الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا تقبل شهادة من له فيها جلب نفع أو دفع ضرر وقد حققنا ذلك هنالك فأرجع إليه.
وأما قوله: "وهي جارية على خلاف القياس" فمرادهم عند إطلاق مثل هذا أن ما أطلقوه عليه مخالف لغالب ما ثبت في القواعد الشرعية وقد قدمنا الإشارة إلى شيء من هذا.
وأما قوله: "ويسقط عن الحاملين" إلخ فيجاب عنه بأن مثل هذا الفعل لا يستلزم انتفاء التهمة التي عللوا بها لا عقلا ولا شرعا ولا عادة فكيف يكون موجبا لسقوط القسامة عليهم.
وأما قوله: "وبتعيينه الخصم قبل موته" فقد قدمنا أن قسامة أبي طالب التي قررها الشرع كانت على معين عينه المقتول قبل موته.
وأما قوله: "والقول للوارث في إنكار وقوعها" فوجهه أن الأصل عدم ذلك فيكون القول قوله مع يمينه وعليه البينة أنها قد وقعت.
[فصل
وإنما تؤخذ الدية وما يلزم العاقلة في ثلاث سنين تقسيطا] .
قوله: "فصل: وإنما تؤخذ الدية" الخ.
أقول: غاية ما روي في هذا ما أخرجه البيهقي من طريق ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين ويقويه ما حكاه الشافعي من الإجماع على ذلك وكذا ما حكاه الترمذي في جامعه وابن المنذر وقد روي التنجيم في ثلاث سنين عن جماعة من الصحابة وقد حكى الرافعي إجماع الصحابة على ذلك.
كتاب الوصايا
[فصل
إنما تصح من مكلف مختار حالها بلفظها أو لفظ الأمر لبعد الموت وإن لم يذكر وصيا] .
قوله: "فصل: إنما تصح من مكلف".
أقول: الوصية تكليف من التكاليف الشرعية ورد الأمر بها والترغيب إلى فعلها والترهيب
في تركها وهي أيضا تتضمن إخراج جزء من المال لفلان أو للقربة الفلانية أو عند فلان كذا أو يفعل الوارث كذا أو يترك كذا وهذه أمور لا تصح إلا من المكلف لا من الصغير الذي لم يبلغ التكليف وهذا يكفي في الإستدلال على اشتراط التكليف من فاعلها ولا يصلح لمعارضة هذا ما أورده ابن حجر في التلخيص أن غلاما من غسان حضرته الوفاة وله عشر سنين فأوصى لبنت عم له وارث فرفعت القصة إلى عمر فأجاز وصيته وعزاه إلى مالك من حديث عمرو بن سليم الزرقي أنه قيل لعمر بن الخطاب إن ها هنا غلاما يفاعا لم يحتلم من غسان ووارثه بالشام وهو ذو مال وليس له هاهنا إلا ابنة عم له فقال عمر فليوص لها الحديث ورواه أيضا من وجه آخر وفيه أن الغلام كان ابن اثنتي عشرة سنة أو عشر سنين وقال البيهقي علق الشافعي القول بجواز وصية الصبي وتدبيره بثبوت الخبر عن عمر لأنه منقطع وعمرو بن سليم لم يدرك عمر قال ابن حجر ذكر ابن حبان في ثقاته أنه كان يوم قتل عمر جاوز الحلم وكأنه أخذ من قوله الواقدي إنه كان حين قتل عمر راهق الإحتلام انتهى.
وإنما قلنا إنه لا يعارض ما ذكرنا لأنه اجتهاد يخالف ما جرت عليه قواعد هذه الشريعة وأدلتها من اشتراط التكليف وقد أمر الله الأولياء بحفظ أموال اليتامى وقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، وهكذا يقال فيما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الزهري أن عثمان أجاز وصية غلام ابن إحدى عشرة سنة.
وأما اشتراط الإختيار فلعدم صحة تصرف المكره لا بوصية ولا بغيرها كما تقدم.
وأما قوله: "بلفظها أو لفظ الأمر" فقد عرفناك غير مرة أن المعتبر ما يدل على المقصود ويشعر بالمراد ولو بغير لفظ فضلا عن أن يكون لفظ معين.
وأما إضافة الوصية إلى ما بعد الموت فلأجل تفرق الحال بين الوصية والوكالة.
وأما قوله: "وإن لم يذكر وصيا" فوجهه أن ذلك الذي أمره بأن يفعل بعد موته كذا قد صار وصيا بمجرد هذا الأمر كما سيأتي للمصنف في قوله ويعم وإن سمي معينا إلخ وإذا لم يقع المر لمعين كان التنفيذ واجبا علي الوارث ثم علي حكام الشريعة.
[فصل
وما نفذ في الصحة وأوائل المرض غير المخوف فمن رأس المال وإلا فمن الثلث ولا رجوع فيهما] .
قوله: "فصل: وما نفذ في الصحة وأوائل المرض غير المخوف فمن رأس المال وإلا فمن الثلث".
