الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[البخاري "1292- 1293"] ، "ولكن أبواه يهودانه وينصرانه"، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يراع في حكمه الذي هو الشرع الواجب قبوله على كل مسلم مثل هذه المصلحة والمفسدة فكيف ساغ لأهل الرأي المتلاعبين بالأدلة ان يؤثروا ما هو دونها بمراحل على الدليل الواضح الظاهر فانظر إلي شؤم الرأي وما يجلبه على أهله.
وأما قوله: "فإن تزوجت فمن يليها" فذلك معلوم فإن انتقالها إلي من له حق في الحضانة وهي الخالة ثم الاب كما قدمنا أولى من انتقاله إلي من لا حق له وقد عرفناك ان الحاكم يعين باجتهاده مع الاختلاف أو مع عدم من له الحق من يرى فيه صلاحا.
وأما قوله: "فإن تزوجن خير بين الام والصعبية" فلا وجه له بل حق الام قد بطل بالنكاح ولا حق للعصبة في الحضانة فيرجع في تعيين من يرضعه إلي الحاكم فهو أولى برعاية المصالح.
وأما قوله: "وينقل إلي من اختار ثانيا" فوجه ذلك أنه قليل التمييز ولكن قد جعل الشارع الاختيار موجبا لثبوت الحق لمن اختاره فكونه يبطل باختيار آخر يخالفه محتاج إلي دليل.
[باب النفقات
فصل على الزوج كيف كان لزوجته كيف كانت والمعتدة عن موت أو طلاق أو فسخ الا بحكم غالبا أو لامر يقتضى النشوز ذنب أو عيب كفايتها كسوة ونفقة وإدأما ودواء وعشرة دهنا ومشطا وسدرا وماء ولغير البائنة ونحوها منزلا ومخزنا ومشرفة تنفرد بها والاخدام في التنظيف بحسب حالهما فإن اختلفا فبحاله يسرا وعسرا ووقتا وبلدا الا المعتدة عن خلوة والعاصية بنشوز له قسط ويعود المستقبل بالنوبة ولو في عدة البائن ولا يسقط الماضي بالمطل ولا المستقبل بالابراء بل بالتعجيل ولا تطلب إلا من مريد الغيبة في حال وهو تمليك في النفقة غالبا الا الكسوة ولا يتبرع الغير إلا عنه ولا رجوع وينفق الحاكم من مال الغائب مكفلا والمتمرد ويحبسه للتكسب ولا فسخ ولا تمتنع منه مع الخلوة إلا لمصلح والقول لمن صدقته العدلة في العشرة والنفقة ونفقتها على الطالب وللمطيعة في نفي النشوز الماضي وقدره وفي غير بينة بإذنه في الانفاق قيل ومطلقة ومغيبة وتحلف] .
قوله: باب: "النفقات فصل يجب على الزوج كيف كان لزوجته كيف كانت".
أقول: قد ثبت الاجماع على وجوب نفقة الزوجات على الازواج ولم يرد في ذلك خلاف والأدلة على ذلك كثيرة منها حديث معأوية القشيري عند أبي دأود والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان وصححه أيضا الدارقطني في العلل قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما تقول في نسائنا؟ قال: "أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تكتسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن".
وفي لفظ من حديثه هذا عند أحمد وأبي دأود وابن ماجه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل ما حق المرأة على الزوج؟ قال: "تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت".
ومنها ما في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذوي قرابتك".
ومنها حديث عائشة في الصحيحين [البخاري "5364"، مسلم "5/5، 5/3"] ، وغيرهما أبو داود "3533"، النسائي "8/246، 247"، أحمد "6/39، 50، 206"] : أن هندا قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم قال: "خذي ما يكفيك ووندك بالمعروف".
قوله: "والمعتدة عن موت أو طلاق أو فسخ".
أقول: أما المطلقة رجعيا فقد قدمنا ما يدل على وجوب النفقة لها والسكنى وأما المطلقة ثلاثا فحديث فاطمة بنت قيس نص في محل النزاع ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في المطلقة ثلاثا: "ليس لها نفقة ولا سكنى"، وهو في الصحيحين وغيرهما كما تقدم وقال لها أيضا:"إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة" وقد تقدم.
وأما المخالعة فقد قدمنا ان الخلع فسخ وقد قدمنا ان العدة فيه حيضة وقدمنا أيضا أنه لا نفقة لها.
