الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأفطرتا ودخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا عليكما صوما مكانه يوما آخر"، وفي إسناده زميل وفيه مقال وأخرج مسلم وأحمد وأهل السنن عن عائشة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال:"هل عندكم من شيء" فقلت لا فقال: "إني صائم" ثم أتانا يوما آخر فقلت: يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال: "أرنيه فلقد أصبحت صائما" فأكل وزادالنسائي ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل المتطوع مثل رجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها".
وأما قوله: "لا القاضي فيأثم" فقد أخرج أحمد وأبو دأود في رواية من حديث أم هاني المتقدم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شرابا فنأولها لتشرب فقالت إني صائمة ولكن كرهت ان ارد سؤرك فقال: "إن كان قضاء من رمضان فاقضى يوما مكانه وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي"، وفيه دليل على جواز إفطار القاضي ويقضى يوما مكانه وإن كان فيه المقال المتقدم ولكن الدليل على من قال انه لا يجوز إفطار القاضي.
قوله: "ويلتمس القدر".
أقول: الكلام في هذا البحث يطول وقد ذكرت في شرحي للمنتقى في ذلك سبعة واربعين مذهبا ورجحت منها القول الخامس والعشرين فليرجع إلي ذلك ففيه ما يشفي ويكفي ولا يحتاج الناظر فيه إلي ان ينظر في غيره والمقام لا يتسع لبعض ذلك.
كتاب الحج
مدخل
…
كتاب الحج
[فصل
انما يصح من مكلف حر مسلم بنفسه ويستنيب لعذر مأيوس ويعيد إن زال] .
قوله: "كتاب الحج انما يصح من مكلف حر".
أقول: حديث ابن عباس إن امرأة رفعت إلي النبي صلى الله عليه وسلم صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر"، أخرجه مسلم وغيره وفيه دليل ثبوت الحج للصبي.
ويؤيده ما أخرجه البخاري "1858، وغيره أحمد "3/925"، الترمذي "925"، من حديث
السائب بن يزيد قال حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا ابن سبع سنين.
وما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث جابر قال حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم وفي إسناده اشعث بن سوار وهو ضعيف وما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس انه بعثه صلى الله عليه وسلم في الثقل وكان اذ ذاك صبيا ولكن حديث ابن عباس الذي أخرجه الحاكم مرفوعا وصححه والبيهقي وابن حزم وصححه بلفظ: "أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى" يدل على ان هذه الحجة الواقعة من الصبي وان ثبت له أجرها لا تسقط عنه حجة الإسلام إذا بلغ وأخرج ابن خزيمة هذا الحديث عن ابن عباس موقوفا وقال الصحيح الموقوف وقال البيهقي تفرد برفعه محمد بن المنهال ولكنه قد تابع محمد بن المنهال على رفعه الحارث بن شريح كما أخرجه الاسماعيلي والخطيب ويؤيد الرفع ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس انه قال احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن عباس فذكره وهو ظاهر في الرفع. ويشهد لحديث ابن عباس هذا ما أخرجه أبو دأود في المراسيل وأحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله عن محمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما صبي حج به أهله فمات اجزأت عنه فإن ادرك فعليه الحج وأيما رجل مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن اعتق فعليه الحج"، وفي إسناده رأو منهم.
ويؤيد عدم إجزاء حج الصبي عن حجة الإسلام ما ورد في رفع قلم التكليف عنه ولا تلازم بين ثبوت الأجر له وصحة حجة عن حجة الإسلام الواجبة عليه.
وأما العبد البالغ فهو داخل في مثل قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] والاستطاعة في حقه على قول من قال إنه يملك كسائر المكلفين من الاحرار وهكذا إذا وجد من يقوم بمؤنته كسيده فإن ذلك استطاعة وان كان لا يملك فإذا انتهض الدليل على ان ذلك الحج لا يجزئ عن حجة الإسلام فذاك وإلا فالظاهر أنها تجزئه هذه الحجة عن حجة الإسلام.
وأما قوله: "مسلم" فلكون الكافر متلبسا بمانع من صحة حجه فلا يصح حتى يزول المانع كسائر الامور الشرعية.
وأما كونه مخاطبا بالشرعيات بمعنى انه يعذب على تركها فذلك لا يستلزم صحة وقوعها منه مع بقاء المانع الذي هو مقدور له رفعه وهو الكفر وقدتقدم تحقيق هذاالمقام.
قوله: "وتستنيب لعذر مأيوس ويعيده إن زال".
أقول: الدليل لم يرد بجواز مطلق الاستنابة بل ورد في الولد كما في حديث ابن عباس في الصحيحين [البخاري "3/678، 4/66، 4/67، 8/105، 11/8"، مسلم "1334، 1335"، وغيرهما [الترمذي "928"، أبو دأود "1809"، النسائي "2635، 2641"، ابن ماجة 2909"] أن امرأة من خثعم
قالت يا رسول الله إن أبي ادركته فريضة الحج شيخا كبيرا لا يستطيع ان يستوى على ظهر بعيره قال: "فحجي عنه"، وأخرج نحوه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث أبي رزين العقيلي انه اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ان أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال:"حج عن أبيك وأعتمر".
وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين اكنت قاضيته" الحديث.
وورد في حج الاخ عن اخيه والقريب عن قريبه كما في حديث ابن عباس عند أبي دأود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي وصححاه ان النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال: "من شبرمة؟ " قال أخ لي أو قريب لي قال: "حججت عن نفسك؟ " قال لا قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، فلا يصح إلحاق غير القرابة بالقرابة للفرق الظاهر ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم للخثعمية:"أرأيت لو كان على أبيك دين؟ " ويقول للجهينية: "أرأيت لو كان على أمك دين؟ " ثم قال بعد ذلك: "فدين الله احق أن يقضى".
وأما إيجاب القضاء عليه إن زال عذره فمحتاج إلي دليل لأن الحج عنه قد وقع صحيحا مجزئا في وقت مسوغ للاستتابة.
[فصل
ويجب بالاستطاعة في وقت يتسع للذهاب والعود مضيقا الا لتعيين جهاد أو قصاص أو نكاح أو دين تضيقت فيقدم والا اثم وأجزأ.
وهي صحة يستمسك معها قاعدا وأمن فوق معتاد الرصيد وكفاية فاضلة عما استثنى له وللعول وللذهاب متاعا ورحلا وأجرة خادم وقائد للأعمى ومحرم مسلم للشابة في بريد فصاعدا ان امتنع الا بها والمحرم شرط أداء ويعتبر في كل اسفارها غالبا ويجب قبول الزاد من الولد لا النكاح لأجله ونحوه ويكفي الكسب في الأوب الا ذا العول] .
قوله: فصل: "ويجب بالاستطاعة في وقت يتسع للذهاب والعود مضيقا".
أقول: معنى الآية اعني قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمرا: 97] ، أوضح من الشمس فمن كان مستطيعا عند حضور وقت الحج والسفر له من دياره بأن يجد ما يكفيه لذهابه وايابه ويحمله ويحمل زاده ما يحتاج اليه فهذا مستطيع يجب عليه الحج وان
كان في ذلك الوقت غير مستطيع فلا وجوب عليه ولا يشترط ان يبقى معه ما يصير به مستطيعا زمانا كثيرا أو قليلا بل المراد من وجود ما ذكرنا عند حضور وقت الحج فإن استمر معه كل السنة وتلف عند حضور وقت الحج فليس بمستطيع ولا يجب عليه الحج وهذا معنى ظاهر واضح لا يحتاج إلي مزيد بيان ولا تدل الآية الكريمة على غيره.
وأما الخلاف في كون الحج على الفور والتراخي فمرجعه ما وقع في الاصول من الخلاف في صيغة الايجاب هل هي للفور أو للتراخي؟
وقد دل على الفور عند الاستطاعة الاحاديث الواردة في الوعيد لمن وجد زادا وراحلة ولم يحج وإن كان فيها مقال فمجموع طرقها منتهض.
واستدل القائلون بالتراخي بما وقع منه صلى الله عليه وسلم من تأخير حجة إلي سنة عشر مع كون فرض الحج نزل في سنة خمس أو ست على خلاف في ذلك وقد روى في تفسير الاستطاعة المذكورة في القرآن ما أخرجه الدارقطني والحاكم وقال صحيح على شرطهما والبيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال: قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة".
وأخرج ابن ماجه والدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الزاد والراحلة" يعني قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال ابن حجر: وسنده ضعيف.
وفي الباب عن ابن عمر عند الشافعي والترمذي وحسنه وابن ماجه والدارقطني وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخوزي قال فيه أحمد والنسائي انه متروك الحديث.
وعن علي وابن مسعود وعائشة وعبد الله بن عمرو عندالدارقطني من طرق كلها ضعيفة.
وأما قوله: "إلا لتعيين جهاد" الخ فلكون هذه الامور قد تضيقت وتعين القيام بها ولكنه أما يستقيم هذا على تقدير ان الحج لم يتضيق عليه فإن كان قد تضيق عليه كما تضيقت فوجه تقديم الجهاد ان مصلحته عامة.
ووجه تقديم القصاص والدين انه حق لآدمي قد تعلق بمن أراد الحج ويخشى فوته بعروض عارض له من موت أو نحوه.
ووجه تقديم النكاح انه إذا خشي الوقوع في المعصية كان ذلك متعينا عليه.
وأما كونه يأثم إذا قدم الحج على هذه الامور فلأنه قد اخل بما يجب عليه تقديمه وكان اثمة لذلك ولا يستلزم هذا الإثم عدم صحة حجة لأن متعلق الإثم هو أمر غير الحج.
قوله: "وهي صحة يستمسك معها قاعدا".
أقول: هذا لا بد منه والا كان من لا يقدر على الاستمساك معذورا عن الحج بنفسه ويجوز له الاستنابة كما تقدم وقد تقدم تفسيره صلى الله عليه وسلم للاستطاعة وهو لا ينافى هذا لأن من لا يستمسك على الراحلة لا ينفعه وجودها.
وهكذا قوله وامن فوق معتادالرصد لأن من كان خائفا على نفسه أو ماله لا يجوز له ان يقدم على ما يخشى منه التلف أو الضرر في البدن أو المال ويدل على ذلك الادلة الكلية والجزئية من الكتاب والسنة.
وهكذا كفايته ذهابا وايابا وكفاية من يحتاج اليه في سفره وكفاية أهله حتى يعود لأنه إذا لم يكن كذلك فقد ضيع نفسه وأهله وهو مخاطب بحفظ نفسه والقيام بمؤنة أهله ثم ذكر المتاع والرحل وهو موافق لتفسير الاستطاعة الذي تقدم.
وأما أجرة الخادم لمن اعتاده وعجز عن القيام بمؤنة نفسه فذلك من كمال الاستطاعة.
وأما قائد الاعمى فذلك مما تمس اليه الحاجة إذا أراد الاعمى ان يحج والظاهر ان عماه عذر له عن الحج وانه غير مستطيع وان وجد قائدا وزادا وراحلة وقياس الحج على صلاة الجماعة قياس مع الفارق الذي هو أوضح من الشمس.
قوله: "ومحرم مسلم للشابة".
