الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووجه الاستدلال بما ذكرنا وإن كان ليس بإغراء بين الحيوان أن صلى الله عليه وسلم قد نهى عن العبث الذي لا فائدة فيه والإغراء عبث لا فائدة فيه.
وأما قوله: "ومنه حبس الدعار" فمراده أن هذا من نوع من أنواع التعزير.
وهكذا قوله: "وزيادة هتك الحرمة" وهما وإن دخلا في قوله لكل معصية ففي ذكرها نكتة تصلح لإيراد الخاص بعد العام الشامل له.
وأما قوله: "وما تعلق بالآدمي" إلخ فهو من الوضوح والجلاء بحيث يستغنى عن ذكره هنا.
كتاب الجنايات
مدخل
…
كتاب الجنايات
[فصل
إنما يجب القصاص في جناية مكلف عامد على نفس أو ذي مفصل أو موضحة قدرت طولا وعرضا أو معلوم القدر مأمون التعدي في الغلب كالأنف والأذن قيل واللسان والذكر من الأصل لا فيما عدا ذلك إلا اللطمة والضربة بالسوط ونحوه عند يحيى ويجب بالسراية إلى ما يجب فيها ويسقط بالعكس ولا يجب لفرع وعبد وكافر على ضدهم فلا يقتل أمه بأبيه ونحوه ولا أبوه أمه به ونحوه وعلى الأصل الدية والكفارة والعبرة في العبد والكافر بحال الفعل] .
قوله: "فصل: إنما يجب القصاص في جناية مكلف عامدا".
أقول: وجهه أن غير المكلف لا يجب عليه القصاص بالإجماع وإن وجب ضمان أرش الجناية من ماله لكون ذلك من أحكام الوضع كما هو مقرر في موضعه ولا بد من انضمام قيد العدوان إلى قيد العمد للقطع بأنه لا يجب القصاص ولا الأرش على المدافع عن نفسه وأهله وماله لأن ذلك مما أباحه له الشرع وأذن له به.
قوله: "على نفس".
أقول: القصاص في النفس عند كمال ما يعتبر فيه ثابت بالكتاب كقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، وقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]، وقوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، [البقرة: 179] وثابت بالسنة كما في الصحيحين [البخاري "1/205"، مسلم "447/1355"] ، وغيرهما [الترمذي "1405"]، من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين
إما أن يفتدي وإما أن يقتل"، وأخرج البخاري "4498"، وغيره [النسائي "4781"، عن ابن عباس قال كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ، الحديث ومن ذلك حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين [البخاري "6978"، مسلم "25/1676"] ، وغيرهما [أحمد "1/444"، أبو داود "4352"، الترمذي "1402"] : "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله إلا بإحدى ثلاث"، الحديث وهو في صحيح مسلم من حديث عائشة وقد اتفق المسلمون جميعا على ثبوت القصاص في الأنفس ولم يخالف في ذلك أحد.
قوله: "أو ذي مفصل".
أقول: القصاص في الأطراف ثابت بلا خلاف وثابت في الجروح لقوله عزوجل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، ولما أخرجه أحمد "4/31"، وأبو داود "4496"، والنسائي وابن ماجه "2623"، عن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه"، وفي إسناده سفيان بن أبي العوجاء السلمى قال أبو حاتم: ليس بالمشهور.
والحاصل أن القصاص ثابت في الجروح وهي تشمل ما كان ذا مفصل وما كان غير ذي مفصل إذا أمكن الوقوف على مقداره بحيث يمكن المقتص أن يقتص من الجاني بمثل الجناية الواقعة منه وسواء كانت الجناية موضحة أو دونها أو فوقها ولا وجه لقوله او موضحة.
وأما قوله: "مأمون التعدي" فالوجه في ذلك أن تلك الجراحة إذا كانت مظنة لحصول الموت بها كالجائفة والهاشمة فينبغي الانتظار حتى ينتهي حال الجنى عليه فإن انتهى إلى السلامة فليس له إلا الأرش لأن إقدامة على القصاص في مثل ذلك قد يفضي إلى زيادة على ما وقع من الجاني وهو الهلاك وقصاص إنما هو المساواة بدون زيادة وإذا انتهى حاله إلى الموت كان لوليه أن يقتل الجاني ويكون من القصاص في الأنفس لا في الجروح وقد أخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي من حديث جابر أن رجلا جرح فأراد أن يستقيد فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح وأخرج أحمد "2/217"، والدارقطني أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقدني فقال:"حتى تبرأ"، الحديث.
وأما قوله: "كالأنف والأذن" فقد دل على هذا القرآن حكاية عن بني إسرائيل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} وقرر ذلك شرعنا فكان شرعا لنا.
وأما قوله: "قيل: واللسان والذكر من الأصل" فلا وجه لهذا لأن في الاقتصاص فيهما مظنة الهلاك فيكون الكلام هنا كما قدمنا في الجائفة والهاشمة.
وأما قوله: "ولا قصاص فيما عدا ذلك" فقد عرفناك أنه لا وجه للتقييد بالموضحة بل
الدامية فما فوقها إلى الموضحة والموضحة فما فوقها إلى الهاشمة القصاص ثابت فيها جميعا مهما أمكن الوقوف على قدرها وجعل الأمن من مجاوزة المقدار ولا وجه للمنع لأن جميها من الجروح والله سبحانه يقول: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] .
قوله: "إلا اللطمة والضربة بالسوط ونحوه".
أقول: قد أثبت القصاص في هذا الخلفاء الراشدون ولا يصح قوله من قال إنه مقتضى الكتاب والسنة فإن الذي في الكتاب وهو قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]، مقيد بقوله:{فِي الْقَتْلَى} وكذلك الآية الحاكية لما كتبه الله سبحانه على بني إسرائيل فإنها في تلك الأمور المذكورة فيها وكذلك قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فإن قوله: {حَيَاةٌ} يشعر بأن المراد بهذا القصاص في الأنفس وهكذا قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فإن اللطمة والضربة ليستا من الجروح فإن أفضت إلى الجرح كان لها حكم الجروح ولكن المفروض أنه لم تفض إلى الجرح.
وأما السنة فإنه لم يرد في شيء منها إثبات القصاص في اللطمة والضربة بالسوط ونحوه وقد ادعى بعض أهل العلم الإجماع على عدم ثبوت القصاص في ذلك ورده ابن القيم بأن القصاص فيها ثابت عن الخلفاء الراشدين قال فهو أولى بأن يكون إجماعا.
قوله: "ويجب بالسراية إلى ما يجب فيه" الخ.
أقول: وجه ذلك أن سراية الجناية أثر فعل الجاني فهو في حكم ما لو كانت الجناية واقعة على ذي مفصل.
وأما قوله: "ويسقط بالعكس" فوجهه أن الاعتبار بالانتهاء كما هو قاعدة المصنف ومن وافقه فالحاصل أن المصنف قد جرى في الطرد والعكس على القاعدة المقررة عنده والاعتبار هو قول راجح ولا سيما وقد دل عليه في خصوص الجنايات ما قدمنا من أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح.
قوله: "ولا يجب لفرع".
أقول: استدل على ذلك بما أخرجه الترمذي "1400"، من حديث عمر مرفوعا بلفظ:"لا يقتل الوالد بالولد"، قال ابن حجر في التلخيص وفي إسناده الحجاج بن أرطاة قال وله طرق أخرى عند أحمد "1/61"، والأخرى عند الدارقطني والبيهقي أصح منها وفيه قصة وصحح البيهقي سنده لأن رواته ثقات قال ورواه الترمذي "1399"، من حديث سراقة وإسناده ضعيف وفيه اضطراب واختلاف على عمرو بي شعيب عن أبيه عن جده فقيل عن عمرو وقيل عن سراقة وقيل بلا واسطة وهي عند أحمد "1/22"، وفيها أبو مسلم المكي وهو ضعيف لكن تابعه الحسن بن عبيد الله عن عمر وبن دينار قاله البيهقي وقال عبد الحق هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح منها شيء وقال الشافعي حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم أنه لا يقتل الوالد بالولد وبذلك أقول انتهى.
ولا يخفاك أن مجموع ما ذكر يقوي بعضه بعضا فتقوم به الحجة وليس الإعلال إلا من طريق الانقطاع من بعضها وقد ثبتت الواسطة في بعض الروايات فاتصل.
قوله: "وعبد".
أقول: استدلوا بحديث عمر عند البيهقي وابن عدي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده"، وفي إسناده عمر ابن عيسى الأسلمي قال البخاري هو منكر الحديث واستدلوا أيضا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي مرفوعا:"لا يقتل حر بعبد" قال ابن حجر وفيه جويبر وغيره من المتروكين وبما أخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة، وفي إسناده إسماعيل بن عياش ولكنه إنما يضعف إذا روى عن الحجازيين لا عن الشاميين وهو هنا روى عن الأوزاعي وهو شامي قال ابن حجر لكن من دونه محمد بن عبد العزيز الشامي قال أبو حاتم لم يكن عندهم بالمحمود وعنده غرائب انتهى وشهد له ما أخرجه البيهقي عن علي قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قتل عبده متعمدا فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به ومما يشهد له أيضا حديث الرجل الذي جب مذاكير عبده فاعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتص من السيد وله طرق عند أبي داود "4519"، وغيره ابن ماجة "2680"، وأخرج البيهقي عن علي أنه قال: من السنة أن لا يقتل حر بعبد، وفي إسناده جابر الجعفي وهو متروك.
فهذه الأدلة الواردة في أن السيد لا يقتل بعبده وإليه ذهب الجمهور كما حكاه الترمذي وغيره وحكى المصنف في البحر الإجماع على ذلك إلا عن النخعي واستدل لمن قال إنه يقتل بما أخرجه أحمد ["5/10، 11، 12، 18، 19"، وأهل السنن أبو داود "4515، 4516"، الترمذي "1414"، النسائي "8/21"، ابن ماجة "2663"]، من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه"، قال الترمذي "4/26"، حسن غريب وفي رواية لأبي داود "4519"، والنسائي "2742"، "ومن خصى عبده خصيناه"، وهذه الزيادة صححها الحاكم ولكن في سماع الحسن من سمرة الخلاف الذي قدمنا فلا يقوم بهذا الحديث الحجة ولا سيما وقد عورض بما تقدم مع كون الحكم هو سفك دم الحر السيد بالعبد ولا شك أن له مزيد خصوصية على سائر الأحرار.
