما وجود الأعمال أو ثبوتها بالنية أو لا صلاة موجودة أو ثابتة إلا بالنية.
وهذا التقدير يدل على انتفاء ذات الصلاة بانتفاء النية.
لا يقال إن الذات قد وجدت فلا يصح توجه النفي إليها لأنا نقول إن المراد الذات الشرعية وتلك الذات التي وجدت غير شرعية.
وعلى تقدير أن ثم مانعا يمنع من تقدير ما يدل على انتفاء الذات فالواجب تقدير أقرب المجازين إلي الذات كما قدمنا في البحث الذي قبل هذا.
فيقال إنما صحة الأعمال بالنيات أو لا صحة لعمل إلا بنية.
هذا يدل على أن العمل لا يصح بدون نية فقد أثر عدمها في عدم المنوي وذلك هو معنى الشرط ولا يصح ها هنا تقدير الكمال لعدم وجود دليل يدل عليه لكونه مجازا بعيدا.
وأما قوله: "بنيته للصلاة" فاعلم أن الحدث مانع من فعل الصلاة فإذا نوى رفعه فقد ارتفع المانع فيصلي ما شاء من فرض ونفل فلا وجه لقوله بنيته للصلاة ولا لما بعده فإنه إذا قد ارتفع المانع لم يزل المتوضىء متوضئا حتى يعود عليه حكم الحدث فيعود المانع.
وقبل عوده يصلي ما شاء عموما وخصوصا فرضا ونفلا.
ولا وجه أيضا لما ذكره من قوله يدخلها الشرط فإنه إذا ارتفع المانع لم يزل مرتفعا حتى يعود ولا يصح أن يقيده بشرط لأن الوضوء إذا وقع على الصفة المشروعة مع أرادة ذلك الفعل وقصده فقد وقع مطابقا لما وقع به الأمر وذلك هو الوضوء الشرعي الرافع للحدث المانع من الصلاة.
وأما ما ذكره من أنه يدخل النية التفريق أي إيقاعها عند كل عضو فإن كل ذلك بمعنى استحضار العزم الذي وقع منه عند الشروع وهو رفع المانع من الصلاة فلا بأس بذلك وإن كان المراد تكرير العزم عند كل عضو فلا يبعد أن ذلك بدعة.
وأما تشريك النجس فالنجاسة إذا كانت في أعضاء الوضوء وجب تقديم غسلها حتى تزول عينها ولونها وطعمها وعرفها فإذا فرغ من ذلك غسل العضو غسل الوضوء ولا يصح أن يكون الغسل لرفع الحدث والنجس جميعا وبعد زوال النجاسة لا معنى لتشريكها.
وما ذكره من الصرف والرفض والتخيير فهو مبني على ما ذكره من أنه لا بد أن ينوي
الوضوء للصلاة وقد عرفت أنه يكفي مجرد رفع المانع وهو الحدث ولا يصح صرف نفس رفع المانع ولا رفضه ولا التخيير بينه وبين شيء آخر.
قوله: "والمضمضة والاستنشاق"
أقول: القول بالوجوب هو الحق لأن الله سبحانه قد أمر في كتابه العزيز بغسل الوجه ومحل المضمضة والاستنشاق من جملة الوجه.
وقد ثبت مدأومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في كل وضوء ورواه جميع من روى وضوءه صلى الله عليه وسلم وبين صفته فأفاد ذلك أن غسل الوجه المأمور به في القرآن هو مع المضمضة والاستنشاق.
وأيضا قد ورد الأمر بالاستنشاق والاستنثار في أحاديث صحيحة وأخرج أبو دأود والترمذي من حديث لقيط بن صبرة بلفظ "إذا توضأت فمضمض"[أبو دأود "2366"، النسائي "87"، ابن ماجة "407"، الترمذي "788"] ، وإسناده صحيح وقد صححه الترمذي والنووي وغيرهما ولم يأت من أعله بما يقدح فيه.
قوله: "مع تخليل أصول الشعر".
أقول: الأحاديث في تخليل اللحية وقد وردت من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة وفيها الصحيح والحسن والضعيف وقد صحح بعضها الترمذي في جامعه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والدارقطني والحاكم وابن دقيق العبد وابن الصلاح وحسن بعضها البخاري وما دون ذلك ينتهض للاحتجاج به وفي بعضها الحكاية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع زيادة وهي قوله: "بهذا أمرني ربي" ومجرد الفعل المستمر يدل على أنه بيان لما في القرآن من قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية لأن اللحية والحاجبين والشارب كلها نابتة في الوجه ولم يأت من ضعف أحاديث تخليل اللحية بما يقدح في الاحتجاج وليس ذلك إلا باعتبار بعض الطرق وأما باعتبار الكل فلا وقد قامت الحجة بتصحيح من صححها وتحسين من حسنها كما ذكرنا ومن علم حجة على من لا يعلم وبهذا تعرف أن ما روي عن أحمد بن حنبل من أنه لم يثبت في تخليل اللحية حديث صحيح وأن أحسن شيء فيه حديث شقيق عن عثمان وروي مثله عن ابن أبي حاتم عن أبيه لا يعارض ما ذكرنا عن أولئك الأئمة.
