الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في كل ركعة شيئا معينا فهذا لم يكن ثابتا بخصوصه لكنه من جملة ما يصدق عليه أنه صلاة وأنه جماعة وأنه في رمضان.
وأما صلاة الضحى التي جعلها المصنف بنيتها بدعة فكما قال الشاعر:
أوردها سعد وسعد مشتمل
…
ما هكذا يا سعد تورد الإبل
وقد ذكرت في شرحي للمنتقي الأحاديث الواردة فيها وهي شيء واسع فمن أحب الوقوف على ذلك فليرجع إليه حتى يتبين له هذا الخبط والخلط الذي وقع من المصنف فإنه جعل السنن بدعا والبدع سننا والأمر لله العلي الكبير.
[كتاب الجنائز
فصل
"يؤمر المريض بالتوبة والتخلص عما عليه فورا ويوصي للعجز ويلقن الشهادتين ويجه المحتضر القبلة مستلقيا ومتى مات غمض ولين برفق وربط من ذقنه إلي قمته بعريض ويشق أيسره لاستخراج حمل تحرك أو مال علم بقاؤه غالبا ثم يخاط".
ويعجل التجهيز إلا للغريق ونحوه ويجوز البكاء والإيذان لا النعي وتوابعه] .
قوله: "كتاب الجنائز".
فصل: "يؤمر المريض بالتوبة والتخلص عما عليه فورا".
أقول: كان الأولى أن يقول المصنف تجب على المريض التوبة والتخلص عما عليه فورا للأدلة من الكتاب والسنة على وجوب التوبة والتخلص عن الحقوق الواجبة عليه نعم إذا بلغ إلي حالة من شدة المرض لا يتذكر ما عليه إلا بتذكير فذلك من الحاضرين عنده من باب الموعظة الحسنة والأمر بالمعروف الذي ندب الله إليه العباد وأمرهم به.
قوله: "ويوصى للعجز".
أقول: هذا من جملة ما يؤمر به أي يؤمر المريض بالتوبة والتخلص إن أمكن حال المرض فإن لم يمكن فإنه يؤمر بأن يوصي للعجز عن التخلص في الحال.
وأصل الوصية واجب في جميع الأحوال إذا لم يتمكن من التخلص ولو كان صحيحا فإن
أمكن ذلك فهو الواجب للحديث الصحيح الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "ولا يدعها حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا"[البخاري "2748"، مسلم "92/1032"] .
قوله: "ويلقن الشهادتين"
أقول: قد ثبت الأمر بتلقين من حضره الموت فمن ذلك ما في صحيح مسلم ["1/916"] وغيره [أبو دأود "3117"، الترمذي "976"، النسائي "514"، ابن ماجة "1445"]، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" ومثله من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ["2/917"] ، وغيره وهو مروي خارج الصحيح من طريق جماعة من الصحابة منهم عائشة [النسائي "4/5"] ، وعبد الله بن جعفر [ابن ماجة ""1446"] ، وجابر وعروة بن مسعود وحذيفة ابن اليمان وابن عباس وابن مسعود قال النووي والأمر بهذا التلقين أمر ندب.
قال وأجمع العلماء على هذا التلقين انتهى.
وظاهر الأمر الوجوب ولا قرينة تصرفه عن ذلك وظاهر الأحاديث أن مشروعية التلقين إنما هي لهذا اللفظ أعني لا إله إلا الله ولكنه ثبت في غير هذا التلقين الأمر بمقاتلة الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كما في الصحيحين وغيرهما من رواية ابن عمر.
وقد قيل إن المراد هنا بقول لا إله إلا الله التلفظ بالشهادتين لكونه صار علما على ذلك.
قوله: "ويوجه المحتضر القبلة مستلقيا".
أقول: استدل على مشروعية هذا التوجيه بما أخرجه أبو دأود ["2875"، والنسائي "4012"]، والحاكم من حديث عبيد بن عمير عن أبيه أن رجلا قال يا رسول الله ما الكبائر قال:"هي سبع" وذكر منها: "استحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا" وهذا لايدل على المطلوب لأن المراد بقوله أحياء عند الصلاة وقوله أمواتا في اللحد والكلام في توجيه الحي المحتضر وقد استدل على ذلك بما أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث أبي قتادة أن البراء بن معرور أوصى أن يوجه إلي القبلة إذا احتضر فقال صلى الله عليه وسلم: "أصاب الفطرة" فإن صح هذا كان دليلا على مشروعية ذلك وقد ذكره في التلخيص ولم يتكلم عليه.
والأولى أن يكون على شقه الأيمن لا مستلقيا لما ورد في أحاديث من الإرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلي أن يكون النوم على الشق الأيمن وقال في بعض الأحاديث الثابتة في الصحيحين [البخاري "7393"، مسلم "56/2710"] وغيرهما [أبو دأود "5046"، أحمد "4/290، 296"] بلفظ: "إذا أويت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن"، قال في آخره "فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة" فإن هذا فيه دليل على أنه إنما أرشد إلي ذلك لأن النائم إذا مات مات على الفطرة فينبغي أن يكون المريض عند حضور الموت على شقه الأيمن.
وأخرج أحمد في المسند عن سلمى أم أبي رافع أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موتها استقبلت القبلة ثم توسدت يمينها.
والحاصل أنه لم يرد في التوجه عند الموت إلي القبلة ما يدل على مشروعيته إلا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن البراء بن معرور أصاب الفطرة" حيث أوصى بأن يوجه إلي القبلة إذا احتضر ولو كان مشروعا لأرشد إليه صلى الله عليه وسلم من مات في حياته ولم يسمع منه صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء مع كثرة الأموات من أهله وأصحابه.
قوله: "ومتى مات غمض".
أقول: استدل على مشروعية هذا بما أخرجه أحمد ["4/125"] وابن ماجه ["1455"] والحاكم والطبراني في الأوسط والبزار عن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت" وفي إسناده قزعة بن سويد قال أبو حاتم محله الصدق وليس بذلك القوي.
والأولى الاحتجاج بما ثبت في صحيح مسلم ["920"] عن ام سلمة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: "إن الروح إذا قبض أتبعه البصر" قال النووي واجمع المسلمون على ذلك.
والحكمة فيه أن لا يقبح منظره إذا ترك إغماضه.
وأما ما ذكره المصنف من التليين برفق والربط من ذقن الميت إلي قمته فلم يرد فيه شيء لكنه عمل حسن لئلا تيبس أعضاء الميت فيصعب غسله وتكفينه ولئلا ينفتح فوه فيكون منظره قبيحا.
قوله: "ويشق أيسره لاستخراج حمل تحرك أو مال علم بقاؤه غالبا".
أقول: لم يرد في الشق لواحد من الأمرين شيء يعتمد عليه لكن قد علم بتحرك الحمل أنه حي فدفنه أهلاك له وقد ورد في حفظ النفوس واحترامها ما هو أشهر من ضوء النهار فإن كان مثلا ذلك الحمل المتحرك مما يظن حياته إذا خرج من البطن فإنقاذه واجب ولا يعارض هذا ما ورد من أن الميت يتألم كما يتألم الحي وأن كسر عظمه ميتا ككسره حيا [أبو دأود "3207"، ابن ماجة "1616"، أحمد "6/58، 168،169، 200، 364"] لأن حرمة الحي والحظر في أهلاكه أبلغ من ذلك وأشد.
وأما من ازدرد مالا فمات وهو في بطنه فبقاؤه منكر عظيم وإضاعة للمال المنهي عن إضاعته فإخراجه متوجه والميت هو الجاني على نفسه فلا حرج في تأليمه ولا فرق بين قليل المال وكثيره لأن الكل منكر وإضاعة فلا وجه للاحتراز على مقدار ثلث ماله فإن الله سبحانه إنما جعل له ثلث ماله ليتقرب به إلي الله لا ليدسه في التراب معه.
وأما كونه يخاط بعد الشق فذلك صواب لئلا يكون منظره قبيحا.
قوله: "وتعجيل التجهيز إلا لغريق ونحوه".
أقول: حديث الأمر بالتعجيل للتجهيز وتعليل ذلك بقوله: "فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله" أخرجه أبو دأود ["3159"] ، من حديث الحصين بن وحوح وفي إسناده
عروة بن سعيد الأنصاري ويقال عزره عن أبيه وهما مجهولان.
وحديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يؤخرون الصلاة إذا آنت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤا"، أخرجه أحمد ["1/105"، والترمذي "171"، وابن ماجه "1486"] ، وابن حبان والحاكم وفي إسناده مقال لا يقدح في صلاحيته للاحتجاج به ويشهد لهما أحاديث الإسراع بالجنازة.
وأما استثناء الغريق ونحوه فظاهر لأن من كانت حياته مرجوة كان تعجيل دفنه حراما.
قوله: "ويجوز البكاء والإيذان لا النعي وتوابعه".