أقول: لورود النهى لها عن السفر بغير محرم وأقل المسافة التي قيد بها النهي هو البريد فيجب اعتبار المحرم فيه ولا ينافيه ما ورد مما فيه زيادة على ذلك لأن المنع من سفر البريد قد دل على ذلك بمنطوقه وهو ارجح مما دل عليه بمفهومه فالمرأة ممنوعة من السفر بغير محرم شرعا فلا يتم استطاعتها الا به وإذا امتنع الا بأجرة لم تتم استطاعتها الا بالتمكن من أجرته وقد عرفت ان الاستطاعة شرط للوجوب فالتمكن من المحرم هو من شروط الوجوب لا من شروط الأداء ولا فرق بين شابة وغيرها فإنه لم يرد في الادلة التقييد بالشابة وبهذا تعرف انه لا بد من المحرم في سفر الحج وغيره.
قوله: "ويجب قبول الزاد من الولد".
أقول: الاستطاعة تحصل بوجود ما تقدم بما ذكر في تفسيرها فإذا حصل ذلك في ملك الاب وجب عليه الحج وإذا وهب له الولد فذلك مال رزقه الله إياه من غير حصول منه فلا يجوز له رده ولا سيما مع ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، فإن هذا الحديث يدل على انه يصير مستطيعا بمجرد وجود ما تحصل به الاستطاعة في مال ولده وهكذا يجب قبول الهبة من السلطان لورود الامر بقبولها كما في الحديث الصحيح بلفظ:"ما أتاك من هذا المال وانت غير مستشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك" وهكذا لو رزقه الله مالا بهبة أو نذر أو نحوهما من غير منه ولا وصمة في دين فقبول ذلك واجب ليؤدى به ما افترضه الله عليه فاعرف هذا ودع عنك ما يقال تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب ونحو ذلك من القواعد المؤسسة على الرأي الفائل والاجتهاد المائل فإنه كثيرا ما يقع الغلط في مثل هذا والمغالطة.
وأما قوله: "لا النكاح لأجله" فصحيح لأن المرأة بالزواج تدخل نفسها في واجبات تجب عليها لزوجها ولا يجب عليها الدخول في مثل ذلك.
وأما قوله: "ويكفي الكسب في الأوب" فهو غير صحيح فإن الاستطاعة إنما تكون بوجود الزاد للذهاب والاياب حتى يعزم وهو على ثقة من نفسه بعدم الضياع ونفس الكسب ووجود من يكتسب ما يحتاج اليه معه إحالة على معدوم لا يدرى هل يوجد من بعد أولا يوجد ولا فرق بين ذي العول وغيره وقد عرفت مما سبق انه لا بد من وجود ما يكفي من يعوله إلي رجوعه وبالجملة فالاتكال على الكسب قريب من الاتكال على السؤال الذي نزل في شأنه قوله تعالي: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] .
[فصل
وهو مرة في العمر ويعيده من ارتد فأسلم ومن احرم فبلغ أو اسلم جده ويتم من عتق ولا يسقط فرضه ولا تمنع الزوجة والعبد من واجب وإن رخص فيه كالصوم في السفر والصلاة أول الوقت الا ما أوجب معه لا بإذنه الا صوما عن الظهار أو القتل وهدى المتعدى بالاحرام عليه ثم على الناقض] .
قوله: فصل: "وهو مرة في العمر".
أقول: هذا الحكم قد صار من المعلومات بالضرورة الشرعية وليس في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، الا الدلالة على المرة الواحدة وقد زاد ذلك أيضاحا ما وقع من السؤال للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه بأنه لا يجب لا مرة وقد اجمع على ذلك جميع المسلمين سابقهم ولا حقهم ولا يعرف في ذلك مخالف من أهل الإسلام.
قوله: "ويعيده من ارتد فأسلم".
أقول: عوده إلي الإسلام توبة والله سبحانه قابل التوبة وهو الذي لا يضيع عمل عامل وقد قيد الاحباط في كتابه العزيز بالموت على الكفر فقال: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217]، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام:"أسلمت على ما اسلفت من خير" لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجأهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم فيها أجر.
فإذا كانت الاعمال الصالحة في الجأهلية مكتوبة لفاعلها إذا أسلم فكتبها للمسلم الذي عملها في حال إسلامه ثم ارتد ثم عاد إلي الإسلام ثابت بفحوى الخطاب.
وأما ما قوله: "ومن احرم فبلغ" الخ فقد قدمنا قريبا الكلام في الصبي والكافر والعبد وفيه ما يغني عن الاعادة هنا ولا يخفاك ان ايجاب التمام على العبد مع عدم اسقاطه للفرض من غرائب الرأي المبنية على الخيال.
قوله: "ولا يمنع الزوجة والعبد من واجب".
أقول: قد أوجب الله سبحانه على كل واحد منهما واجبات له عز وجل وواجبات للزوج والسيد وعليهما القيام بجميع ذلك وليس للزوج والسيد المنع لهما مما هو واجب عليهما لله عز وجل وليس لهم الاشتغال بغير ما أوجب الله عليهما من واجبات الزوج والسيد فليس لهما ان يوجبا على انفسهما بنذر أو نحوه ما يشغلهما عما يجب عليهما للزوج والسيد فإن فعلا كان للزوج والسيد المنع من ذلك لأن إيجاب ما أوجبه الله عليهما للزوج والسيد سابق على وجوب ما أوجباه على انفسهما وذلك ليس لهما وبهذا يتضح لك الصواب في اطراف هذه المسألة.
[فصل
ومناسكه عشرة الأول الاحرام] .
وقوله: فصل: "ومناسكه عشرة الأول الاحرام".
أقول: الحج الذي طلبه الله من عباده قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فحج باصحابه وقال لهم: "خذوا عني مناسككم"، فالحج الذي فرضه الله سبحانه في كتابه على عبادة هو مجموع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم معلما لأمته ومن ادعى ان شيئا مما فعله غير واجب احتاج إلي الدليل وأما ما شكك به الجلال في شرحه في هذا الموضع من ان الحج القصد في لسان العرب وانه لا ينصرف إلي مالا وجود له فيقال له واصل الصلاة تحركي الصلوين والزكاة النماء والصيام الامساك عن الكلام فكيف يصح انصرافها إلي ما لا وجود له وكل متشرع يعلم ان الله سبحانه ارسل رسوله ليبين للناس ما نزل اليهم وقد فعل جزاه الله عن امته خيرا وقد اتفق أهل الإسلام أولهم وآخرهم سابقهم ولاحقهم على ان هذه التكاليف التي هي أركان الإسلام فضلا عن غيرها وقعت في الكتاب العزيز مجملة وتوقف وقوعها بالفعل من العباد على البيان النبوي ولا خير في هذا ولا موجب للشك فيه والتشكيك على المقصرين الا مجرد الخبط في أودية الرأي وتأثيره على الواضحة التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"لا يزيغ عنها إلا جاحد"، ومن جملة ما شمله البيان النبوي الاحرام بل وقع الامر به في السنة المطهرة على الخصوص فمالنا وللرجوع إلي مثل قولهم احرم كمعنى اتهم وانجد وأي مقتض لمثل هذا الكلام الزائف.
[فصل
ندب قبله قلم الظفر ونتف الابط وحلق الشعر والعانة ثم الغسل أو التيمم للعذر ولو حائضا ثم لبس جديد أو غسيل وتوخى عقيب فرض والا فركعتان ثم ملازمة الذكر
والتكبير في الصعود والتلبية في الهبوط والغسل لدخول الحرم ووقته شوال وذو القعدة وكل العشر.
ومكانه الميقات ذو الحليفة للمدني والجحفة للشامي وقرن المنازل للنجدي ويلملم لليماني وذات عرق للعراقي والحرم للمكي ولمن بينها وبين مكة داره وما بإزاء كل من ذلك وهي لأهلها ولمن ورد عليها ولمن لزمه خلفها موضعه ويجوز تقديمه عليها الا لمانع] .
قوله: "وندب قبله قلم الظفر" الخ.
أقول: هذه الامور لم يرد فيها ما يدل على مشروعيتها عند الاحرام بل وردت فيها أحاديث قاضية بأنها من السنن مطلقا ولعل المصنف رحمه الله لما وقف على ما ورد من مشروعية الغسل والتطيب للاحرام جزم بندبية هذه الامور لانها من كمال التنظيف وأما ما ذكره من ندبية الغسل فقد ورد في ذلك ثلاثة احاديث.
الأول: حديث زيد بن ثابت عندالترمذي وحسنه والطبراني والدارقطني والبيهقي ان النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لاحرامه واغتسل وقدنقل ابن حجر عن العقيلي انه ضعفه ولم يذكر الوجه وفي تحسين الترمذي له كفاية.
الحديث الثاني: أخرجه الدارقطني عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد ان يحرم يغسل رأسه بحطمي واشنان.
الحديث الثالث: أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لبس ثيابه فلما اتى ذا الحليفة صلى ركعتين وفي إسناده يعقوب بن عطاء قال ابن حجر وهو ضعيف وقد قال ابن القيم في الهدى انه صلى الله عليه وسلم لما أرادا الاحرام اغتسل غسلا ثانيا لاحرامه غير الغسل الأول للجنابة.
وأما قول المصنف أو التيمم للعذر فلا وجه له فليس التيمم يصلح بدلا لمثل هذه الاغسال المندوبة ولا ورود ما يدل على ذلك وأيضا المراد بالغسل للإحرام التنظيف والتيمم يخالف ذلك.
وأما مشروعيته للحائض فقد أخرج أبو دأود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير ان لا تطوف بالبيت"، وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وقد ضعفه جماعة من قبل حفظه مع كونه صدوقا ويؤيده ما في صحيح مسلم من أمره صلى الله عليه وسلم لاسماء بنت عميس ان تغتسل بذي الحليفة حين نفست بمحمد بن أبي بكر.
وأما قوله: "وليس جديد أو غسيل" فلم يرد ما يدل على ذلك من قول ولا فعل ولكنه من كمال التنظيف.
قوله: "وتوخى عقيب فرض".
أقول: يدل على هذا ما أخرجه أبو دأود والنسائي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على جبل البيداء أهل"، ورجاله رجاله رجال الصحيح الا اشعث بن عبد الملك الحمراني وهو ثقة وما أخرجه أحمد وأهل السنن من حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم:"أهل في دبر الصلاة "وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وقدتقدم انه ضعيف الحفظ صدوق وقد أخرجه الحاكم من وجه آخر.
وأما قوله: "وإلا فركعتان" فلحديث ابن عباس عند أحمد وأبي دأود أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج حين فرغ من ركعتيه".
قوله: "ثم ملازمة الذكر والتكبير في الصعود والتلبية في الهبوط".
أقول: لم يرد في التكبير مطلقا في هذا الموطن ما يصلح للتمسك به لا عندالصعود ولا عند غيره وأما التلبية فقد ثبت عند مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث خلاد بن السائب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل فأمرني أن أمر أصحأبي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية" قال الترمذي: هذا حديث صحيح وصححه ابن حبان والحاكم فهذا يفيد مشروعية رفع الصوت بالتلبية في هذا الموطن من غير فرق بين صعود وهبوط.
وأما قوله: "والغسل لدخول الحرم" فقد ثبت من حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله.
قوله: "ووقته شوال" الخ.