قوله: "ثم غسل اليدين مع المرفقين".
أقول: كلام أهل اللغة والنحو في كون إلي للغاية أو بمعنى مع معروف وقد ذهب إلي كل قول طائفة وذهب قوم إلي التفصيل فقالوا إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها كما في هذه المسألة كانت بمعنى مع وإن لم يكن من جنسه كما في قوله تعالي: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلي اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، كانت للغاية فلا يدخل ما بعدها فيما هو قبلها.
والحق احتمالها للأمرين فإذا ورد ما يدل على أحدهما تعين وإن لم يرد ما يدل على أحدهما كان الكلام في ذلك كالكلام في اللفظ المشترك بين معنيين وقد ورد ها هنا ما يدل على أحد المعنيين وهو أنها بمعنى "مع".
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ حتى أشرع في العضد وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به".
وفي إسناده القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل وفيه كلام معروف.
وفي رواية للدارقطني من حديث عثمان أنه غسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضوين وأخرج البزار من حديث وائل بن حجر قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثم يديه فغسل حتى جأوز المرفق.
قوله: "وما حإذاهما من يد زائدة"
أقول: لا وجه لاعتبار المحإذاة وليس مجرد المحإذاة للمرفقين مما يوجب أن يكون للمحإذاة من ذلك العضو الزائد حكم الأصل ولا يجب غير غسل اليد الأصلية إلا إذا كان العضو الزائد نابتا في المحل الذي يجب غسله فإنه داخل في مسمى اليد وأما النابت في غير ذلك المحل فليس بداخل في مسمى اليد التي ورد الشرع بغسلها.
وأما ما ذكره من وجوب غسل ما بقي من العضو الذي يجب غسله بعد قطع بعضه فلا شك في ذلك لأن الوجوب الذي كان قبل القطع لا يرتفع بالقطع وإن كان الباقي يسيرا مهما كان مما يجب غسله.
قوله: "ثم مسح كل الرأس"
أقول: وجه إيجاب مسح الكل أن مسمى الرأس حقيقة هو جميعه ولكن محل الحجة ها هنا هو ما يفيده إيقاع المسح على الرأس وهو يوجب المعنى الحقيقي جزءا من أجزائه كما تقول ضربت رأسه وضربت برأسه فإنه يوجد المعنى بهذا التركيب بلإيقاع الضرب على جزء من أجزاء الرأس.
ومن قال إنه لا يكون ضاربا لرأسه حقيقة إلا إذا وقع الضرب على كل جزء من أجزائه فقد جاء بما لا يفهمه أهل اللغة ولا يعرفونه ومثل هذا إذا قال القائل مسحت الحائط ومسحت بالحائط فإن المعنى للمسح يوجد بمسح جزء من أجزاء الحائط ولا ينكر هذا إلا مكابر وبهذا تعرف معنى قوله تعالي: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، ودع عنك ما أطال الناس القول فيه من الكلام في معاني الباء وفي معنى الرأس حقيقة ومجازا فإن ذلك تطويل بلا طائل.
وإذا عرفت الآية الكريمة فاعلم أن السنة المطهرة تعضد ذلك وتقويه فإنه صلى الله عليه وسلم
مسح جميع رأسه واقتصر في بعض الأحوال على مسح بعضه مكملا على العمامة تارة وغير مكمل عليها أخرى فكان ذلك مطابقا لما افاده القرآن ولا شك أن الأحسن والأحوط مسح كل الرأس على الهيئة التي كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب ما ذكر ذلك أئمة الحديث في كتبهم التي هي دوأوين الإسلام ولكن لم يقم دليل على أن ذلك واجب متعين.
وكيف يقال ذلك وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالفه ودلت الآية على ما هو أوسع منه.
قوله: "والأذنين".
أقول: قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسحهما مع مسح رأسه وثبت أنه مسح ظاهرهما وباطنهما كما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن منده.
وأخرج أبو دأود والبزار من حديث تعليم علي بن أبي طالب وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح ظهور أذنيه وإسناده حسن.
ومن ذلك حديث: "الأذنان من الرأس"[أبو دأود "134"، الترمذي "37"، ابن ماجة "444"، أحمد "5/268"] ، وهو مروي من طريق ثمانية من الصحابة وفي بعض أسانيدها مقال وهي يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها.
والحاصل أن مسح ظاهرهما وباطنهما هو الهيئة الكاملة كما ذكرنا في مسح كل الرأس.
وأما أن ذلك واجب متعين فلا بل يجزىء ما يصدق عليه مسمى المسح كما قلنا في الرأس.
قوله: "ثم غسل القدمين مع الكعبين"
أقول: قد أطال أهل العلم الكلام على القراءتين في قوله سبحانه: {وَأَرْجُلَكُمْ} ولا شك أن ظاهرهما أنه يجزئ الغسل وحده والمسح وحده وهما قراءتان صحيحتان لكنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح للرجلين قط بل الثابت عنه في جميع الروايات أنه كان يغسل رجليه وثبت عنه ما يدل على أن الغسل لهما متعين كما في حديث أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قال بعد فراغه من الوضوء: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"[ابن ماجة "419"، وكان ذلك الوضوء مع غسل الرجلين وقال للأعرأبي: "توضأ كما أمرك الله" [ابن ماجة 665]، ثم ذكر له صفة الوضوء وفيه غسل الرجلين وثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال:"ويل للأعقاب من النار"[أحمد "6/81 و 84"، ابن ماجة "451"، مسلم "240] ، قال ذلك لما رأى جماعة وأعقابهم تلوح.