أقول: أعلم أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من طرق في الصحيحين [البخاري"1292"، مسلم "26/932"] ، وغيرهما [النساءي "1858"] ، "أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، وفي لفظ:"من ينح عليه يعذب بما ينح عليه" وهو في الصحيحين [البخاري"1291"، مسلم "933"، وغيرهما فهذا يدل على أن النوح والبكاء الذي يمكن دفعه حرام وأما مجرد فيضان العين وذروفها بالدموع من دون صوت ولا نوح ولا تعمد للبكاء فهو الذي حصل الإذن به وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري "1303"، مسلم "62/2315"] وغيرهما "العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا" وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري"1304"، مسلم "12/924"] وغيرهما لما رأى القوم بكاءه فقال: "ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلي لسانه - أو يرحم"، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري "1224"، مسلم "11/923"] ، وغيرهما لما بكى عند أن رأى نفس الصبي تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".
فهكذا ينبغي أن يكون الجمع بين الأحاديث المختلفة في هذا الباب.
وأما الإيذان بموت الميت فقد ثبت في كتب اللغة أن النعي هو الإخبار بموت الميت وإذاعته وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "458"، مسلم "956"] ، وغيرهما [أحمد "2/353، 388"، أبو دأود "3203"]، أنه قال لما رأى قبرا دفن ليلا فقال:"متى دفن هذا؟ " فقالوا: البارحة قال: "أفلا آذنتموني؟ " وثبت في الصحيح [البخاري "1337"،مسلم "956"، أبو دأود "1203"، ابن ماجة "1527"، أحمد "2/353"] أنه قال ذلك لما أخبروه بموت السوداء أو الأسود الذي كان يقم المسجد فدل على أن مجرد الإخبار بموت الميت من دون إذاعة ولا تفجع جائز لإنه قد ورد ما يدل على أن في كثرة المصلين عليه منفعة له وأنهم شفعاؤه وأيضا لا بد من حضور من يتولى تجهيزه وحمله ودفنه فإخبارهم بذلك مما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه الضرورة.
وأما ما ذكره من توابع النعي فهي ما ورد النهي عنه من ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوة الجأهلية كما في الصحيحين [البخاري "1294، 2197"، مسلم "103"] ، وغيرهما
[الترمذي "999"، النسائي ""4/20"، ابن ماجة "1584"، أحمد "1/386، 432، 442"]، وهكذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة"، وهو في الصحيحين [البخاري "1296"، مسلم "104"، وغيرهما [ابن ماجة " 5192"، النسائي "5/20". وهكذا قوله للميت واعضداه واناصراه واكاسباه واجبلاه واأسداه وهو منهي عنه كما ثبت في اصحيح البخاري ["4268"، وغيره [ابن ماجة "1594"، الترمذي "1003"] .
[فصل
ويجب غسل المسلم ولو سقطا استهل أو ذهب اقله ويحرم للكافر والفاسق مطلقا ولشهيد مكلف ذكر قتل أو جرح في المعركة بما يقتله يقينا أو في المصر ظلما أو مدافعا عن نفس أو مال أو غرق لهرب أو نحوه.
ويكفن بما قتل فيه إلا آله الحرب والجورب مطلقا والسرأويل والفرو إن لم ينلها دم وتجوز الزيادة.
قوله: فصل: "ويجب غسل الميت".
أقول: غسل الأموات ثابت في هذه الشريعة ثبوتا قطعيا ولم يسمع في أيام النبوة أنه مات ميت غير شهيد فترك غسله بل هذه الشريعة في غسل الأموات ثابتة من لدن أبينا آدم عليه السلام إلي الآن فإنه أخرج عبد الله بن أحمد في المسند ["7/154"] ، والحاكم في المستدرك قال صحيح الإسناد. ولم يخرجاه يعني الشيخين "أن آدم عليه السلام قبضته الملائكة وغسلوه وكفنوه وحنطوه وحفروا له والحدوا وصلوا عليه ثم دخلوا قبره فوضعوه فيه ووضعوا عليه اللبن ثم خرجوا من القبر وحثوا عليه التراب وقالوا يا بني آدم هذه سنتكم".
وقد حكى الإجماع على وجوب الغسل للميت على الكفاية النووي والمهدي في البحر واعترض ابن حجر في الفتح على نقل النووي والإجماع على أنه فرض كفاية بأن المالكية يخالفون في ذلك وأن القرطبي منهم رجح في شرح مسلم أنه سنة ورد ابن العربي على المالكية وقال قد تواتر به القول والعمل.
قوله: "لو سقطا استهل".
أقول: السقط باستهلاله قد صار له حكم الأحياء من العباد ولهذا أنه يرث ويورث فالغسل له داخل في عموم مشروعية الغسل لأموات المسلمين وهذا المقدار يكفي على تقدير أنه لم يرد دليل يدل على غسل السقط فكيف وقد أخرج الترمذي ["1032"] ، والنسائي وابن ماجه ["1508"] ، من حديث جابر "إذا استهل السقط صلي عليه وورث" وأخرج أيضا البيهقي والحاكم وصححه ولا مطعن فيه يوجب سقوط الاحتجاج به وأخرج أحمد ["4/248، 249"
و "252"] ، الترمذي ["1031"] ، وابن حبان والحاكم وصححوه "السقط يصلي عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة".
وأخرج ابن ماجه] "1509"] ، من حديث أبي هريرة "صلوا على أطفالكم فإنهم أفراطكم".
وأما ما روى أبو دأود ["3187"] ،من حديث عائشة أنها قالت مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه فقد قال ابن عبد البر حديث عائشة هذا لا يصلح لأن الجمهور قد أجمعوا على الصلاة وراثة وعلما مستفيضا عن السلف والخلف ولا أعلم احدا جاء عنه غير هذا إلا عن سمرة بن جندب وحديثه يحمل أنه لم يصل عليه جماعة وأمر أصحابه فصلوا عليه ولم يحضرهم قال البيهقي رواية الصلاة عليه أشبه بسائر الأحاديث الصحيحة فقد ثبت عن عائشة أنها قالت "دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي جنازة صبي من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة"[مسلم "30/2662"] ، الحديث.
وإذا قد ثبت للسقط المستهل أنه يصلى عليه فما قبل الصلاة وهو الغسل والتكفين وما بعدهما وهو الدفن كذلك.
قوله: "أو ذهب أقله".
أقول: الظاهر أن ثبوت المشروعية للكل يستلزم ثبوت المشروعية للبعض ولو كان اقل من النصف فلا يحتاج إلي الاستدلال على هذا بدليل مستقل وأما إذا كان الباقي هو الأكثر فهو في حكم الكل كما وقع في أمثال هذه المسألة.
قوله: "ويحرم للكافر والفاسق مطلقا".
أقول: أما الكافر فمسلم فإنه لم يسمع في ايام النبوة ولا بعدها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل كافر وما روي في غسل أبي طالب فلم يثبت ذلك ثبوتا يقوم به الحجة وأيضا هذا الغسل للميت هو حكم من أحكام الإسلام فلاحظ فيه لمن لم يكن مسلما.
وأما الفاسق فلا وجه للقول بأنه لا يغسل ومن قال بذلك فقد غلط غلطا بينا فإن أحكام الإسلام جارية له وعليه ومعصيته لا تخرجه عن الإسلام الذي هو متصف به وأشار المصنف بقوله مطقا إلي عدم الفرق بين كفر التأويل وكفر التصريح وفسقهما ولا يخفاك أن هذا الذي يسمونه كفر التأويل لا أصل له وإنما هو أمر ناشىء عن العصبية الكائنة بين طوائف المسلمين حتى رمى بعضهم بعضا بذلك بغيا وعدوانا والخطأ في مسألة أو مسائل لا يوجب خروج المخطىء عن عصمة الإسلام بل الحق أن الخطأ في الاجتهاد من غير فرق بين مسائل الأصول والفروع يثبت لصاحبه أجر وللمصيب أجران ومن خص هذا الحديث الصحيح ببعض المسائل فهو تخصيص بلا مخصص ودعوى لا برهان عليها ولقد استفز الشيطان من أطاعه بالوقوع في هذا الخطر العظيم فإنه قد صح أن المكفر لأخيه المسلم واقع في هوة الكفر ومترد في حفرته ومتلبس بثيابه وليس ما يزعمه المكفرون بالإلزام بشيء يعتد به بل هو تعصب على تعصب وتعسف على تعسف والهداية للحق بيد هادي الخلائق.
قوله: "ولشهيد مكلف ذكر" الخ.
أقول: قد وردت أحاديث قاضية بترك غسل الشهيد منها ما هو في اصحيح البخاري ["1346"] ، ومنها ما هو في غيره [ابو دأود ط3133"] ، وبهذا القدر تقوم به الحجة وقد أطال الكلام في هذا البحث في غير طائل وخبط خبطا لا يخفى على عارف.
وأما اشتراط التكليف والمذكورة فلا دليل عليه بل الصبي والمرأة من جملة الشهداء إذا قتلوا قتلا يستحقون به اسم الشهادة.
أما المرأة فظاهر لأنها من جملة من يكتب له الأجر ويكتب عليه الوزر وعدم وجوب الجهاد عليها لا يسلبها حكم الشهادة إذا قاتلت وقتلت.