وأما المعتدة عن وفاة فقد قدمنا أيضا لا نفقة لها ولا سكنى وذكرنا الأدلة هنالك.
وأما المعتدة عن فسخ فقد قدمنا أيضا عند قوله وأما عن فسخ من حينه فكالطلاق البائن ما يغني عن تكريره هنا. فالحاصل انها لا تجب النفقة للمعتدة إلا إذا كانت حاملا لقوله عز وجل: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، أو كانت مطلقة طلاقا رجعيا وقد تقدم تحقيق هذا في مواطنه بما لا يحتاج إلي زيادة.
وأما ما ذكره من تنويع الفسخ إلي ما هو بحكم وبغير حكم ولأمر يقتضى النشوز ولأمر لا يقتضى النشوز فليس على ذلك أثارة من علم وليس في جميع ذلك عدة بل يجب الاستبراء فقط الحائض بحيضة والحامل بوضع الحمل إلا ما ورد فيمن عتقت خيرت وقد قدمنا الكلام عليه وعلى الجمع بين الأدلة عند قوله وأما عن فسخ من حينه فكالطلاق البائن.
وأما قوله: "كفايتها كسوة ونفقة وإداما" فصحيح مع التقييد بقوله عز وجل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ} [الطلاق: 7] .
وأما إيجاب الدواء فوجهه ان وجوب النفقة عليه هي لحفظ صحتها والدواء من جملة ما يحفظ به صحتها.
وأما قوله: "وعشرة دهنا ومشطا وسدرا وماء" فليس في هذه الامور دليل يدل على أنها تلزم الزوج ولا هي مما تدعو اليه الضرورة.
وأما قوله: "ولغير البائنة ونحوها" الخ فقد قدمنا لك انها لا تجب السكنى الا للمطلقة رجعيا فقط.
وأما قوله: "والاخدام في التنظيف" فليس في الأدلة ما يدل على إيجاب ذلك على الزوج وإن كان مما يدخل حسن العشرة وتحت الامساك بمعروف وتحت قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ، ولكن ليس ذلك بحتم على الزوج على تقدير ان الزوجة ممن تعتاد ذلك.
قوله: "بحسب حالهما وإن اختلفا فبحسب حاله" الخ.
أقول: الوجوب على الزوج فينبغي ان يكون الاعتبار بحاله وهو المخاطب ولقوله عز وجل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، فإذا كان الزوج موسعا عليه انفق نفقة موسعة وإن كان مضيقا عليه انفق بحسب قدرته وما تبلغ إليه استطاعته وليس عليه غير ذلك ولا اعتبار بحال المرأة أبدا فإذا كان مضيقا عليه وهي من أهل الرفاهية وممن يعتاد التوسع في المطعم والمشرب ونحوهما توسعت من مال نفسها إن كان لها مال وإلا صبرت على ما رزق الله زوجها فهو القابض الباسط.
والحاصل ان الانفاق يكون بالمعروف كما أرشد اليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، والمعروف بين أهل الغنى والسعة وبين أهل الفقر والشدة لا يخفى على من له خبره بأحوال الناس في مصره وعصره.
وأما قوله: "إلا المعتدة عن خلوة" ففيه ما قدمنا في العدة وهم يوجبون نفقة البائنة فهذه إن كانت بائنة كما ذكروا فيما سبق ان رجعية ما كان بعد وطء على غير عوض مال وبائنة ما خالفه فما بالها لم تجب نفقتها كسائر البائنات وإن كان طلاقها رجعيا لا بائنا فالرجعية قد أوجبوا لها النفقة والسكنى وأوجبهما لها الدليل وقد جعلوا الخلوة موجبة للمهر فما بالها لم توجب النفقة.
قوله: "والعاصية بنشوز له قسط".
أقول: لم يرد في الأدلة ما يدل على ان الزوجة إذا عصت زوجها سقطت نفقتها ويمكن ان يقال إن الله سبحانه قد أمرهن بالطاعة وبالغ النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك غاية المبالغة حتى قال: "لو جاز السجود لغير الله لامرت الزوجة ان تسجد لزوجها"[الترمذي "1159"] ثم ورد تقييد عدم البغي عليهن بالطاعة كما في قوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] ، فإذا حصلت المعصية منها لزوجها جاز له أن يعاقبها بقطع النفقة حتى تعود إلي طاعته لانها تركت ما هو حق عليها من الطاعة فجاز له ان يترك ما هو حق عليه من النفقة.