ولهذا وقع الإجماع على الغسل قال النووي ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به.
وقال ابن حجر في الفتح إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا علي وابن عباس وأنس وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك.
وبالجملة فاستمراره صلى الله عليه وسلم على الغسل وعدم فعله للمسح أصلا إلا في المسح على الخفين وصدور الوعيد منه على من لم يغسل وتعليمه لمن علمه أنه يغسل رجليه وقوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" يدل على أن قراءة الجر منسوخة أو محمولة على وجه من وجوه الإعراب كالجر على الجواز أو محمولة على المسح على الخفين الثابت ثبوتا أوضح من شمس النهار حتى قيل إنه روي من طريق أربعين من الصحابة وقيل من طريق سبعين منهم وقيل من طريق ثمانين منهم.
والكلام في غسل الكعبين هنا كالكلام في غسل المرفقين وقد تقدم فلا نعيده.
قوله: "والترتيب"
أقول: هذه هيئة واجبة ولا يحسن جعلها من جملة فرائض الوضوء وكذلك قوله فيما بعد "وتخليل الأصابع والأظفار والشجج"، فإن جعل ذلك من جملة الفرائض فيه نوع تسأهل وقد ثبت عن الشارع فعلا وتعليما أنه غسل أعضاء الوضوء مقدما لما قدمه القرآن ومؤخرا لما أخره كذلك ثبت عن الحاكين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم والمعلمين لهم فهذا هو الوضوء الذي شرعه الله لعباده في كتاب.
ومن زعم أنه يجزئ وضوء غير مرتب على ذلك الترتيب فقد خالف الجادة البيضاء والطريقة الواضحة التي لا يزيغ عنها إلا زائغ.
وأما كون الوأو لا تفيد الترتيب فهذا لو لم يرد البيان النبوي وأما بعد وروده دائما مستمرا فلا.
ثم قوله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وضوءا مرتبا: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وقوله للأعرأبي: "توضأ كما أمرك الله" ثم علمه الوضوء مرتبا على ما في القرآن يدلان دلالة بينة واضحة أن ذلك واجب متعين لا يجوز المخالفة له بحال ولم يصب من قال إن الإشارة بقوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" إلي نفس الفعل لا إلى هيئته فإن ذلك دعوى بلا دليل بل الإشارة أي إشارة كانت إلي فعل أي فعل كان إلي الفعل الذي له تلك الهيئة لا إلي الفعل مجردا عنها فإن ذلك مما لا يدل عليه عقل ولا نقل.
[فصل
"وسننه غسل اليدين أولا والجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة وتقديمهما على الوجه والتثليث ومسح الرقبة وندب السواك قبله عرضا والترتيب بين الفرجين والولاء والدعاء وتوليه بنفسه وتجديده بعد كل مباح وإمرار الماء على ما حلق أو قشر من أعضاء] ".
قوله: فصل: "وسننه غسل اليدين أولا".
أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم وحكاه من حكاه من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمهم لوضوئه ومن ذلك ما هو في الصحيحين ومنه ما هو في غيرهما ولا شك في مشروعيته وأما قول من قال بالوجوب فلا وجه له لأن غسل اليدين قبل الوضوء لم يكن مما في القرآن الكريم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرأبي "توضأ كما أمرك الله" يعني في القرآن.
أما حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده" فهو خاص بمن قام من النوم فعلى تقدير دلالته على الوجوب لا يدل
على وجوب غسلها عند كل وضوء بل في هذه الحالة الخاصة بمن قام من النوم.
واعلم أن المشروع غسلهما ثلاثا كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عثمان في حكايته لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفرغ الماء على كفيه ثلاث مرات يغسلها وأخرج أحمد والنسائي من حديث أوس بن أوس الثقفي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فاستوكف ثلاثا أي غسل كفيه ثلاثا.
قوله: "والجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة".
أقول: كان ينبغي للمصنف رحمه الله أن يزيد لفظ ثلاثا فيقول والجمع بين المضمضة والاستنشاق ثلاثا بغرفة كما كان ينبغي له أن يقول وسننه غسل اليدين ثلاثا أولا لما تقدم في غسل اليدين وكذلك هنا لأن الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم هو الجمع بين المضمضة والاستنشاق ثلاثا بغرفة كما في اصحيح البخاري من حديث عبد الله بن زيد في تعليمه لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تمضمض واستنشق ثلاث مرات من غرفة واحدة.
والروايات المطلقة عن لفظ ثلاثا ينبغي أن تحمل على هذه الرواية المقيدة بالثلاث فإن قلت قد لا يتسع الكف للجميع بين المضمضة والاستنشاق منه ثلاث مرات.