وهكذا الصبي فإن رفع قلم التكليف عنه لا يقتضي أنه لا يؤجر فيما يفعله من القرب.
وأما المقتول في المصر ظلما فهو وإن كان شهيدا لكنه لم يأت ما يدل على عدم غسله وهكذا المدافع عن نفسه أو ماله ولا ملازمة بين إثبات اسم الشهادة وترك الغسل فقد وردت الأحاديث الصحيحة بإطلاق اسم الشهادة على المبطون والميت بالطاعون وبالغرق والهدم والمرأة النفاس وغير هؤلاء نحو الخمسين كما ذكره القرطبي والسيوطي في رسالته وجمعت أنا فيه رسالة فهؤلاء يستحقون أجر الشهادة وهم من جملة المسلمين في أنهم يغسلون كما يغسل غيرهم من أموات المسلمين.
ويؤيد هذا ما فعله الصحابة من غسل عمر رضي الله عنه وقد قتل في المصر ظلما وكان قاتله كافرا وهكذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتل في المصر ظلما وكان قاتله خارجيا من كلاب النار ولم ينقل أحد أنه دفن بلا غسل وقد نقل المهدي في البحر الإجماع على أن سائر من يطلق عليه اسم الشهيد كالطعين والمبطون والنفساء ونحوهم يغسلون فاقتضى هذا النقل أن يلحق بهم المقتول في المصر ظلما والمقتول في المدافعة عن نفسه أو ماله وأما قوله ويكفن بما قتل فيه الخ فقد استدل على ذلك بما أخرجه أبو دأود ["3134"] ، وابن ماجة ["1515"] ، عن ابن عباس قال "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم"، وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي وقد تكلم فيه جماعة وعطاء بن السائب وفيه مقال.
وأما جواز الزيادة من الأكفان على ما قتل فيه فلم يرد ما يمنع من ذلك والأصل الجواز.
[فصل
وليكن الغاسل عدلا من جنسه أو جائز الوطء بلا تحديد عقد إلا المدبرة فلا تغسله ثم محرمة بالدلك لما ينظره والصب على العورة مستترة ثم أجنبي بالصب على جميعه
مستترا كالخنثى المشكل مع غير أمته ومحرمه فإن كان لا ينقيه الصب يمم بخرقة.
فأما طفل أو طفلة لا تشتهي فكل مسلم ويكره الحائض والجنب] .
قوله: فصل: "وليكن الغاسل عدلا من جنسه أو جائز الوطء".
أقول: لم يأت دليل يدل على اشتراط العدالة ولكن الفاسق ليس بمحل للأمانة والستر على الميت إن رأى مالا يحسن إفشاؤه وقد أخرج أحمد من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال: "ليليه أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة"، وفي إسناده مقال ولكنه يشهد له حديث ابن عمر في الصحيحين [البخاري"2442"، مسلم "2580"] ، وغيرهما [أبو دأود "4893"، الترمذي "1426"]،أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" ولا يخفاك أن الفاسق ليس من أهل الأمانة ولا من أهل الورع فمنعه عن الغسل من هذه الحيثية.
وأما كونه يغسله جنسه أو جائز الوطء فهذا هو الثابت في الشريعة فإنه كان في زمن النبوة وما بعدها في عصر الصحابة يغسل الرجل الرجال والمرأة النساء وهذا أمر أوضح من الشمس وقد دفع النبي صلى الله عليه وسلم ابنته إلي النساء يغسلنها وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: "لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك"، أخرجه أحمد ["6/228"، وابن ماجة "1465"] ،والدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي من حديثها.
وكانت عائشة تقول لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه أخرجه أحمد ["6/267"، وأبو دأود "3141"، وابن ماجة "1464". وقد غسل الصديق امرأته أسماء بنت عميس رضي الله عنهما وغسل على فاطمة رضي الله عنهما فما ذكره المصنف صواب وحق.
وقد وقع للجلال ها هنا من زائف الكلام وساقطه ما هو غني عن البيان وإذا ألجأت الضرورة فلم يوجد الجنس غسل الجنس غير جنسه مع ستر ما لا يجوز النظر إليه ويكون الدلك بحائل وإذا تعذر الدلك فالمسح وإذا تعذر المسح فالصب وإذا تعذر الصب ارتفع وجوب الغسل ومحارم المرأة من الرجال أقدم من سائر الرجال ومحارم الرجل من النساء أقدم من غيرهن من النساء للتخفيف بين المحارم في مقدار العورة.
وأما قوله: "وأما طفل أو طفلة لا يشتهى فكل مسلم"، فالصواب أن يغسل كل جنس جنسه إلحاقا للصغار بالكبار.
وأما الحائض والجنب فهما وإن كانا ممنوعين من بعض القرب فإن ذلك لا يقتضي منعهما من كل قربة بل حكمها فيما لم يرد فيه دليل المنع حكم من ليس بجنب ولا حائض.
[فصل
وتستر عورته ويلف الجنس يده لغسلها بخرقة وندب مسح بطن الحامل وترتيب غسله كالحي وثلاثا بالحرض ثم السدر ثم الكافور فإن خرج من فرجه قبل التكفين بول أو غائط كملت خمسا ثم سبعا ثم يرد بالكرسف.
والواجب منها الأولى والرابعة والسادسة وتحرم الأجرة ولا تجب النية عكس الحي وييمم للعذر ويترك إن تفسخ بهما] .
قوله: فصل: "وتستر عورته" الخ.
أقول: الأدلة الواردة في منع نظر العورة ولمسها شاملة لعورة الحي والميت فغسلها يكون بالدلك مع حائل بين اليد وبينها وأما مسح البطن فهو لخروج ما عساه يخرج بعد الغسل فهذا وإن لم يرد به دليل ولكنه من المبالغة في تطهير بدن الميت.
وأما صفة الغسل فينبغي الاعتماد في ذلك على حديث أم عطية الثابت في الصحيحين [البخاري "1253"، مسلم "38/939"] ، وغيرهما [أبو داود "3142"، الترمذي "990"، النسائي "4/3"، ابن ماجه "1458"، أحمد "5/84"] قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور" وفي لفظ في الصحيحين [البخاري "1255"، مسلم "43/939"] وغيرهما [النسائي "4/28"، أبو داود "3142"]"ابدأن بميامينها ومواضع الوضوء منها" وفي لفظ لهما: [البخاري "1258،1259"38/939"]"اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن".
فهذا الحديث قد دل على أن الغسل ينبغي أن يكون وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا وإذا رأى الغاسل الزيادة على ذلك زاد وينبغي أن تكون الغسلات بماء وسدر ويكون في الغسلة الآخرة كافور وأنه ينبغي أن تكون البداية في الغسل بميامن الميت ومواضع الوضوء منه.
وبهذا تعرف أن التخيير بين الثلاث أو الخمس أو السبع والزيادة عليها مفوض إلي الغاسل سواء خرج خارج أو لا فلا وجه لما ذكره من قوله: فإن خرج قبل التكفين إلخ ثم خروج الخارج لا وجه لإعادة الغسل لأجله بل يغسل موضع الخروج وما أصابه من سائر البدن فإن أعي الأمر وتكرر خروج الخارج فلا بأس بهذا الفرج أن يرد بخرقة أو نحوها.
وأما قوله: "والواجب منها الأولى والرابعة والسادسة"، فمبني على أن خروج الخارج يوجب الإعادة وهو ممنوع وليس الواجب إلا ما يصدق عليه مسمى الغسل كما تقدم في غسل الجنابة وما زاد على ذلك فهو سنة مفوض إلي الغاسل.
وأما تحريم الأجرة فهو مبني على تحريم أخذ الأجرة على الواجب وسيأتي إن شاء الله تحقيق الكلام في الإجارات.
وأما عدم وجوب النية فلكونه لم يرد الأمر بها في هذا بخصوصه ولكن لا يخفاك أن غسل
الميت عمل وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات" وصح عنه أنه قال: "لا عمل إلا بنية" ولا سيما إذا كان العمل قربة من القرب وغسل الميت واجب على الأحياء يؤجرون عليه كما يؤجرون على سائر الواجبات فلا وجه لعدم إيجاب النية.
وأما أن الميت ييمم للعذر فلم يرد بذلك دليل والتيمم إنما شرعه الله للأحياء ولم يشرعه في غسل الأموات فمن تعذر مسحه خشية أن يتفسخ ثم تعذر صب عليه الماء لذلك فلا غسل له ولا واجب على الأحياء بل يدفن كما هو.
[فصل
ثم يكفن من رأس ماله ولو مستغرقا بثوب طاهر ساتر لجميعه مما لبسه ويعوض إن سرق وغير المستغرق يكفن مثله.
والمشروع إلي سبعة وترا ويجب ما زاد من الثلث وإلا أثم الورثة وملكوه ويلزم الزوج ومنفق الفقير ثم بيت المال ثم على المسلمين ثم بما أمكن من شجر ثم تراب.
وتكره المغالاة وندب البخور وتطييبه سيما مساجده ثم يرفع مرتبا ويمشي خلفه قسطا وترد النساء] .
قوله: "ثم يكفن من رأس ماله بثوب" الخ.