وأما قتل الحر بعبد غيره فحكى في البحر عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يقتل وحكاه الكشاف عن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وحكى الترمذي عن الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وبعض أهل العلم أنه ليس بين العبد والحر قصاص لا في النفس ولا فيما دونها قال وهو قول أحمد وإسحاق وحكاه صاحب الكشاف عن عمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وعكرمة ومالك والشافعي وقد استوفيت الكلام على حجج القولين في شرحي للمنتقى فليرجع إليه والظاهر عدم ثبوت قتل الحر بالعبد لاسيما مع تعارض الأدلة ترجيما لجانب الحظر وعملا بأصالة عصمة النفوس حتى يرد ما
يدل على عدم العصمة بوجه يصلح بذلك وتقوم بن الحجة ولا سيما مع قوله سبحانه: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ، فإنه يدل بمفهومه على أنه لا يقتل الحر بالعبد ولا يرد الإلزام بأنه كما يدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد يدل على أنه لا يعقل العبد بالحر لأنا نقول قد وقع الإجماع على أنه يقتل العبد بالحر.
قوله: "وكافر".
أقول: الحديث الذي أخرجه أحمد "1/119"، والبخاري "1/204، 4/81، 6/273، 6/279، 6/167، 12/246، 12/260، 12/41، 13/275"، وأهل السنن أبو داود "4530"، النسائي "8/19، 20"، من حديث علي مرفوعا بلفظ:"لا يقتل مسلم بكافر"، من غير زيادة:"ولا ذو عهد في عهده"، وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بلفظ:"لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده"، وصححه الحاكم وأخرجه أحمد "2/191، 192، 211"، وابن ماجه "2659"، 2685"، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بإسناد رجاله رجال الصحيح إلى عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن لا يقتل مسلم بكافر وفي لفظ من حديثه هذا عند أحمد "2/178، 192، 194، 211، 215"، وأبي داود "4531، 2751"، "لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده".
وإذا عرفت هذا فالأمر في الحديث واضح والمعنى صحيح وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى تارة عن قتل المسلم بالكافر ضم إليه النهي عن قتل المعاهد من غير نظر إلى القصاص به ومنه وهذا معنى صحيح تام لا يحتاج إلى تقدير وقد تقرر أن الكلام إذا صح بدون تقدير كانت الزيادة عليه عبثا.
ووجه ذكر النهي عن قتل بعد ذكر النهي عن قتل المسلم بالكافر أنه ربما سمع السامعون أنه لا يقتل مسلم بكافر فيكون ذلك سببا للجرأة على قتل كل كافر معاهد وغيره فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله لأنه معصوم بالذمة بخلاف الكافر الحربي فما جاء به القائلون بأنه يقتل المسلم بالذمى من التقديرات المتكلفة لم تدع إليه حاجة ولا قام عليه دليل ولا مثل هذا السراب المبنى على شقا جرف هار يصلح لقتل المسلمين بالكفار.
قوله: "فلا يقتل أمه بأبيه" الخ.
أقول: إنما يتم هذا لو كان الوارد في الاقتصاص من الوالد للولد يدل على أنه لا يثبت للولد على والده قصاص أصلا كأن يقول لا يقتص ولد من والده أو لا يقتص فرع من أصله ولم يرد ما يفيد هذا المفاد ولا ما يدل على هذا المعنى بل معنى ما ورد أنه لا يقتل الوالد بالولد وهذا لا يدل على أنه لا يثبت للفرع قصاص على الأصل على كل تقدير.
وأما ما عللوا به من منع ثبوت القصاص للولد من والده مطلقا بأنه كان سبب وجوده فلا يكون الولد سببه إعدامه فما أبرد هذه العلة وما أقل فائدتها وليس مجرد ما يتخيله المتخيل من العلل العليلة مسوغا لبناء أحكام الشرع عليه.
وأما قوله: "والكفارة" فلا يخفاك أن الله سبحانه إنما شرع الكفارة في قتل الخطأ والمفروض هنا أن القتل وقع عمدا ولا كفارة في العمد إلا بدليل ولا دليل فلا وجه لإيجاب الكفارة ولكنها تجب الدية لأن سقوط القصاص لا يستلزم سقوطها.
وأما قوله: "والعبرة في العبد والكافر بحال الفعل" فوجهه ظاهر لأن تغير الوصف بعد صدور السبب لا يوجب تغير الموصوف حتى يحصل الانتفال عن تلك السببية الكائنة مع تلك الصفة.
[فصل
وتقتل المرأة بالرجل ولا مزيد وفي عكسه يتوفى ورثته نصف ديته وجماعة بواحد وعلى كل منهم دية كاملة إن طلبت وذلك حيث مات بمجموع فعلهم مباشرة أو سراية أو بالانضمام ولو زاد فعل أحدهم فإن اختلفوا فعلى المباشر وحده إن علم وتقدمه أو التبس تقدمه فإن علم تأخره أو اتحاد الوقت لزمه القود والآخر أرش الجراحة فقط فإن جهل المباشر لزم المتقدم أرش الجراحة فقط إن علم وإلا فلا شيء عليهما إلا من باب الدعوى فإن كان القاتل أحد الجرايح فبالسراية يلزم القود والأرش في الأخرى وهو فيهما مع لبس صاحبهما وفي المباشرة كما مر وبعضهم يحول] .
قوله: "فصل: وتقتل المرأة بالرجل ولا مزيد وفي عكسه يتوفى ورثته نصف دينه".
أقول: أما قتل المرأة بالرجل فالأمر ظاهر وليس في ذاك خلاف وأما قتل الرجل بالمرأة فقد ذهب الجمهور حتى حكى ابن المنذر الإجماع عليه إلا رواية عن علي وعن الحسن وعطاء ورواه البخاري "12/214"، عن أهل العلم وقد سقنا حجج المذهبين في شرحنا للمنتقى.
والحاصل أن الاستدلال بالكتاب على قتل الرجل بالمرأة أو عدمه لا يخلو من إشكال يفت في عضد الاستدلال فالأولى التعويل على ما وردت به السنة وقد ثبت في الصحيحين [البخاري "6879"، مسلم "1672"، وغيرهما أبو داود "4528"، الترمذي "1394"، النسائي "8/22"، من حديث أنس أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل بك هذا فلان أو فلان حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها فجيء به فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بحجرين فهذا فيه قتل الرجل بالمرأة ولو لم يكن ثابتا لم يقتل بها الذمى ولا المسلم وفي كتاب عمرو بن حزم المشتمل على تفصيل الديات والأروش للجنايات "أن الرجل يقتل بالمرأة" وهو كتاب كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن وأخرجه مالك في الموطأ والشافعي
وعبد الرزاق وأحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه جماعة من الأئمة منهم أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي.
والحاصل أن هذا الحديث قد كثرت طرقه وخرجت في بعضها من مخرج الصحيح وفي بعضها من مخرج الحسن فالحجة قائمة والعمل بما دل عليه متعين ولم يأت من أعله بما يقدح فيه وعلى تقدير تضعيف بعض طرقه فقد صح البعض الآخر قال الشافعي في رسالته لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم يستغنى بشهرته عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة وقال يعقوب بن سفيان لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم.
إذا عرفت هذا فالعجب العجب ممن يدعي أنه من أهل الإنصاف ومن العاملين بالحق المؤثرين له على الرأي كيف يدفع هذا الحديث بمجرد دعواه مخالفته لقياس أوهن من بيت العنكبوت وأخفى من السها وأبعد من كل بعيد.
وأما قوله: "ويتوفى ورثته نصف ديته" فلم يدل على هذا دليل يصلح لتقييد ما دل على أنه يقتل الرجل بالمرأة فالظاهر أنه يقتل بها كما تقتل به من غير شيء.
قوله: "وجماعة بواحد".
أقول: قد علمنا من الحكمة في مشروعية القصاص بين العباد أن فيه للناس حياة كما قال عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، ولو كان اجتماع جماعة على قتل واحد لا يقتضي ثبوت القصاص منهم لكان هذا سببا يتذرع به إلى قتل النفوس فإن الزاجر الأعظم إنما هو القتل لا الدية فإن ذلك يسهل على أهل الأموال ويسهل أيضا على الفقراء لأنهم يعذرون عن الدية بسبب فقرهم فإذا كان القتيل ثبت قتله بفعلهم جميعا كما سيذكره المصنف فالاقتصاص منهم هو الذي تقتضيه الحكمة الشرعية الثابتة في كتاب الله عزوجل ولهذا شبه الله سبحانه قاتل النفس بمن قتل الناس جميعا ورحم الله عمر بن الخطاب ورضي عنه ما كان أبصره بالمسالك الشرعية وأعرفه بما فيه المصلحة الدينية العائدة على العباد بأعظم الفائدة فقد ثبت عنه أنه قتل سبعة بواحد تمالوا على قتله وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا قال البخاري في الصحيح قال لي ابن بشار حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن غلاما ما قتل غيلة فقال فيه عمر:"لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به" وهو في الموطأ بأطول من هذا ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه خالف عمر في ذلك والعجب ممن يعتمد في دفع هذه المسألة ويلزم سقوط القصاص لمسألة مقدور بين قادرين وهي أهون على المتشرع من شراك نعله.
وأما قوله: "وعلى كل منهم دية كاملة إن طلبت" فوجهه أن كل واحد منهم كأنه مستقل بقتل ذلك ذلك القتيل ولهذا ثبت عليه القصاص فإن كانت الدية عوضا عن دم المقتول فالأمر هكذا وإن كانت عوضا عن دم القاتل فقد صار كل واحد منهم مستحقا للقتل.