أقول: المال ما دام لصاحبه عين تطرف فهو ملكه وله التصرف فيه بما شاء كيف شاء لكنه لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد بن أبي وقاص: "الثلث والثلث كثير - أو كبير - إنك أن تذر
ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"، بعد أن قال له سعد: إنه يريد أن يتصدق بثلثي ماله قال: "لا" قال: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا" قال: فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كبير" والحديث في الصحيحين [البخاري "1295"، مسلم "5/1628"، وغيرهما أبو داود "2864"، الترمذي "2116"، النسائي "6/241"، 242"، ابن ماجة "2708"، أحمد "1/179"] ، كان ذلك دليلا على عدم جواز مجاوزة الثلث لمن له وارث لأنه علل المنع بذلك.
وأما من لا وارث له فلا يدخل تحت هذا النهي ولا يصح الإستدلال على وجوب الإقتصار على الثلث بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها زيادة لكم في أعمالكم"، أخرجه أحمد وابن ماجه والبزار والدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف وأخرجه الدارقطني والبيهقي بنحوه من حديث أبي أمامة وفي إسناده مقال ورواه العقيلي في الضعفاء عن أبي بكر الصديق وفي إسناده متروك لأن الحديث لا تقوم به حجة كما ترى وعلى فرض قيام الحجة به فالتصدق منه تعالى عليهم بالثلث لا ينافي تصدقهم بزيادة عليه لأنه تعالى قد جعل كل مالك مفوض في ملكه فلا يخرج عن ذلك إلا ما ورد المنع منه بما لا يجوز مخالفته.
وأما رده صلى الله عليه وسلم لبيضة الذهب لمن تصدق بها وكذلك رده لمن تصدق بأحد ثوبيه فالوجه في ذلك ما هو مذكور في الحديثين من أنه "يقعد يتكفف الناس" فهذا هو الموجب لرد هذه الصدقة وقد قدمنا الكلام على نحو هذا في الهبة وفي النذر فارجع إليه.
والحاصل أنه من له وارث لم يصح تصرفه في زيادة على الثلث ومن لا وارث له يصح تصرفه في جميع ماله إذا لم يخش عليه الحاجة إلى الناس والوقوع في المسأ المحرمة ولا فرق بين المرض والصحة ولم يرد ما يدل على هذا الفرق الذي ذكره المصنف وكونه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لسعد في حال مرضه فقد علله بعلة يستوي فيها المرض وغيره حيث قال: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء" إلخ وهذا الحديث يقيد به ما ورد في الكتاب العزيز من قوله عزوجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، ويؤيده النهي عن وصية الضرار ويؤيده أيضا حديث الرجل الذي أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأعتق النبي صلى الله عليه وسلم اثنين وأرق أربعة أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ورجال إسناده رجال الصحيح وقد قدمنا الكلام عليه في العتق وفي آخر هذا الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم:"لو شهدته قبل أن يدفن في مقابر المسلمين".
قوله: "ولا رجوع فيها".
أقول: ما صدر عن طيبة نفسه بنفوذه في الحال قد حصل المناط الشرعي المقتضي لخروج الملك من مالكه إلى غيهر وأما إذا كانت نفس لا تطيب بالنفوذ ما دام حيا فلا ينفذ ذلك إلا بالموت وله الرجوع قبله لأن المناط الشرعي لم يوجد ها هنا.
[فصل
وتجب والإشهاد على من له مال بكل حق لآدمي أو لله مالي أو يتعلق به ابتداء أو انتهاء فالثلاثة الأول من رأس المال وإن لم يوص ويقسط الناقص بينها ولا ترتيب والرابع من ثلث الباقي كذلك إن أوصى ويشاركه التطوع] .
قوله: "فصل: تجب والإشهاد على من له مال".
أقول: وجه الوجوب قول الله عزوجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 180] ، لا يستلزم نسخ وجوبها لغيرهم ويؤيد الوجوب الحديث الثابت في الصحيحين [البخاري "2738"، مسلم ط1/1627"، وغيرهما أبو داود "2862"، النسائي "6/238، 239"، الترمذي "2118"، ابن ماجة "2702"، أحمد "2/10، 50، 57، 80، 113"]، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما حق امرىء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه"، وفي هذه العبارة ما يقتضي الإيجاب على طريق المبالغة ولم يأت من أراد دفع دلالة هذا الحديث على الوجوب بطائل وقد حققنا هذا المبحث في شرحنا للمنتقي فليرجع إليه.
والحاصل أن وجوب تخلص العبد من الحقوق اللازمة له لله ولعباده معلوم بأدلته فإذا لم يكن التخلص عنه في حال الحياة كان التخلص عنه بالوصية واجبا والجمهور وإن قالوا بأنها مندوبة فهم لا يخالفون في مثل هذا لأنهم يوافقون على وجوب التخلص من الواجبات بكل ممكن فإذا لم يمكن إلا بالوصية فهم لا ينكرون الوجوب.