أقول: هذا وقت الاحرام كما ان مكانه الميقات فلا يجوز ولا يجزئ فعل الاحرام قبل وقته وفي غير مكانه ومن زعم انه يجوز ذلك أو يجزئ لم يقبل منه الا بدليل وبهذا تعرف عدم صحة قول المصنف ويجوز تقديمه عليهما.
وأما ما قيل من ان معنى قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] ، بان يحرم لهما من دويرة أهله فقد عورض هذا التفسير بغيره فقيل المراد بقوله وأتموا الحج والعمرة ائتوابهما تامين وهذا التفسير هو الذي يقتضيه ظاهر النظم القرآني.
وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب انه قال في قوله تعالي: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قال: إتمامهما ان يفرد كل واحد منهما عن الاخر وان يعتمر في غير اشهر الحج.
قال ابن عبد البر وأما ما يروى عن عمر وعلى ان تمام الحج والعمرة ان تحرم لهما من دويرة أهلك فمعناه ان تنشيء لهما سفرا تقصده من البلد كذا فسره ابن عيينه فيما حكاه أحمد
عنه والحاصل ان تفاسير الصحابة لا تقوم بها الحجة لا سيما مع اختلافها ومعنى التمام في لسان العرب واضح ظاهر فالواجب البقاء عليه والتمسك به فلا يجوز ولا يجزي الاحرام قبل اشهر الحج ولا قبل الوصول إلي الميقات المضروب للإحرام.
وأما قوله: "ذو الحليفة للمدني" إلخ فهكذا ورد الدليل كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: "وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم قال فهن لهن ولمن اتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها ". وفي الصحيحين [البخاري "1525"، مسلم "5/125"، عن ابن عمر مرفوعا نحوه.
وأما ذات عرق فأخرج البخاري عن ابن عمر قال لما فتح هذان المصران يعني البصرة والكوفة اتوا عمر بن الخطاب فقالوا يا امير المؤمنين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا وإنه جور عن طريقنا وإنا إذا اردنا ان نأتي قرنا شق علينا قال فانظروا حذوها من طريقكم قال فحد لهم ذات عرق ولكنه قد ورد ما يدل على ان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حدها لأهل العراق ذات عرق فأخرج أبو دأود والنسائي عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. ولا يضر تفرد المعافي بن عمران به فهو ثقة.
وأخرج مسلم عن أبي الزبير انه سمع جابرا سئل عن المهل فقال سمعت احسبه رفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ومهل أهل العراق ذات عرق.
وأخرج أحمد وابن ماجه عن جابر مرفوعا من غير شك وفي إسناد أحمد ابن ربيعة وفي إسناد ابن ماجه إبراهيم بن يزيد الخوزي وهما ضعيفان.
وفي الباب عن الحارث بن عمرو السهمي عندأبي دأود وعن أنس عند الطحأوي وعن ابن عباس عند ابن عبد البر وعن عبد الله بن عمرو عند أحمد وهذه الاحاديث يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها بأن ذات عرق وقتها النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق.
[فصل
وإنما ينعقد بالنية مقارنة لتلبية أو تقليد ولو كخبر جابر ولا عبرة باللفظ وإن خالفها ويضع مطلقة على ما شاء الا الفرض فيعينه ابتداء وإذا التبس ما قد عين أو نوى كإحرام فلان وجهله طاف وسعى مثنيا ندبا نأويا ما احرم له ولا يتحلل ثم يستأنف نية معينة للحج من أي مكة مشروطة بأن لم يكن احرم له يستكمل المناسك كالمتمتع ويلزمه بدنة وشاة ودمان ونحوهما لما ارتكب قبل كمال السعي الأول ويجزيه للفرض ما التبس نوعه لا
بالفعل والنذر ومن احرم بحجتين أو عمرتين أو ادخل نسكا على نسك استمر في احدهما ورفض الاخر وأداه لوقته ويتعين الدخيل للرفض وعليه دم ويتثنى ما لزمه قبله] .
قوله: فصل: "وإنما ينعقد بالنية مقارنة لتلبية أو تقليد".
أقول: الاحرام هو مصير الشخص من الحالة التي كان يحل له فيها ما يحرم عليه بعدها إلي الحالة التي يحرم عليه فيها ما كان يحل له فيها ولو لم يكن الا مجرد الكف عن محظورات الاحرام لكان ذلك معنى معقولا لكل عاقل كالصوم فإنه ليس الا الكف عن تنأول المفطرات فمن قال انه لا يعقل معنى الاحرام وانه ليس هناك الا مجرد النية وان النية لا تنوى والا لزم التسلسل فقد اخطأ خطأ بينا ومعلوم ان الشريعة المطهرة بعضها أوامر وبعضها نواه والتعبد في النواهي ليس الا بالكف فيلزمه ان يطرد هذا التشكيل الركيك في شطرالشريعة.
وأما ايجاب النية فقد عرفناك غير مرة ان كل عمل يحتاج إلي النية والعمل يشمل الفعل والترك والقول والفعل وعرفناك ان ظاهر الادلة يقتضى ان النية شرط في جميع ما تقدم من العبادات لدلالة أدلتها على ان عدمها يؤثر في العدم وهذا هو معنى الشرط عند أهل الاصول.
وأما كون النية تقارن التلبية فقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دوأوين الإسلام من غير وجه انه أهل ملبيا وقد قدمنا لك ان افعاله واقواله في الحج محمولة على الوجوب لانها بيان لمجمل القرآن وامتثال لأمره صلى الله عليه وسلم لأمته ان يأخذوا عنه مناسكهم فمن ادعى في شيء منها انه غير واجب فلا يقبل منه ذلك الا بدليل.
وأما كونها تقارن التقليد فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية: "انه لما كان بذي الحليفة قلد الهدى وأشعره واحرم بالعمرة"، [البخاري " 3/544"، أبو دأود "1754"، أحمد "4/323"] .
قوله: "ولو كخبر جابر"
أقول: هو حديث أخرج معناه أحمد من طريقين ورجاله رجال الصحيح وأخرجه البزار أيضا ومضمونه انه بعث صلى الله عليه وسلم بهدي إلي الحرم ثم نزع قميصه وقال: "إني أمرت بهدي ان يقلد ويشعر فلبست قميصي ونسيت".
ويخالفه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت انا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء احله الله له حتى نحر الهدي ويمكن الجمع بتعدد القصة ويؤيد ذلك ما أخرجه النسائي من حديث جابر انهم إذا كانوا حاضرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعث الهدى فمن شاء أحرم ومن شاء ترك وقد كان ابن عباس وابن عمر يبعثان بالهدى ويمسكان عما يمسك منه المحرم وقال ابن المنذر قال علي وعمر وقيس بن سعد وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون من ارسل الهدي واقام حرم عليه ما يحرم على المحرم وقال آخرون لا يصير بذلك محرما.
قوله: "ولا عبرة باللفظ وان خالفها".
أقول: هذا صحيح فالنية هي عقدالقلب واللفظ لادخل له في ذلك ولا اعتبار به فإذا وقع مخالفا لما عقد عليه القلب فهو لغو.
قوله: "ويصنع مطلقه على ما شاء".
أقول: قد قدمنا ان الاحرام غير النية فإذا اطلقه ولم يعين النوع الذي احرم له كان ذلك مفوضا اليه واقعا على اختياره.
وأما قوله وإذا التبس ما قد عينه الخ فأقول: إذا وقع اللبس على وجه يتعذر معه الاهتداء إلي ما يرفعه فلا يجب عليه بمجرد ذلك التعيين شيء ولا يجب عليه شيء مما ذكره المصنف بل له ان يعين بعد ذلك ما شاء ولا يلزمه من أحكام التعيين المنسي شيء هكذا ينبغي ان يقال مطابقة لقواعد الشريعة الكلية والجزئية وقد ثبت في الكتاب العزيز: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وثبت في الصحيح أن الله سبحانه قال عقب كل دعوة من الدعوات التي هذه منها قد فعلت فثبت بهذا عدم المؤاخذة بالنسيان ويؤيده حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" فإنه حديث قد تكاثرت طرقه حتى صلح للاحتجاج به وتأويله بأن المراد رفع الإثم غير مقبول وبهذا تعرف انه لا وجه لهذه التفاصيل التي ذكرها المصنف.
قوله: "ومن احرم بحجتين" الخ.
أقول: هذا الذي احرم بالحجتين ان أراد بذلك في عام واحد فهو متلاعب وهذه النية باطلة لا حكم لها ولا يلزمه وينوي بعد ذلك ما شاء ووجود تلك النية الباطلة كعدمها وان أراد في عامين فكأنه الزم نفسه بحجة مع هذه الحجة فيفي بذلك في عام آخر وأما إدخال النسك على النسك فقد لزم الأول وذكر الثاني لغو باطل لا يلزم ولا يحتاج إلي رفض لأنه وقع عند وجود المانع منه وهو النسك الأول ولا يلزمه للدخيل شيء ولا ينبني عليه ما لزمه من الدماء وهذا ظاهر واضح ولكن التفاريع المبنية على غير اساس تأتي بمثل هذه الخرافات.
[فصل
ومخطوراته أنواع منها الرفث والفسوق والجدال والتزين بالكحل ونحوه ولبس ثياب الزينة وعقد النكاح لا الشهاد والرجعة ولا توجب الا الإثم.
ومنها الوطء ومقدماته وفي الامناء أو الوطء بدنة وفي الامداء أو ما في حكمه بقرة وفي تحرك الساكن شاة قيل ثم عدلها مرتبا.
ومنها لبس الرجل المخيط مطلقا الا اصطلاء فإن نسي شقه وعليه دم وتغطية رأسه
ووجه المراة بأي مباشر غالبا والتماس الطيب وأكل صيدالبر وفيها الفدية شاة أو إطعام ستة أو صوم ثلاث وكذلك في خضب كل الاصابع أو تقصيرها أو خمس منها وفي إزالة سن أو شعر أو بشر منه أو من محرم غيره يبين اثره في التخاطب وفيما دون ذلك وعن كل إصبع صدقة وفيما دونها حصته ولا تتضاعف بتضعيف الجنس في المجلس ما لم يتخلل الاخراج أو نزع اللباس ونحوه.
ومنها: قتل القمل مطلقا وكل متوحش وان تأهل مأمون العذر بمباشرة أو تسبيب بما لولاه لما انفتل الا المستثنى والبحري والأهلي وان توحش والعبرة بالام وفيه مع العمد ولو ناسيا الجزاء وهو مثله أو عدله ويرجع فيما له مثل إلي ما حكم به السلف والا فعدلان وفيما لا مثل له إلي تقويمهما.
وفي بيضة النعامة ونحوها صوم يوم أو إطعام مسكين وفي العصفور ونحوه القيمة وفي افزاعه وإيلامه مقتضى الحال والقملة كالشعرة.
وعدل البدنة اطعام مائة أو صومها والبقرة سبعون والشاة عشرة ويخرج عن ملك المحرم حتى يحل وما لزم عبدا اذن بالاحرام فعلى سيده ان نسي أو اضطر والا ففي ذمته ولا شيء على الصغير] .
قوله: فصل: "ومحظوراته أنواع منها الرفث والفسوق والجدال".
أقول: هذه الثلاثة على تفسير الرفث بفحش الكلام هي محظورة في غير الحج وعلى غير المحرم فذكرها بقوله تعالي: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، يدل على مزيد اثم فاعلها فيه وانها اشد تحريما على الحاج من غيره.