قلت إذا لم يتمكن المتوضىء من ذلك أما لضيق كفه أو لعدم حفظها لما فيها فذلك مما يسوغ له أن يكرر الغرفات جامعا بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة.
وقد ورد الفصل بين المضمضة والاستنشاق كما في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق وقد أعلوا هذا الحديث بجهالة مصرف والد طلحة ولكنه قد حسن إسناده ابن الصلاح في كلامه على المهذب وقد وثق ابنه طلحة ابن معين وأبو حاتم وكانوا يسمونه سيد القراء.
قوله: "وتقديمها على الوجه".
أقول: هذا هو الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم ومن حكاية الحاكين لوضوئه في الصحيحين وغيرهما ولكنه قد أخرج أحمد وأبو دأود والضياء في المختارة عن المقدام بن معد يكرب أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثلاثا ثم مسح برأسه وأذنيه. [أحمد "4/132"، أبو دأود "121"] ، الحديث.
وأخرج الدارقطني عن الربيع وفيه: "ثم يتوضأ فيغسل وجهه ثلاثا ثم يمضمض ويستنشق ثلاثا" الخ الحديث وهو من طريق شيخ الدارقطني إبراهيم بن حمادة عن العباس ابن يزيد عن سفيان بن عيينة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ والكلام في عبد الله بن محمد بن عقيل معروف وللحديث طرق وألفاظ مدارها عليه وقد أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجة.
وطريقة الجمع بين هذه الأحاديث أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم أخر المضمضة في هذين الحديثين لبيان الجواز فيكون هذا في حكم المخصص لما تقدم في الترتيب بين أعضاء الوضوء.
قوله: "والتثليث".
أقول: قد ورد في مشروعية التثليث أحاديث كثيرة وورد في إجزاء الوضوء مرة مرة ما أفاد أن الزيادة على المرة مسنونة غير واجبة ولكن الأحاديث الصحيحة الكثيرة أن المسح بالرأس مرة واحدة ولم يثبت في تثليثه ما يصلح للإحتجاج به فالتثليث سنة إلا في مسح الرأس وقد أوضحت ذلك في شرح المنتقى وذكرت جميع ما ورد في أفراد مسحه وفي تثليثه وتعقبت كل رواية من روايات التثليث فمن أراد الاستيفاء فليرجع إليه.
قوله: "ومسح الرقبة".
أقول: لم يثبت في ذلك شيء يوصف بالصحة أو الحسن وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أحاديث وهي وإن لم تبلغ درجة الاحتجاج بها فقد أفادت أن لذلك أصلا لا كما قال النووي إن مسح الرقبة بدعة وإن حديثه موضوع وقال ابن القيم في الهدى لم يصح عنه في مسح العنق حديث ألبتة انتهى.
وهذا مسلم ولكن لا تشترط الصحة في كل ما يصلح للحجية فإن الحسن مما يصلح للحجية وكذلك الأحاديث التي كل حديث فيها ضعيف وكثرة طرقها يوجب لها القوة فتكون من قسم الحسن لغيره.
قوله: "وندب السواك".
أقول: جعل السواك مندوبا مع جعل ما قبله سننا من غرائب التصنيف وعجائب التأليف فإن الأحاديث الثابتة في السواك قولا وفعلا أوضح من شمس النهار مع كونها في غاية الكثرة والصحة فكيف كان السواك مندوبا وتلك الأمور المتقدمة من أول الفصل إلي هنا مسنونة وما المقتضى لحط رتبة السواك عن رتبتها وهي دونه بمراحل وأكثرها لم يرد فيه إلا مجرد الفعل فقط وسيأتي للمصنف في كتاب الصلاة أن المسنون ما لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به وإلا فمستحب والمستحب في اصطلاحه يرادف المندوب فكان عليه أن يحكم للسواك بأنه مسنون فقد لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به ولولا قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"[البخاري "2/887"، مسلم "252"، أبو دأود "46"، الترمذي "22"، النسائي "7"، ابن ماجة "287"] لكانت الأوامر الواردة فيه باقية على حقيقتها وأن يحكم لمثل الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة بأنه مندوب فقط.
قوله: "والترتيب بين الفرجين".
أقول: قد قدمنا أن عد الفرجين عضوا من أعضاء الوضوء من غرائب هذه الديار وأهلها ولم يكتف المصنف رحمه الله بذلك حتى أبان لهما هذه الهيئة الترتيبية وحكم لها بالندب.
ويالله العجب من هذه الأباطيل الموضوعة من المصنفات التي يقصد بها مصنوفها إرشاد العباد إلي ما شرعه الله لهم وتسهيل حفظها عليهم فإن هذا من التقول على هذه الشريعة المطهرة بما لم يكن فيها ومن تكليف الأمة المرحومة بما لم يكلفها الله به ولا يحمل القائل بذلك
على تعمد الإتيان بالباطل بل أحسن المحامل له ولأمثاله من المشتغلين بالفروع المصنفين فيها أن يقال إنه لا إلمام لهم بالأدلة الشرعية ولا شغلوا أنفسهم بشيء منها ولهذا نفقت عندهم هذه الأباطيل وراجت على عقولهم هذه الأضاليل ولكن ما لمن كان بهذه المنزلة والتعرض للتصنيف في الأمور الدينية التي لا تؤخذ إلا عن الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما بوجه من وجوه الدلالة.