وأما الوصية بما يريد الإنسان أن يتقرب به من القرب فمعلوم أن ذلك إليه وراجع إلى اختياره لأنه لا يجب عليه غير ما هو واجب عليه وأصل التقربات التي لم يوجبها الشرع الندب فلا يزيد عليها ما هو متفرع عليها وهو الوصية.
وأما وجوب الإشهاد فإذا علم الموصي أن وصيته لا تتم إلا بذلك كان واجبا عليه وإلا فلا وجه للوجوب.
وأما قوله: "على من له مال" فوجه ذلك أن من لا مال له قد تعذر عليه التخلص عن الواجب والتقرب بالمندوب فلا فائدة في وصيته ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "وله شيء يريد أن يوصي فيه"، لكن إذا علم أنه إذا أوصى حصل تخليص ما عليه من بيت المال أو من إخوانه المسلمين كان ذلك واجبا عليه لأنه نوع من التخلص وقوله لكل حق لآدمي أو لله وجهه ظاهر كما قدمنا.
وأما قوله: "أو يتعلق به ابتداء أو انتهاء" فليس المراد إلا ثبوت ذلك عليه قبل موته فإذا تقرر ثبوته كان له حكم الدين فيخرج من الرأس لقوله عزوجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وإن كان ثبوته قبل موته غير متقرر كالنذر والهبة ووصايا القربة مع إضافة ذلك
إلى ما بعد الموت فمخرجه من الثلث لما قدمنا ومعي وقفة في لزوم الوصية بالحج لمن مات وقد لزمه الحج وقد أوضحت ذلك في حاشيتي على الشفاء بل في كونه يقع عن الميت الموصي به نظر إذا لم يكن الذي يحج عن الميت قريبا له فكيف يقال يجب التحجيج وإن لم يوص الميت به ويخرج من رأس ماله؟.
[فصل
ولا ينفذ في ملك تصرف غير عتق ونكاح ومعاوضة معتادة من ذي مرض مخوف أو مبارز أو مقود أو حامل في السابع وله وارث إلا بزوالها وإلا فالثلث فقط إن لم يستفرق وما أجازه وارث غير مغرور ولو مريضا أو محجورا ويصح إقرارهم ويبين مدعى التوليج] .
قوله: "فصل: ولا ينفذ في ملك تصرف" الخ.
أقول: ما ذكره المصنف ها هنا إلى قوله فالثلث فقط صواب وجهه ما قدمنا عند قوله وما نفذ في الصحة وأوائل المرض غير المخوف.
وأما قوله: "وما أجازه وارث غير مقرور" إلخ فوجهه واصح لأنه بذلك أسقط حقه فزال المانع مع وجود المقتضي ولا شك في صحة الإجازة من المريض والمحجور كما يصح الإقرار لأنه مكلف وإقراره حجة عليه فكذا إجازته.
وأما قوله: "ويبين مدعي التوليج" فوجهه أن الأصل عدمه فالقول قدل نافيه والبينة على مدعيه إلا أن توجد شواهد التوليج وقرائنه وثبت بذلك الظاهر والظاهر مقدم على الأصل كما هو المعلوم بالوجدان.
[فصل
ويجب امتثال ما ذكره وعرف من قصده ما لم يكن محظورا ويصح بين أهل الذمة فيما يملكون ولو لكنيسة أو بيعة وتصح للذمي ولقاتل العمد إن تأخرت وللحمل والعبد وبهما وبالرقبة دون المنفعة والفرع دون الأصل والنابت دون المنبت ومؤبدة وعكس ذلك ولذي الخدمة الفرعية والكسب وعليه النفقة والفطرة ولذي الرقبة الأصلية والجناية وهي عليه وأعواض المنافع إن استهلكه بغير القتل للحيلولة إلى موت الموصى
له أو العبد ولا تسقط بالبيع وهي عيب ويصح إسقاطها] .
قوله: "فصل: ويجب امتثال ما ذكره" الخ.
أقول: وجه هذا أن الميت إن كانت وصيته تتضمن تخليصه من شيء واجب عليه فقد فعل بالوصية ما يجب عليه وكان تنجيزها واجبا على وصيه أو على وارثه أو على سائر المسلمين إن لم يكن ثم وصي ولا وارث والإمام والحاكم أولى المسلمين بالقيام بذلك والإلزام به لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان الذي أوصى به الموصى من القرب التي ليست بواجبه عليه فقد فعل ذلك في ماله الذي أذن الله سبحانه له بالتصرف فيه كيف يشاء وإنفاذ ذلك واجب على الوصي أو على الوارث أو على الإمام والحاكم لأن في إهماله إهمالا لحق امرىء مسلم وهو منكر يجب إنكاره وما عرف من القصد فله حكم اللفظ إذ ليس المراد باللفظ إلا مجرد الدلالة على المعنى الذي يريده اللافظ وقد حصلت هذه الدلالة بالقصد.