قوله: "والتزين بالكحل ونحوه".
أقول: لم يثبت ما يدل على ان الكحل والدهن من محظورات الاحرام ولا من مكروهاته والاصل الحل وليس لنا ان نثبت ما لم يثبت من المحظورات ويؤيد الجواز وان كان لا يحتاج إلي دليل لأنه الاصل ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن غير مقتت"، قال الترمذي بعد إخراجه هذا حديث غريب لا نعرفه الا من حديث فرقد السبخي عن سعيد بن جبير وقد تكلم يحيى بن سعيد في فرقد وقد روى عنه الناس انتهى ومن عدا فرقدا من رجال اسناده فهم ثقات.
وأما إذا كان الكحل أو الدهن مطيبا فسيأتي البحث عن الطيب والمطيب والمقتت ما طبخ فيه الرياحين أو خلط بأدهان مطيبة.
وأما قوله: "ولبس ثياب الزينة" فهذا حكم لا يرجع إلي رواية ولا رأي صحيح والذي ثبت تحريمه على المحرم من اللباس هو معروف مصرح به في الاحاديث وسيأتي.
قوله: "وعقد النكاح".
أقول: قد صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما [مسلم "41/1409"، أحمد "1/69"، أبو داود "1841"، الترمذي "840"، النسائي "5/192"، ابن ماجة 1966"]، النهي عن ذلك فقال:"لا ينكح المحرم ولا ينكح" كما في حديث عثمان بن عفان وروى النهي أيضا من حديث ابن عمر أخرجه أحمد وفي إسناده أيوب بن عتبة وقد وثق وروى مالك في الموطإ والدارقطني عن أبي غطفان عن أبيه عن عمر بن الخطاب ان رجلا
تزوج وهو محرم ففرق بينهما ولا يعارض هذا ما في الصحيحين [البخاري "4/51"، مسلم "47/1410"، وغيرهما [أحمد "1/266"، أبو داود "1844"، الترمذي "842"، النسائي "5/191"، ابن ماجة "1965"] ، من حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم لوجهين الأول انه أخرج أحمد والترمذي من حديث ميمونة نفسها انه تزوجها وهو حلال وبنى بها وهو حلال.
وأخرجه أيضا مسلم وابن ماجه بلفظ تزوجها وهو حلال وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث أبي رافع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا وبنى بها حلالا وكنت الرسول بينهما وأخرج أبو دأود ان سعيد بن المسيب قال وهم ابن عباس في قوله تزوج ميمونة وهو محرم فهذه رواية ميمونة ورواية أبي رافع وهو السفير بينهما ارجح من رواية ابن عباس لانهما اخبر بالقصة.
والوجه الثاني ان حديث ابن عباس غاية ما فيه على فرض انه ارجح لكونه في الصحيحين ان ذلك جائز لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون خاصا به والنهي خاصا بالامة كما تقرر في الاصول ان فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة وعلى تقدير شمول النهي له فيكون فعله مخصصا له.
وأما قوله: "إلا الشهادة والرجعة" فوجهه ان النهي إنما ورد في النكاح.
قوله: "ولا يوجب إلا الإثم".
أقول: هذا صحيح لان الاصل البراءة عن لزوم شيء في المال حتى يأتي الدليل الدال عليه ولم يرد في هذه المذكورات دليل يدل على انه يلزم فاعلها شيء فيجب التوقف في الايجاب على ما ورد وقد عرفناك غير مرة ان اموال المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا يحل اخراج شيء منها عن ملكهم الا بناقل يصلح للنقل والا كان ذلك من أكل اموال الناس بالباطل.
قوله: "ومنها الوطء ومقدماته" الخ.
أقول: أما كون المحرم ممنوعا من الوطء فظاهر لا سيما بعد حمل قوله: {فَلا رَفَثَ} على الجماع وأما كونه يجب عليه بدنة وفي الامذاء وما في حكمه بقرة وفي تحرك الساكن شاة فليس في هذا شيء في كتاب الله سبحانه ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمأما روى من اجتهادات بعض الصحابة فقد عرفت انها لا تقوم بها الحجة فيما هو دون هذا واعجب من هذا ما سياتي من ان الوطء يفسد الحج ويجب الاستمرار فيه والقضاء له وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله.
قوله: "ومنها لبس الرجل المخيط".
أقول: الاحاديث الصحيحة قد وردت بمنع المحرم من لبس القميص والسرأويل ثم قالوا انه صلى الله عليه وسلم قد نبه بذلك على المنع من كل مخيط ولا أرى هذا صحيحا فإن ورد ما يدل على تحريم لبس المخيط على العموم فذاك ولكنه لم يرد فينبغي التوقف على المنع مما سماه النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في حديث ابن عمر في الصحيحين [البخاري "3/401"، مسلم "1177"] ، وغيرهما [أبو داود "1824"، الترمذي "833" النسائي "5/131، 132"، ابن ماجة 2929"]، إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما يلبس المحرم فقال:"لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين".
وأخرج البخاري "4/52"، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين".
وأخرج أحمد وأبو دأود عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى النساء في الإحرام عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب وزاد أبو دأود والحاكم والبيهقي ولتلبس بعد ذلك ما احبت من الثياب معصفرا أو خزا أو حليا أو سرأويل أو قميصا.
والأحاديث في الباب كثيرة والحاصل ان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد بين أكمل بيان مالا يجوز للمحرم لبسه فما عدا ذلك جاز له لبسه سواء كان مخيطا أو غير مخيط.
وأما قوله: "فإن نسي شقه" فغير صحيح فإن هذا إضاعة للمال وقد رود النهي عنها ولكن ينزع الجبة أو القميص كما في حديث يعلى بن امية ان رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم وهو متضمخ بطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل احرم في جبة بعدما تضمخ بطيب فنظر اليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فجاءه الوحي ثم سرى عنه فقال: "أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟ " فالتمس الرجل فجيء به فقال: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في العمرة كل ما تصنع في حجك"، هكذا في الصحيحين [البخاري "9/9"، مسلم "8/1180"، وغيرهما [أبو داود "1819"، الترمذي "836"، النسائي "5/142، 143"] ، وأما ما ذكره من وجوب الدم في لبس المخيط فليس على ذلك دليل والاصل البراءة فلا ينقل عنها الا دليل صحيح يصلح للنقل.
قوله: "وتغطيه رأس الرجل ووجه المرأة".
أقول: أما تغطيه رأس الرجل فلما أخرجه مسلم "99/1206، 100/1206"، وغيره [البخاري "1851، 1267"، أحمد "1/328، 1/215"، النسائي "5/195، 5/197"]، من حديث ابن عباس ان رجلا وقصته ناقته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا"، وهذا التعليل بقوله فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا يدل على ان العلة في عدم التغطية هو الاحرام قال النووي في شرح مسلم أما
تخمير الرأس في حق المحرم الحي فمجمع على تحريمه وأما وجهه فقال مالك وأبو حنيفة هو كرأسه وقال الشافعي والجمهور لا إحرام في وجهه وله تغطيته وأنه يجب كشف الوجه في حق المرأة.
والحديث حجة عليهم وهكذا حكى المأوردي الاجماع على تحريم تغطية الرأس ومما يدل على منع الرجل من تغطية رأسه ما في الصحيحين وغيرهما من نهيه صلى الله عليه وسلم من لبس العمامة والبرنس كما تقدم.
وأما تغطية وجه المرأة فلما روى ان إحرام المرأة في وجهها ولكنه لم يثبت ذلك من وجه يصلح للاحتجاج وأما ما أخرجه أحمد "6/30"، وابو دأود "1833"، وابن ماجه "2935"، من حديث عائشة قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت احدانا جلبابها من راسها على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه وليس فيه ما يدل على ان الكشف لوجوههن كان لأجل الاحرام بل كن يكشفن وجوههن عند عدم وجود من يجب سترها منه ويسترنها عند وجود من يجب سترها منه وهكذا ما رواه الحاكم وصححه من حديث أسماء بنحوه فإن معناه معنى ما ذكرناه فليس في المنع من تغطية وجه المرأة ما يتمسك به والاصل الجواز حتى يرد الدليل الدال على المنع.
قوله: "والتماس الطيب"
أقول: اعلم ان تحريم الطيب على من قد صار محرما مجمع عليه والاحاديث القاضية بتحريمه عليه كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما وليس الخلاف الا في استمرار المحرم على طيب كان قد تطيب به قبل ان يحرم ثم لم يغسله عنه عند الاحرام فظاهر حديث عائشة الثابت في الصحيحين [البخاري "10/370"، مسلم "36، 37/1189"] ، انها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه بأطيب ما اجد.
وفي لفظ [مسلم "44/99"] ، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد ان يحرم تطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك انه يجوز الاستمرار على الطيب الواقع قبل الاحرام ولا يجب غسله وإلي هذا ذهب الجمهور.
وفي لفظ لمسلم "39/1190"، وغيره [البخاري "3/396"، أبو داود "1746"، من حديثها كأني انظر إلي وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم وأخرج أبو دأود "1830"، عن عائشة قالت كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلي مكة فنضمخ جباهنا بالسك المطيب عند الاحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينهانا ورجال إسناده ثقات الا الحسين بن الجنيد شيخ أبي دأود وقد قال النسائي لا بأس به وقال ابن حبان في الثقات إنه مستقيم الامر.
فالحاصل ان الممنوع من الطيب إنما هو ابتداؤه بعدالاحرام لا استدامته والاستمرار عليه إذا وقع قبل الاحرام وقد حققت هذا البحث في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلي زيادة عليه.
قوله: "وأكل صيد البر".
أقول: الاحاديث الواردة في صيد البر قد بينت معنى قوله سبحانه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] ، وقد جمعت بينها في شرحي للمنتقى بما حاصله انه يحرم صيدالبر على المحرم إذا صاده بنفسه أو صاده محرم آخر أو صاده حلال لاجل المحرم لا إذا صاده حلال لآ لأجل المحرم فإنه يحل له إذا لم يعنه عليه أحد من المحرمين وبهذا يحصل الجمع بين حديث أبي قتادة [البخاري "6/98"، مسلم "58/1196"، أبو داود ":1852"،، اليترمذي "847"، النسائي "5/182"، ابن ماجة "3093"، أحمد "5/182"] ، وحديث الصعب بن جثامة وسائر ما ورد في الباب فارجع إلي ذلك فإنه بحث نفيس.
قوله: "وفيها الفدية" الخ.
أقول: لم يرد في هذه المذكورات ما يدل على لزوم الفدية والاصل البراءة فلا ينقل عنها الا ناقل صحيح وقد ورد القرآن الكريم بلزوم الفدية للمريض ومن به اذى من رأسه إذا حلق رأسه كما يفيده أول الآية فيقتصر على ذلك والتشبث بالقياس غير صحيح.
وهكذا قوله وكذلك في خضب كل الاصابع إلي آخر البحث لا دليل يدل على لزوم الفدية في شيء من ذلك وبالجملة فلم يرد في إيجاب الفدية في شيء من هذه الامور كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع بل لم يرد في الحكم بحظرية بعضها على المحرم ما يصلح للتمسك به وإيجاب ما لم يوجبه الله هو من التقول على الله بما لم يقل.
قوله: "وقتل القمل مطلقا".