قوله: "والولاء".
أقول: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في وضوئه ولا عمن حكى وضوءه من الصحابة أنهم فرقوا بين أعضاء الوضوء وترك الموالاة بينها بل كانوا يغسلون الأول فالأول غير مشتغلين بعمل آخر فيما بين أعضاء الوضوء ولا واقفين بين غسل الأعضاء فالتفريق بدعة مخالفة لما كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهي رد على فاعليها ولا يخلص فاعلها عن كونه مبتدعا ما يتمسك به من فعل صحأبي قد روي عنه ذلك كما أخرجه البيهقي عن ابن عمر أنه توضأ في السوق فغسل يديه ووجهه وذراعيه ثلاثا ثلاثا ثم دخل المسجد فمسح خفيه بعد أن جف وضوؤه وصلى.
قال البيهقي وهذا صحيح عن ابن عمر وقد علقه البخاري في الغسل ولا يخفاك أن فعل الصحأبي لا يقوم به الحجة في أقل حكم من أحكام الشرع فكيف بمثل هذا؟.
وأخرج البيهقي أيضا أن رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم وقد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع فأحسن وضوءك" قال البيهقي رواه مسلم [مسلم "31/243"] .
وهذا ليس فيه ما يدل على جواز التفريق بل ظاهر قوله ارجع فأحسن وضوءك أنه يعيد الوضوء من أوله.
وعلى تسليم أنه أراد بقوله فأحسن وضوءك غسل موضع ذلك المتروك من ظهر القدم فليس تكميل غسل العضو كترك غسله كله بعد غسل ما قبله حتى يمضي وقت فإن التفريق إنما يكون هكذا.
ومثل هذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي من حديث ابن مسعود أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يغتسل من الجنابة فيخطيء بعض جسده الماء قال: "ليغسل ذلك المكان ثم ليصل" وفي اسناده عاصم بن عبد العزيز وليس بالقوي كما قال النسائي والدارقطني وقال البخاري فيه نظر.
وقد استدل صاحب فتح الباري على جواز التفريق بأن الله أوجب غسل أعضاء الوضوء فمن غسلها فقد أتى بما وجب عليه ويجاب عنه بأن هذا الغسل الذي أوجبه الله قد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله سبحانه ليبين للناس ما نزل إليهم ولم يثبت عنه التفريق من فعله الدائم المستمر طول عمره ولا جاء في قوله ما يدل على ذلك بوجه من وجوه الدلالة.
قوله: "والدعاء"
أقول: لم يثبت في ذلك شيء وما روى فهو أما موضوع أو في إسناده كذاب أو متروك
والذي ثبت في الوضوء من الأذكار هو التسمية في أوله وفي آخره "أشهد أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"[مسلم "17/234"، الترمذي 55"، أحمد "4/145" – 146 – 153"، أبو دأود "169"، النسائي "148"، ابن ماجة "470"] ، ولم يثبت غير هذا لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف.
قوله: "وتوليه بنفسه"
أقول: الأمر القرآني لكل قائم إلي الصلاة أن يغسل أعضاء وضوئه يدل على أنه يجب على المتوضىء أن يغسل أعضاء وضوئه بنفسه والبيان الواقع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وضوئه وفي تعليمه لغيره يؤيد ذلك ويقويه فمن زعم أنه يجزىء العبد وضوء وضاه غيره فعليه الدليل ولا دليل يدل على ذلك أصلا.
وإذا ألجأت الضرورة فلها حكمها وذلك كالمريض الذي يعجز عن غسل أعضائه أو بعضها والأشل والأقطع ونحو ذلك.
وأما الصب من الغير على يد المتوضىء فذلك ثابت في السنة في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعة من الصحابة.
قوله: "وتجديده بعد كل مباح"
أقول: الأولى مشروعية فعله لكل صلاة من غير نظر إلي فعل المباح أو عدمه فإنه لم يدل دليل على ربط المشروعيه بأن يفعل بعد وضوئه الأول مباحا وقد كان صلى الله عليه وسلم في غالب حالاته يتوضأ لكل صلاة.
ويدل على هذا ما أخرجه الترمذي من حديث بريدة وقال صحيح حسن قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلوات كلها بوضوء ومسح على خفيه فقال عمر إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال: "عمدا فعلته" وأخرجه أيضا مسلم وأبو دأود والنسائي بنحوه وقال فيه خمس صلوات بوضوء [الترمذي "61"، مسلم "277"، أبو دأود "172"، النسائي "133"] .
وأخرج البخاري والترمذي والنسائي من حديث عمر وأنس أنه كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة وأخرج الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عمر: "من توضأ على طهر كتبت له عشر حسنات"[الترمذي "59"، ابن ماجة "512"] ، وفي إسناده عبد الرحمن الإفريقي وهو ضعيف الحفظ عن أبي غطيف وهو مجهول.
وتأديته صلى الله عليه وسلم للصلوات بوضوء واحد وترغيبه في الوضوء على طهر يدلان على أن الأمر بالوضوء عند القيام إلي الصلاة محمول على الندب أو هو أمر للمحدثين.