وأما قوله: "ما لم يكن محظورا" فوجهه ظاهر لأن ذلك منكر وهو يجب دفعه على كل مسلم ومن دفعه ترك تنفيذه وعدم امتثال أمر الموصي بذلك.
قوله: "ويصح بين أهل الذمة" الخ.
أقول: وجه ذلك أنهم مقرون على شريعتهم فليس لنا تغييره ما فعلوه ولا التعرض لإبطاله إلا أن يترافعوا إلينا ويطلبوا منا حكم الإسلام بينهم في ذلك كان علينا الحكم بينهم بحكم الإسلام كما صرح الله سبحانه به في كتابه العزيز: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، وهكذا تصح الوصية من المسلم للذمي لعدم وجود مانع شرعي من ذلك إذا كان الذي أوصى له به مما يجوز لنا معاملة أهل الذمة به فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" في كل كبد رطبة أجر"، [البخاري "2363"، مسلم "2244"، أبو داود "2550"]، وهو أيضا يشمله الإذن العام بقوله عزوجل:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8] ، الآية.
قوله: "وتصح لقاتل العمد إن تأخرت".
أقول: لا وجه للتقييد بقوله إن تأخرت بل تصح مطلقا لأن المقتول تصرف بماله الذي أباح له الشرع التصرف فيه ولا مانع من ذلك وكونه قد عصى بالجناية لا يستلزم عدم الصحة الإحسان إليه بل الإحسان إليه قد يكون الثواب فيه أكثر من غيره لأنه من مقابلة الإساءة بالإحسان وهو منزلة عظيمة عند الله وقد ندب الله إلى ذلك بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: [34 – 35] ، أي ما يلقى هذه الخصلة وهي الدفع بالتي هي أحسن إلا من كان كذلك نعم إذا رجع الموصي عن الوصية بعد الجناية أو عرف من قصده ما يقتضي الرجوع عن الوصية كان ذلك مبطلا لها لعدم وجود المناط الشرعي وهوالرضا وطيبة النفس.
وأما قوله: "وتصح للحمل والعبد" إلى آخر ما ذكره المصنف فوجهه واضح والتفريع على ذلك قد عرف في مواطنه فلا حاجة إلى الكلام منا عليه هنا.
[فصل
وتصح بالمجهول جنسا وقدرا ويستفسر ولو قسرا وثلث المال للمنقول وغيره ولو دينا فإن كان لمعين شارك في الكل وإلا فإلى الورثة تعيينه وثلث كذا لقدره من جنسه ولو شراء ومسمى الجنس كشاة لجنسه ولو شراء والمعين لعينه إن بقيت وشيء ونحوه لما شاءوا والنصيب والسهم لمثل أقلهم ولا يتعد بالسهم السدس والرغيف لما كان ينفق فإن جهل فالأدون وأفضل أنواع البر الجهاد وأعقل الناس أزهدهم ولكذا وكذا ينصفان وإذا ثبت على كذا لثبوته عليه ولو ساعة وأعطوه ما ادعى وصية والفقراء والأولاد والقرابة والأقارب والوارث كما مر] .
قوله: "فصل: وتصح بالمجهول" الخ.
أقول: وجه هذه الصحة أنه قد وجد المقتضي وفقد المانع وليس مجرد الجهالة ابتداء مما يصلح للمانعية لأنها ترتفع بالتفسير أو بالرجوع إلى أقل ما يصدق ذلك اللفظ لا يقال إن قسره على التفسير إكراه والإكراه مانع لأنا نقول هو إنما أكره على تفسير ما قاله حال اختياره وقد ثبت عليه الحق بمجرد الوصية بالمجهول فامتناعه من تفسيره كامتناع من تقرر عليه حق معلوم من تسليمه وللحاكم أن يجبر المتمرد كما تقدم.
قوله: "وثلث المال للمنقول وغيره".
أقول: هذا ظاهر ما يقتضيه لفظ المال إلا أن يمنع من الجري على هذا ظاهر عرف للموصي وأهل محله فإنه مقدم على ما تقتضيه اللغة لا فرق بين المعين وغيره في استحقاق المقاسمة للورثة ولا وجه يقتضي تخصيص المعين بذلك لا من رواية ولا من دراية لأن التعيين مع ذكر لفظ الثلث مشعر أتم إشعار بأن المراد أن هذا الموصى له يأخذ ثلث هذا المعين رضي الوارث أم كره وهكذا له أن يأخذ ثلث ما قال فيه لفلان ثلث كذا ولا وجه للإنتقال إلى جنسه إلا أن يعرف ذلك من قصد الموصي وإنما يعدل إلى الجنس في مسمى الجنس كما قال المصنف ومسمى الجنس لجنسه والمعين لعينه ومن المعين قوله ثلث كذا كما لا يخفى فكلام المصنف متدافع.