أقول: قد حصل الاتفاق على أن الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع البدن وأن ذلك مقدم على ما يخرج من التركة من دين وغيره فإن ألجأت الضرورة إلي أن يكفن في ثوب لا يستر جميع بدنه فللضرورة حكمها كما وقع في الصحيحين [البخاري "1276""، مسلم "940"] ، وغيرهما [أبو دأود "3155"، التنرمذي "3852"، النسائي "1904"] ، أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطوا بها رجليه بدا رأسه فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه ويجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر.
وإذا كان للميت تركة كان على المتولي لتكفينه أن يحسن كفنه كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه"[أخرجه الترمذي "995"، وابن ماجة "1474"] ، من حديث ابن قتادة وقال الترمذي إسناده حسن وأيضا رجال إسناده ثقات وهو أيضا ثابت في صحيح مسلم ["943"]، من حديث جابر بلفظ:"إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه" وورد أيضا الإرشاد إلي التكفين في الثياب البيض كما أخرجه أحمد ["5/342"، وأبو دأود "3878"، والترمذي "994"،وابن ماجة 3566"]،من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم" وصححه الترمذي ["3/320"] ، وابن
القطان وأخرجه أيضا الترمذي ["2810"] ، وصححه وابن ماجه ["3567"] ، من حديث سمرة.
وأما عدد الأكفان فلم يرد في ذلك شيء يعتمد عليه إلا ما ثبت في الصحيحين [البخاري "1264"، مسلم "45/941"] ، وغيرهما [أبو دأود "3151"، الترمذي "996"، النسائي "4/35"، ابن ماجة "1469"] ، من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ولم يثبت في تكفينه صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذا وكل ما روي في ذلك فهو لا يصلح للمعارضة هذا مع كونه في نفسه غير صحيح لا يحل العمل به فضلا عن أن يعارض ما في الصحيحين وغيرهما ولكن هذا إنما هو فعل من حضر من الصحابة ولا تقوم به الحجة وقد قيل إن وجه الاستدلال به أن الله سبحانه لم يكن يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل ولا يخفاك أن هذا التوجيه لا تقوم به الحجة ولو سلمنا ذلك لكان أفضل الأكفان ثلاثة دروج فلا يصح قول المصنف والمشروع إلي سبعة وترا وقد اقتدى أبو بكر الصديق بكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب كما في البخاري ["1387"] وغيره.
قوله: "ويجب ما زاد من الثلث وإلا أثم الورثة وملكوه".
أقول: الذي أوصى بأن يكفن في زيادة على سبعة أكفان فقد أوصى بما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من إضاعة المال وهذا إضاعة للمال بلا شك ولا شبهة فهو وصية بمحظور لا يجوز تنفيذها وإنما قلنا إنه إضاعة للمال لأنه لا ينتفع به الميت وإن كفن بألف كفن لأن ذلك يصير ترابا عن قريب ومعلوم أنه إذا كان صحيح العقل لا يقصد التزين بذلك بين أهل البرزخ فقد صاروا جميعا في شغل شاغل عن ذلك فالصواب أنه يأثم الوصي والوارث بامتثال هذه الوصية لا بردها والله سبحانه إنما جعل للميت ثلث ماله ليجعله زيادة
في حسناته ويتقرب به إلي الله سبحانه لا ليضعه في موضع الإضاعة ويخالف به ما شرعه الله لعباده من عدم إضاعة المال.
قوله: "ويلزم الزوج" الخ.
أقول: يدل على هذا حديث عائشة الذي تقدم أنه قال لها صلى الله عليه وسلم: "لو مت قبلي لغسلتك" وكفنتك وقد كان الزوج في أيام النبوة وما بعدها يكفن زوجته ولم يسمع عن أحد منهم أنه قال قد انقطع النكاح وذهب موجب حسن العشرة كما يقول الجامدون على الرأي.
وأما الفقير الذي ينفقه في حياته قريبه فهذا من تمام البر والصلة بل من أعظمها فإن أبي لم يجبر على ذلك لعدم الدليل.
وأما قوله: "ثم بيت المال" فصواب فإن هذا هو بيتا مال المسلمين الموضوع لمصالحهم وقد ثبت بالدليل أن تكفين الميت واجب والإمام وبيت مال المسلمين أولى بذلك ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم فمن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلى ومن ترك مالا فلورثته"، [مسلم "43/867، 44/867"،ابن ماجة "45"، النسائي "3/188"] .
وأما قوله: "ثم المسلمين" أيضا صواب لأن تكفين الميت إذا كان واجبا عليهم حرم عليهم أن يدفنوه بغير كفن لأنهم بذلك يخلون بالواجب المتعلق بهم.
وأما قوله: "ثم بما أمكن من شجر ثم تراب" فقد عرفناك أن للضرورة حكمها وليس في الإمكان غير ما قد كان.
وأما قوله: "وتكره المغالاة" فهو أيضا صواب لأن المراد بالمغالاة أن يعمد إلي الثياب المرتفعة الأثمان الغالية القيمة فيكفن الميت بها مع حصول المقصود بما هو دونها وقد عرفت أن الزيادة على ما ورد به الشرع إضاعة للمال لما قدمنا وتحسين الكفن وكونه جديدا أبيض لا ينافي هذا فإن ذلك يحصل بدون المغالاة ويؤيد هذا النهي عن المغالاة في الأكفان معللا ذلك بقوله فإنه يسلب سريعا كما أخرجه أبو دأود من حديث علي.
قوله: "وندب البخور وتطييبه سيما مساجده".
أقول: يدل على ذلك ما أخرجه أحمد والبيهقي والبزار بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا" وأخرج نحوه من حديث جابر بلفظ: "إذا أجمرتم الميت فأوتروا" فهذا يدل على مشروعية التطيب ويدل عليه أيضا النهي عن تطييب المحرم وتحنيطه كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس فإن ذلك يدل بمفهومه على تطييب غير المحرم ولم يرد ما يدل على أن مساجد الميت أولى بالطيب من غيرها فالأعضاء مستوية في ذلك.
وأما قوله ثم يرفع مرتبا فلم يرد في هذا شيء يصلح للقول للندب لأنه حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي لا بمجرد الرأي.
قوله: "ثم يمشي خلفه قصدا".
أقول: قد ورد ما يدل على المشي خلف الجنازة وأمامها وفي جوانبها وورد الفرق بين الراكب والماشي كما في حديث المغيرة الذي أخرجه أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها". وأخرجه أبو دأود ["3181"، وقال فيه:"والماشي خلفها وأمامها قريبا منها" وفي رواية "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها".
ومع هذا فورد النهي عن الركوب مع الجنازة وامتنع صلى الله عليه وسلم من الركوب مع الجنازة وعلل ذلك بأن الملائكة كانت تمشي وأخرج أحمد وأهل السنن عن ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة وصححه ابن حبان وابن خزيمة وأعل بما لا يقدح في الاحتجاج وقد احتج به أحمد بن حنبل وقد ذهب الجمهور إلي أن المشي أمام الجنازة أفضل واستدلوا بهذا الحديث وذهب الآخرون إلي أن المشي خلفها أفضل واستدلوا بما أخرجه أبو دأود ["3184" والترمذي "1011"] ، وابن ماجه "1484"] ، من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال: "ما دون الخبب فإن كان خيرا عجلتموه وإن كان شرا
فلا يبعد إلا أهل النار والجنازة متبوعة"، وقد ضعف إسناده جماعة من أهل الحديث ولكنه قد ثبت في الصحيحين [البخاري "47، 1325"، مسلم 945"] ، وغيرهما [الترمذي "1040"، ابن ماجة 1539"، النسائي "4/76"، أبو دأود "3168"]، من حديث أبي هريرة مرفوعا:"من تبع جنازة مسلم" وثبت في الصحيحين [البخاري "1240"، مسلم "2162"]، أيضا وغيرهما مرفوعا:"إن حق المسلم على المسلم ست" ومنها: "وإذا مات فاتبعه"[أبو دأود 5030"، الترمذي "2809"، النسائي "4/54"] .
وهذان اللفظان ظاهران في المشي خلف الجنازة وإن كان محتملا كون المراد الخروج معه عند حمله فإنه إذا أخرج الميت من منزله ثم خرج بخروجه المشيعون له كانوا تابعين له لأنه أخرج ثم خرجوا وسواء مشوا خلفه أو أمامه.
وأما قوله: "قصدا" فمراده أن يكون المشي معها متوسطا بين الإسراع والبطء ولكن قد ثبت في الصحيحين [البخاري "1315"، مسلم "944"]، من حديث أبي هريرة مرفوعا:"أسرعوا بالجنازة فإن لم تكن صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم".
وثبت في صحيح البخاري ["1762"] ، وغيره من حديث محمود بن لبيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع بجنازة سعد بن معاذ حتى تقطعت نعالنا"، وروى من حديث أبي بكرة قال لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد أن نرمل بها رملا. [أخرجه أبو دأود "3182"، النسائي "1913"] .