أقول: لم يرد ما يدل على ان هذا من محظورات الاحرام والتعويل على القياسات التي هي مجرد دعأوى على القياس لا تثبت الحجة بمثلها وقد أذن صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة كما في الصحيحين [البخاري "1816"، مسلم "85/1201"] ، وغيرهما [أبو داود "1856"، الترمذي "953"، النسائي "5/194"، 195"]، ان يحلق رأسه بعد ان رأى القمل بتناثر على وجهه وأوجب عليه الفدية لأجله لا لأجل القمل فإنه لم يأمره بشيء في ذلك ومعلوم ان جميع ما كان في رأسه من القمل قد ذهب عنه بذهاب الشعر وهلك بالقائه على الارض وهكذا لا وجه لقوله وقتل كل متوحش فإنه لا يصدق عليه انه صيد حتى يندرج تحت قوله سبحانه:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] ، ولا وجه لايجاب الجزء في ذلك مع أن غالب المتوحش من الحيوانات أنه يخشى منه الضرر وقد نبه صلى الله عليه وسلم على علة النهي عن قتل الخمس المستثناة بما ورد في رواية صحيحة من الحاق "السبع العادي" بها فقال والسبع العادي والوصف بالمشتق مشعر بالعلية وقتله لاجل عدوه وكل ما يعدو له حكمه.
والظاهر انه صلى الله عليه وسلم نبه باستثناء الخمس المستثناة عن كل ضار وان العلة في جواز قتلها هو كونها ضارة فيدخل في ذلك كل ضار والقمل من جملة ما يتضرر به الإنسان فضلا عما له مدخلية في الضرر زائدة على القمل.
قوله: "وهو مثله أو عدله" الخ.
أقول: الجزاء واجب في قتل الصيد لا فيما تقدم مما ليس بصيد فلا شك انه المماثل لما صاده لقوله تعالي: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، ولكنه ينبغي أن تكون المماثلة في اخص الأوصاف إذا لم تكن في غالبها لا في الوصف الذي لا مدخل له في المماثلة كما قيل إنه يجب في الحمامة شاة لأنهما متماثلان في العب للماء فإن هذا الوصف لا اعتبار به في الحكم بالمماثلة اصلا بل يقال ان في النعامة بدنة وفي الوعل بقرة وفي الارنب جدي وفي الظبي عنز ونحو ذلك.
وأما الرجوع إلي حكم السلف فلا وجه له الا إذا لم يوجد في الحال من يمكنه الحكم لأن الله سبحانه قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ، والخطاب لكل قوم اتفق فيهم مثل ذلك إلا أن يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك كان العمل به واجبا ولا يجوز المصير إلي خلافه وهكذا إذا فرض ان السلف اتفقوا على حكم من الأحكام وبهذا المقدار يتبين لك الكلام على بقية ما ذكره المصنف في هذا الفصل فإن قلت من حكمه صلى الله عليه وسلم في الجزاء ما أخرجه أبو دأود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والحاكم في المستدرك عن جابر قال جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشا وجعله من الصيد قال الترمذي سألت البخاري عنه فصححه وكذا صححه عبد الحق وقد ذكرت فيما سبق ان ما كان من الوحش لا يصدق عليه اسم الصيد قلت الضبع صيد يحل أكله كما سيأتي الدليل على ذلك فلا يرد النقض به.
[فصل
ومحظور الحرمين قتل صيدهما كما مر والعبرة بموضع الإصابة لا بموضع الموت وفي الكلاب القتل أو الطرد في الحرم وان خرجا أو استرسلا من خارجه.
الأول: قطع شجر اخضر غير مؤذ ولا مستثنى اصله فيهما نبت بنفسه أو غرس لبيقى سنة فصاعدا وفيهما القيمة فيهدي بها أو يطعم وتلزم الصغير وتسقط بالاصلاح وصيدهما ميتة وكذا المحرم وفي حق الفاعل اشد.
الثاني: طواف القدوم داخل المسجد خارج الحجر على طهارة ولو زائل العقل أو محمولا أو لابسا راكبا غصبا وهو من الحجر الأسود ندبا جاعل البيت عن يساره حتى يختم به اسبوعا متواليا ويلزم دم لتفريقه أو شرط منه عالما غير معذور أن لم يستأنف ولنقص أربعة منه فصاعدا وفيما دون ذلك عن كل شرط صدقة ثم ركعتان خلف مقام
إبراهيم عليه السلام فإن نسي فحيث ذكر قيل من ايام التشريق.
وندب الرمل في الثلاثة الأول لا بعدها وان ترك فيها والدعاء في أثنائه والتماس الأركان ودخول زمزم بعد الفراغ والاطلاع على مائه والشرب منه والصعود منه إلي الصفا من بين الأصطوانتين واتقاء الكلام والوقت المكروه. الثالث: السعي وهو من الصفا إلي المروة شرط ثم منها اليه كذلك اسبوعا متواليا وحكمه ما مر في النقص والتفريق وندب على طهارة وان يلي الطواف ويشترط الترتيب والا فدم وللرجل صعود الصفا والمروة والدعاء فيهما والسعي بين الميلين:
الرابع الوقوف بعرفة وكلها موقف الا بطن عرنة ووقته من الزوال في عرفة إلي فجر النحر فإن التبس تحرى ويكفي المرور على أي صفة كان ويدخل في الليل من وقف في النهار والا فدم وندب القرب من مواقف الرسول وجمع العصرين فيها وعصر التروية وعشائه وفجر عرفة في منى والافاضة من بين العلمين.
الخامس: المبيت بمزدلفة وجمع العشاءين فيها والدفع قبل الشروق.
السادس: المرور بالمشعر وندب الدعاء.
السابع: رمي جمرة العقبة بسبع حصيات مرتبة مباحة طاهرة غير مستعملة ووقت ادائه من فجر النحر غالبا إلي فجر ثانية عند أوله يقطع التلبية وبعده يحل غير الوطء.
وندب الترتيب بين الذبح والتقصير ثم من بعد الزوال في الثاني إلي فجر ثانية يرمى الجمار بسبع سبع مبتدئا بجمرة الخيف خاتما بجمرة العقبة ثم في الثالث كذلك ثم له النفر فإن طلع فجر الرابع وهو غير عازم على السفر لزم منه إلي الغروب رمى كذلك وما فات قضى إلي آخر أيام التشريق ويلزم دم وتصح النيابة فيه للعذر وحكمه ما مر في النقص وتفريق الجمار وندب على طهارة وباليمنى وراجلا والتكبير مع كل حصاة.
الثامن: المبيت بمنى ثاني النحر وثالثة وليلة الرابع ان دخل فيها غير عازم على السفر وفي نقصه أو تفريقه دم.
التاسع: طواف الزيارة كما مر بلا رمل ووقت ادائه من فجر النحر إلي آخر أيام الشتريق فمن اخره فدم وإنما يحل الوطء بعده ويقع عنه طواف القدوم إن أخر والوداع بغير نية ومن اخر طواف القدوم قدمه.
العاشر طواف الوداع كما مر بلا رمل وهو على غير المكي والحائض والنفساء ومن فات حجة أو فسد وحكمه ما مر في التقصي والتفريق ويعيده من أقام بعده أياما] .
قوله: فصل: "ومحظور الحرمين قتل صيدهما كما مر".
أقول: أما حرم مكة فلما ثبت في الصحيحين [البخاري "1587"، 1834، 2783، 2825، 3189"، مسلم "1353"، وغيرهما [أبو داود "2018"، أحمد "1/226، 255، 259"، النسائي "5/203، 204"]، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:"إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه ولا ينفر صيده"، الحديث ومثله في الصحيحين [البخاري "4/346"، مسلم "447/1355"، وغيرهما [أبو داود "2017"] ، أيضا من حديث أبي هريرة.
وأما حرم المدينة فلما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أيضا من حديث عباد بن نميم عن عمه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة".
وفي الصحيحين [البخاري "4/81"، مسلم "1370"، أيضا من حديث علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حرم ما بين عير إلي ثور وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة قال:"حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى".
وفي صحيح مسلم "458/1362"، من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها".
وأخرج مسلم "1374"، أيضا من حديث أبي سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إني حرمت المدينة حرام ما بين مأزمنيها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف".
وفي البخاري "4/81"، من حديث أنس بلفظ:"لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث"، وفي الباب احاديث. فهذه الأدلة تدل على تحريم ما اشتملت عليه ومن جملة ذلك الصيد وإذا حرم مجرد تنفيره كان تحريم قتله ثابتا بفحوى الخطاب.
وأما قوله والاعتبار بموضع الإصابة لا بموضع الموت فصحيح ولا ينبغي أن يقع في مثله خلاف وهكذا الاعتبار في الكلاب المرسلة للصيد ان يكون من الحرم الا إذا اسلها من غيره غير قاصد لدخولها الحرم.
قوله: "الثاني قطع شجر اخضر غير مؤذ ولا مستثنى".
أقول: أما تحريم قطع الشجر فقد دلت عليه الادلة التي ذكرنا بعضها في البحث الذي قبل هذا وقد ورد فيها الترخيص في الاذخر وفي علف الدواب منها فهذان الصنفان هما المستثنيان من النبات النابت في الحرم وأما الشجر المؤذي فلم يرد دليل يدل على الترخيص فيه لكن إذا كان نابتا في الطريق مثلا على وجه لا يمكن المرور الا بحصول ضرر منه فقواعدالشريعة تدل على جواز قطع ما كان ضارا وقد جاز قتل الحيوان لضرره فكيف لا يجوز قطع النبات. وما ورد
في رواية بلفظ: "لا يعضد شوكها" فمحمول على ما يمكن المحرم تجنبه الا إذا الحت الضرورة إلي المرور عليه والوقوف فوقه فإن قطعه لدفع ضرره أولى من تركه مع حصول الضرر منه وقد أذن صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة أن يحلق رأسه لضرر ما فيه من القمل وقال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] ، فالترخيص للمريض إنما هو لمجرد تضرره بالمرض وكذلك من به أذى من رأسه فإن ذلك إنما رخص فيه لما يحصل به من الضرر.
وأما قوله: "نبت بنفسه أو غرس ليبقى سنة" فلا وجه لهذا التقييد ولا ورد ما يدل عليه ولكن الأمر المستمر من أهل الحرمين في سالف الزمان وإلي الان انهم يزرعون الزرائع ويغرسون الغروس فلعل هذا الشيء ثبت لهم كأن يكون الأمر في عصر النبوة وعصر الصحابة هكذا فإنه إذا كان هكذا كان ذلك دليلا على الجواز.
قوله: "وفيهما القيمة".
أقول: أما قتل صيدالحرم فقد صرح القرأن الكريم بأن من قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم وقد تقدم تحقيق ذلك وأما القيمه في الصيد فلا دليل يدل على لزومها وهكذا لم يرد دليل يدل على وجوب الجزاء أو القيمة في قطع شجر الحرم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم" 64] ، والاصل براءة الذمة وعصمة أموال المسلمين حتى يرد الدليل الصحيح الناقل عن ذلك ولكنه ورد في قطع شجر حرم المدينة كما أخرجه مسلم وغيره من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص ان سعدا ركب إلي قصره بالعقيق فوجدا عبدا يقطع شجرا ويخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه ان يرد عليه أو عليهم ما اخذ من غلامهم فقال معاذ الله ان ارد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي ان يرد عليهم.