وأما قوله: "وشيء ونحوه لما شاءوا" فوجهه أنه يصدق على كل ما شاءه أنه شيء إلا أن يعرف من قصد الموصي ما يخالف ذلك.
قوله: "والنصيب والسهم لمثل أقلهم".
أقول: وجه هذا أنه لا يريد إلا نصيبا من أنصباء التركة أو سهما من سهامها فإن كان في ذلك عرف معلوم وجب الرجوع إليه وإلا كان المتيقن هو أقل ما يصدق عليه أنه سهم من سهام التركة ونصيب من أنصابها ولا وجه لقول المصنف ولا يتعدى بالسهم السدس فإن الوقوف على السدس تحكم محض لا يدل عليه شرع ولا عقل ولا لغة ولا وجه للفرق بين النصيب والسهم إلا أن يكون المصنف قد بنى ذلك على عرف قد عرفه ولكنه لا يفيد شيئا لأن الإعتبار يعرف المتكلم حال التكلم ولا يلزمه عرف غيره من أهل عصره فضلا عن عرف من عصره قبل عصره.
وأما قوله: "والرغيف لما ينفق منه" فوجهه أن المتبادر ما هو كذلك فإن كان مجهولا رجع إلى عرف أهل بلده فإن لم يكن لهم عرف أو كان العرف مختلفا فالأقل لأنه المتيقن.
قوله: "وأفضل: أنواع البر الجهاد".
أقول: أما أفضل أنواع البر من غير نظر إلى خصوص الوصية فقد اختلفت الأدلة في أفضل الأعمال فتارة يذكر الجهاد وتارة الصلاة لأول وقتها وتارة ذكر الله وتارة بر الوالدين وتارة الصدقة وما ورد في هذا المعنى.
وينبغي الجمع بين هذه الأحاديث المختلفة بأن يقال إن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان مثلا قوي القلب مستعدا للجهاد فالجهاد أفضل أعماله ومن كان غير قادر على الجهاد أو يقدر عليه مع ضعف يلحقه وعدم فائدة تحصل منه فأفضل أعماله المحافظة على صلواته وأذكاره أو على بر والديه وإن كان كثير المال فأفضل أعماله الصدقة على ذوي الحاجة والحاصل أن أفضل أعمال كل رجل ما هو أكثر نفعا لغيره وأجود ثمرة وأتم فائدة.
وأما الوصية إذا أوصى بجزء من ماله تصرف في أفضل أعمال البر فذلك يختلف باختلاف الأوقات فأفضل أنواع البر في سني الشدة وأيام المجاعة هو الصدقة وأفضل أنواع البر في أيام المثاغرة للكفار ومدافعتهم عن بلاد الإسلام هو الجهاد وأفضل أنواع البر في غير هاتين الحالتين هو الصرف في العلماء والمتعلمين وتحشيدهم لنشر العلم والإستكثار من التعدريس وتخريج الطلبة وترقيتهم في العلوم فإنه بذلك يحصل تكاثر العلم وتكاثر أهله فيزداد الدين جمالا والإسلام رونقا لأن حملة العلم هم نجومه الذين يستضاء بأنوارهم ويهتدون بهديهم.
والحاصل أن العالم العارف بالموازنة بين الأعمال بين الأعمال مع اختلاف الأوقات لا يخفى عليه راجحها من مرجوحها وفاضلها من مفضولها.
قوله: "وأعقل الناس أزهدهم".
أقول: إن عرف من مقصد الموصي بجزء من ماله لأعقل الناس أنه يريد أعقلهم من حيث ما يقتضيه الشرع فلا شك ولا ريب أن من رغب عن عرض الدنيا الفاني وطلب عرض الآخرة الباقي هو الذي يستحق اسم العقل الكامل والإدراك الصحيح والنظر المطابق لمراد الله سبحانه وإن عرف من مقصد الموصي لأنه يريد أعقلهم باعتبار أمر غير هذا الأمر كالتبصر بإصدار الأمور
وإيرادها ومداخر الصلاح والنظر في عواقب الأمور وإصابة الرأي والفكر فيما تئول إليه مبادىء الأمور وتنتهي إليه الحوادث كان الصرف إلى من كان هو المقصود للموصى ولا حجر في ذلك فله أن جعل ما شاء من ماله حيث شاء ما لم يكن معصية لله عزوجل.
قوله: "وبكذا وكذا نصفان".
أقول: هذا هو الظاهر من حيث اللغة إلا أن يخالفه عرف للموصي فهو مقدم لأنه لا يتكلم المتكلم في الغالب إلا بما يقتضيه عرفه وما يعتاده أهل بلده وهكذا قوله وإذا ثبت على كذا لثبوته عليه ولو ساعة فإنه قد حصل الثبوت على ذلك الشيء بما يصدق عليه مسمى الثبوت إلا أن يجزي عرف بخلاف ذلك.
وأما قوله: "وأعطوه ما ادعى وصية" فغير مسلم فإن هذا إقرار منه بأنه يستحق من تركته ما يدعي به وحمله على الوصية خلاف الظاهر.