وأما ما ذكره انها تعود بالتوبة فظاهر لارتفاع المانع فلا يبقى له حكم المنع بعد ارتفاعه.
قوله: "ولا يسقط الماضي بالمطل".
أقول: وجهه انها قد وجبت نفقة الزوجة على زوجها بالنص والاجماع فمن ادعى أنه إذا مطلها وعصى الله بمطلها وخالف ما أوجبه الله عليه يكون ذلك مسقطا لما هو واجب عليه بيقين فقد ركب شططا وقال غلطا وأخذ بطرف من تحسين الكلام وترويق العبارة كما فعله ابن القيم في الهدى وتابعه على ذلك من اطلع على كلامه ثم هذه المراة المسكينة الممطولة مما فرضه الله لها وجعله حقا على زوجها لا يخلو أما ان تنفق على نفسها في أيام المطل من مالها وذلك مما لم يوجبه الشرع عليها على تقدير ان لها مالا أو تنفق على نفسها دينا من مال غيرها فكيف يجب عليها قضاء ما هو حق على الزوج بالشرع الواضح والاجماع الصحيح؟.
قوله: "ولا المستقبل بالابراء".
أقول: إن استمرت على ذلك طيبة به نفسها سقط بلا شك ولا شبهة لأنه حق لها ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وليس هو أيضا من أكل اموال الناس بالباطل كما قال تعالي: {وَلا تَأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، بل هو من أكل اموال الناس بالحق.
وأيضا هو مثل ما قال الله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] ، ولكنهم عللوا عدم السقوط بالابراء بعلة عليلة فقالوا إنه إسقاط قبل الاستحقاق وليس هذا بشيء نعم إذا لم تستمر طيبة نفسها وطلبت النفقة كان لها ذلك من الوقت الذي تبين فيه انها لم تطب بالابراء نفسا.
وأما ما ذكره من التعجيل فصحيح لانها قداخذت ما تستحقه مؤجلا معجلا وذلك ادخل في الوفاء.
وأما قوله: "ولا تطلب الا من مريد الغيبة في حال" فعدم جواز الطلب صحيح لأنه ليس عليه الا القيام بنفقتها في كل يوم بسحب الحاجة فإن أراد سفرا كان لها ان تطالبه بما تحتاج اليه مدة غيبته.
وأما قوله: "وهو تمليك في النفقة لا الكسوة" فهما مستويان ليس لها من النفقة إلا ما استنفقته وما بقي منها فللزوج كما أنه ليس لها من الكسوة الا ما لبسته وما بقي منها فللزوج ولكن قواعد الرأي المبنية على غير شيء تأتي بمثل هذا.
وأما قوله: "ولا يتبرع الغير إلا عنه" فصحيح لأنه إذا اعطاها تبرعا من نفسه فهو متصدق عليها ولا يسقط بهذه الصدقة عليها ما هو حق لها وإذا تبرع عن الزوج وقبلت ذلك فقداستوفت حقها ياختيارها ولا يلزم الزوج ذلك إلا إذا كان عن امره وإن اسقط حقا عليه.
قوله: "وينفق الحاكم من مال الغائب".
أقول: هذا صحيح إن طلبت منه ذلك المرأة لان الحاكم يجب عليه القيام بالتخلص مما
أمر الله سبحانه به عباده من حقوق أوجبها عليهم وحق الزوجة من جملة ذلك وهو أيضا من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن أهل الامر القادرين على نهي عن المنكر احق الناسب بالقيام به ومعلوم إن ترك الزوج لانفاق زوجته وماله بمرأى منها ظلم عظيم ومنكر بالغ فلا فسحة لمن يقدر على إنصافها من القيام بذلك وقد أمر الله سبحانه الحكام ان يحكموا بالحق والعدل وهذا من الحكم بالحق وبالعدل وكما يجب ذلك على الحكام في حق الزوج الغائب كذلك يجب عليهم في حق الزوج الحاضر الممتنع ما أوجب الله عليه فيأخذ الحاكم من ماله ما يقوم بنفقة زوجته شاء ام أبي.
قوله: "ويحبسه للتكسب".