وأما هذه التفاصيل التي ذكرها المصنف هنا إلى آخر الفصل فكلها معقولة حسنة فلا نطيل الكلام عليها.
[فصل
وما على قاتل جماعة إلا القتل ويحفظ نفسه حتى يجتمعوا لا قالع أعينهم فالقصاص وديات الباقيات وفي الأيمن الأيمن ونحو ذلك ولو زاد أحدهما أو نقص فإن تعذر فالدية ولا يؤخذ ما تحت الأنملة بها ولا ذكر صحيح بعنين أو خصي فإن خولف جاز الاستئناف قيل ولمن هشم أن يوضح وأرش الهشم ولا شيء فيمن مات بحد أو تعزير أو قصاص ولا قصاص في الفقء ويقدم قصاص الأطراف على القتل وينتظر فيها البرء ومن اقتص فتعذر على غيره استيفاء حقه أثم وللآخر الدية من الجاني إلا الشريك فمن المقتص] .
قوله: "فصل: وما على قاتل الجماعة إلا القتل".
أقول: قد تقدم حديث: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفتدي وإما أن يقتل"، وهو في الصحيحين [البخاري "112"، مسلم "447، 1355"] ، وغيرهما وفي حديث آخر عند أحمد "4/31"، وأبي داود "4496"، وابن ماجه "2623"، "فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذا العقل أو يعفو فإن أراد رابعة خذوا علي يديه" وفي هذا دلالة على أن الخيار إلى أولياء المقتولين فإن طلبوا القصاص فليس على القاتل إلا تسليم نفسه إليهم ولا يجب عليه غير ذلك وإن طلبوا الديات وجب عليه تسليمها من ماله إن كان له مال.
ومما يؤيد هذا قوله عزوجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]، إلى أن قال:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} والعفو هو قبول الدية فعرفت أن قول المصنف وما على قاتل جماعة إلا القتل مبني على أنهم طلبوا القصاص.
قوله: "لا قالع أعينهم فالقصاص" الخ.
أقول: إن اجتمعوا على طلب القصاص فليس لهم إلا قلع عينه وإن طلبوا ديات ما قلعه من الأعين كان لهم ذلك من ماله إن كان له مال وليس له أن يقول لا أعطيكم إلا بالقصاص لما قدمنا من الأدلة على أن التخيير إلى ورثة المقتول ويستفاد منه بفحوى الخطاب
أن الخيار إلى المجني عليه بقلع عين أو نحوها مما يجب فيه القصاص وأيضا هو مصرح بهذا في حديث أبي شريح الخزاعي المتقدم فإنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث"، الحديث.
وأما قوله: "وفي الأيمن الأيمن" إلخ فظاهر وهو مدلول عليه من معنى القصاص وهكذا قوله ولا يؤخذ ما تحت الأنملة بها لأنه أخذ غير ما وجب فيه القصاص.
وأما قوله: "ولا ذكر صحيح بعنين" ففيه نظر لأنه عضو كالعضو لو كان زيادة أحدهما على الآخر بوصف من الأوصاف مسقطا للقصاص لكان تفاوت الأوصاف مسقطا للقصاص ولكان تفاوت الأوصاف كمالا ونقصا موجبا لسقوط القصاص في الأنفس واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله فالعنين قد قطع منه عضو فله أن يطالب الجاني عليه قصاصا وهكذا من بصره ضعيف له أن يطالب بالقصاص ممن بصره صحيح عملا بما أطلقته الأدلة ما لم يذهب نورها بالمرة فإنه سيأتي "أنه صلى الله عليه وسلم قضى في العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها"، أخرجه النسائي "484"، وغيره أبو داود "4567"، ويمكن إلحاق ذكر العين باليد الشلاء والعين العوراء السادة لمكانها وسيأتي الكلام في تفاوت ديات مثل هذه الأشياء وأروشها ولعلنا نتكلم هنالك إن شاء الله بما فيه مزيد إيضاح.
قوله: "فإن خولف جاز الاستئناف".
أقول: كل واحد منهما قد جنة على الآخر عمدا جناية توجب القصاص فالخيار في الاقتصاص أو التعافي إليهما ولذا قال المصنف جاز الاستئناف
وأما قوله: "قيل: ولمن هشم أن يوضح وأرش الهشم" فلا وجه له لأن الذي أثبته الشرع للمجني عليه هو القصاص أو الأرش فليس له أن يجمع بينهما ولو جاز ذلك لما كان خاصا بهذه الجناية بل كان يلزم في كل جناية بعضها معلوم القدر مأمون التعدي أن يقتص ويأخذ أرش ما زاد.
قوله: "ولاشيء فيمن مات بحد أو تعزير أو قصاص".
أقول: الوجه في هذا واضح لأن الله سبحانه شرع هذا سوغ لعباده استيفاءه فإذا أفضى إلى الموت مع الاقتصار على ما شرعه الله سبحانه لم يكن في ذلك ضمان لأنه مات بشرع وجب عليه فهو قتيل الشرع وأما ما ثبت في الصحيحين [البخاري "12/66"، مسلم "39/1707"] ، عن علي قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت وأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه فهو رضي الله عنه أخبر عما يجده في نفسه تورعا منه وقد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنه على الصفة التي ذكرناها هنالك.
وأما قوله: "ولا قصاص في الفقء" فوجهه أن المصنف قال فيما سبق معلوم القدر مأمون التعدي فإذا كان الفقء غير معلوم القدر أو غير مأمون التعدي كان ذلك عذرا في ترك
القصاص لكن لا يخفاك أنه إذا ذهب بالفقء نور العين حتى لم يبق من إدراكها شيء كان داخلا تحت قوله عزوجل: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] ، لأن الاعتبار في كونها عينا هو بالإدراك بها فإذا ذهب ذلك لم تكن عينا.
قوله: "ويقدم قصاص الأطراف على القتل" الخ.
أقول: وجه هذا أنه قد تعلق للمقتص من الأطراف حق بها سواء كان واحدا أو جماعة وتقدم الاقتصاص بالنفس عليها يبطل ما هو ثابت من القصاص فيها لأن الاقتصاص من الميت لا يقال له قصاص ولا يسقط به حق عنه كما لا يجب فيه أرش ولا قصاص فمن هذه الحيثية وجب تقديم القصاص في الأطراف على القصاص في النفس لأنه لا يفوت تقديم القصاص في الأطراف ما يجب من القصاص في النفس بخلاف العكس وأما انتظار البرء فيها فلا وجه له إلا مجرد خيال مختل وتعليل معتل فالحق أنه يقطع ما يجب القصاص فيه من الأطراف ثم يستوفي القصاص في النفس من غير انتظار أصلا ومن أورد ما روي من أمره صلى الله عليه وسلم للمجني عليه أن ينتظر البرء ثم يقتص فقد وضع الدليل في غير موضعه فإن المراد هنا الانتظار منه لبرء الجناية الواقعة عليه حتى يتبين هل يحصل فيها سراية أو لا ليكون القصاص بعد تبين ما ينتهي إليه الأمر وهذا مسلم في المجني عليه وأما في المقتص منه فهو غير ما ورد فيه الحديث لأن المفروض أن من له القصاص قد طالب به في وقت يجوز له طلبه.
قوله: "ومن اقتص فتعذر على غيره استيفاء حقه" الخ.
أقول: وجه هذا أن المقتص لم يأخذ إلا ما هو حق له أوجبه الشرع فإذا كان الجاني قد جنى على اثنين أو أكثر جنايات توجب لكل واحد منهم الاقتصاص منه فسبق أحدهم بالقصاص حتى فات على غيره أن يستوفي ما يجب له من القصاص كان له أرش الجناية الواقعة عليه من مال الجاني لأنه الذي فعل ما يوجبها وليس على من استوفى ما يجب له من القصاص شيء وأما الشريك في القصاص فهو لم يستحق إلا نصيبا يخصه فإذا أقدم بعض الورثة للمقتول إلى قتل الجاني من غير أمر له من شركائه فقد استهلك حقه وحقهم فكان الضمان عليه والفرق بين المسألتين واضح ظاهر معقول.
[فصل
ولولي الدم إن شاهد القتل أو تواتر أو أقر له أو حكم أن يعفو ويستحق الدية وإن كره الجاني كاملة ولو بعد قطع عضو وإن يصالح ولو بفوقها وأن يقتص بضرب العنق فإن تعذر فكيف أمكن بلا تعذيب ولا إمهال إلا لوصية أو حضور غائب أو طلب ساكت أو بلوغ صغير ولا يكفي أبوه فإن فعل ضمن حصة شريكه ومتى قتل
المعسر غير المستحق فللمستحق الدية إن لم يختر الوارث الاقتصاص] .
قوله: "فصل ولولي الدم إن شاهد القتل" الخ.
أقول: يدل على هذا قول الله عزوجل: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإراء "33] ، فإن المراد جعلنا له سلطانا على القاتل في دم المقتول إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا وقد قدمنا ذكر الأدلة الدالة على أن الولي بخير النظرين وأنه إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا وأوضحنا أن هذا التخيير أمر راجع إليه لكن إذا كان القاتل معترفا مسلما نفسه للقصاص فللولي الاستيفاء من غير مرافعة إلى حاكم ولا إلى إمام وأما إذا كان مخاصما منكرا للقتل أو مدعيا مرافعة أو شبهة مسوغة للدعوى فليس للولي أن يستقل بنفسه بالقصاص لأنه في هذه الحالة خصم فله حكم سائر الخصوم ولا يقطع الخصومة إلا حكم الحاكم وقد تقدم للمصنف أنه ليس لمن تعذر عليه استيفاء حقه حبس حق خصمه ولا استيفاؤه إلا بحكم فكان ينبغي أن يقول هاهنا هكذا أو هذا إنما هو في منعه من الاقتصاص مع المنازعة والخصومة وأما طلب الدية فذلك حق لا يحتاج إلى حاكم إلا أن يدعي القاتل المدافعة فإنها توجب سقوط القصاص والدية فليس للولي أن يجبره على تسليم الدية إلا بعد المرافعة إلى الحاكم وأما العفو فلا شك أن لا الاستقلال بذلك من دون مرافعة لأنه إحسان محض وتفضل خالص إن كان عفوا شاملا للقصاص والدية وأما إذا كان خاصا بالقصاص دون الدية فلا استقلال بذلك إذا كان القاتل غير منازع في وجوبها عليه كما يجوز للولي أن يختار الدية ابتداء وأما مع المنازعة فلا بد من المرافعة كما قدمنا.