وأما قوله: "الفقراء والأولاد والقرابة والأقارب والوارث كما مر" فقد قدمنا الكلام على ذلك في الوقف فليرجع إليه.
[فصل
ولو قال أرض كذا للفقراء وتباع لهم فلهم الغلة قبل البيع إن لم يقصد ثمنها وثلاثة مضاعفة لستة وأضعافها ثمانية عشر ومطلق الغلة والثمرة والنتاج للموجودة وإلا فمؤبدة كمطلق الخدمة والسكنى وينفذ من سكنى دار لا يملك غيرها سكنى ثلثها ومن أوصى ولا يملك شيئا أو ثم تلف أو نقص فالعبرة بحال الموت فإن زاد فبالأقل] .
قوله: "فصل: ومن قال أرض كذا للفقراء" الخ.
أقول: وجه هذا التمليك قد دل على أنها لهم من وقت التلفظ بما يدل عليه فستحقون ما حصل فيها من الغلة لأنها غلة ملكهم إلا أن يعرف من قوله وتباع لهم أن مراده أن الذي يصير إليهم هو ثمنها فقط فإن الغلة تكون قبل البيع للورثة وهو معنى قوله إن لم يقصد ثمنها واحتاج إلى هذا الإحتراز لاحتمال قوله أو تباع لهم لأمرين.
قوله: "وثلاثة مضاعفة ستة".
أقول: ضعف الشيء ومضاعفته وتضعيفه أني جعل فوقه مثلاه فإن أطلق على مثله فقط فهو مجاز وليس من باب الإشتراك وإذا كان الضعف يطلق على مثلي الأصل كما عرفت فالجمع يدل على أن هذين المثلين مضاعفة ثلاث مرات فيكون ثمانية عشر لأن ذلك أقل الجموع إلا أن يظهر له قصد أو عرف يخالف ذلك فكلام المصنف رحمه الله صحيح لا إشكال فيه ولا غبار عليه.
قوله: "ومطلق الغلة والثمرة والنتاج للموجود".
أقول: وجه ذلك أن اللفظ ينصرف إلى ما هو موجود في الحال فلا يتناول غيره إلا لقرينة وأما إذا قال ذلك الشيء غير موجود فالظاهر أنه أراد ما يحصل من بعد ومع عدم التقييد بالمرة أو المرات يحمل على الأقل وهو ما يحصل أول مرة وليس في ذلك ما يدل على التأبيد لأن التأبيد أمر زائد على مجرد الإطلاق فلا يصار إليه إلا لقرينة.
قوله: "وينفذ من سكنى دار لا يملك غيرها سكنى ثلثها".
أقول: هذا يخالف ما تقدم للمصنف من التفصيل في قوله وما نفذ في الصحة إلخ وقوله ولا ينفذ في ملك تصرف إلخ والأولى أن يقال إن الوصية بسكنى الدار تنفذ في جميع الدار إذا لم يكن وارث على حسب ما قدرناه فيما تقدم.
وأما قوله: "ومن أوصى لا يملك شيئا" إلخ فوجهه أو وقت الموت هو وقت النفوذ فالإعتبار به وجودا أو عدما وزيادة ونقصا ولا وجه لقوله: "فإن زاد فبالأقل".
[فصل
وتبطل برد الموصى له وموته وانكشافه ميتا قبل الموصي وبقتله المصي عمدا وإن عفا وانقضاء وقت المؤقتة وبرجوعه أو المجيز في حياته عمالا يستقر إلا بموته فيعمل بناقضة الأولى] .
قوله: "فصل: وتبطل برد الموصى له".
أقول: وجهه أنه لا يلزم الإنسان حتما إدخال شيء في ملكه بل ذلك مفوض إلى اختياره فإن رضي صار ملكا وإن رده لم يصر ملكا له وأما اعتبار القبول لفظا فلا يوافق رواية ولا دراية بل المعتبر في القبول هو القبض والتصرف وفي عدم القبول هو الرد.
وأما قوله: "وموته" فوجهه أنه لم يوجد من قصد الموصي الإيصاء له فلم تصح الوصية وهكذا انكشافه ميتا قبل الموصي إن كانت الوصية مضافة إلى ما بعد الموت.
قوله: "وبقتل الموصي عمدا".
أقول: لا وجه لإطلاق هذا فإن القتل عمدا إنما هو مبطل للميراث لا مبطل لإحسان المقتول إلى القاتل بوصية ونحوها ولا سيما إذا وقع منه العفو فإنه قد سمح بنفسه فكيف لا يسمح بجزء من ماله وقد قدمنا عند قوله ولقاتل العمد إن تأخرت ما ينبغي الرجوع إليه.
وأما قوله: "وانقضاء وقت المؤقت" فظاهر لا يحتاج إلى ذكره لأن الوصية قد انقطعت بانقطاع وقتها.