أقول: الأولى ان يقال ويأمره بالتكسب إذا كان يجد له مكسبا يعيش به وهو ومن يعول ولم يتركه لعذر بل تركه بطرا أو كسلا أو ضرارا لنفسه ولأهله كما يفعل ذلك من ابتلى بالحمق وقد ارشد النبي صلى الله عليه وسلم إلي التكسب حتى أمر بعض من لم يتكسب ان يبيع ما يجد ثم امره ان يشترى فأسا ثم امره بأن يذهب ويحتطب وقال الله عز وجل: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] ، فإن أبي وصمم على ذلك مع إمكانه وكان فيتركه ما يضره أو يضر من يعول فلا بأس ان يمسه بعقوبة تحمله على طلب ما فيه مصلحة له ولمن يعول ودفع مفسدة عنه وعنهم وأي مفسدة اعظم من قعود رجل في بيته بلا عذر وأبوب المكاسب مفتحة وأسباب الرزق منتشرة وأطفاله يتضاغون من الجوع وامرأته المحجبة تقاسي شدائد الفاقة وتمارس اهوال المسغبة.
قوله: "ولا فسخ".
أقول: قد ذهب الجمهور كما حكاه ابن حجر في فتح الباري إلي ثبوت الفسخ إذا لم يجد الرجل ما ينفق على أمراته وهو الحق لقوله عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} [البقرة: 231]، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الاصول وأي ضرار اعظم من ان يبقيها في حسبه وتحت نكاحه بغير نفقة فإن هذا ممسك لها ضرارا بلا شك ولا شبهة بل ممسك لها مع اشد أنواع الضرار فإن قوام الانفس لا يكون الا بالطعام والشراب ولقول الله عز وجل:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، فخير الازواج بين الامرين فليس لهم فسحة في المعاملة للزوجات باحدهما فمن لم يمسك بمعروف كان عليه التسريح باحسان فإن لم يفعل كان على حكام الشريعة ان يوصلوا الممسكة ضرارا بحكم الله عز وجل فيفسخون نكاحها.
وأين الامساك بمعروف من رجل ترك زوجته في مضايق الجوع ومتألف المخمصة وعرضها للهلاك وحبسها عن طلب رزق الله عز وجل وأراد ان تكون له فراشا وهي بهذه الحالة المنكرة والصفة المستشنعة وكل من يعرف الشريعة يعلم ان هذا منكر من منكراتها ومحرم من محرماتها ولقوله عز وجل ولا تضاروهن وهذا من اعظم أنواع الضرار وأشدها كما سلف.
وأيضا قد شرع الله سبحانه بعث الحكمين بين الزوجين عند مجرد الشقاق وفوض اليهما ما فوضه إلي الازواج فإذا كان لهما التفرقة بمجرد وجود الشقاق فكيف لا يكون لحاكم الشريعة الفسخ بعد وصول المراة اليه تشكو اليه ما مسها من الجوع ونزل بها من الفاقة لشديدة.
والحاصل ان بعض ما ذكرناه يصلح مستندا لفسخ النكاح في هذه الحالة فكيف وقد أخرج الدراقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: "يفرق بينهما" وقد اعله من اعله ودفع الاعلال الحافظ محمد بن ابراهيم الوزير وعلى كل حال فها هنا ما يفي عن هذا الحديث كما عرفت.
وأما استدلال المانعين من الفسخ بقوله سبحانه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، فيجاب عنه بأنا لا نكلفه بان ينفق زيادة على ما آتاه بل دفعنا الضرار عن المراة وخلصناها من حباله لتذهب تطلب لنفسها رزق الله عز وجل بالتكسب أو تتزوج آخر يقوم بمطعمها ومشربها.
وأما قوله: "ولا تمتنع منه مع الخلوة الا لمصلحة" فوجهه وجوب طاعتها له وامتثال ما يامر به ويطلبه منها إذا كان ممسكا لها بمعروف والا كان لها الامتناع حتى تخلص من حباله.
وما ذكره من ان القول لمن صدقته العدلة فذلك صحيح إذا حصل التناكر والاختلاف وطلبا من يرفع إلي الحاكم بحقيقة الحال.
وأما قوله: "وللمطيعة في نفي النشوز الماضي" فصحيح لأن الاصل عدم النشوز مع وجود الطاعة عنها في حال الاختلاف فيكون على الزوج البينة في إثباته وإذا اختلفا في قدر مدة النشوز فالبينة على مدعى الزيادة لأن الاصل عدمها لا كما قاله المصنف.
وإذا اخلتفا هل انفق عليها في الماضي ام لا فا كانت في بيته فالقول قوله لأنها تدعى خلاف الظاهر وإن لم تكن في بيته فالقول قولها وإنما قيده المصنف بالاذن لانها إذا كانت في بيته بغير إذنه فذلك بمجرده نشوز وإذا كانت مطلقة أو كان زوجها غائبا فالقول قولها لأن الاصل عدم الانفاق مع يمينها والبينة على الزوج.