وأما قوله: "ولو بعد قطع عضو" فلا بد من اعتبار رضا الجاني بذلك وإلا كان الواجب على قاطع العضو أن يسلم نفسه للقصاص فيه أو يسلم ديته ثم يقتص من الجاني ولا وجه لما قيل إنه لا يلزمه في قطع هذا العضو شيء فإن ذلك ظلم بحت لعلة مختلة.
وأما قوله: "وأن يصالح ولو بفوقها" فهذا مقيد برضا الجاني فإن رضي بذلك فله أن يفتدي نفسه ولو بأضعاف الدية وأما إذا لم يرض فليس للولي إلا طلب الدية فقط ولم يخيره الشارع إلا بين الدية الشرعية والقصاص والعفو ولا سبيل له إلى طلب زيادة على الدية كما أنه لا سبيل له لو طلب أن يقتل القاتل قتلة لم يبحها الشرع أو يمثل به أو نحو ذلك.
قوله: "وأن يقتص بضرب العنق".
أقول: وجه هذا أنه كان العمل به في أيام النبوة وعدم المجاوزة له إلى غيره فكان صلى الله عليه وسلم يأمر بضرب عنق من استحق القتل وكان الصحابة إذا رأوا رجلا يستحق القتل قال قائلهم دعني يا رسول الله أضرب عنقه حتى قيل إن القتل بغير ضرب العنق مثلة وقد ورد النهي عنها في عدة أحاديث حتى قال عمران بن حصين: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة أخرجه أحمد "4/440"، والطبراني وأخرجه النسائي "4047"، بإسناد رجالها ثقات عن أنس قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة"، ويؤيد هذا
ما عند مسلم "1955"، وأهل السنن أبو داود "2815"، الترمذي "1409"، النسائي "7/227"، ابن ماجة "1370"، من حديث شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة"، وإحسان القتل لا يحصل بغير ضرب العنق بالسيف ومع هذا فقد ورد مرفوعا من حديث جماعة من الصحابة بلفظ:"لا قود إلا بالسيف"، [ابن ماجة "2667"، وهو وإن كان في طريق من طرقه مقال فقد شهد بعضها لبعض وقوى بعضها بعضا.
وأما ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم رض رأس اليهودي الذي قتل الجارية بين حجرين كما في الصحيحين وغيرهما فغاية ما هناك أن يكون هذا مختصا لمن وقع منه القتل على هذه الصفة فإن اليهودي رض رأس الجارية بين حجرين ففعل به النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل بها.
وأما الاستدلال بمثل قوله سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقوله:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وما ورد في معنى هذه الآيات فهو الاستدلال بالعام مع وجود الخاص الصالح لتخصيصه ولو سلمنا لكان ذلك دالا على أنه يفعل بالقاتل كما فعل بالمقتول إلا أن يكون في القتل مثله فلا يجوز أن يقتص منه بمثل ما فعل لأن النهي عن المثلة أخص مطلقا من هذه الآيات وأما إذا تعذر الاقتصاص بضرب العنق فكيف أمكن بلا تعذيب كما قال المصنف لأن الضرورة اقتضت بذلك وله استيفاء حقه بحسب المكان.
قوله: "ولا إمهال إلا لوصية" الخ.
أقول: الوجه في لزوم الإمهال في هذه الأمور واضح وأما الوصية فلكون التخلص مما يجب على القاتل من الحقوق واجب وقد تكون منها حقوق للغير فلا يستوفي المقتص حقه بإبطال حق غيره.
وأما الإمهال لحضور غائب من جملة المستحقين للقصاص فلكونه قد يعفو أو يختار الدية وأما الإمهال لطلب ساكت فلكونه قد ينطق بما يوجب سقوط القصاص وأما الإمهال لبلوغ صبي فوجهه أنه من جملة المستحقين للقصاص فالانتظار لبلوغه واجب بإيجاب الشرع لعدم صحة اختياره قبل بلوغه وله بعد بلوغه أن يختار ما شاء ومن جملة ما يجوز له اختياره العفو أو الدية ومع كون الانتظار حقا للصغير فهو أيضا حق للقاتل لجواز أن يسقط القصاص عنه عند بلوغه.
وأما ما روي في قصة ابن ملجم فالمسألة من مطارح الاجتهاد ومسارح النظر ولم يكن ذلك مما لا مجال للاجتهاد فيه حتى يكون له حكم الرفع.
وأما قوله: "فلا يكفي أبوه" إلخ فصواب.
قوله: "ومتى قتل المعسر غير المستحق" الخ.
أقول: وجه ذلك أنه بقتله لمن كان دمه مستحقا للغير قد فوت عليه حقه الثابت شرعا فكان له مطالبته بالدية عوضا عن الدم الذي فوته عليه وأما تقييد هذا بقوله إن
لم يختر الوارث الاقتصاص، فمناقض لما حكم به من أن دمه قد صار مستحقا لورثة من قتله المعسر فكيف يطالب ورثة المعسر بالقصاص بدم قد صار مستحقا لغيرهم فإن قلت إذا بذلوا تسليم الدية التي كانت على مورثهم قلت إذا فعلوا ذلك كان لهم الاقتصاص لأنه لم يجب على مورثهم إلا الدية وقد سلموها فصار دمه مستحقا لهم لا لورثة القتيل الأول.
[فصل
ويسقط بالعفو عنه ولو من أحد الشركاء وشهادته به عليهم وإن أنكروا والجاني ولا تسقط الدية ما لم يصرح بها أو يعف عن دم المقتول ولا في المرض إلا من الثلث ويكون أحدهم فرعا أو نحوه ويقول المجني عليه أخطأت وإن قال له تعمدت أو ما فعلت وإن بين الورثة وبانكشافه مستحقا وبإرثه بعض القصاص لا بالإكراه وتهدد المقتول أولا و! ومشاركة من يسقط عنه غالبا والإباحة والعفو من أحد القاتلين.
قوله: "فصل: ويسقط بالعفو عنه ولو من أحد الشركاء".
أقول: الوجه في هذا واضح لأنه صار بعض دمه بهذا العفو غير مستحق للغير فلا يجوز سفكه بغير حقه وإلا كان ذلك ظلما له وهذا مانع ظاهر واضح لا يحتاج إلى الاستدلال عليه وهكذا الوجه في قوله وبشهادته عليهم لأنه بالشهادة قد اعترف اعترافا مؤكدا أن المشهود عليهم من الشركاء قد عفوا وذلك يوجب سقوط حقه من القصاص لأنه يسقط بالعفو من أحد الشركاء كما تقدم.
وأما قوله: "ولا تسقط الدية" فوجهه أن العفو عن القصاص لا يستلزم العفو عن الدية وقد قدمنا الكلام على الأحاديث المتضمنة لكون الولي مخيرا بين القصاص والدية والعفو فعفوه عن القصاص لا يسقط به ما يجب له من الدية.
وأما قوله: "ما لم يصرح بها أو يعفو عن دم المقتول" فالوجه في ذلك واضح أما التصريح بها فليس بعد أن يقول عفوت عن القصاص والدية وزيادة في اقتضاء السقوط.
وأما قوله: "أو يعفو عن دم المقتول" فلكون القصاص أو الدية عوضا عنه فإذا أسقطه سقط ما هو عوض عنه وهكذا إذا قال عفوت عنه وأطلق فإن ظاهره أنه عفا عن الفعل الصادر منه فليس له بعد ذلك أن يطالب بالدية ولا بالقصاص وقوله ولا في المرض إلا من الثلث فوجهه ما سيأتي في الوصايا إن شاء الله تعالى.
قوله: "ولا يكون أحدهم فرعا ونحوه".
أقول: المراد إذا كان أحد المستحقين للقصاص لا يجب له القصاص عن القائل إما بكونه
فرعا له أو بغير ذلك فإنه قد يسقط نصيبه فلم يكن من عداه من الشركاء مستحقا لسفك دمه لأنه لا يستحق إلا بعضه وإلا كان ذلك ظلما للقاتل وأخذا له بما لا يوجبه الشرع ولا يسوغه.
قوله: "ويقول المجني عليه أخطأت".
أقول: لا شك أن الخطأ في الشرع لا يوجب القصاص لا في النفس ولا في الأطراف وأما عند أهل اللغة فقد قيل إنه يقال أخطأ إذا جاء بما يخالف الصواب وإن كان عمدا ويقال أخطأ إذا لم يتعمد ولكن قد عرفناك غير مرة أن الواجب الحمل على الأعراف الغالبة في مدلولات من هو من أهلها لأن كل متكلم يتكلم بعرفه في كل ما أطلقه من كلامه ولا يجوز أن نفسر كلامه بغير عرفه إلا بقرينة تقتضي ذلك فإذا كان الخطأ في عرفه لا ينافي العمد لم يسقط القصاص بقوله أخطأت وإن كان ينافي العمد سقط لأنه لم يكمل المقتضي للقصاص باعترافه وإن قال الجاني تعمدت فلا اعتبار بذلك لأن المستحق للدم قد عبر عن نفسه بما ينافي ما أقر به الجاني فلم يثبت له عليه قصاص وهكذا قول المجني عليه ما فعلت فإنه اعتراف ببراءة سراحة الجاني من الفعل فلم يثبت القصاص عليه باعتراف من هو له ولا حكم لبينة الوارثة بما يخالف ذلك لأن مورثهم قد اعترف بما يدفع الشهادة وينافيها.