فهذه الأحاديث تدل على أن الإسراع أفضل ولا يعارضها ما تقدم من قوله دون الخبب لما قدمنا من كون الحديث ضعيفا.
وأما قوله: "وترد النساء" فلما ورد من المنع لهن من زيارة القبور كما أخرجه أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه وإذا منعن من الزيارة على انفراد فمنعهن من الخروج مع الجنازة مع اجتماعهن بالرجال أولى.
وقد أخرج ابن ماجه والحاكم والأثرم في سننه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن في زيارة القبور وأخرج أبو دأود ["3123"]، والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة ابنته فقال:"ما أخرجك من بيتك؟ " فقالت: أتيت أهل هذا الميت فرحمت على ميتهم فقال لها: "فلعلك بلغت معهم الكدى؟ " قالت معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر فقال: "لو بلغت معهم الكدى
…
" فذكر تشديدا في ذلك قال الحاكم صحيح الإسناد على شرط الشيخين.
وأخرج البخاري "1278"، ومسلم "34/938، 35/938"، وغيرهما [أبو دأود "3167"، ابن ماجة "1577"] ، عن أم عطية قالت نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا وفي الباب أحاديث.
[فصل
"وتجب الصلاة كفاية على المؤمن ومجهول شهدت قرينه بالإسلامه فإن التبس بكافر فعليهما وإن كثر الكافر بنية مشروطة وتصح فرادى والأولى بالإمامة الإمام وواليه ثم الأقرب الصالح من العصبة وتعاد إن لم يأذن الأولى.
وفروضها النية وخمس تكبيرات والقيام والتسليم وندب بعد الأولى الحمد وبعد الثانية الصمد وبعد الثالثة الفلق وبعد الرابعة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للميت بحسب حاله والمخافتة وتقديم الابن للأب وتكفي صلاة على جنائز وتجديد نية تشريك كل جنازة أتت خلالها فتكمل ستا لو أتت بعد تكبيرة وترفع الأولى أو تعزل بالنية ثم كذلك فإن زاد عمدا أو نقص مطلقا أعاد قبل الدفن لا بعده واللاحق ينتظر تكبير الإمام ثم يكبر ويتم ما فاته بعد التسليم قبل الرفع.
وترتب الصفوف كما مر إلا أن الآخر أفضل ويستقبل الإمام سرة الرجل وثدي المرأة ويليه الأفضل فالأفضل"] .
قوله: فصل: "وتجب الصلاة كفاية على المؤمن".
أقول: الصلاة على الأموات شريعة ثابتة ثبوتا أوضح من شمس النهار فلم تترك الصلاة لا في أيام النبوة ولا في غيرها على فرد من أفراد أموات المسلمين إلا من عليه دين لا قضاء له وعلى الذي قتل نفسه مع أنه قال فيمن عليه دين: "صلوا على صاحبكم"[البخاري "5371، 6731، 2398،6763، 2399، 4781، 6745، مسلم "1619"، أحمد "2/290، 453، 287، 456، 464، 356، 527" النسائي "4/66"، الترمذي "1070"، ابن ماجة "2415"، أبو دأود "2955"] ، فعرف بهذا أنه ممن يصلى عليه وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه لقصد الزجر عن أن يحصل التراخي في قضاء الديون وهكذا تركه للصلاة على قاتل نفسه فإنه للزجر عن أن يتسرع الناس في قتل أنفسهم فلا يلحق غيره من أهل المعاصي به فإنه من جملة المسلمين وممن يدخلون تحت ما شرعه الله لعباده أحياء وأمواتا هم أحق بالشفاعة من المسلمين بصلاتهم عليهم وتخصيص الصلاة بالمؤمنين من الحجر الواسع الرحمة وللتفضل الرباني وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على ما عز والغامدية وقال الإمام أحمد بن حنبل إن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه قال النووي في شرح مسلم قال القاضي مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا انتهى.
وأما الصلاة على الشهيد فقد أوضحنا الكلام فيها في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه.
وأما مجهول الحال كمن يوجد في فلاة يمر بها المسلم والكافر فلا يصلى عليه إلا بعد وجود ما يدل على إسلامه كما ذكر المصنف لأن الصلاة على الكافر حرام وإذا علم أحد
الموجودين مسلم ولم يمكن تعيينه صلى عليه وحده وأفراده بالنية وإن كان معه كفار فإن مجرد وجودهم والصلاة إليهم لا يستلزم أن تكون الصلاة عليهم لأن النية مميزة.
ولعل مراد المصنف بقوله فعليهما في الصورة لا في الحقيقة ولا يحتاج إلي أن تكون النية مشروطة بل يجعلها على المسلم من الابتداء وإنما يحتاج إلي المشروطة لو كان سيفعل الصلاة على كل واحد ولا حاجة إلي ذلك بل يجمعون جميعا في قبلته ويصلي على المسلم منهم وحده.
قوله: "وتصح فرادى".
أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في زمنه التجميع ولكن الأصل في كل صلاة أنها تصح فرادى وإن كانت الجمعة افضل كما قدمنا في الصلوات الخمس ويؤيد.
ذلك صلاة الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم فرادى فصلى عليه الرجال أرسالا حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان ولم يؤمهم أحد وهذا ثابت في كتب السير والتاريخ قال ابن عبد البر صلاة الناس عليه صلى الله عليه وسلم فرادى مجمع عليه عند أهل السير وجماعة أهل النقل لا يختلفون فيه انتهى.
وأما ما روي أن صلاتهم عليه فرادى كان بوصية منه صلى الله عليه وسلم فلم يصح في ذلك شيء.
قوله: "والأولى بالإمامة والإمام وواليه".
أقول: هذا صحيح وحديث "لا يؤمن الرجل في سلطانه" يتنأول بعمومه كل صلاة جماعة من الصلوات الخمس وغيرها وقد اقتدى بهذه السنة الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما وقدم سعيد بن العاص يصلي على أخيه الحسن بن علي رضي الله عنه وقال لولا أنها سنة ما قدمتك كما أخرجه البزار والطراني والبيهقي وهو المنقول في كتب السير والتاريخ.
وأما قوله: "ثم الأقرب الصالح من العصبة" فلم يرد بذلك دليل يدل عليه لكنه قد صار القريب أولى بقريبه في كثير من الأمور وهذا منها مع كونه أحق الناس بالشفاعة له بصلاته عليه واصدقهم نية في ذلك وأخلصهم له دعاء لما تقتضيه القرابة من التراحم والتعاطف.
وأما كون الصلاة تعاد إن لم يأذن الأولى فلكون الحق له ولم يأذن به فهو باق وليس في تكرار الصلاة إلا زيادة الخير للميت ولهذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر السوداء أو الأسود حيث دفنوه ولم يؤذنوا النبي صلى الله عليه وأله وسلم مع أن المعلوم أنهم لا يدفنونه إلا وقد صلوا عليه وهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر رطب [البخاري "1340"، مسلم "954"] .هذا والذي قبله ثابت في الصحيحين وغيرهما.
قوله: "وفروضها النية".
أقول: لما قدمنا من الأدلة الدالة على أنها فرض بل على أنها شرط يستلزم عدمه عدم المشروط كما تفيده الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه لا عمل إلا بنية وإنما الأعمال بالنيات والنفي متوجه إلي الذات الشرعية فالموجود في الخارج ليست ذاتا شرعية فمن خالف في وجوب النية فقد أخطأ ولم يصب.
قوله: "وخمس تكبيرات".
أقول: قد ثبتت الخمس في صحيح مسلم ["72/957"] ، وغيره [أبو دأود "3197"، الترمذي "1023"، النسائي "4/72"، ابن ماجة "1505"، أحمد "4/367"] ، من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى قال كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا وأنه كبر خمسا على جنازة فسألته فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها وأخرج أحمد ["7/231"]، عن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبر خمسا ثم التفت فقال: ما نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر النبي صلى الله عليه وسلم صلى جنازة فكبر خمسا وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري وهو متكلم عليه ولكن السنة التي هي أظهر من شمس النهار المروية من طريق جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما أنه كان صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وهو مذهب الجماهير قال ابن عبد البر إنه انعقد الإجماع بعد الاختلاف على أربع وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم فشذوذ لا يلتفت إليه قال ولا نعلم أحدا من أهل الأمصار يخمس إلا ابن أبي ليلى انتهى.
وأخرج البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كل ذلك قد كان أربعا وخمسا فاجتمعنا على أربع.
واعلم أنه لم يصح شيء في الزيادة على الخمس ولا في النقص عن أربع مرفوعا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ بالأربع هو الذي لا ينبغي غيره لأن تلك الرواية عن زيد بن أرقم قد صرحت بأنه كان يكبر على الجنائز أربعا فلو علم ثبوت الخمس عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدل عنه إلي الأربع في جميع صلاته على الجنائز إلا في تلك المرة الواحدة وعلى تقدير أنه وقع منه صلى الله عليه وسلم التكبير خمسا على جهة الندور والقلة فالذي ينبغي الاعتماد على ما هو الأعم الأغلب مما ثبت عنه ولا سيما بعد إجماع الصحابة ومن بعدهم عليه.