وأخرج أحمد وابو دأود من حديث سليمان بن أبي عبد الله قال رأيت سعد بن أبي وقاص اخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلبه ثيابه فجاء مواليه اليه فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم وقال: "من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه"، فلا أرد عليك طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ان شئتم أعطيتكم ثمنه أعطيتكم وأخرجه الحاكم وصححه.
قوله: "الثاني طواف القدوم".
أقول: قد عرفناك ان النبي صلى الله عليه وسلم علم الناس مناسك حجهم الذي أمر به الله سبحانه في كتابه العزيز بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} آل عمران: 97] ، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم"، فكل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو واجب بالقرآن وبالسنة وليست المناسك الا هذه المأخوذة من فعله ولم يعلم الناس بها إلا منه فما قيل انه لا بد أن يعرف أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو منسك فهو غلط أو مغالطة.
وإذا تقرر لك هذا فقد ثبت ثبوتا متواترا إن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجته الذي علم الناس كيف يحجبون طواف القدوم فدل ذلك على أنه منسك واجب لمن كان حجه مثل حجه صلى الله عليه وسلم
والقائل بعدم الوجوب عليه الدليل الموجب لتخصيص ما قدمنا من القرآن والسنة المبينين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وكان طوافه صلى الله عليه وسلم داخل المسجد خارج الحجر وهذا يكفي في الاستدلال على هذه الصفة مع ما يفيده ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الحديث الثابت في الصحيحين [البخاري "8/170"، مسلم "399/1333"] ، وغيرهما [أحمد "6/176، 177"، النسائي "5/214، 215"]، أنه قال:"الحجر من البيت".
قوله: "على طهارة".
أقول: إنما يثبت وجوب هذه الطهارة إذا ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم طاف طاهرا أي متوضئا وضوء الصلاة أو أمر الطائفين بذلك ولا يدل على هذا الوجوب منعه صلى الله عليه وسلم للحائض ان تطوف بالبيت فإن المانع من ذلك إنما هو حيضها فلا يدل الا على ان الحائض ممنوعة من البيت بل فيه ما يفيد عدم وجوب كون الطواف على طهارة لأنه لم يأمرها الا بانتظار انقطاع حيضها ولم يأمرها بأن تتوضأ للطواف وهكذا لا يدل على ذلك حديث: "الطواف بالبيت صلاة" فإنه ليس المراد انه كالصلاة في جميع أحكامه التي من جملتها الطهارة فإنه لم يقع فيه شيء من أركانها ولا من أذكارها فكيف يستدل به على وجوب ما هو خارج عنها وهو الطهارة وأما الاستدلال بكون آخر الطواف ركعتي الطواف وهما لا يصحان الا من متطهر فهذا الاستدلال إنما يتم على تقدير وجوب الموالاة بين الركعتين وبين الطواف بحيث لا يفصل بينهما فاصل يتسع للطهارة ولم يرد ما يدل على هذا الا ان يقال إنه صلى الله عليه وسلم وإلي بينهما فدل ذلك على انه طاف متوضئ نعم قد ثبت من حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما ان أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة انه توضأ ثم طاف بالبيت فهذا هو الدليل على وجوب كون الطواف على طهارة وقد تقرر ان الأصل في كل أفعاله في الحج الوجوب.
وأما كونه يجزى طواف زائل العقل لذلك للعذر العارض له لا سيما من استمر عليه ذلك كمن غلبه المرض وخشي ان يفوته الطواف وليس هذا بمناقض لما تقدم من إيجاب الطهارة فللأعذار حكمها.
وأما قوله: "ولو محمولا أو لابسا أو راكبا غصبا". فلا شك ان لابس المغصوب أو راكب المغصوب قد اثم اثم فاعل الحرام وأما كون هذا يبطل به الطواف فيحتاج إلي دليل يدل عليه.
قوله: "وهو من الحجر الاسود ندبا".
أقول: قد عرفناك غير مرة ان افعاله صلى الله عليه وسلم في الحج محمولة على الوجوب لانها بيان لمجمل قوله تعالي: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، ولمجمل قوله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عني مناسككم" وفي الطواف خاصة لمجمل قوله تعالي: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وقد صح انه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة اتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا وهكذا يجب التسبيع للطواف كما وردت بذلك الاحاديث الكثيرة الصحيحة وهي بيان لمجمل القرآن والسنة كما عرفت وهكذا التوالي بين الاشواط على الحد الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل هذه الأفعال فريضة على كل من يحج البيت.
قوله: "ويلزم لتفريقه دم أو شوط منه" الخ.
أقول: ليس على هذا دليل يدل عليه وأما ما استدلوا به من حديث ابن عباس بلفظ من ترك نسكا فعليه دم فلم يصح رفعه قال ابن حجر في التلخيص لم اجده مرفوعا وقد اعل ابن حبان الرفع بأن في إسناده مجهولين أحمد بن علي المروزي وعلي بن أحمد المقدسي فالعجب من الزام عباد الله بأحكام ليست من الشرع في شيء ولا قام عليها دليل ولا شبهة دليل وقد قرن الله سبحانه في كتابه العزيز بين الشرك وبين التقول عليه بما لا يعلمه المتقول فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .
قوله: "ثم ركعتان خلف مقام إبراهيم".
أقول: قد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان لمجمل القرآن والسنة وفي حديث جابر الطويل الذي وصف فيه حج النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلي مقام إبراهيم قرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] ، فصلى ركعتين فقرا فيهما فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد [مسلم "147/1218"، النسائي "2961"] .
فقراءته صلى الله عليه وسلم للاية يدل على انها واردة في صلاة هاتين الركعتين فيكون ذلك دليلا قرآنيا عليهما بخصوصهما والناسي لهما يقضيهما عند الذكر في أيام التشريق أو غيرها لاكما ذكره المصنف هذا إن ورد دليل يدل على القضاء والا فالنسيان عذر مسوغ للترك وعدم المؤاخذة به كما قدمنا تحقيق ذلك في غير موضع.
قوله: "وندب الرمل في الثلاثة الأول" الخ.
أقول: هذا مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فكان من جملة فرائض الحج على ما قدمنا تقريره وقد انضم إلي هذا الفعل الذي وقع بيانا للكتاب والسنة ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم امرهم ان يرملوا الاشواط الثلاثة لما بلغه ان المشركين قالوا: إنها قد وهنتهم حمى يثرب ولا يقال إنه يزول الوجوب بزوال سببه لأن فرائض الحج قد ثبتت وإن زالت اسبابها وحكى النووي في شرح مسلم عن ابن عباس أنه قال: الرمل ليس بسنة قال النووي هذا مذهبه وخالفه جميع العلماء من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم انتهى.
قوله: "وندب الدعاء في أثنائه".
أقول: لما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وصححه من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالي"، وقد عرفت أن هذه مناسك واجبة ولم تشرع الا للدعاء فالدعاء واجب بهذا الدليل ثم قد ثبت انه صلى الله عليه وسلم دعا في طوافه فكان ذلك بيانا لمجمل القرآن والسنة فكان
واجبا والمراد مطلق الدعاء والذكر فإن أمكن فعل المروى في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أتم وأكمل وقد أخرج أحمد "12/67"، وابو دأود "1892"، والنسائي "وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث عبد الله بن السائب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر الاسود: " {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقد رويت في أدعيته صلى الله عليه وسلم في الطواف أحاديث وفي بعضها ضعف.
قوله: "والتماس الأركان".
أقول: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم الا استلام الركن اليماني والركن الاسود كما في الاحاديث الصحيحة ولم يثبت انه استلم غيرها قط ثم ثبت عنه في الركن الاسود انه قبله وثبت عنه انه وضع يده عليه ثم قبلها وثبت عنه انه استلمه بمحجن ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الركن اليماني الا مجرد الاستلام لا التقبيل الا في رواية رواها البخاري في تاريخه عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله ورواه أيضا أبو يعلى والدارقطني وفي إسناده عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف وزاد الدارقطني في هذا الحديث انه صلى الله عليه وسلم كان يضع خده عليه ولكن الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلمه فقط ورواية التقبيل ووضع الخد لم تثبت كما عرفت.
قوله: "ودخول زمزم بعد الفراغ".
أقول: قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جابر وغيره فهو من الأفعال المشتملة على بيان مجمل الكتاب والسنة كما عرفت ولا وجه لجعله وجعل الاستلام مندوبين فقط وأما الاطلاع على ماء زمزم فلم يثبت فيه دليل لا صحيح ولا حسن وأما الشرب منه فلو لم يكن فيه الا ما ثبت في صحيح مسلم: "أنه طعام طعم وشفاء سقم" لكان ذلك كافيا مع ان حديث: "ماء زمزم لما شرب له" هو عند أحمد وابن ماجه وقد صححه المنذري والدمياطي وحسنه ابن حجر وهو مروي من طريق جماعة من الصحابة.
وأما قوله والصعود إلي الصفا الخ فقد ثبت هذا من فعله صلى الله عليه وسلم فله حكم سائر أفعاله في الحج.
قوله: "واتقاء الكلام والوقت المكروه".
أقول: أما اتقاء الكلام فقد قدمنا حديث "إنما جعل الطواف والسعي ورمي الجمار لإقامة ذكر الله سبحانه" والكلام بغير ما فيه ذكر الله مكروه من هذه الحيثية.
وأما اتقاء الوقت المكروه فلم يرد ما يدل على كراهة الطواف في الأوقات المكروهة وأما حديث: "الطواف بالبيت صلاة" فقد قدمنا انه لا يدل على إثبات أركان الصلاة وأذكارها اللذين هما ماهية الصلاة فكيف يدل على ما هو خارج عنها مع انه قد أخرج أحمد "4/80"، وأهل
السنن ل [أبو داود "1894"، الترمذي "868"، النسائي "5/223"، ابن ماجة "1254"]، من حديث ابن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا بني عبد مناف لا تمنعوا احدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء"، وقد صححه الترمذي وابن حبان وهو يرد القول بكراهة الطواف في الأوقات المكروهة ويدل على انه لا يكره فعل ركعتي الطواف في الأوقات وقد كان بعض السلف يؤخرها إذا صادف فراغه من الطواف في وقت مكروه.
قوله: "الثالث السعي".
أقول: هذا نسك ثابت بفعله صلى الله عليه وسلم الذي وقع بيانا لمجمل القرآن والسنة مع ما ورد من حديث حبيبة بنت أبي تجراه قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي تدور به إزاره وهو يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليك السعي"، أخرجه أحمد والشافعي وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف ولكن قد روى من طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة والطبراني من حديث ابن عباس.
وأخرج أحمد "6/421، 422"، من حديث صفية بنت شيبة ان امرأة خبرتها انها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول:"كتب الله عليكم السعي فاسعوا"، وفي إسناده موسى ابن عبيدة وهو ضعيف.
وقد أخرج النسائي "2972"، عنه صلى الله عليه وسلم انه استلم الركن ثم خرج فقال:"إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدأوا مما بدأ الله به".
وأخرج مسلم "84/1780"، من حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا الحديث.
قوله: "وهو من الصفا إلي المروة شوط ثم منها اليه كذلك".