[فصل
ونفقة الولد غير العاقل على أبيه ولو كافرا أو معسرا له كسب ثم في ماله ثم على الام قرضا للأب والعاقل المعسر على ابويه حسب الارث إلا ذا ولد موسر فعليه ولو صغيرا أو كان الوالد كافرا ولا يلزم ان يعفه ولا التكسب الا للعاجر ولا يبيع عنه عرضا إلا باذن الحاكم وعلى كل موسر نفقة كل معسر على ملته يرثه بالنسب فإن تعدد الوارث فحسب الارث غالبا وكسوته وسكناه وإخدامه للعجز ويعوض ما ضاع ويسقط الماضي بالمطل.
والموسر من يملك الكفاية له وللأخص به إلي الدخل والمعسر من لا يملك قوت عشر غير ما استثنى والبينة عليه. وعلى السيد شبع رقه الخادم وما يقيه الحر والبرد أو تخلية القادر وإلا كلف إزالة ملكه فإن تمرد فالحاكم ولا يلزم ان يعفه ويجب سد رمق محترم الدم م ولو بنية الرجوع وذو البهيمة يعلف أو يبيع أو يسيب في مرتع وهي ملكه فإن رغب عنها فحتى تؤخذ وعلى الشريك حصته وحصة شريكه الغائب والمتمرد فيرجع وإلا فلا وكذلك مؤن كل عين لغيره في يده باذن الشرع غالبا والضيافة على أهل الوبر] .
قوله: فصل: "ونفقة الولد غير العاقل على أبيه".
أقول: قد ثبت كتابا وسنة وإجماعا مشروعية صلة الرحم وورود التأكيد في شأنها بأن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله وهذا يشمل كل قريب متحقق القرابة صادق عليه اسم الرحم وورد في خصوص الابوين حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال رجل يا رسول الله أي الناس احق مني بحسن الصحبة؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك".
وفي لفظ لمسلم أنه قال: "من أبر"، وورد في خصوص الأولاد حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما ان هندا قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما اخذت منه وهو لا يعلم فقال:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
وورد ما هو اعم مما تقدم كحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عند أحمد وأبي دأود والحاكم قال: قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك" قلت: ثم من؟ قال: "أمك" قلت: ثم من؟ قال: "أمك" قال: قلت: ثم من؟ قال: "أباك ثم الاقرب فالاقرب".
وأخرج النسائي وابن حبان والدارقطني وصححاه الحديث عن طارق المحاربي كما في بلوغ المرام ولعله سقط الصحأبي على الناسخ قال قدمت المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب الناس على المنبر وهو يقول: "يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك".
وأخرج أبو دأود والطبراني والبيهقي بإسناد لا بأس به عن كليب بن منفعة عن جده أنه اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصولة".
وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ابدأ بنفسك تصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذوي قرابتك فهكذا وهكذا".
وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا" قال رجل: عندي دينار، قال:"تصدق به على نفسك"، قال: عندي دينار آخر قال: "تصدق به على زوجتك" قال عندي دينار آخر قال: "تصدق به على ولدك" قال: عندي دينار آخر قال: "تصدق به على خادمك"، قال: عندي دينار آخر قال: "أنت أبصر به"، وأخرجه أيضا أبو دأود لكنه قدم الولد على الزوجة.
والاحاديث في هذا الباب كثيرة جدا وحديث إذنه صلى الله عليه وسلم لهند ان تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف يدل على وجوب نفقة الأولاد على أبيهم لكن لا مطلقا إذا لم يكن لهم مال أما إذا كان لهم مال فلا وجه لوجوب النفقة من مال غيرهم وقد دل على ذلك ما جاء في القرآن الكريم من تفصيل الكلام في أموال اليتامى وإنفاقهم منها وجواز ان يأكل المنفق لهم من مالهم بالمعروف.
وأما قوله: "ولو كافرا" فذلك إذا رافعه الابن إلي الشريعة الإسلامية قضينا عليه بما فيها.
وأما قوله: "أو معسرا له كسب" فلا بد ان يفضل من كسبه فضله تكون مالا حتى ينفق منها ولده وأما إذا كان لا يحصل له من الكسب إلا ما يكفيه فقط فليس عليه إنفاق أولاده بل ينفق ذلك على نفسه كما تقدم في الاحاديث ورزق أولاده على خالقهم.