وأما ما ذكره المصنف من فرضية القيام فلكون صلاة الجنازة لا تتم إلا به وهو ركنها الأعظم وقد قدمنا أنها فرض كفاية على المسلمين فكان القيام من هذه الحيثية فرضا.
وأما ما ذكره من فرضية التسليم فلكونها صلاة وقد تقدم أن الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وقدمنا وجه الاستدلال بهذا الحديث على فرضية التسليم وفيه الكفاية
قوله: "وندب بعد الأولى الحمد".
أقول: صلاة الجنازة صلاة من الصلوات التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فهذا يكفي في كونها فرضا في صلاة الجنازة بل في كونها شرطا يستلزم عدمها عدم الصلاة فكيف وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في صلاة الجنازة فاتحة الكتاب.
وأما قوله: "وبعد الثانية الصمد وبعد الثالثة الفلق"، فلم يرد في هذا شيء وإنما هو مجرد استحسان من بعض أهل العلم ولا يثبت بمثل ذلك شرع عام ولا خاص ولا تعبد الله أحدا من
خلقه برأي أحد من أهل العلم نعم ينبغي أن يضم إلي الفاتحة قراءة ما تيسر من القرآن وينبغي أن يعمد إلي سورة قصيرة فيقرأها ثم لا يشتغل بغير الدعاء للميت بعد كل تكبيرة بما ورد وبما لم يرد فهذا هو المقصود من صلاة الجنازة.
وما ذكره من كون الدعاء بحسب حال الميت فحال المذنب أنه قد أتى به إلي إخوانه من المسلمين ليشفعوا له عند ربه ويسألونه المغفرة له والتجأوز عنه وقد أمروا بإخلاص الدعاء للأموات فينبغي لكل من صلى على ميت سواء كان الميت صالحا أو طالحا أن يدعو له بالأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان نفسه لا تطأوعه على ذلك فليتجنب الصلاة على الأموات ففي غيره من المسلمين من هو أرق قلبا منه وأكثر رحمة لإخوانه.
قوله: "والمخافتة".
أقول: قد ورد الجهر فأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال لتعلموا أنه من السنة فمعلوم أن قراءته هذه لا تكون إلا جهرا حتى يعلم ذلك من صلى معه وزاد النسائي ["1988"] ، بعد فاتحة الكتاب سورة وذكر أنه جهر ولفظه هكذا فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم ["963"] ، وغيره [النسائي "4/73"، ابن ماجة "1500" أحمد "6/23، 28"، الترمذي "1025"] ، من حديث عوف بن مالك قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظنا من دعائه الحديث فإن هذا يدل على أنه جهر بالدعاء فلا وجه لجعل المخافتة مندوبة وإن وردت في حديث أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه أخرجه الشافعي في مسنده وفي إسناده اضطراب وقواه البيهقي في المعرفة وأخرج عن الزهري معناه وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر وأخرجه أيضا النسائي وعبد الرزاق قال ابن حجر في الفتح وإسناده صحيح وليس فيه قوله بعد التكبيرة ولا قوله ثم يسلم سرا في نفسه.
قوله: "وتقديم الابن للأب".
أقول: لا يخفى أن صلاة الجنازة من جملة الصلوات وقد تقدم في صلاة الجماعة أن لعلو السن مدخلا في التقديم فليكن هنا كذلك فإن كان الابن أعلم بالسنة كان مقدما على الأب من هذه الحيثية.
قوله: "ويكفي صلاة على جنائز".
أقول: الأصل أن ذلك جائز صحيح إلا أن يرد ما يمنع من ذلك ولم يرد في ذلك شيء هذا على تقدير أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم على جماعة بعد جماعة من قتلى أحد كما جزم به المحققون فإن جميع ما ورد في الصلاة عليهم في أسانيدها ضعف وقد أطلنا الكلام على ذلك في شرحنا للمنتقي فليرجع إليه.
وأما ما ذكره المصنف رحمه الله من تشريك ما وصل من الجنائز بالنية فهو صحيح إذ لا عمل إلا بنية وصلاته على كل واحد عمل وهكذا رفع ما فرغ من التكبير عليه أو عزله بالنية لأن الصلاة قد تمت على الأول وبقي منها بقية للواصل.
قوله: "فإن زاد عمدا أو نقص مطلقا أعاد".
أقول: قد قدمنا لك أن ما ورد في النقص من أربع والزيادة على الخمس لم يثبت ثبوتا تقوم به الحجة فالزيادة على الخمس والنقص من أربع ابتداع إن وقع ذلك عمدا إلا إذا وقع سهوا وأما كون الصلاة تفسد بذلك فلا لما عرفناك غير مرة أنه لا يدل على الفساد المرادف للبطلان إلا دليل خاص يفيد أن عدم ذلك الشيء يوجب العدم أو أن وجوده مانع من الصحة.
وأما ما ذكره من كون الدفن مانعا من الصلاة فخلاف ما ثبت في السنة ثبوتا متفقا عليه وقد قدمنا الإشارة إلي ذلك.
وأما قوله: "وينتظر تكبير الإمام" فلا وجه له بل يكبر عند وصوله إلي الصف كسائر الصلوات.
وأما كونه يتم ما فاته بعد التسليم قبل الرفع فهو صواب لأنه لم يرد ما يدل على أن الإمام يتحمل عنه.
قوله: "وترتب الصفوف كما مر إلا أن الآخر أفضل".
أقول: أما ترتيب الصفوف كما مر في الصلاة فهو صحيح لأن الجنازة صلاة من الصلوات فالدليل المتقدم في الصلوات الخمس جماعة وتقديم الرجال على الصبيان والصبيان على النساء ثابت هنا.
وأما كون الآخر أفضل فلا دليل عليه بل هو خلاف الدليل الوارد في صلاة الجماعة فإنه مصرح بالترغيب في الأول وبأنه يتم الصف الأول ثم الذي يليه ثم كذلك فما ثبت في صلاة الجماعة ثبت في صلاة الجنازة لأن الكل صلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وأما تكثير الصفوف ليكونوا ثلاثة فصاعدا حتى يستحق الميت المغفرة فلا بأس به كما ورد في حديث مالك بن هبيرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له" أخرجه أحمد ["4/79"، أبو دأود "3166" والترمذي "1028"، وابن ماجه "1490"] ، وحسنه الترمذي وله شواهد وقد كان مالك بن هبيرة الرأوي لهذا الحديث إذا قل أهل الجنازة يجعلهم ثلاثة صفوف.
وورد أيضا من حديث عائشة في صحيح مسلم] "58/947"] ، وغيره [الترمذي "1029"، النسائي 1992" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه"، وثبت في صحيح مسلم ["59/948"] ، أيضا وغيره [أبو دأود "3170"، ابن ماجة "1489"]، من حديث ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:"ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه".
قوله: "ويستقبل الإمام سرة الرجل وثدي المرأة".
أقول: الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو استقبال رأس الرجل وعجيزة المرأة ولا منافاة بين رواية استقبال وسط المرأة ورواية استقبال عجيزتها فإن عجيزتها هي وسطها ولم يرد ما يصلح لمعارضة هذا فلا وجه لما قاله الجلال إن الكل واسع وما ذكره عقب هذا فهو هوس منه.
وأما قوله: "ويليه الأفضل فالأفضل" فالمراد الأفضل في الجنس فيلي الإمام الرجال ثم الصبيان ثم النساء وقد قدم إلي ما يلي الإمام الصبي على المرأة بمحضر من جماعة من الصحابة وشهدوا أن ذلك هو السنة كما أخرجه أبو دأود ["3193"، والنسائي "1977"] ، ورجال إسناده ثقات.
وأما الأفضل باعتبار المزايا الدينية فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقدم في القبر أكثرهم قرآنا أي يكون مما يلي القبلة فلا يبعد أن يقدم عند الصلاة على رجلين أو ثلاثة فصاعدا أفضلهم في المزايا الدينية باعتبار الظاهر كأن يكون أحدهم عالما والآخر غير عالم فيكون العالم مما يلي الإمام.
[فصل
ثم يقبر على ايمنه مستقبلا ويواريه من له غسله أو غيره للضرورة وتطيب أجرة الحفر والمقدمات.
وندب اللحد وسله من مؤخره وتوسيده نشزا أو ترابا وحل العقود وستر القبر حتى توارى المرأة وثلاث حثيات من كل حاضر ذاكرا لله تعالي ورشه وتربيعه ورفعه شبرا.
وكره ضد ذلك والإنافة بقبر غير فاضل وجمع جماعة إلا لتبرك أو ضرورة والفرش والتسقيف والآجر والزخرفة إلا رسم الاسم ولا ينبش لغصب قبر وكفن ولا لغسل وتكفين واستقبال وصلاة ولا تقضى بل لمتاع سقط نحوه.
ومن مات في البحر وخشي تغيره غسل وكفن وأرسب.
ومقبرة المسلم والذمي من الثرى إلي الثريا فلا تزدرع ولا هواؤها حتى يذهب قرارها ومن فعل لزمته الأجرة لمالك المملوكة ومصالح المسبلة فإن استغنت فلمصالح الأحياء دين المسلمين ودنيا الذميين.