وأما قوله: "وبرجوعه" فوجهه ظاهر لأنه رجع قبل الوقت الذي تنفذ فيه الوصية ويستحقها من هي له وهو قوت الموت.
وأما قوله: "أو المجيز في حياته" فوجهه أن إسقاط حقه إنما يستقر بموت الموصي لأنه وقت النفوذ فإذا رجع قبله كان الرجوع صحيحا وإذا رجع بعده لم يصح لأنه مكلف مختار رضي لنفسه فلا يبطل ذلك الرضا بعد وقت الإستقرار وإلا استلزم هذا الرجوع عن الرضا جواز الرجوع عن سائر ما يرضى به الإنسان فلا تستقر معاملة وقد عرفناك أن الرضا هو المعتبر في جميع المعاملات.
وأما قوله: "فيعمل بناقضة الأولى" فوجهه أنه وقع نقض الأولى في الوقت الذي يجوز له فيه أن يرجع لأنه رجوع قبل وقت الإستقرار فكان العمل على ما ثبت الموصي عليه إلى وقت الإستقرار وهو موته.
[فصل
وإنما يتعين وصيا من عينه الميت وقبل وهو حر مكلف عدل ولو متعددا أو إلى من قبل فيجب قبولها كفاية ويغني عن القبول الشروع وتبطل بالرد ولا تعود بالقبول بعده في الحياة إلا بتجديد ولا بعدها إن رد في وجهه ولا يرد بعد الموت من قبل بعده أو قبله إلا في وجهه وتعم وإن سمى معينا ما لم يحجر عن غيره والمشارف والرقيب والمشروط علمه وصي لا المشروط حضوره ولكل منهما أن ينفرد بالتصرف ولو في حضرة الآخر إن لم يشرط الإجتماع ولا تشاجرا] .
قوله: "فصل: وإنما يتعين وصيا من عينه الميت" الخ.
أقول: أما اشتراط القبول فلا بد منه إذ لا يلزم الإنسان الدخول في شيء حتما وأما اشتراط الحرية فلا وجه له بل العبد كالحر إذا أذن له سيده وإذا مات السيد ولم يأذن له المالك الآخر كان ذلك في حكم موت الوصي الحر حيث لم يوص فتكون الولاية للوارث أو للإمام والحاكم على ما سيأتي.
وأما اشتراط التكليف فقد قدمنا في أول كتاب الوصايا وجه ذلك وأما اشتراط أن يكون عدلا فلم يرد ما يدل على اعتبار العدالة في الوصي كما لم يرد اعتبار العدالة في الوكيل والرسول والشريك ونحوهم وقد رضيه الميت لنفسه وأقامه مقامه بعد موته فوجب امتثال ذلك وإذا تصرف تصرفا يخالف الحق فسيأتي أنها تبطل وصايته.
وأما قوله: "ولو متعددا" فليس في هذا نزاع فللموصي أن يوصي إلى الواحد والإثنين والجماعة.
وأما قوله: "وإلى من قبل فيجب قبولها كفاية" فلا وجه لهذا الإيجاب بل لكل أحد أن يمتنع من قبولها إذا لم يرد ما يدل على أنه يجب على الإنسان واجب بإيجاب إنسان آخر عليه فإذا لم يقبلها أحد كان ذلك لعدم الوصي من الأصل وسيأتي الكلام فيه.
وأما كونه يغني عن القبول الشروع فوجهه ظاهر لأنه لا يشرع إلا وقد رضي.
وأما كونها تبطل بالرد فوجهه أنه لا يجب على الإنسان أن يدخل نفسه في أعمال لم يوجبها عليه الشرع بل ذلك مفوض إلى اختياره.
وأما قوله: "ولا يعود بالقبول في الحياة إلا بتجديد" فوجهه أن كونه وصيا قد بطل بالرد فلا يعود وصيا إلا بتجديد الوصاية إليه من الموصي وإلا كان ذلك تصرفا في مال الغير بغير مقتض وهو ممنوع لثبوت العصمة لأموال العباد إلا بإذن من الله سبحانه أو من أربابها.
وأما قوله: "ولا بعدها إن رد في وجهه" فقد عرفناك أن الوصاية قد بطلت بالرد ولا فرق بين الرد في وجه الموصي أو في غير وجهه.
وأما قوله: "ولا يرد بعد الموت من قبل بعده" إلخ فلا وجه له لأن استمراره على ذلك لم يجب عليه بإيجاب الشرع ومجرد قبوله لا يستلزم استمراره حتى يقال إنه أوجب ذلك على نفسه فله أن يعزل نفسه متى شاء وكأنه لا وصي من الأصل فيكون لكل وارث ولاية كاملة إن وجد وإلا فللإمام والحاكم كما سيأتي.
قوله: "وتعم وإن سمى معينا".
أقول: لا وجه لهذا لأن التعيين يقتضي قصر إقامته مقام نفسه على ذلك المعين فتصرفه في غيره تصرف في مال الغير بغير إذنه ولا بإذن الشرع إلا أن يفهم ذلك من قصده كان التعميم من حيث القصد لا من حيث تسمية المعين.