قوله: "وبانكشافه مستحقا".
أقول: وجهه أن القاتل استوفى حقه من المقتول فلم يتعلق به شيء وهكذا إذا ثبت أنه وارث لبعض القصاص فإنه قد استحق بعض ما يوجب القصاص عليه فلا يجوز أن يستوفي منه القصاص بعد سقوط بعضه وهذا ظاهر.
وأما قوله: "وبالإكراه" فوجهه واضح إذا بلغ الحد الذي يصير به الفعل منه كلافعل وأما لو بقي له فعل فلا يجوز كما تقدم في باب الإكراه.
وأما قوله: "ولا تهدد المقتول" فوجهه أن لا يثبت له حكم المرافعة بمجرد هذا التهدد لأنه هذيان باللسان لا يستلزم وقوع مدلوله في الخارج.
وأما قوله: "ولا لمشاركة من يسقط عنه" فالوجه في هذا أنه تقدم ثبوت قتل الجماعة بالواحد فسقوط القصاص عن أحدهم لا يستلزم سقوطه عن المشاركين له في القتل وهذا من الوضوح بمكان يستغنى عن ذكره وقد قدمنا في تقرير قتل الجماعة بالواحد ما فيه كفاية ومثل هذا العفو عن أحد القاتلين فإنه قد صار دم كل واحد منهم مستحقا على انفراده فلا يستلزم اسقاط القصاص عن أحدهم إسقاطه عن المشاركين له.
وأما قوله: "ولا بالإباحة" فلكون هذا لا يستباح بالإباحة لكن لا بد من تقييد هذا بكون القاتل قد علم أن هذا لا يستباح بالإباحة أما لو لم يعلم فإنه ينتفي لعدم علمه قيد العدوان وهو معتبر في سقوط القصاص.
[فصل
ولا شيء في راقي نخلة مات بالرؤية غالبا أو بالزجر إن لم ينزجر بدونه ولا على الممسك والصابر إلا الأدب بل المعري والحابس حتى مات جوعا أو بردا وفي المكره خلاف والعبرة في عبد وكافر رميا فاختلف حالهما بالمسقط لا بالأنتهاء] .
قوله: "فصل ولا شيء في راقي نخلة" الخ.
أقول: وجه هذا أن التعدي من الراقي لكونه ملكا للغير لم يأذن له الشرع بدخوله ولا بالصعود على النابت فيه فإذا فزع برؤية المالك فسقط فهلك فهو الجاني على نفسه لم يحصل من المالك سبب يوجب الضمان لأنه دخل ملكه ونظره فصادف النظر من دخل إليه تعديا وهكذا له أن يزجره عن دخوله إلى ملكه وصعوده إلى شجره لأن للمالك أن يذب عن ملكه بما يدفع به المتعدي ولو فعل من الزجر ما يندفع بدونه وما المانع له من ذلك فهو زجر من يستحق الزجر وصاح على سارق ورفع صوته على من لم يمتثل لما شرعه الله وعلى من تعدى حدوده.
قوله: "ولا على الممسك والصابر إلا الأدب".
أقول: كل واحد منهما قد فعل عظيما واقترف إثما كبيرا ولكن لما كان ذهاب حياته بفعل القاتل كان هو الجاني على الحقيقة ويرجع في عقوبة الممسك والصابر إلى ما يراه الإمام أو الحاكم من الحبس لما أخرجه الدارقطني والبيهقي بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك"، وصححه ابن القطان.
وأما المعري والحابس حتى مات جوعا أو بردا فلا يخفى أنهما قاتلان عمدا عدوانا ولا اعتبار باختلاف الأسباب التي كان بها ذهاب الحياة ومفارقة الروح للجسد وليسا بمسببين بل هما مباشران بالتعرية أو الحبس فإن ذلك لا فرق بينه وبين القتل بالسيف والطعن بالرمح لأن كل واحد منهما قد أفضى إلى الموت كما أفضى إليه الضرب والطعن ومن يعقل الحقائق كما ينبغي لم يخف عليه مثل هذا.
قوله: "وفي المكره خلاف".
أقول: المسلم معصوم بعصمة الإسلام فلا يجوز الإقدام على سفك دمه لمجرد الإكراه بل على من طلب منه ذلك أن يمتنع ولو خشي على نفسه القتل فضلا عما دونه فليس له أن يطلب حياة نفسه بموت غيره ويجعل نفس المسلم فداء لنفسه فإذا أقدم على قتله مع تمكنه من الكف فقد أقدم إقداما يخالف الشرع فاستحق أن يقتص منه وأما إذا لم يتمكن من الكف بوجه من الوجوه كأن يضع المكره له سيفا في يده ثم يأخذ بيده فيضرب بها عنق رجل فلا شك ولا ريب أن القصاص هاهنا على المكره له لأنه صار كالآبة له وليس على من وقع عليه الإكراه
لا قود ولا دية وقد تقدم للمصنف في باب الإكراه أنه يجوز بالإكراه بقتل أو قطع عضو كل محظور إلا الزنا وإيلام الآدمي وسبه وتقدم أيضا أنه يضمن أمر الضعيف قويا وقدمنا في الموضعين ما ينبغي الرجوع إليه حتى يجري الكلام على نمط واحد.
قوله: "والعبرة في عبد وكافر إلخ".
أقول: المصنف قد اعتبر في المفعول بالمسقط كما هنا وفي الفاعل بحال الفعل كما تقدم ولا مقتضى بالفرق من عقل ولا نقل فينبغي أن يكون الكلام في الموضعين متحدا ويتنزل على الخلاف في اعتبار الابتداء والانتهاء وقد ذكرنا في مواضع أن اعتبار الانتهاء أقرب من الحق وأوفق بقواعد الشرع.
[فصل
والخطأ ما وقع بسبب أو من غير مكلف أو غير قاصد للمقتول ونحوه أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة وإلا فعمد وإن ظن الاستحقاق غالبا وما سببه منه فهدر ومنه تعديه في الموقف فوقع ليه غير متعد فيه خطأ والعكس] .
قوله: "فصل: والخطأ ما وقع بسبب".
أقول: لا وجه لهذا الإطلاق فإن الأسباب تختلف فما كان منها مفضيا إلى الموت من غير مشارك فهو مباشرة لا تسبيب ويجب على فاعله القصاص كما قدمنا في المعري والحابس وكما تقدم للمصنف في شهادة الزور في الحدود والقصاص وإن لم يكن السبب مفضيا إلى الموت بنفسه كالممسك والصابر حتى قتله غيرهما وكما سيأتي للمصنف في الفصل الذي بين فيه صور الأسباب فلا يجب على فاعل هذا السبب القصاص.
وأما قوله: "أو من غير مكلف" فالوجه فيه ظاهر وهكذا قوله أو غير قاصد للمقتول فإن عدم القصد ينافي وصف العمد ووصف العدوان.
قوله: "أو غير قاصد للمقتول ونحوه بما مثله لا يقتل في العادة".
أقول: هذا قد جاء به النص فأخرج أحمد 16/51"، وأبو داود "4547"، والنسائي "8/41"، وابن ماجه "2627"، والبخاري في التاريخ والدارقطني من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل الصوت والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها"، وفي الحديث اختلاف ولكنه قد صححه ابن حبان وابن القطان ويؤيده ما أخرجه أبو داود "4549"، من حديث عبد الله بن عمر بمثله ومثله ما أخرجه أحمد "2/11، 36"، وأبو داود "4549"، والنسائي "8/42"، وابن ماجه "2628"، والبخاري في تاريخه والدارقطني.
فهذه الأحاديث قد أفادت أن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل الصوت والعصا كما هو مصرح به في كل واحد منهما مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهرها ولو كان القاتل متعمدا فإن مجرد كون الآلة على هذه الصفة يكفي في كون القتل خطأ وأنه لا يجب فيه إلا الدية المذكورة.
ومن الخطأ الذي هو شبه العمد ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل السلاح"، وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الدمشقي وقد تكلم فيه غير واحد ووثقه غير واحد وهذه الصورة تدل على قول المصنف أو غير قاصد للمقتول وعلى قوله أو للقتل لما مثله لا يقتل في العادة فإن ثوران الفتنة بين الناس الغالب فيها أنه لا يقصد القتل ولا شخصا معينا ولهذا قال رسول الله:"في غير ضغينة ولا حمل سلاح" وأما إذا كانت الآلة مثلها يقتل في العادة وإن لم يكن من المحدد فإن القصاص فيها واجب كما تقدم في رض رأس اليهودي الذي رض رأس الجارية وكما أخرجه أحمد "13/136"، وأبو داود "4572"، والنسائي "4820"، وابن ماجه "2641"، من حديث حمل بن مالك قال" كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة وأن تقتل بها وقد ذهب إلى وجوب القصاص في مثل هذا الجمهور وهو الحق وأدلة الكتاب والسنة المثبتة للقصاص تشمله وليس بيد من قال إنه لا قصاص في القتل بغير المحدد مطلقا دليل تقوم به الحجة ولا حجة فيما ورد من طريق الكذابين والوضاعين وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخطأ الذي هو شبه العمد بيانا شافيا فلنقتصر عليه ونرد ما عداه إلى ما شرعه الله لعباده من القصاص في العمد العدوان وقد أصاب المصنف باقتصاره في بيان قتل الخطأ على هذه الصور الأربع وحكمه على ما عداها بأنه عمد وهكذا أصاب في قوله وإن ظن الاستحقاق لأن العمل بالظن في سفك الدماء المعصومة لا تبطل حقا وإن كان دون القتل فضلا عن القتل.
قوله: "وما سببه منه فهدر" الخ.
أقول: قد حكم في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين [البخاري "6892"، مسلم "1673"، وغيرهما الترمذي "1416"، النسائي "8/28، 29"]، من حديث عمران بن حصين أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل لا دية لك"، وفي الصحيحين [البخاري "6893"، مسلم "1674"، وغيرهما أبو داود "4584"، النسائي "8/29، 30"]، من حديث يعلى بن أمية قال كان لي أجير فقاتل إنسانا فعض أحدهما صاحبه فانتزع أصبعه فأندر ثنيته فسقطت فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته وقال:"أيدع يده في فيك لتقضمها كما يقضم الفحل".