وهكذا حديث أبي هريرة عند الدرامي والترمذي وابن ماجة مرفوعا: "لا وضوء إلا من حدث"[الترمذي "74"، ابنماجة 515"] ، وفي بعض ألفاظه "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" قال الترمذي حسن صحيح يحمل على أن معناه لا وضوء واجب جمعا بين الأدلة.
ومثله ما أخرجه أحمد وابن ماجة والطبراني وابن نافع عن السائب بن خباب مرفوعا: "لا وضوء إلا من ريح أو سماع" بأحمد "3/426"، ابن ماجة "56"] .
قوله: "وإمرار الماء على ما حلق أو قشر من أعضائه".
أقول: لا مستند لهذا التشريع العجيب إلا مجرد خيالات مختلة وآراء معتلة فالحكم بالندب لا يجوز إلا بدليل وإلا كان من التقول عن الشارع بما لم يقله.
[فصل:
ونواقضه ما خرج من السبيلين وإن قل أو ندر أو رجع وزوال العقل بأي وجه إلا خفقتى نوم ولو توالتا أو خفقات متفرقات وفيء نجس ودم أو نحوه سال تحقيقا أو تقديرا من موضع واحد في وقت واحد إلي ما يمكن تطهيره ولو مع الريق وقدر بقطرة والتقاء الختانين ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها وكل معصية كبيرة غير الأصرار أو ورد الأثر بنقضها كالكذب والنميمة وغيبة المسلم وإذاه] .
قوله: "فصل: ونواقضه ما خرج من السبيلين".
أقول: أما انتفاضه بالبول والغائط فبالضرورة الدينية وأما ما عداهما فما وقع النص عليه كما في حديث "حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"[البخاري "137"، مسلم "361"، النسائي "160"، ابن ماجة "513"] ، وهو في الصحيح من رواية جماعة من الصحابة فهو ناقض بالنص وما لم يقع النص عليه فهو لاحق بالريح أما بفحوى الخطاب أو بلحن الخطاب ولا يحتاج مع هذا إلي الاستدلال على تعميم نقض الخارج بما لم يثبت ففي هذا كفاية وهو يشمل ما قل أو ندر أو رجع.
قوله: "وزوال العقل بأي وجه".
أقول: وجه النقض أن من زوال عقله بنوم أو جنون أو إغماء لم يكن على يقين من بقاء طهارته التي تعتبر في صحة الصلاة ولا سيما وتلك الحالة مظنة لاسترخاء الأعضاء وعدم القدرة على دفع ما ينتقض به الوضوء وقد ثبت في النوم حديث "العين وكاء السه"[أبو دأود "203"، ابن ماجة "477"، أحمد "1/111"] ، من رواية علي ومعأوية مرفوعا وقد حسنه جماعة من الحفاظ.
فجعل النوم مظنة للنقض لأنه إذا نامت العين استطلق الوكاء كما في بعض الروايات ثم رتب صلى الله عليه وسلم على هذه المظنة الجزم على من نام بأن يتوضأ فقال: "فمن نام فليتوضأ" كما في بعض الروايات الخارجة من مخرج معمول به.
ولكنها وردت أحاديث قاضية بأنه لا ينتقض الوضوء بالنوم إلا إذا نام مضطجعا وهي تقوى
بعضها بعضا كما أوضحت ذلك في شرحي المنتقى فتكون مفيدة لما ورد في نقض مطلق النوم فلا ينقض إلا نوم المضطجع.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجنون والإغماء أولى بوجود هذه المظنة فيهما فأقل أحوالهما أن يكونا مثل النوم فلا يحتاج إلي إيراد دليل عليهما بخصوصهما.
ومعلوم أنه إذا استطلق الوكاء بالنوم أستطلق بما هو مثله في زوال العقل وذهاب الإحساس فكيف بما هو فوقه.
وبهذا تعرف أنه لا ينقض نوم القاعدة ونحوه ممن لم يكن مضطجعا لا بخفقتين ولا بخفقات متواليات أو متفرقات.
وعلى هذا يحمل ما ورد أن جماعة من الصحابة كانوا ينامون فيوقظون للصلاة فيصلون ولا يتوضئون.
وأما ما ورد في بعض الروايات أنهم كانوا يضعون جنوبهم فهو لا يصلح للتمسك به في معارضة إيجاب الوضوء على نوم من نام مضطجعا ثم الاضطجاع لا يستلزم النوم فقد يضطجع منتظرا للصلاة للاستراحة فيظن من رآه كذلك أنه نائم.
على ان هذا اللفظ أعنى قوله كانوا يضعون جنوبهم لم يثبت من وجه يصلح للاحتجاج به.
قوله: "وقيء نجس"
أقول: قد صح أنه صلى الله عليه وسلم "قاء فتوضأ"[أحمد "6/443"، أبو دأود "2381"، الترمذي "87"]، كما أخرج ذلك أحمد وأهل السنن وهو حديث حسن ويؤيده حديث:"من أصابه قيء أو رعاف أو قلس فلينصرف فليتوضأ" وإعلاله بإسماعيل بن عياش لا يوجب ترك العمل به فإسماعيل إمام قد وثقه جماعة وضعفه آخرون بما لا يوجب سقوط حديثه وترك العمل به ولحديثه هذا شواهد تقوية.