وقد عرفت مما سبق أنه لا وجه لقوله: "ثم في ماله" وان إنفاقه من ماله مقدم على إنفاقه من مال أبيه.
وأما قوله: "ثم على الام قرضا للأب" فإذا كانت غنية فعليها النفقة لأولادها لأن الخطاب في الاحاديث السابقة إن كان للرجال فللنساء حكمهم كسائر الخطابات التي في الكتاب والسنة بصيغة خاصة بالذكور فإن النساء شقائق الرجال ولا يخرجهن من ذلك إلا دليل يخصصهن من الواجبات على الرجال فلا وجه لقوله قرضا للأب.
قوله: "والعاقل المعسر على ابويه حسب الارث"،
أقول: لما قدمنا من الأدلة ولا سيما إذا كان قوله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، شاملا للكبار فإن من جملتهم إذا ذاك معاوية وقد كان كبيرا لأنه اسلم عام الفتح وكان عمره عند إسلامه ثماني وعشرين سنة فقد كان عند الهجرة في ثماني عشرة سنة.
والحاصل ان هذه النفقات التي هي مما يصدق عليه أنه صلة للارحام إذا لم يوجد دليل ناهض ينتهض على وجوبها فهي من افضل القرب واعظم الطاعات المقربة إلي الله عز وجل كما قدمنا.
وأما قوله: "إلا ذا ولد موسر فعليه" فوجه ذلك ان وجوب الاحسان من الأولاد لابائهم آكد من وجوب الاحسان من الاباء لابنائهم كما قال الله سبحانه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة: 83، النساء: 36، الأنعام: 151، الإسراء: 23]، وكما ورد في الحديث:"أنت ومالك لأبيك"، وهو حديث حسن أخرجه أحمد وابو دأود وابن خزيمة وابن الجارود ومثله حديث: "إن أطيب ما أكل الرجل
من كسبه وولده من كسبه فكلوا من أموالهم"، أخرجه أحمد "6/31، 41، 127، 162، 173، 193، 201، 203"] ، وأهل السنن [أبو داود "3528"، النسائي "4449"، ابن ماجة "2290"، الترمذي "1358"] ، وابن حبان والحاكم وصححه أبو حاتم وأبو زرعة.
وأما قوله: "ولو صغيرا" فلما ذكره الله سبحانه في القرأن في أموال اليتامى والاباء احق من يقوم على اموالهم ويستنفق منها بالمعروف.
وبالجملة فعموم قوله عز وجل: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، وقوله:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، يدخل تحته الزوجات والاباء والابناء دخولا أوليا وتتنأول سائر القراب. ة
وأما قوله: "ولو كان صغيرا" فلعموم ما قدمنا.
وأما قوله: "أو كافرا" فإذا ترافعوا إلي المسلمين وجب الحكم على الكافر بما في الشريعة الإسلامية.
وأما قوله: "ولا يلزمه أن يعفه" فلكون ذلك مما لا يدخل في مسمى النفقة إلا ان يبلغ الحد إلي التضرر البالغ كان من باب التدأوي لحفظ النفس وقد تقدم حديث: "أنت ومالك لأبيك" وتقدم قوله تعالي: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وهذا من الاحسان.
وهكذا قوله: "ولا التكسب إلا للعاجز" فإنه إذا قعدالأب وعجز عن الكسب وولده قوى سوى وأبواب المكاسب متيسرة له ولم يكسب على والده فهو لم يحسن اليه كما امره الله سبحانه ولا بره كما أوجب ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما إذا كانا قادرين على التكسب تكسب كل واحد منهما لنفسه فإن قدر الولد ان يكفي والده مؤنة التكسب فهو من تمام البر به والاحسان اليه.
والحاصل أنه إذا كان البر والاحسان واجبين على الولد لوالده كما تدل عليه الأدلة لزمه مالا يتم البر إلا به ولا يخرج عن ذلك الا ما خصه الدليل وأيضا هو أقرب قربا وأمس رحما فالأدلة الدالة على صلة الارحام تتنأوله أوليا كما قدمنا الاشارة إلي ذلك والامهات احق بهذا البر والاحسان والصلة من الاباء للأحاديث المتقدمة في أول الفصل ولغيرها كما أخرجه البخاري في الادب المفرد وأحمد وابن حبان والحاكم وصححاه مرفوعا بلفظ: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب".