[فصل
والخطأ ما لزم به فعلى العاقلة بشروط ستأتي كمتجاذبي حبلهما فانقطع فيضمن كلا عاقلة الآخر ولو كان أحدهما عبدا لزمت عاقلة الحر قيمته ويصير لورثتيه ومثلهما الغارسان والفلكان اصطدما خطأ وكحافر بئر تعديا فتضمن عاقلته الوقوع فيها لا على من تضمن جنايته أو ما وضعه من ماء أو غيره فيشتركان فإن تعدد الواقعون متجاذبين أولا متصادمين أولا عمل بمتضي! الحال من خطأ وعمد وتحصيص وإهدار وكطبيب سلم غير المطلوب جاهلين فإن علم قتل إن جهل المتسلم وانتول من يده ولو طلبه وكمن أسقطت بشراب أو عرك ولو عمدا وفيما خرج حيا الدية وميتا الغرة] .
قوله: "فصل: والخطأ ما لزم به فعلى العاقلة" الخ.
أقول: أراد المصنف أن يذكر هاهنا بعض صور الخطأ ويذكر كيفية الضمان فيها وسيأتي له استيفاء صور الخطأ في قوله فصل والمسبب المضمون.
وأما وجه لزوم دية الخطأ على العاقل فسيأتي بيانه في الفصل الذي عقده المصنف لذلك.
وقوله: "كمتجاذبي حبلهما" إلخ وجهه أن الحبل حيث كان لهما لا يتصف أحدهما بالتعدي لأنه جذب ما يملك بعضه ولو كان الحبل لأحدهما لكان الآخر متعديا.
وأما قوله: "ولو كان أحدهما عبدا" إلخ فالظاهر أنه يلزم سيده أن يغرم لورثة الحر قدر قيمته وكغرم عاقلة الحر للسيد قدر قيمة العبد فإذا اتفقا تساقطا وهكذا الكلام في اصطدام الغارسين والفلكين خطأ.
قوله: "وكحافر بئر تعديا" الخ.
أقول: مجرد الحفر تعديا يصلح سببا للضمان إذا كان وقوع الواقع فيها لا عن تعمد منه كأن يمشي ليلا فيقع فيها أو يكون بصره ضعيفا فهذا من الأسباب التي تضمنها العاقلة.
وأما قوله: "لا بالوقوع على من تضمن جنايته" فإن كان الواقف في الحفيرة غير متعد فلا وجه لمشاركته في الضمان أصلا لأنه ورد عليه ما لم يتسبب لوقوعه ولا يطيق دفعه والعجب من الجزم بمثل هذه الأحكام بلا عقل ولا نقل وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "6912"، مسلم "1710"، وغيرهما الترمذي "642، 1377"]، أنه قال:"البئر جبار"، وإنما أثبتنا الضمان على الحافر تعديا لتعديه فقط ولو لم يكن متعديا لم يلزمه ضمان ألبتة لهذا الحديث وبهذا تعرف أن قوله:"فإن تعدد الواقعون" إلخ مبني على التعدي من الحافر وإلا فلا يلزمه شيء من الضمان والأولى العمل في المتجاذبين بما أخرجه أحمد والبزار والبيهقي من حديث حنش بن المعتمر عن علي أن ناسا باليمن حفروا زبية للأسد فوقع الأسد فيها فازدحم الناس فتردى فيها واحد فتعلق بواحد فجذبه وجذب الثاني ثالثا
والثالث رابعا فرفع ذلك إلى علي فقال للأول ربع الدية وللثاني الثلث وللثالث النصف وللربع الجميع فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمضى قضاءه قال ابن حجر في التلخيص قال البزار لا نعلمه يروى إلا عن علي ولا نعلم له إلا هذا الطريق وحنش ضعيف انتهى قلت ليس فيه من الجرح ما يوجب عدم الاعتبار بحديثه فإن غاية ما قيل فيه ما قاله البخاري إنهم يتكلمون فيه وما قاله النسائي إنهم يتكلمون فيه وهذا لا يوجب جرحا يوجب ترك العمل بالحديث وتأثير الرأي عليه مع أن أبا داود وثقه وبين ابن حجر في التقريب وجه الجرح فقال صدوق له أوهام ويرسل انتهى وهذا القدح ليس بشيء فالوهم في أحاديثه قد بينه الحفاظ وكذلك الإرسال فلم يبق في بقية أحاديثه علة قادحة وأخرج الدارقطني والبيهقي عن علي بن رباح أن أعمى كان يقود بصيرا فوقع في بئر فوقع الأعمى على البصير فمات البصير فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى وفيه انقطاع.
قوله: "وكطبيب سلم غير المطلوب جاهلين".
أقول: هذا لا شك في أنه من قتل الخطأ للجهل الحاصل لهما ولا شك أنه من القتل بالمباشرة كقتل السيف والرمح إذا علم الطبيب وجهل المسلم فيجب فيه القصاص إن اختاره الورثة.
وأما قوله: "كمن أسقطت بشراب أو عرك ولو عمدا" فلا وجه له لأن العرك مباشرة وكذلك الذي سقاها الشراب إذا كان موت الجنين بالشراب ويجب فيه بعد أن صار ذا روح الغرة إن خرج ميتا وإن خرج حيا وحصل اليقين بأن الموت بسبب العرك أو الشراب كان فيه الدية وقد وقع في حديث إيجاب الغرة في الجنين ما يدل على أنه خرج ميتا كما في الصحيحين [البخاري "12/252"، مسلم ط35/1681"، وغيرهما الترمذي "أبو داود "4577"، الترمذي "2111"، النسائي "4832"] ، من حديث أبي هريرة قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة وقد اختلفت الأحاديث في تعيين الغرة ما هي ولكن هذا الحديث أرجح من الأحاديث المخالفة له ولا سيما بعد موافقة حديث المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة الثابت في الصحيحين [البخاري "2905، 6906"، مسلم "39/1689"، وغيرهما أبو داود "4570"، ابن ماجة "2640"، له فإنه روى المغيرة بن شعبة عن عمر أنه استشارهم في إملاص المرأة فقال المغيرة قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة فشهد محمد ابن مسلمة أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به.
[فصل
والمباشر مضمون وإن لم يتعد فيضمن غريقا من أمسكه فأرسله لخشية تلفهما لا المسبب إلا لتعد في السبب أو سببه] .
قوله: "فصل: والمباشر مضمون وإن لم يتعد فيه فيضمن غريقا من أمسكه فأرسله".
أقول: لا شك أن إنقاذ الغريق من أهم الواجبات على كل قادر على إنقاذه فإذا أخذ في إنقاذه فتعلق به حتى خشي على نفسه أن يغرق مثله فليس عليه في هذه الحالة وجوب لا شرعا ولا عقلا فيخلص نفسه منه ويدعه سواء كان قد أشرف على النجاة أم لا بل ظاهر قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، أنه يجب عليه تخليص نفسه والآية هذه وإن كانت واردة على سبب خاص كما في سنن أبي داود وغيرهما فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول وهو الحق فالعجب من حكم المصنف على من أرسله لخشية التلف بالضمان فإن هذا لا يطابق شيئا من الشرع وإنما هو رجوع إلى مجرد رأي قد تقرر في الأذهان التي تقبل هذا وأمثاله من دون أن تزنه بميزان الشرع.
وأما قوله: "لا المسبب إلا لتعد في السبب أو سببه" فهكذا ينبغي أن يقال وملاك الأمر في ضمان المسببات عن الأسباب هو التعدي.
[فصل
والمسبب المضمون جناية ما وضع بتعد في حق عام أو ملك الغير من حجر وماء وبئر ونار أينما بلغت وحيوان كعقرب لم ينتقل أو عقور مطلقا ومنه ظاهر الميزاب والقرار على آمر المحجور مطلقا وغيره إن جهل وإلا فعليه وجناية المائل إلى غير الملك وهي على عاقلة المالك العالم متمكن الإصلاح حسب حصته وشبكة نصبت في غير الملك ولم يزل التغرير ووضع صبي مع من لا يحفظ مثله أو في موضع خطير أو أمره بغير المعتاد أو إفزاعه وأما تأديب أو ضم غير معتاد فمباشرة مضمون قيل والمعتاد خطأ وجناية دابة طردت في حق عام أو ملك الغير أو فرط في حفظها حيث يجب فأما رفسها فعلى السائق والقائد والراكب مطلقا والكفارة فإن اتفقوا كفر الراكب فأما بولها وروثها وشمسها فهدر غالبا وكذلك نفحتها وكبحها ونسخها المعتادة وإلا فمضمونة هي وما تولد منها حيث يجب التحفظ] .
قوله: "فصل: والمسبب المضمون" الخ.
أقول: ذكر في هذا الفصل صورا من جنايات الخطأ بالتسبب ليتقرر معناه في ذهن الطالب ويرتسم الفرق بين الخطأ مباشرة والخطأ تسبيبا لما في ذلك من الالتباس في بعض الصور فقال جناية ما وضع بتعد في حق عام أو ملك الغير.
أما ملك الغير فوجه التعدي فيه واضح وأما في الحق العام فلكونه لا يجوز له ذلك إلا بإذن من له ذلك إن كانوا منحصرين أو بإذن الإمام إن كانوا غير منحصرين.
وأما قوله: "من حجر" إلخ فالظاهر لزوم الضمان فيما كان من الجنايات ناسيا من أثر فعله من غير فرق بين الانتقال وعدمه إلا إذا رجع مثلا العقرب والعقور إلى المحل الذي أخذه منه وجنى بعد ذلك فإن الجناية حينئذ ليست من أثر فعل الناقل.