أقول: هذا هو الحق ومن خالف في ذلك فقد غلط غلطا بينا وعلى هذا سلف هذه الامة وخلفها وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه بدأ بالصفا كما قدمنا قريبا >و
ثبت عنه في الصحيحين [البخاري "3/502"، مسلم "231، 1261"، وغيرهما "الترمذي "2960"، ابن ماجة 2974"] ، أنه طاف بين الصفا والمروة سبعا وهذا فيه غاية البيان فلو كان السعي من الصفا إلي المروة ثم منها اليه شوطا لكان قد طاف بين الصفا والمروة اربع عشرة مرة لا سبعا فقط.
وأما كونه متواليا فهذا كان سعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وأما قوله: "وحكمه في النقص والتفريق ما مر" فقد قدمنا انه لم يدل على ذلك دليل لافي الطواف ولا في السعي وأما كونه على طهارة فلم يدل على ذلك دليل وأما اشتراط الترتيب بين الطواف والسعي فكهذا كان فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه من تقديم الطواف على السعي. وأما كون عدم الترتيب يوجب دما فلا دليل على ذلك وقد قدمنا لك الكلام على حديث: "من
ترك نسكا فعليه دم" وأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حجة في قول غيره ولكنه ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمرو وانه قام إلي النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال كنت احسب ان كذا قبل كذا ثم قام اليه آخر فقال كنت احسب ان كذا قبل كذا حلقت قبل ان انحر نحرت قبل ان ارمي وأشباه ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افعل ولا حرج لهن كلهن"، فما سئل يومئذ عن شيء الا قال: "افعل ولا حرج"، وفي الباب أحاديث وليس في شيء منها ذكر تقديم السعي على الطواف الا ان يكون مثل ذلك داخلا في مثل هذا العموم وأما ما وقع في حديث اسامه عند أبي دأود بلفظ: سعيت قبل أن أطوف، فقد قال الحفاظ انه ليس بمحفوظ.
قوله: "وللرجل صعود الصفا والمروة والدعاء فيهما".
أقول: قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه اتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلي البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء ان يدعو وهكذا ثبت في الصحيح من حديث جابر وفيه فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره ثم قال في آخره ثم نزل إلي المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا وقد قدمنا حديث: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا ورمى الجمار لإقامة ذكر الله"، ولم يرد ما يدل على تخصيص الرجال بصعود الصفا والمروة.
وأما مشروعية السعي بين الميلين فقد قدمنا ما يدل على ذلك قريبا.
قوله: "الرابع الوقوف بعرفة".
أقول: الدليل على ان هذا منسك من مناسك الحج ما قدمناه من فعله صلى الله عليه وسلم الذي وقع بيانا لمجمل الكتاب والسنة مع ما انضم إلي ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، كما في حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي.
وأخرج أحمد "4/15"، وأهل السنن [أبو داود "1950"، الترمذي "891"، النسائي "264"، ابن ماجة "316"، وصححه الترمذي "3/239"، من حديث عروة بن مضرس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه"، وقضى تفثه ورجال إسناده رجال الصحيح ومحمد بن اسحاق قد صرح فيه بالتحديث وقد صححه جماعة من الحفاظ.
وأما قوله وكلها موقف الا بطن عرنة فلما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر انه صلى الله عليه وسلم قال: "وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف"، يعني المزدلفة.
وأما استثناء بطن عرنة فيدل عليه حديث جابر مرفوعا عندابن ماجه وفيه التصريح باستثناء بطن عرنة قال ابن حجر وفيه القاسم بن عبد الله بن عمر العمري كذبه أحمد ثم ذكر له شواهد لايخلو كل واحد منها عن مقال شديد.
قوله: "ووقته من الزوال في عرفة إلي فجر النحر".
أقول: قد نقل كثير من الائمة الاجماع على هذا الوقت وما روى عن أحمد بن حنبل من ان النهار من يوم عرفة كله وقت للوقوف فهو مسبوق بالاجماع.
وأما استدلالة بما تقدم من حديث عروة بن مضرس من قوله وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد قيد مطلق النهار الاجماع بأنه من الزوال.
قوله: "فإن التبس تحرى".
أقول: هذا مبني على حصول اللبس من كل وجه أما إذا قداتفق السواد الاعظم وجمهور الحاج على يوم الوقوف فلا لبس بل الرجوع اليهم يكفي ويرفع اللبس.
وأما قوله ويكفي المرور على أي صفة كان فغير مسلم بل لا بد ان يفعل ما يصدق عليه مسمى الوقوف فإن هذا هو النسك الاعظم فلا بد من حصول مدلوله وإذا قد فعل هذا فلا وجه لقوله ويدخل في الليل من وقف في النهار ولا دليل يدل على ذلك وهكذا لا دليل على قوله والا فدم لما قدمناه لك.
قوله: "وندب القرب من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم".
أقول: هذه الفضيلة لا تنافي ما قاله صلى الله عليه وسلم من ان عرفة كلها موقف فان تتبع آثاره والوقوف في مواقفه في حج وغيره هو من اعظم مواطن التبرك التي تكون ذريعة إلي الخير وصلة إلي الرشد وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يبالغون في مثل هذا ويتنافسون فيه حتى كان عبد الله بن عمرو إذا وصل إلي السباطة التي بال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فعل كفعله وبال قائما مع ما في ذلك من التعرض لمخالفة النهى ان يبول الرجل قائما فكيف مالا يخالفه شيء.
وأما قوله: "وجمع العصرين فيها" فلم يثبت في هذا ما يصلح للاستدلال به والذي في حديث جابر الطويل المتضمن لبيان حجه صلى الله عليه وسلم انه نزل بنمرة حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت فركب حتى اتى بطن الوادي فخطب الناس ثم اذن بلال ثم اقام الصلاة فصلى الظهر ثم اقام فصلى العصر ولم يصل بينهما وهكذا لم يثبت انه صلى الله عليه وسلم جمع بين عصرى التروية وأما صلاته صلى الله عليه وسلم في منى الصلوات الخمس فقد وقع ذلك كما في حديث جابر وهكذا الإفاضة من بين العلمين.
قوله: "الخامس المبيت بمزدلفة".
أقول: قد صح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من فعله الواقع بيانا لمجمل الكتاب والسنة كما قدمنا غير مرة وانضم إلي ذلك ما تقدم في حديث عروة بن مضرس.
وأما قوله: "وجمع العشاءين فيها" فقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث جابر الطويل انه صلى الله عليه وسلم
اتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بإذان واحد واقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر الحديث وفي الباب أحاديث في الصحيحين [البخاري "3/523"، مسلم "287"، 288، 1286"] ، وغيرهما [أبو داود "1926"، الترمذي "887"، النسائي "3033"] .
وهكذا الدفع منها قبل الشروق وقد ثبت في حديث جابر المذكور انه صلى الله عليه وسلم بعد ان صلى الفجر ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام وفي الباب احاديث.
والحاصل ان الادلة قد دلت على وجوب المبيت بمزدلفة وعلى جمع العشاءين بها وعلى صلاة الفجر فيها وعلى الدفع منها قبل شروق الشمس فهذه واجبات من واجبات الحج وفرائض من فرائضه لا سيما صلاة الفجر بمزدلفة لقوله في حديث عروة بن مضرس المتقدم "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" فإن هذه العبارة تفيد انه لا يتم حج من لم يصل الفجر بالمزدلفة.
قوله: "السادس المرور بالمشعر".
أقول: هذا قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم انه ركب القصواء حتى اتى المشعر الحرام ولا ينافي كونه منسكا من مناسك الحج قول من قال إنه من المزدلفة أو المزدلفة فلا مانع من ان يجتمع في موضع واحد منسكان فمبيته صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة نسك واتيان المشعر الحرام بعد صلاة الفجر نسك وقد أيد كونه نسكا الامر القرآني بالدعاء عنده حيث قال تعالي: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، فإن قلت كان يلزم على هذا ان يكون في المزدلفة نسكات متعددة المبيت بها وجمع العشاءين فيه وصلاة الفجر بها والمرور بالمشعر الحرام والدعاء عنده قلت هذا ملتزم وما المانع من ذلك وهذا الذكر المشروع قد بينه صلى الله عليه وسلم فإنه لما اتى المشعر الحرام استقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى اسفر جدا هكذا في الحديث الثابت في الصحيح وبه يظهر انه لا يكفى مجرد المرور بالمشعر بل لا بد من الوقوف فيه كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "السابع رمي جمرة العقبة".
أقول: رمى الجمار قد صح من قبله صلى الله عليه وسلم على الصفة الثابتة في الاحاديث المشتملة على بيان حجه صلى الله عليه وسلم فكان رميها رميها منسكا من مناسك الحج لما قدمنا من ان فعله صلى الله عليه وسلم لبيان مجمل الكتاب والسنة ومن جملة ذلك ما في حديث جابر الثابت في الصحيح قال رمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس وثبت أيضا من فعله صلى الله عليه وسلم أنه رمى الجمرة الكبرى بسبع حصيات والمراد بالجمرة هنا وبالجمرة الكبرى جمرة العقبة.
وأما اشتراط كونها طاهرة مباحة فللأدلة الواردة في المنع من استعمال النجاسات وملابستها وما ورد فهي تحريم مال الغير الا باذنه وأما كونها غير مستعملة فلم يدل عليه دليل والاصل الجواز والدليل على المانع.
قوله: "ووقته من فجر النحر إلي فجر ثانية".
أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم انه رمى ضحى كما تقدم وأخرج أحمد "1/234، 311"] ، وأهل السنن [أبو داود "1940"، ابن ماجة "3025"، النسائي "5/270، 272"، الترمذي "892"] ، من حديث ابن عباس انه صلى الله عليه وسلم نهى أغيلمة بني عبد المطلب ان يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس وصححه الترمذي "3/239، 240"، وابن حبان وحسنه ابن حجر في الفتح.
وهكذا أخرج الترمذي "893"، من حديثه انه صلى الله عليه وسلم نهى ضعفه أهله ان يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فدل ما ذكرناه على ان أول وقت الرمي من طلوع الشمس لا من فجر النحر ولا يعارض هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ام سلمة انها رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح لانها استدلت على ذلك بقولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أذن للظعن" فكان ذلك خاصا بهن.
وهكذا لم يدل دليل تقوم به الحجة على امتداد الوقت إلي فجر ثاني النحر فالذي ينبغي التعويل عليه في هذا الوقت هو فعله صلى الله عليه وسلم من رميه ضحى مع انضمام النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس اليه فيكون وقته من طلوع الشمس في يوم النحر إلي آخر الوقت الذي يطلق عليه انه ضحى.
وأما ما أخرجه البخاري "3/559"، وغيره [أبو داود "1983"،النسائي "272"، ابن ماجة "3050"، من حديث ابن عباس انه ساله رجل فقال: رميت بعدما امسيت فقال: "افعل ولا حرج"، ففيه الترخيص لمن جهل الوقت لا لمن علمه.
قوله: "وعند أوله يقطع التلبية".
أقول: لحديث ابن عباس في الصحيحين [البخاري "3/404"، مسسلم "167، 1281"، وغيرهما أبو داود "1815"، الترمذي " 918"، ابن ماجة "3040"، النسائي "3081"] . ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي بمنى حتى رمى جمرة العقبة ولكن هذا يحتمل انه قطع التلبية عند الشروع في الرمي ويحتمل انه تركها عند الفراغ منه ويؤيد هذا ما روى من حديث الفضل بن عباس عند النسائي "4086/والبيهقي انه صلى الله عليه وسلم قطع التلبية مع آخر حصاة.