وأما قوله: "ولا يبيع عنه عرضا إلا باذن الحاكم" فالعرض من جملة المال الذي جعله الشارع للأب وأمره صلي الله عليه وسلم بالأكل منه.
قوله: "وعلى كل موسر نفقة كل معسر" الخ.
أقول: لا دليل يدل على وجوب هذا الانفاق وما استدلوا به من قوله تعالي: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، فوضع للدليل في غير موضعه فان الآية واردة في غير هذا المعنى لان الله سبحانه قال:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ
مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] ، أي وارث المولود له وفي الآية احتمالات كما أوضحنا ذلك في تفسيرنا وهذا المعنى هو الظاهر منها ولا يصح الاحتجاج بمحتمل مسأو فكيف بمحتمل مرجوح.
والحاصل ان الأدلة التي قدمنا في أول الفصل تدل على مشروعية الاحسان إلي القرابة الدين هم غير الاباء الابناء وهم داخلون فيما ورد في صلة الارحام وأما كون ذلك حتما لازما فلا دليل على ذلك يتعين الاخذ به.
وأما تقييد ما ذكره من وجوب انفاق الاقارب المذكورين بالارث بالنسب فلا وجه له بل صلة الارحام ثابتة ومشروعيتها عامة والاقرب احق بها من الابعد وهكذا تندرح في مشروعية صلة الرحم كسوته وإخدامه للعجز.
قوله: "ويسقط الماضي بالمطل".
أقول: أما النفقة الواجبه كنفقة الابن لأبويه والاب لأولاده فالكلام فيها كالكلام في نفقة الزوجة وقد قدمنا تحقيق ذلك وهكذا نفقة الارقاء لانها واجبة حتما.
وأما نفقة سائر القرابة فقد عرفناك أنه لا دليل يدل على وجوبها بل هي من باب صلة الارحام ولا يجب على الإنسان قضاء مالا يجب عليه ولكنه ينبغي ان يسلك في هذه الصلة المسلك الذي ارشداليه الشارع في الاحاديث المتقدمة بقوله: "الأقرب فالأقرب" وبقوله: "ثم أدناك أدناك".
وأما ما ذكره من رسم الايسار والاعسار فلا دليل عليه ولكن الذي ينبغي اعتماده هو ما اشار اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال للرجل الذي قال عنده دينار فإنه أمر ان يتصدق به على نفسه ثم قال عندي دينار آخر قال تصدق به على زوجتك إلي آخر الحديث المتقدم وما ورد في معناه وقد قدمنا في تفسير الغني الذي يحرم عليه الزكاة ما فيه كفاية وليس المقصود هنا ان يحصل مسمى الغنى بل المقصود وجود الكفاية التي يصير ما زاد عليها في حكم الفضلة التي لا تدعو اليها حاجة راجعة إلي النفقة والكسوة والمنزل والفراش وما يقي البرد والحر فإذا وجدا لرجل هذا لنفسه ولمن تجب عليه نفقته وهم من قدمنا ذكرهم وصل ارحامه الاقرب فالأقرب بما احب إن أراد الخير وأحب الثواب وإلا يكون من القاطعين للأرحام فيعرض نفسه للقطيعة من الله سبحانه.
قوله: "وعلى السيد شبع رقه الخادم وما يقيه الحر والبرد".
أقول: هذا واجب على السيد من واجبات الشريعة وقد كرر صلى الله عليه وسلم التوصية بالارقاء وامر بإطعامهم مما يطعم سيدهم والباسهم مما يلبس وأمر بإطعام المماليك وكسوتهم بالمعروف هذا كله ثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين.
وأخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته".
أخرج أحمد وابو دأود والنسائي وابن ماجه بأسانيد بعضها رجاله رجال الصحيح قال كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه الصلاة وما ملكت ايمانكم وهو مجمع على وجوب نفقة الارقاء.
وأما قوله: "أو تخلية القادر" فلا وجه له لأنه مهما بقي في ملكه كان الوجوب ثابتا عليه ولا نيفعه تخليته فإنه تخلص مما أوجبه عليه الشرع بغير مخلص شرعي بل يجبر على ينفعه أو إنفاقه أو عتقه ولا عذر له من أحد هذه الثلاثة الامور لأن علاقة وجوب إنفاقه عليه هي كونه مملوكا له فمهما بقي الملك فالعلاقة موجودة والسبب حاصل.