قوله: "ودم أو نحوه" الخ.
أقول: قد عرفناك فيما سلف أن الأصل في الأشياء الطهارة فمن ادعى نجاسة شيء من الأشياء فعليه الدليل فإن جاء بما يصلح للنقل عن هذا الأصل المصحوب بالبراءة الأصلية فذاك وإلا فلا قبول لقوله.
وهكذا من ادعى أنه ينقض الطهارة الصحيحة ناقض فعليه الدليل فإن نهض به فذاك وإلا فقوله رد عليه.
وعرفناك أن الحدث مانع من الصلاة فإذا ارتفع بالوضوء كان مرتفعا حتى يعود ذلك المانع بما يوجب بطلان تلك الطهارة التي ارتفع بها ذلك المانع ولم يأت من قال بأن خروج الدم ناقض بشيء يصلح للتمسك به فإن حديث سلمان أنه رعف فقال له صلى الله عليه وسلم: "أحدث لك وضوءا" وإن أخرجه الطبراني في الكبير ففي إسناده كذاب وضاع وحديث تميم الداري بلفظ:
"الوضوء من كل دم سائل" وإن عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلي الدارقطني ففي إسناده من لا تقوم به الحجة وحديث أبي هريرة: "ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون سائلا" وإن أخرجه الدارقطني ففي إسناده من لا تقوم به الحجة وأما حديث إسماعيل بن عياش فقد قدمنا في البحث الذي قيل هذا الكلام فيه وذكرنا أنه يؤيد ما ذكرناه من أنه صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلا يصلح للاحتجاج به منفردا فكيف إذا عورض بمثل أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل محاجمه أخرجه الدارقطني وفي إسناده صالح بن مقاتل ووالده وسليمان بن دأود وصالح ووالده ضعيفان وسليمان بن دأود مجهول ولكنه رواه المنذري في تخريج المهذب من هذه الطريق وقال إسناده حسن وقال ابن العربي في خلافياته إن الدارقطني رواه بإسناد صحيح هكذا حكى ذلك في البدر المنير وبما أخرجه البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع فرمى رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته وأخرجه أحمد وأبو دأود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
وقد ثبت في روايات صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب فقال: "من يحرسنا الليلة؟ " فقام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فباتا بفم الشعب فاقتسما الليلة للحراسة وقام الأنصاري يصلي فجاء رجل من العدو فرمى الأنصاري بسهم فأصابه فنزعه واستمر في صلاته ثم رماه بثان فصنع كذلك ثم رماه بثالث فنزعه وركع وسجد وقضى صلاته ثم أيقظ رفيقه فلما رأى ما به من الدماء قال له لم لا أنبهتني أول ما رمى قال كنت في سورة فأحببت أن لا أقطعها.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ذلك ولم ينكر عليه الاستمرار في الصلاة بعد خروج الدم ولو كان الدم ناقضا لبين له ولمن معه في تلك الغزوة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وقد كان الصحابة رضى الله عنهم يخوضون المعارك حتى تتلوث أبدانهم وثيابهم بالدم ولم ينقل أنهم كانوا يتوضئون لذلك ولا سمع عنهم أنه ينقض الوضوء.
قوله: "والتقاء الختانين"
أقول: قد ثبت أن هذا من موجبات الغسل بالأدلة الصحيحة كما سيأتي ومعلوم أن موجبات الطهارة الكبرى موجبات للطهارة الصغرى فذكر هذا هنا غفلة شديدة.
قوله: "ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها".
أقول: ليس على هذا أثارة من علم ولا عقل فلا حاجة إلي التطويل في رده وبيان بطلانه.
قوله: "وكل معصية كبيرة غير الإصرار".
أقول: لم يتمسك القائلون بهذا سوى حديث أبي هريرة عند أبي دأود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مسبلا إزاره في الصلاة فأمره بإعادة الوضوء والصلاة وفي إسناده مجهول قيل هو يحيى بن أبي كثير المدني وقيل هو كثير بن جهمان السلمي وقيل غيرهما فلا تقوم به حجة ولا يصح الاستدلال به على نقض وضوء المسبل إزاره فكيف يستدل به على هذه القضية الكلية التي تعم بها البلوى.
فيالله العجب من التسرع إلي إثبات أحكام الله سبحانه بمجرد الخيالات المختلة والشبه المعتلة.
وأما الاستدلال بأن الكبائر محبطة فلا يصلح للاستدلال به بوجه من الوجوه ولو سلم لكانت محبطة لكل عمل فعل قبلها من أعمال الخير كائنا ما كان فلا ينعقد لفاعل الكبيرة عمل ولا تثبت له طاعة وهذا باطل بالإجماع وليس مراد القائلين بالإحباط إلا إحباط ثواب الطاعات المترتب على فعلها لا شك في هذا.
قوله: "أو ورد الأثر بنقضها كتعمد الكذب والنميمة".