وأما قوله: "وبعده يحل غير الوطء" فلحديث أنس عند مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم اتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق: "خذ" وأشار إلي جانبه الايمن ثم الايسر.
ولما أخرجه أحمد "1/234"، أبو داود "1978"، النسائي "3084"، ابن ماجة "3041"، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء الا النساء"، فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ راسه بالمسك أفطيب هو؟ قال في البدر المنير: وإسناده حسن.
وفي الصحيحين من حديث عائشة قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ان يحرم ويوم النحر قبل ان يطوف بالبيت.
ولفظ النسائي "2687"، "طيبت رسول الله صلي الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله بعد ما رمي جمرة العقبة ثبل أن يطوف بالبيت".
وأما قوله: "بين الذبح والتقصير" فيدل عليه تقديم النبي صلى الله عليه وسلم للرمي وفعل الذبح بعده ثم الحلق بعدالذبح كما هو ثابت في الصحيح والاحاديث الواردة بالتصريح بنفي الحرج لمن قال حلقت قبل ان ارمي ولمن قال حلقت قبل ان انحر ولمن قال افضت قبل ان احلق انه يجوز تقديم البعض على البعض حتى قال ابن عباس في حديثه الثابت في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج" وقال ابن عمرو في حديثه الثابت في الصحيحين وغيرهما فما سئل يومئذ عن شيء الا قال: "افعل ولا حرج".
قوله: "ثم من بعد الزوال في الثاني" الخ.
أقول: يدل على هذا ما أخرجه أحمد وابو دأود وابن حبان والحاكم من حديث عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلي مني فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها.
وأخرج أحمد "12/218"، والترمذي "898"، وابن ماجه "3054"، من حديث ابن عباس قال رمى رسول الله صلى الله عليه وآله الجمار حين زالت الشمس وأخرج نحوه مسلم في صحيحه من حديث جابر.
وأما الابتداء بجمرة الخيف والختم بجمرة العقبة فلما ثبت في البخاري وغيره من حديث ابن عمر انه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمى الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمى الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
قوله: "فإن طلع في الرابعة" الخ.
أقول: يدل على هذا حديث عائشة المتقدم قريبا انه صلى الله عليه وسلم مكث بمنى ليالي أيام التشريق الحديث وقد تقدم ان رميه صلى الله عليه وسلم إنما كان وقت الزوال فلا يدخل وقت الرمي الا هذا الوقت لا عند طلوع الفجر كما ذكر المصنف.
قوله: "وما فات قضى إلي آخر أيام التشريق".
أقول: لم يرد ما يدل على هذه الكلية وأما حديث عاصم بن عدي عند أحمد "5/450"، وأهل السنن [أبو داود "1975"، ابن ماجة "3037"، الترمذي " 955"، النسائي "3069"، ومالك
والشافعي وابن حبان والحاكم وصححه الترمذي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغداة من بعدالغد ليومين ثم يرمون يوم النفر فهو على فرض ان بعض هذا الرمي وقع قضاء مختص بأهل الاعذار نعم حديث: "فدين الله أحق أن يقضى" يدل بعمومه على وجوب القضاء ولكل عبادة ورد بها الشرع الا ما خصه دليل.
وأما قوله: "ويلزم دم" فقد قدمنا انه لا دليل على ذلك الا قول ابن عباس ان صح وقد عرفت ان قول الصحأبي ليس بحجة على أحد من العباد.
وأما قوله: "وتصح النيابة للعذر" فهو وان لم يرد ما يدل على ذلك ولكن الاعذار مسوغة للاستنابة الا ان يقال ان العذر مسقط للوجوب من الاصل لأنه لا وجوب على معذور الا ان يكون مثل رعاء الإبل.
وأما قوله: "وحكمه ما مر في النقص وتفريق الجمار" فقد قدمنا الكلام على ذلك هنالك.
وأما قوله: "وندب على طهارة" فليس على ذلك دليل.
وأما قوله: "وباليمنى" فيدل عليه أحاديث التيامن فإنها تشتمل على مثل هذا.
وأما قوله: "وراجلا" فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الرمي راكبا وراجلا فكان الكل سنة ولا وجه لتخصيص أحد الامرين بالندب.
وأما التكبير مع كل حصاة فقد قدمنا انه كان صلى الله عليه وسلم يكبر مع كل حصاة.
قوله: "الثامن المبيت بمنى" الخ.
أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم الواقع بيانا لمجمل القرآن والسنة فافاد ذلك فرضيته ويؤيد ما تقدم من ترخيصه للرعاء في البيتوتة فإن الترخيص لهم يدل على انه عزيمة على غيرهم وهكذا ترخيصه صلى الله عليه وسلم للعباس فإنه يدل على انه عزيمة على غيره وبذلك تتأكد الفرضية.
وأما قوله: "وليلة الرابع إن دخل وهو غير عازم على السفر" فليس في هذا دليل تقوم به الحجة.
وأما قوله: "وفي نقصه وتفريقه دم" فقد قدمنا ان إيجاب هذا الدم في هذه المناسك من التقول على الشرع بما لم يقل.
قوله: "التاسع طواف الزيارة".
أقول: هو المسمى بالافاضة وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة فكان نسكا ويؤكد ذلك وقوع الاجماع عليه قال النووي في شرح مسلم وقد اجمع العلماء ان هذا الطواف وهو طواف الافاضة ركن من أركان الحج لا يصح الحج الا به واتفقوا على انه يستحب فعله يوم النحر بعدالرمي والنحر والحلق فإن آخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه بالاجماع فإن أخره إلي بعد أيام التشريق وأتى به بعدها أجزأه ولا شيء عليه عندنا وبه قال جمهور العلماء وقال أبو حنيفة ومالك إذا تطاول لزم معه دم انتهى. وقد حكى مثل هذا الاجماع الذي حكاه النووي في الطوافين المهدي في البحر قيل
وطواف الافاضة هذا هو المأمور به في قوله تعالي: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28] .
وأما كونه بلا رمل فلعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الطواف.
وأما قوله: "ووقت أدائه من فجر النحر إلي آخر أيام التشريق" فلما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر انه صلى الله عليه وآله وسلم أفاض يوم النحر وهكذا في صحيح مسلم من حديث جابر.
وأما امتداده إلي آخر ايام التشريق فهو مجمع عليه كما تقدم.
وأما قوله فمن أخره فدم فلا دليل على ذلك كما قدمنا.
وأما قوله: "ويقع عنه طواف القدوم" إن أخر والوداع بغير نية فلا دليل على هذا الوقوع ولا يدل عليه ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك"، لأن غاية ما في هذا انه لا يجب الا طواف واحد وليس فيه وقوع طواف عن طواف وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه طاف ثلاثة طوافات طواف القدوم وطواف الافاضة وطواف الوداع فما ورد مما يخالف هذا عن صحأبي أو غيره لم تقم به حجة.
وأما قوله: "ومن أخر طواف القدوم فدم"، فهذا صحيح لأن طواف القدوم من جملة مناسك الحج وقد قدمه صلى الله عليه وسلم على طواف الافاضة فإذا أخره عن وقت قدومه قدمه قبل طواف الافاضة وفاء بما شرعه صلى الله عليه وسلم لأمته.
قوله: "العاشر طواف الوداع".
أقول: هذا الطواف قد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم المبين لمجمل القرآن والسنة ويزيده تأكيدا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه أمر الناس ان يكون آخر عهدهم بالبيت.
وأما كونه بلا رمل فلكون ذلك لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
وأما كونه على غير الحائض والنفساء فلثبوت الترخيص منه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح [البخاري "1/407"، مسلم "119/1211"] .
وأما كونه على غير المكي فلكونه غير مودع للبيت.
وأما كون حكمه ما مر في النقص والتفريق فقد قدمنا الكلام على ذلك.
وأما كونه يعيده من اقام بعده ايأما فلأمره صلى الله عليه وسلم للناس ان يكون آخر عهدهم بالبيت.
[فصل
ويجب كل طواف على طهارة وإلا أعاد من لم يلحق بأهله فإن لحق فشاة الا الزيارة فبدنة عن الكبرى وشاة عن الصغرى قيل ثم عدلهما مرتبا ويعيد إن عاد فتسقط البدنة إن أخرها ويلزم شاة والتعري كالأصغر وفي طهارة اللباس خلاف] .
قوله: "فصل ويجب كل طواف على طهارة".
أقول: قد قدمنا في طواف القدوم انه صلى الله عليه وسلم ثبت عنه انه توضا ثم طاف فالحاق سائر الطوافات به إلحاق صحيح لعدم الفارق ولكن المصنف رحمه الله خبط في هذا الفصل فإن قوله وإلا أعاده من لم يلحق بأهله لا يناسب ما ذكره من وجوب الطهارة لأن الاعادة فرع البطلان والبطلان لا يكون الا لخلل شرط أو ركن والطهارة واجبة في الطواف كما قال وليست بشرط ولا ركن ثم قوله فإن لحق بأهله فشاة لا دليل عليه كما قدمنا ثم إيجابه على من فاته طواف الزيارة بدنة عن الكبرى وشاة عن الصغرى لا دليل عليه ولا يوافق الرأي الذي بني عليه لأن الطهارة إذا كانت شرطا بطل طواف الزيارة بعدمها ما تقرر ان الشرط يؤثر عدمه في العدم وإذا بطل طواف الزيارة فهو عنده ركن من أركان الحج الثلاثة وذلك يقتضي أن يبطل الحج ببطلانه وقد جرى على هذا في الفصل الذي بعدهذا فما ذكره هنا من أن يجبره الدم لا يناسب مجرد الرأي فضلا عن الرواية وإذا عرفت عدم لزوم الدم عرفت عدم صحة قوله ثم عدلهما.
وأما قوله ويعيده إن عاد فهو مخالف لما سيأتي له من قوله فيجب العود له ولأبعاضه وهكذا قوله فتسقط البدنة الخ فإنه مبني على لزومها ولا لزوم كما عرفت وهكذا على التعري بأنه كالحدث الاصغر لا دليل عليه وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "لا يطوفن بالبيت عريان"، [البخاري "3/483"، مسلم "135/1347"، وظاهر هذا ان من طاف عريانا فلا طواف له.
وأما اشتراط طهارة اللباس فلا دليل عليه ولا يفيد حديث "الطواف في البيت صلاة" لما قدمنا.
[فصل
ولا يفوت الحج الا بفوات الاحرام أو الوقوف ويجبر ما عداهما دم الا الزيارة فيجب العود له ولأبعاضه والايصاء بذلك] .
قوله: "فصل ولا يفوت الحج" الخ.
أقول: أما فوات الحج بفوات الاحرام فلا دليل يدل على ذلك الا إذا ثبت ما يدل على انه شرط فيما هو ركن من أركان الحج كالوقوف وطواف الزيارة.
وأما فوات الحج بفوات الوقوف فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: "الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك"، [أبو داود "1949"، الترمذي "889"، النسائي "5/156"، ابن ماجة 3015"، أحمد "4/335"]، وصح عنه انه قال:"من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة. ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه"، وفي ذلك دليل يدل على ان الحج يفوت بفوات الوقوف بعرفة.