ويكره اقتعاد القبر ووطؤه ونحوهما ويجوز الدفن متى ترب الأول لا الزرع ولا حرمة لقبر حربي
قوله: "فصل ثم يقبر على أيمنه مستقبلا".
أقول: هذا معلوم في الشريعة الإسلامية لا يحتاج إلي الاستدلال عليه فما مات مسلم منذ
ظهور النبوة المحمدية إلي الآن إلا وقبر على هذه الصفة إلا لعذر كمن يموت في البحر ونحوه بل وقع منه صلى الله عليه وسلم الأمر بمواراة قتلى المشركين في يوم بدر وجعل لهم قليب دفنوا فيه والأمر أشهر من أن يذكر.
قوله: "ويواريه من غسله أو غيره للضرورة".
أقول: لا دليل على هذا بل الدليل على خلافه فإنه قد ثبت في البخاري ["1342"]، وغيره أنها لما ماتت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة عثمان جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر وقال:"هل من أحد لم يقارف الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا قال: "فانزل في قبرها" وفي رواية لأحمد عن أنس أنها رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة عثمان فقد واراها ونزل في قبرها أبو طلحة مع حضور زوجها ووالدها وأما قوله: "وتطيب أجرة الحفر والمقدمات" فلا وجه لذلك بعد جعل الدفن واجبا على الكفاية وسيأتي الكلام على ذلك في الإجارات إن شاء الله تعالي.
قوله: "وندب اللحد".
أقول: حديث: "اللحد لنا والشق لغيرنا" أخرجه أحمد وأهل السنن] أبو دأود "3208"] ، الترمذي "1045"، النسائي "2009"، ابن ماجة "1554"] ،عن ابن عباس مرفوعا وحسنه الترمذي وصححه ابن السكن وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر وفيه ضعف وله شاهد من حديث جرير مرفوعا بنحوه أخرجه أحمد والبزار وابن ماجه وفي إسناده عثمان بن عمير وفيه ضعف وفي الحديثين دليل على مشروعية اللحد وأنه الذي ينبغي للمسلمين.
ولا ينافي هذا ما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أنس قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا نبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فسبق صاحب اللحد فلحدوا له قال ابن حجر إسناده حسن وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس لأن مجرد تردد من حضر من الصحابة لا تقوم به الحجة بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" وأيضا قد اختار الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم اللحد كما في هذا الحديث وهو ثابت في صحيح مسلم ["90/966"] ، وغيره [النسائي "4/80"] ، من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص قال قال ألحدوا لى لحدا وانصبوا على اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "وسله من مؤخره".
أقول: مؤخر القبر هو الذي يكون عند رجلي الميت ويدل على كون ذلك مشروعا ما أخرجه أبو دأود ["3211"] ، وسعيد بن منصور في سننه ورجاله رجال الصحيح عن أبي إسحق قال أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله يزيد فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر وقال هذا من السنة ولا يعارض هذا ما أخرجه الشافعي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا فإن المعنى أنه سل من جهة رأسه من قبل رجلي القبر وعلى تقدير احتماله لغير هذا المعنى فلا تقوم به الحجة لأمرين الأول أنه مرسل والثاني أنه فعل بعض الصحابة ولا تقوم به الحجة كما تقدم.
وأما ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس وابن مسعود وبريدة أنهم أدخلوا النبي صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة فقد ضعف هذا الحديث البيهقي وأيضا لا تقوم به الحجة لأنه فعل لبعض الصحابة قال في البدر المنير إن ذكر أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة وهو غير ممكن كما ذكره الشافعي في الأم وأطنب في الشناعة على من يقول ذلك ونسبه إلي الجهالة ومكابرة الحس انتهى.
وأما قوله: "وتوسيده نشزا أو ترابا وحل العقود" فلم يرد في هذا شيء والاقتداء بما ثبت في الشريعة أولى من ابتداع ما ليس فيها.
وأما قوله: "وستر القبر حتى توارى المرأة" ففي ذلك ما ذكره سعيد في سننه في رواية من حديثه السابق أن عبد الله بن زيد قال أنشطوا الثوب فإنما يصنع هذا بالنساء وأخرجه الطبراني وقال إنه لم يدعهم يمدون ثوبا وقال هذا السنة ويعارضه ما رواه عبد الرزاق من حديث سعد بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر على قبر سعد بن معاذ حين دفن ولكن في إسناده مجهول فلا تقوم به الحجة وأيضا قد قيل إن سبب ذلك أن لا تظهر رائحة من جرح سعد الذي مات به.
قوله: "وثلاث حثيات من كل حاضر ذاكرا".
أقول: استدل لذلك بما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا ورجال إسناده ثقات وأما أبو حاتم فقال في العلل هذا الحديث باطل وقال ابن حجر إسناده ظاهر الصحة لكن أبو حاتم إمام لم يحكم عليه بالبطلان إلا بعد أن تبين له قال وأظن العلة فيه عنعنة الأوزاعي وعنعنة شيخه اهـ.
ويؤيده ما أخرجه البزار والدرقطني عن عامر بن ربيعة قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين دفن عثمان بن مظعون صلى عليه وكبر عليه أربعا وحثى على قبره بيديه ثلاث حثيات من التراب وهو قائم عند رأسه وزاد البزار فأمر فرش عليه الماء وقال البيهقي وله شاهد من حديث جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا وله شاهد آخر عند أبي دأود في المراسيل أن النبي صلى الله عليه وسلم حثى على قبر ثلاثا وفي إسناده مجهول كما قال أبو حاتم وشاهد ثالث عند البيهقي من حديث أبي أمامة قال توفي رجل فلم نصب له حسنة إلا ثلاث حثيات حثاها على قبر فغفرت له ذنوبه وشاهد رابع أخرجه أبو الشيخ عن أبي هريرة مرفوعا: "من حثى على قبر مسلم احتسابا كتب له بكل ثراة حسنة" قال ابن حجر: إسناده ضعيف.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا فتدل على أن لذلك أصلا في الشريعة وأما ما يشرع من الذكر فأخرج أحمد ["2/27، 40، 59، 69، 127، 128"، وأبو دأود "3213"، والترمذي 1046"، وابن ماجه 1550"]، من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا وضع الميت في القبر قال: "بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي لفظ "وعلى سنة رسول الله" وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم.
وأخرج الحاكم والبيهقي عن أبي أمامة قال لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله" قال ابن حجر وسنده ضعيف.
قوله: "ورشه".
أقول: استدل على ذلك بما أخرجه الشافعي وسعيد بن منصور والبيهقي عن جعفر ابن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم الماء وهو مرسل وعن جابر عند البيهقي قال رش على قبر النبي صلى الله عليه وسلم الماء رشا فكان الذي رش على قبره بلال بن أبي رباح بدأ من قبل رأسه من شقه الأيمن حتى انتهى إلي رجليه ولا يصح الاستدلال بهذا لوجهين الأول أنه لا حجة في فعل بلال الثاني أن في إسناده الواقدي والكلام فيه معروف وقد تقدم ذكر الرش في حديث عامر ابن ربيعة المذكور في القول الذي قبل هذا.
قوله: "وتربيعه".
أقول: قد اتفق أهل العلم على جواز التربيع والتسنيم وإنما اختلفوا في الأفضل فاستدل القائلون بأن التسنيم أفضل بما أخرجه البخاري في صحيحه ["3/198"،ن 199"] عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسما واستدل القائلون بالتربيع بما أخرجه أبو دأود عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة قال قلت يا أمة بالله اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطية مبطوحة ببطحاء العرصة وقد عرفت أن هذا فعل لبعض الصحابة ولكن حديث أبي الهياج الأسدي عن علي قال أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته أخرجه مسلم ["969"، وأبو دأود "3218"، والترمذي 1049"، والنسائي 2031"] ، يدل على أن التربيع أفضل لأن التسنيم بعض إشراف.
قوله: "ورفعه شبرا".
أقول: رفع القبر هو من الإشراف الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم فلا يباح منه إلا ما ورد الإذن به وقد أخرج أبو دأود في المراسيل عن صالح بن صالح قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم شبرا أو نحو شبر وأخرج أبو بكر الآجري في صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عثيم بن بسطام المديني قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه في إمارة عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع وقد قدمنا لك أن هذا إنما هو من فعل بعض الصحابة فلا تقوم به الحجة وقد ثبت النهي عن أن يبنى على القبور كما في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر.
قوله: "وكره ضد ذلك".
أقول: ما دل عليه دليل مما تقدم بدون ما يقتضي الحتم ولا كراهة الترك فليس تركه مكروها وغايته أنه خلاف الأولى وأما ما لم يدل عليه دليل فتركه أولى من فعله لأن فعله ابتداع.
وأما ما ورد فيه النهي كرفع القبر فهو حرام لا كراهة تنزيه هكذا ينبغي أن يقال في أضداد هذه المذكورات.
قوله: "والإنافة بقبر غير فاضل".