أقول: لم يرد شيء قط في ذلك لا من وجه صحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف فإثبات مثل هذا الحكم الذي تعم به البلوى بلا شيء من كتاب ولا سنة ولا قياس ولا وجه من وجوه الاستدلال ليس من دأب المتورعين فضلا عن العلماء العاملين.
ومع هذا فإقرار هاتين المعصيتين بالذكر بعد ذكر كل معصية كبيرة ليس على ما ينبغي فإنهما من الكبائر كما دلت على ذلك الأدلة وانطباق حد الكبائر عليهما على اختلاف الاصطلاحات ومثلهما غيبة المسلم.
وأما القهقهة في الصلاة فأشف ما استدلوا به قصة الأعمى التي أخرجها الطبراني في الكبير عن أبي موسى قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذا دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد وكان في بصره ضرر فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيدوا الوضوء والصلاة وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم أبو جعفر الواسطي الدقيقي قد اختلف فيه حتى قال أبو دأود إنه لم يكن بمحكم العقل ورواه البيهقي عن أبي العالية مرسلا وقال أما هذا فحديث مرسل ومراسيل أبي العالية ليست بشيء كان لا يبالي عمن أخذ حديثه ورواه البيهقي أيضا من طرق ثم قال وهذه الروايات كلها راجعة إلي أبي العالية الرياحي قال الشافعي حديث أبي العالية الرياحي رياح وقال ابن عدي وأكثر ما نقم على أبي العالية هذا الحديث وكل ما رواه غيره فإن مدارهم ورجوعهم إلي أبي العالية والحديث له وبه يعرف ومن أجل هذا الحديث تكلموا في أبي العالية وسائر أحاديثه مستقيمة صالحة انتهى.
وقد جزم جماعة من الحفاظ أنه لم يصح في كون الضحك ينقض الوضوء شيء فليس ها هنا ما يصلح لإثبات أقل حكم من أحكام الشرع.
وقد أخرج البيهقي في سننه من طريق الدارقطني عن أبي موسى أنه كان يصلي بالناس فرأوا شيئا فضحك بعض من كان معه فقال أبو موسى من كان ضحك منكم فليعد الصلاة.
قال البيهقي وكذلك رواه أبو نعيم عن سليمان بن المغيرة وليس في شيء منه أنه أمر بالوضوء.
ثم أخرج عن أبي الزناد قال كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إليهم منهم
سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار في مشيخة جلة سواهم يقولون فيمن رعف غسل عنه الدم ولم يتوضأ وفيمن ضحك في الصلاة أعاد صلاته ولم يعد منه وضوءه انتهى.
وهؤلاء الذين ذكرهم هم الفقهاء السبعة المشهورون.
ثم قال وروينا نحو قولهم في الضحك عن الشعبي وعطاء والزهري.
قوله: "قيل ولبس الذكر الحرير".
أقول: هذا قول لم يدل عليه دليل ولا مستند له إلا مجرد القال والقيل والعجب من قائله كيف استحل الجزم به وهكذا مطل الغنى والوديع ثم جعل النصاب لذلك أن يكون فيما يفسق غاصبه فإن كان هذا التقدير لأجل يكون فاعله فاعلا لكبيره فلا وجه لذكره مستقلا فإنه قد دخل في قوله: "وكل معصية كبيرة" فإن كان لأجل كون الفسق من نواقض الوضوء فهو لا يكون إلا بسبب التفسيق وهو فعل الكبيرة عند البعض أو المخالفة لما هو معلوم من ضرورة الدين عند آخرين مع أنه قد وقع الإجماع على أن صلاة الفاسق ووضوءه وسائر عباداته ومعاملاته صحيحة والحكم بانتقاض وضوئه بفسقه مخالف للإجماع ومن قواعد المصنف وأمثاله أنه يفسق من خالف الإجماع.
وإن كان المراد تكثير المسائل على أي صفة رقع وكيفما اتفق فهذا لا يعجز عنه أحد وليس هذا بعلم بل محض إثم.
والحاصل أن هذه المسائل ظلمات بعضها فوق بعض ومسكين مسكين المقلد مإذا جرى عليه من هذه الآراء التي تشعبت طرائقها وخفيت دقائقها وحقائقها اللهم غفرا.
[فصل:
"ولا يرتفع يقين الطهارة والحدث إلا بيقين فمن لم يتيقن غسل قطعي أعاد في الوقت مطلقا وبعده إن ظن تركه وكذا إن ظن فعله أو شك إلا للأيام الماضية.
فأما الظني ففي الوقت إن ظن تركه ولمستقبله ليس فيها إن شك"] .
قوله: "فصل: ولا يرتفع يقين الطهارة والحدث إلا بيقين".
أقول: إذا كان أحد الأمرين متيقنا فكونه لا ينتقل عنه إلا بيقين لا يتم على ما هو الحق من التعبد بأخبار الآحاد المفيدة للظن فإذا كان الرجل مثلا متيقنا أنه قد توضأ فاستصحاب هذا اليقين والعمل عليه هو مجرد دليل ظني لا يقيني فإذا أخبره عدل بأنه شاهده يبول بعد ذلك الوقت الذي تيقن إيقاع الوضوء فيه فهذا الخبر من العدل صالح للانتقال عن ذلك الاستصحاب والعمل