وأما كونه لا يلزمه ان يعفه فظاهر.
قوله: "ويجب سد رمق محترم الدم"
أقول: قد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" وأي إسلام له ابلغ من ان يدعه يموت جوعا وهو يجد ما يسد رمقه ويبقى حياته.
وثبت أيضا في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، فهذا الذي ترك اخاه يموت جوعا وهو يجد ما ينعشه ويدفع عنه ما نزل به من الضر ليس بمومن وواجب على كل مسلم ان لا يفعل ما يسلب عنه الايمان أو يترك ما يكون سببا لذهاب إيمانه وأيضا قد أوجب الله سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما العمادان العظيمان لهذا الدين ومعلوم ان سد رمق من نزل به الموت من الجوع من اعظم المعروف وتركه من اقبح المنكر وقد قال الله سبحانه وتعالي:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وسد رمق المضطر من اعظم أنواع البر والتقوى وتركه من اعظم الإثم والعدوان.
والحاصل ان كليات الكتاب والسنة وجزئيائتهما تدل على وجوب مثل هذا وجوبا مضيقا ومن استدل على هذا الوجوب بما ورد في الضيافة فقد ابعد النجعة.
وأما ما ذكره عن المؤيد بالله من ان له ان ينوى الرجوع على من سد رمقه فهذا مخالف للقواعد الشرعية فإن المطعم قام بواجب عليه هو من اعظم الواجبات فليس له ان يرجع في ذلك على ذلك المضطر.
قوله: "ودواء البهيمة" الخ.
أقول: أما الأجر على إنفاقها فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلا اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث بأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ بهذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم امسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له"، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: "في كل كبد رطبة
أجر"، فإن قول السائل: وإن لنا في البهائم أجرا؟ يشمل كل بهيمة من أهلي ووحشي وجوابه صلى الله عليه وسلم "في كل كبد رطبة أجر"، يتناول الجميع.
وأما إثم من حبس البهائم فلم يطعمها ولا تركها فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي اطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، وهو ثابت في الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة.
وإذا كان هذا في هرة فغيرها من البهائم التي يملكها الناس ولا يحل أكلها أولى بذلك واحق ولا شك أنه يخلص من الإثم باخراجها عن ملكه إلي ملك غيره ببيع أو نحوه.
وأما التسييب فلا بد من تقييده بكون تلك البهيمة مما يأكل ويشرب بنفسه ويقدر على ذلك أما إذا كانت لا تقدر على ذلك كما في كثير من البهائم فلا يبرأ بتسييبها وهكذا لا بد ان تكون لها قدرة على حماية نفسها من السباع وإلا كا نمخرجا لها من الهلاك إلي الهلاك ومسلما لها إلي يد المعاطب والمتالف.
وأما كونها لا تخرج ع ملكه بالتسييب إلا ان يرغب عنها فيأخذها غيره فظاهر وهكذا حكم من في يده تلك البهيمة وهي لغيره بإذنه حكم المالك في وجوب القيام بما يحتاج إليه حتى يرجعها لمالكها وله الرجوع عليه بما أنفق.
وهكذا الشريك فيها إذا غاب شريكه أو تمرد فإنه يجب عليه القيام بما يحتاج إليه ويرجع بما انفقه على حصة شريكه.
قوله: "والضيافة على أهل الوبر".
أقول: الضيافة حق على من نزله ضيف سواء كان من أهل المدر أو الوبر ولا وجه لتخصيصها بأهل الوبر ولم يصح في ذلك شيء.
وأما ما يروى من ان الضيافة على أهل الوبر فهو باطل موضوع كما بينت ذلك في المؤلف الذي سميته الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة.
والأحاديث الواردة في مشروعية الضيافة كثيرة ومنها ما في الصحيحين [البخاري "10/531"، مسلم "14/48"] ، وغيرهما [أبو داود "3748"، الترمذي "1967، 1968"، ابن ماجة "3675"، أحمد "4/31، 6/385"]، عنه صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته"، قالوا: وما جائزته؟ قال: "يومه وليلته".
ومما يدل على الوجوب حديث عقبة بن عامر في الصحيحين [البخاري"1/532"، مسلم "1727"، وغيرهما [أبو داود "3752"، الترمذي "1589"، ابن ماجة "3676"، أحمد "4/149"] : قالوا: يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى؟ فقال: "إن أمروا لكم بما ينبغي للضيف