أقول: هذا اعتزاز بما وقع من الناس لا سيما الملوك والأكابر من رفع قبورهم وجعل القباب عليها وهذا حرام بالأدلة الصحيحة الثابتة في الصحيح وغيره من طرق توجب العلم اليقين فمنها الأمر بتسوية القبور كما تقدم ومنها النهي عن البناء عليها كما تقدم أيضا ومنها النهي عن اتخاذ القبور مساجد ولعن فاعل ذلك وغير ذلك مما هو مبين في كتب السنة.
وبالجملة فما هذه أول شريعة صحيحة وسنة قائمة تركها الناس واستبدلوا بها غيرها ولكن هذه البدعة قد صارت وسيلة لضلال كثير من الناس لا سيما العوام فإنهم إذا رأوا القبر وعليه الأبنية الرفيعة والستور الغالية وانضم إلي ذلك إيقاد السرج عليه تسبب عن ذلك الاعتقاد في ذلك الميت ولا يزال الشيطان يرفعه من رتبة إلي رتبة حتى يناديه مع الله سبحانه ويطلب منه ما لا يطلب إلا من الله عز وجل ولا يقدر عليه سواه فيقع في الشرك.
فليت شعري ما وجه تخصيص قبور الفضلاء بهذه الداهية الدهياء والمعصية الصماء العمياء فإنهم أحق من غيرهم باتباع السنة في قبورهم وترك ما حرمته الشريعة على الناس.
قوله: "وجمع جماعة إلا لتبرك وضرورة".
أقول: الثابت في هذه الشريعة ثبوتا قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل لكل ميت حفرة مستقلة وكان هذا معلوما لا ينكره أحد ووقع منه جمع جماعة في قتلى أحد للضرورة وتضييق الحادثة فليقتصر على الضرورة ويكون الجمع فيما عدا الضرورة خلاف الشريعة والكراهة اقل ما يتصف به.
وأما الجمع للتبرك فلم يرد في هذا شيء لأن الكلام في جمع جماعة من الأموات في حفرة واحدة لا في حفر متجأورة فليس ذلك مما نحن بصدده.
وأما ما ذكره من كراهة الفرش للقبر فلكون الواقع في زمن النبوة بمرأى ومسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وضع الميت على الأرض ففي فرش القبر مخالفة للسنة الثابتة مع ما في ذلك من كونه من إضاعة المال التي ثبت النهي عنها وما روي من أن بعض الصحابة وضع قطيفة حمراء في قبره صلى الله عليه وسلم فلا حجة في ذلك على أنه قد روى أنهم أخرجوها.
وأما كراهة التسقيف للقبر فلكونه خلاف الشريعة الثابتة المستمرة المستقرة من أنهم كانوا بعد وضع الميت في حفرته يهيلون عليه التراب حتى يستوي على الأرض وأيضا هذا التسقيف يصدق عليه أنه بناء على القبر وهو منهي عنه كما تقدم.
وأما كراهة إدخال الآجر فلم يرد بذلك دليل وهي مثل اللبن الذي كانوا يفعلونه في أيام النبوة وأصلب منه وهكذا إدخال الأحجار وجعلها على اللحد فلا وجه للقول بالكراهة.
قوله: "والزخرفة إلا رسم الاسم".
أقول: الزخرفة حرام لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يجصص كما في صحيح مسلم ["970"] ، وغيره [أحمد "3/399"، أبو دأود "3225"، الترمذي "1052"، النسائي "2027"، ابن ماجة"1562"] ، وأما استثناء المصنف لرسم الاسم فمن نصب الرأي الفاسد في وجه الدليل الصحيح فقد ثبت عند الترمذي ["1052"] ، وغيره [ابن ماجة "1563"، أبو دأود "3226"، وقال صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يكتب على القبر وهكذا رواه النسائي بلفظ النهي عن أن يكتب على القبر قال الحاكم الكتابة على القبر وإن لم يذكرها مسلم فهي على شرطه.
قوله: "ولا ينبش لغصب قبر ولا كفن".
أقول: قد علم بالضرورة الدينية عصمة مال المسلم وأنه لا يخرج عن ملكه إلا بوجه مسوغ فمن زعم أن الدفن من مسوغات ذلك فعليه الدليل ولا دليل وقد تقدم أنه يشق بطنه لاستخراج ماله في نفسه لكون ذلك إضاعة مال فكيف لا ينبش للمال الذي اغتصبه وهو الكفن أو الأرض التي دفن فيها مع كونه إتلاف لمال محترم معصوم بعصمة الإسلام وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اغتصب شبرا من الأرض طوقه الله من سبع أرضين"[البخاري "2453"، مسلم "142/ 1612"] ، فكيف بمن اغتصب قبرا هو عدة أشبار وهكذا ينبش إذا ترك بغير غسل لأن الغسل واجب شرعي لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل هذا إذا كان يظن أن جسمه لم يتفسخ وأن غسله ممكن وهكذا التكفين لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل لأنه واجب شرعي لا يسقط إلا بمسقط شرعي.
وأما مجرد الاستقبال فلم ينتهض الدليل على وجوبه حتى ينبش لتركه.
وأما الصلاة فقد قدمنا ثبوت الصلاة على القبر بالأدلة الصحيحة وذلك يكفي ويسقط الواجب ويحصل به مطلوب الميت من الشفاعة.
وأما قوله: "بل لمتاع سقط" فصواب لما قدمنا.
ومن غرائب المصنف الفرق بين غصب القبر والكفن وبين المتاع الساقط في القبر مع كون الكل من أهلاك مال الغير وإضاعته مع اختصاص الأول بكونه غصبا.
قوله: "ومن مات في البحر وخشي تغيره" الخ
أقول: هذا صواب وليس في الإمكان غير ما قد كان وأما كونه لا يجوز ذلك إلا مع خشية التغير فلا وجه له ولا دليل عليه بل هو مصادم لأدلة تعجيل تجهيز الميت التي قدمنا ذكرها.
قوله: "وحرمة مقبرة المسلم والذمي من الثرى إلي الثريا".
أقول: مجرد الحرمة يدل عليها ما أخرجه أحمد ["5/83، 84، 224"، أبو دأود "3230"، والنسائي "4/96"، وابن ماجه "1568"]، والحاكم وصححه من حديث بشر بن الخصاصية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يمشي في نعلين بين القبور فقال:"يا صاحب السبتيتين ألقهما" فإذا كان المشي على المقبرة بالنعال ممنوعا فازدراعها وتغيير رسمها وإذهاب قرارها ممنوع بفحوى الخطاب ولكن إلحاق مقبرة أهل الذمة بالمسلمين إن كان من جهة كونهم في أمان المسلمين
بتسليم الجزية إليهم فذلك حكم خاص بالأحياء وأما الأموات فقد خرجوا عن العهد وصاروا إلي النار فكيف تكون حرمة مقبرة الكافر الذي هو من أهل النار بالاتفاق كمقبرة المسلم وإن كان الدليل دل على ذلك فما هو؟.
وأما ما ذكره تفريعا على هذه المسألة من لزوم الأجرة إلخ فهو مجرد رأي لا دليل عليه والأصل احترام مال المسلم فلا يؤخذ منها إلا بمسوغ شرعي وليس هذا بمسوغ شرعي بل قد اثم بما فعله وغاية ما يجب عليه إصلاح ما أفسده بحسب الإمكان.
قوله: "ويكره اقتعاد القبر ووطؤه ونحوهما".
أقول: أما الاقتعاد فلحديث أبي هريرة عند مسلم ["971"، وأحمد "2/311، 389، 444"، وأبي دأود "3228"، والنسائي "2044"، وابن ماجه "1566" قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلي جلده خير له من أن يجلس على قبر".
وأخرج أحمد من حديث عمرو بن حزم قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر فقال: "لا تؤذ صاحب هذا القبر". قال ابن حجر وإسناده صحيح.
وأما وطء القبر فلما أخرجه مسلم "971"، وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ:"لأن أطأ على جمرة أحب إلي من أن أطأ على قبر"، ولفظ الطبراني "أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم".
وأما قبر الحربي فلا حرمة له كما ذكر المصنف لما ثبت في كتب السير والحديث [البخاري "428"، مسلم "9/524"، ابن ماجة "742"، أبو دأود "453"، النسائي "702"، أحمد "3/211، 212"، الترمذي "350"] : "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مسجده على مقبرة كانت للمشركين بعد أن نبش قبورهم" وهم وإن ماتوا قبل البعثة المحمدية فقد كانوا مخاطبين بإجابة من تقدم من الأنبياء عليهم السلام.
[فصل
وندبت التعزية لكل بما يليق به وهي بعد الدفن أفضل وتكرار الحضور مع أهل المسلم المسلمين] .
قوله: فصل: "وندب التعزية لكل بما يليق به".
أقول: يدل على ذلك حديث عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة"، أخرجه ابن ماجه "1601"] ، وكل رجاله ثقات إلا قيسا ابا عمارة ففيه لين ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه ابن ماجه والترمذي والحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من عزى مصابا فله مثل أجره" وأعل بتفرد علي بن عاصم بوصله وقد وثقه