وهكذا قوله: "ومنه ظاهر الميزاب" فإنه من جناية الخطأ تسبيبا لأنه إذا سقط على مارة الطريق فهو لعدم إحكامه ولا وجه للتقييد بالظاهر بل يضمن جنايتهما جميعا إذا سقط وأما إذا وقعت الجناية وهو ثابت في محله ولم يحصل التعدي بوضعه فلا ضمان من غير فرق بين الظاهر وبين ما هو ملصق بالبناء.
قوله: "وعلى آمر المحجور" الخ.
أقول: قد تقرر أن جناية الصبي والمجنون مضمونة من مالهما لأن ذلك من أحكام الوضع لا من أحكام التكليف وقد تقدم له أنه يضمن آمر الضعيف قويا من غير فرق بين المحجور وغيره ويكون قرار الضمان مع الجهل من المحجور ومن غيره على الآمر لأنه حصل منه التغرير والمغرور. يغرم الغار
وأما قوله: "وجناية المائل إلى غير الملك" إلخ فوجهه أن ترك إصلاحه مع كونه يخشى سقوطه إلى غير ملكه هو من التعدي في الأسباب وقد تقدم أنه هو الموجب للضمان ولا يتم التعدي إلا إذا كان قادرا على الإصلاح فإن كان لا يقدر عليه وأمكنه الهدم أو البيع إلى غيره ولم يفعل فهو أيضا ضامن وإن لم يتمكن بوجه من الوجوه فلا ضمان عليه.
وأما قوله: "وهي على عاقلة المالك العالم" فلا وجه لذكره هنا لأنه سيأتي الكلام له في ضمان العاقلة لما يشمل هذا أو غيره.
ومن الأسباب أيضا قوله وشبكة نصبت في غير الملك إلخ وهذا وإن كان قد أفاده ما تقدم في أول هذا الفصل من قوله من حجر إلخ لكن مقصود المصنف مزيد الإيضاح بتعداد الصور كما قدمنا.
وهكذا قوله: "ووضع صبي" إلخ لظهور التعدي الذي هو المناط في ضمان فاعل السبب.
وأما الإفزاع فإن كان بصوت أو نحوه من المباشرة لا من التسبيب كالتأديب والضم الذي لم تجر به عادة.
ومن الأسباب جناية دابة طردت في حق عام أو في ملك الغير لأنه بهذا الطرد إلى مكان لا يجوز له التصرف فيه مستقلا بنفسه قد صار متعديا فلزمه الضمان وقد سوى المصنف بين الطرد والتفريط في الحفظ وهو صواب لكن ينبغي تقييد ذلك بأن يكون طردها أو التفريط في حفظها كائنا في الليل لما أخرجه أحمد "5/435، 436"، وأبو داود "3570"، والنسائي "5784/1"، وابن ماجه "2332"،، ومالك في الموطأ والشافعي والدارقطني وابن حبان
وصححه والحاكم والبيهقي من حديث حرام بن محيصة أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها وقد ذكر ابن حجر الاختلاف الواقع في هذا الحديث وهو لا يقدح في الاحتجاج به لأن غايته أنه روي من طرق وذلك مما يزيده قوة فلا ضمان على أهل المواشي فيما أفسدت نهارا ويؤيد هذا حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جرحها جبار"، ويلحق بالجرح سائر ما أفسدت لعدم الفارق ويخص من ذلك ما تقدم في الحديث أن ما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها فبقي ما أفسدت في النهار داخلا تحت العموم ويخص أيضا ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين أو في سوق من أسواقهم فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن"، ولكنه ضعفه البيهقي فينظر في وجه التضعيف.
وهذا الحديث هو الوجه لقول المصنف: "فأما رفسها فعلى السائق والقائد والراكب مطلقا" وأما التعرض لذكر الكفارة هنا فلا وجه له فإنه سيأتي له الكلام في ذلك مفصلا.
وأما قوله: "فإن اتفقوا كفر الراكب" فكلام لا يصح وفرق غير متضح فإنه إذا كان الركوب مؤثرا للزوم الكفارة عليه وحده كان مؤثرا للزوم أرش الجناية له لعدم الفرق ودعوى اتصافه بالمباشرة دون السائق والقائد غير معقولة بل تأثير السوق والقود في حركة الدابة أكثر من تأثير الركوب.
وأما قوله: "فأما بولها" إلخ فوجهه عدم التعدي من مالكها فلم يحصل الضمان مع كون هذه الأمور داخلة تحت عموم حديث العجماء جبار فإن المراد بالجبار الهدر كما فسره بذلك أهل اللغة.
وأما نفجها وكبحها أو نخسها فإن لم يفعل إلا ما يعتاده الناس في ذلك فلا ضمان عليه لأنه فعل في ملكه ما أباحه له الشرع وإن فعل غير المعتاد كان بذلك متعديا فيلزم الضمان ولا سيما إذا كان في سبيل من سبل المسلمين وفي سوق من أسواقهم كما تقدم في الحديث.
[فصل
والكفارة على بالغ عاقل مسلم قتل أو نائما مسلما أو معاهدا غير جنين خطأ مباشرة أو في حكمها أن يكفر برقبة مكلفة مؤمنة سليمة ولو قبل الموت بعد الجرح فإن لم يجد أو كان عبدا فيصوم شهرين ولاء وتعدد على جماعة لا الدية] .
قوله: "فصل: والكفارة على بالغ عاقل" الخ.
أقول: اعلم أن إيجاب الكفارة في هذا الباب وفي غيره تكفير ذنب من وجبت عليه
بما فعله من الفعل المقتضي للإثم فإن كان وجوبها في القتل لهذا المعنى فكيف لزمت من هو قاتل خطأ لا عمد فيه ولا عدوان فإن ذلك مغفور من الأصل كما في قوله سبحانه: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى عن الله سبحانه أنه قال قد فعلت ومن ذلك حديث:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وقد قدمنا لك أن طرقه قد عضد بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فصلح للاحتجاج به وإن كان وجوبها تعبدا لحكمة خفيت على العباد فسمعا وطاعة لما أوجبه الله على عباده وهو ظاهر قوله عزوجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]، ولكنه ينبغي الاقتصار على مورد النص وهو أن يكون القاتل خطأ مؤمنا والمقتول مؤمنا فإذا انتفى وصف الإيمان من أحدهما فلا كفارة وكذلك قوله عزوجل:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَة} وقوله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الآية لتكون الكفارة واجبة حيث كان المقتول من قوم بيننا وبينهم ميثاق أو من قوم هم عدو لنا وكان المقتول مؤمنا وسقط القصاص بوجه من الوجوه ولم يجب إلا الدية.
وإذا تقرر لك هذا فما هو الواجب للكفارة على كل قاتل خطأ فإن قيل إنه حديث وائلة بن الأسقع عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان والحاكم قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب فقال: "أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار"، فيقال هذا الحديث يدل على أن من استوجب العذاب بفعل معصية كائنة ما كانت من قتل أو غيره كان التكفير مشروعا له ومعلوم أن قاتل لخطأ لا إثم عليه ألبتة كما قدمنا فهو لم يستوجب العذاب فهو مؤكد للسؤال الذي ذكرناه ومؤيد له.
وأما ما روي في هذا الحديث بزيادة: "قد استوجب النار بالقتل" فهو لم يثبت عند أحد من هؤلاء الذين خرجوه من أهل الحديث وعلى فرض ثبوته فهو خاص لمن استوجب النار بالقتل وهو القاتل عمدا عدوانا إذا سقط عنه القصاص بعفو أو نحوه ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم في المعرفة من حديث خزيمة بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "القتل كفارة"، قال ابن حجر وفيه ابن لهيعة لكنه من حديث ابن وهب عنه فكان حسنا قال ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن علي موقوفا عليه والأصل فيه حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم:"من أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة" الحديث وهو في البخاري بلفظ: "كفارته" انتهى فعرفت بهذا أن القاتل إذا قتل قصاصا لم يجب عليه كفارة وفيه دليل على أنه إذا لم يقتل قصاصا فعليه الكفارة.
فحاصل ما دلت عليه الأدلة أن الكفارة تجب في قتل المؤمن للمؤمنين خطأ لا إذا كانا مسلمين غير مؤمنين أو أحدهما ويجب في الفعل من قوم بيننا وبينهم ميثاق ومن قوم هم عدو لنا والمقتول مؤمن وسقط القصاص عن القاتل بوجه من الوجوه ويجب على قاتل العمد إذا سقط عنه القصاص بوجه ولا دليل على إيجابها على كل قاتل خطأ لما عرفناك من أنه لا ذنب
عليه سواء قتل بالتسبب أو المباشرة وإذا تبين لك هذا عرفت الكلام على ما ذكره المصنف من الشروط في هذا الفصل.
وأما كون الرقبة مؤمنة فلتصريح الكتاب العزيز بذلك وأما اشتراط سلامتها من العيوب فليس في أدلة الكتاب والسنة ما يفيد ذلك وقد دلت الآية على أن من لم يجد رقبة صام وأما تعددها على الجماعة فهو الظاهر لكن في الصور الثلاث التي ذكرناها لا مطلقا والوجه في ذلك ما قدمنا في قتل الجماعة بالواحد فارجع إليه.
[فصل
وفي العبد ولو قتله جماعة قيمته ما لم تعد دية الحر وأرشه وجنينه بحسبها وأما المقبوض فما بلغت وجناية المغصوب على الغاصب إلى قيمته ثم في رقبته وله أن يقتص منه ويضمنها وكذا لو جنى على المالك أو غيره ومثله مستأجر ومستعير فرطا] .
قوله: "فصل: وفي العبد ولو قتله جماعة قيمته".
أقول: القاتل للعبد قد أتلف مالا من مال مالك العبد وقد وقع الاتفاق على أنه يجب على من أتلف مالا لغيره أن يضمن قيمته قليلة كانت أو كثيرة فما بال متلف هذا المال أنه لا يضمن من قيمته إلا قدر دية الحر وما الوجه في هذا فإنه لا يطابق رواية ولا دراية ولا يوافق عقلا ولا نقلا ومع هذا فالمروي عن الصحابة يقتضي بأنه يضمن قيمته بالغة ما بلغت كما أخرجه البيهقي عن عمر وعلي أنهما قالا في الحر يقتل العبد ثمنه بالغا ما بلغ.
وأما قوله: "وأرشه وجنينه بحسبها" فالوجه فيه ظاهر فيكون أرشه مقدار أرش الجناية منسوبة من قيمته وهكذا يجب في جنينه ما يقدره العدول من القيمة لا كما قيل إنه يجب فيه نصف عشر قيمة أبيه فإنه لا دليل على ذلك وقد أخرج الشافعي بإسناد صحيح إلى الزهري عن عمر أنه قال جراح العبد من ثمنه كجراح الحر من ديته قال الزهري وكان رجال سواه يقولون يقوم سلعة وإذا عرفت أن الواجب في العبد قيمته بالغة ما بلغت فلا فرق بين المغصوب وغيره.
وأما كون جناية العبد المغصوب على غاصبه فوجهه أنه إذا أثبت يده عليه عدوانا وحال بينه وبين مالكه وربما كان عند مالكه لا يقدم على الغير ولا يجني فكان تسبب الغاصب لمثل هذا مقتضيا لضمانه لما جناه كما يضمن نقص العين المغصوبة إذا نقصت عنده ومعلوم أنه لو تعلقت جناية العبد برقبته وهو عند الغاصب لكان ذلك أعظم نقص يلحقها.
وإذا تقرر لك هذا عرفت أنه لا يجوز للغاصب أن يقتص من العبد المغصوب إذا جنى عليه لأنه يضمن الجناية الواقعة منه على الغير فتكون الجناية الواقعة من العبد على الغاصب
هدرا. وأما الجناية الواقعة من العبد المغصوب على الغير إذا كانت توجب القصاص واختار المجني عليه القصاص فله ذلك وعلى الغاصب ضمان ما نقص من العبد إذا كان القصاص فيما عدا النفس أو ضمان قيمته بالغة ما بلغت إن كان القصاص على النفس وأما المستأجر والمستعير إذا فرطا في حفظ العبد الذي استأجراه أو استعاراه فالوجه في ذلك أن الجناية منه إذا كانت بسبب تفريطهما في حفظه كان هذا السبب بمجرده مقتضيا للضمان عليهما.
[فصل
وفي عين الدابة ونحوها نقص القيمة وفي جنينها نصف عشر قيمته وتضمن بنقلها تعديا وبازالة مانعها من الذهاب أو السبع ومانع الطير والعبد إن تلفت فورا والسفينة ووكإ السمن ولو متراخيا أو جامدا ذاب بالشمس ونحوها ولا يقتل من الحيوان إلا الحية والعقرب والفأرة والغراب والحدأة والعقور بعد تمرد المالك وما ضر من غير ذلك] .
قوله: "فصل: وفي عين الدابة ونحوها نقص القيمة".
أقول: هذا غاية ما يمكن ولا طريق غيره وأما كون في جنينها نصف عشر قيمتها فلا وجه له لا من عقل ولا من نقل بل إن خرج حيا فمات قدر العدول قيمته وإن خرج ميتا قدروه على فرض أنه خرج حيا.
وأما قوله: "ويضمن بنقلها تعديا" الخ فوجه ذلك أنه صار بهذا النقل غاصبا فتثبت له أحكام الغصب المتقدمة ولا فرق بين النقل وإزالة المانع وبين الحيوان وغيره كالسفينة والأدهان ونحوها.
قوله: "ولا يقتل من الحيوان إلا الحية" الخ.
أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة قد دلت على مشروعية قتل هذه الخمس [البخاري "4/34"، مسلم "71/1198"]، الحية والعقرب والفأرة والغراب والحدأة وأقل أحوال الأمر بقتلها أن يكون مندوبا فكان على المصنف أن يقول ويندب أو يشرع قتل الحية إلخ وأما العقور فقتله من باب دفع الصائل وهو جائز ولو كان آدميا فضلا عن غيره وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره بلفظ:"والكلب العقور" ويلحق بالعقور كل ما يصول على بني آدم أو على ما يملكونه من الحيوانات والأموال كالأسد والذئب والنمر فإن قتلها كلها من باب دفع الصائل وقد شمل ذلك المصنف رحمه الله وما ضر من غير ذلك ومنه الوزغ والعناكب فإنه ورد الأمر بقتلهما على الخصوص.
والحاصل أن كل ما كان ضارا للأبدان أو الأموال أو المساكن فقتله جائز كائنا ما كان
ولا يخرج من ذلك إلا ما نهى الشارع عن قتله نهيا خاصا لكنه إذا تعاظم ضرره كان قتله من باب دفع الصائل.
[فصل
ويخير مالك عبد جنى ما لا قصاص فيه بين تسليمه للرق أوكل الأرش وفي الصقاص يسلمه ويخير المقتص فإن تفردوا سلمه أو بعضه بحصة من لم يعف إلا أم الولد ومدبر الموسر فلا يسترقان فيتعين الأرش لسقوط القصاص وهو على سيدهما إلى قيمتهما ثم في رقبته وذمتها فإن أعسر بيع وسعت في القيمة فقط ولا تتعدد بتعدد الجنايات ما لم يتخلل التسليم ويبرآن بإبراء العبد لا السيد وحده ولا يقتص من المكاتب إلا حر أو مثله فصاعدا ويتأرش من كسبه ويقدم ما طلب فإن اتفقت فالجناية فإن أعسر بيع لها والوقف يقتص منه ويتأرش من كسبه وأمر الجناية عليه إلى مصرفه] .
قوله: "فصل: ويخير مالك عبد جنى مالا قصاص فيه" الخ.
أقول: قد تقرر أن الجناية من الحيوانات التي يملكها مالكها إذا كانت مضمونة على المالك كان ضمانها عليه بالغا ما بلغ والعبد من جملة ما يملكه فالمناسب لضمان جناية الملك أن تكون جناية العبد كجناية سائر الحيوانات المملوكة إلا أن يرد دليل يوجب المخالفة لهذا كان العمل عليه ولم يرد ما يخالف ذلك من المرفوع وما روي عن الصحابة مختلف ولا حجة في ذلك ويؤيد ضمان السيد لجناية عبده بالغة ما بلغت أنه يأخذ أرش جنايته من الجاني عليه بالغا ما بلغ فيكون عليه مثل ماله ولكن لما كان العبد عاقلا مكلفا كان القصاص واجبا عليه في الجناية التي يثبت فيها القصاص في النفس وما دونها إذا اختار المجني عليه أو وارثه ذلك فهكذا ينبغي أن يقال رجوعا إلى القواعد الشرعية المأخوذة من كليات الأدلة ولا مخصص لها حتى يصار إليه ويجب العمل به.
قوله: "إلا أم الولد ومدبر الموسر" الخ.
أقول: الوجه في هذا أنه قد وجد تسبب عتقهما فلا يسلك بهما مسلك المماليك ولا وجه لإيجاب الأرش على سيدهما بل إذا انتهى الحال إلى العتق طولبا بأرش الجناية كما يطالب الأحرار وقد قدمنا أن الراجح اعتبار الانتهاء في العبد الكافر فليكن الكلام هنا هكذا لا سيما وقد حصل السبب الذي يخرجان به من الرق إلى الحرية فإن تضرر من له الأرش بطول المهلة كان له أن يستسعيهما بقدر أرش الجناية وليس له أن يطالب سيدهما بشيء وهذا يغنيك عما ذكره المصنف هاهنا.
وأما قوله: "ولا يقتص من المكاتب إلا حر أو مثله فصاعدا" فصواب أما الحر فظاهر وأما المكاتب المماثل له أو الذي قد سلم من كتابته زيادة على ما سلمه الجاني فلعدم المزية للجاني على المجني عليه.
وأما كونه يتأرش من كسبه فهو الصواب وكان عليه أن يجري في المكاتب وأم الولد والمدبر على نمط واحد لأن كل واحد منهم قد تعلق بسبب يقتضي خروجه من الرق بعد أن يحصل ما يقتضي التنجيز في الجميع وهو موت السيد في المدبر وتنجيز عتق أم الولد من سيدها أو موته ووفاء المكاتب لما كوتب عليه مع أنه قن ما بقي عليه درهم كما تقدم فلا وجه للفرق بين هؤلاء الثلاثة بلا رواية ولا دراية وما ذكره من أنها إذا اتفقت قدم أرش الجناية فلا وجه لهذا التأثير إلا ما يظن أنه بالجناية تسبب للضمان ولكنه قد تسبب بالمكاتبة عن نفسه لضمان مال الكتابة وقد تقدم أنه يرده في الرق اختياره وعجزه عن الوفاء بمال الكتابة.
وأما قوله: "فإن أعسر بيع لها" فينبغي أن يقال إنه يقدم استسعاؤه لئلا يفوت حق مالكه الذي كاتبه ومهما أمكن الوفاء بالحقين فهو الواجب.
وأما قوله: "والوقف يقتص منه ويتأرش من كسبه وأمر الجناية عليه إلى مصرفه" فهو صواب وقد اضطرب كلام المصنف في هذا الفصل فاشدد يديك على ما ذكرناه.
[فصل
والعبد بالعبد وأطرافهما ولو تفاضلا أو لمالك واحد لا والد بولده ويهدر مالا قصاص فيه على مالكه وغاصبه] .
قوله: "فصل والعبد بالعبد" الخ.
أقول: هكذا حكم الله سبحانه في كتابه العزيز وللأطراف التي يجب فيها القصاص حكم النفس إما بشمول الآية لها أو بالقياس على النفس وهكذا قوله لا والد بولده وأما كونه يهدر مالا قصاص فيه على مالكه فلكون العبد من جملة ماله وكون أرش جنايته على سيده كما قدمنا فلا يثبت للسيد على نفسه دين وأما قوله: "وغاصبه" فهذا هو الصواب لما قدمنا على قول المصنف: "وجناية المغصوب على الغاصب".