قوله: "والمشارف والرقيب والمشروط علمه وصي".
أقول: ليس ها هنا ما يقتضي أن يكون وصيا لا من لفظ ولا قصد وإثبات أحد هذه الأمور لشخص لا يستلزم إثبات ما هو زائد عليها وهو الوصاية المقتضية لما سيأتي من التصرف وغاية ما هنا أنه يكون إلى المشارف المشارفة على التصرفات الواقعة من الوصي فيشير على الموصي بما يستحسنه ويراه صوابا وهكذا الرقيب يكون مراقبا للوصي فيخبر بما وقع منه وليس إليه غير ذلك وأما المشروط علمه فغاية ما هناك أنه لا ينفذ تصرف الوصي حتى يعلم به وإذا علم نفذ وليس له حل ولا عقد ولا إمضاء ولا إبطال إلا أن يظهر من قصد الموصي زيادة على ما تدل عليه هذه الألفاظ كان الإعتبار بالقصد فإذا قصد إثبات الوصاية لكل واحد من هؤلاء كان المؤثر في ذلك هو هذا القصد لا تلك الألفاظ وأما إذا كان الأوصياء اثنين أو أكثر فالأمر كما ذكره المصنف من أن لكل
واحد منهم أن ينفرد بالتصرف ولو في حضرة الآخر إلا أن يشرط الموصي الإجتماع فهو كالحجر لكل واحد منهما أن يتصرف منفردا وهكذا إذا حصل التشاجر بينهم فإن ذلك يوجب التوقف عليهم حتى يجتمع رأيهم.
[فصل
وإليه تنفيذ الوصايا وقضاء الديون واستيفاؤها والوارث أولى بالمبيع بالقيمة ما لم تنقص عن الدين فبالثمن ولا عقد فيهما وينقض البالغ ما لم يأذن أو يرض وإن تراخى والصغير بعد بلوغه كذلك إن كان له وقت البيع مصلحة ومال فلا] .
قوله: "فصل: وإليه وحده تنفيذ الوصايا وقضاء الديون".
أقول: وجهه أنه أقامه مقام نفسه بعد موته فكان إليه تنفيذ الوصايا لأن هذا هو أعظم المقاصد التي قصدها الموصي وقضاء الديون هو من تنفيذ الوصايا بل من أهمها ومن ذلك استيفاء الديون التي للميت على الغير إذا كان لها مدخل في تنفيذ الوصايا وإلا كان أمرها إلى الوارث لأنها قد صارت ملكا له فلا يحل التصرف في ملكه وقد انقطع حق الميت عن التركة فلم يبق إلى وصية إلا ماله تعلق بوصاياه.
قوله: "والوارث أولى بالمبيع" الخ.
أقول: الوجه في هذه الأولوية أن المبيع إنما هو لقصد قضاء ما على الميت أو ما يحتاج إليه في تجهيزه فإذا بذل الوارث ما يبذله المشتري كان أحق به لأن التركة انتقلت من ملك الميت إلى ملكه فلا يخرج عن ملكه مع بذل القيمة ويكون بين الورثة على التوريت وكأنه من جملة الميراث لا يحتاج إلى تجديد عقد ولكن لا وجه لقول المصنف بالأقل من القيمة أو الثمن بل هو أحق بقيمته التي سيباع بها من الغير فيسلمها موفرة حتى تبقى العين في ملكه وإذا وقع البيع من غير اطلاع الوارث كان له النقض لما وقع من البيع وأخذ المبيع بما كان قد دفعه المشتري فيه ما لم يأذن أو يرض وللوصي أو المشتري أن يطالباه بذلك فيأخذ أوي ترك وليس له أن يتراخى بعد العلم لا كما قال المصنف.
وأما الصغير فإن كان له في المبيع مصلحة ومعه مال كان وليه مفرطا في ترك الطلب فله أن يطلب عند بلوغه وإن لم يكن له مصلحة ومال فليس في الإمكان أبدع مما كان وقد نفذ تصرف الولي والوصي.
[فصل
وله أن يستقل بقضاء المجمع عليه والمختلف فيه بعد الحكم مطلقا وقبله حيث تيقنه والوارث صغير أو موافق وإلا فلا وللموافق المرافعة إلى المخالف وما علمه وحده قضاه سرا فإن منع أو ضمن ضمن ويعمل باجتهاده ويصح الإيصاء منه لا النصب] .
قوله: "فصل: وله أن يستقل بقضاء المجمع عليه" الخ.
أقول: وجه هذا أن الوصية من الموصي ليست بحكم على الغير يلزمه امتثاله فوصية كذلك لأنه مأمور من جهته فما كان مما لا نزاع فيه ولا خلاف ولا ضرار ولا مخالفة للشرع بوجه من الوجوه كان للوصي الإستقلال بفعله وما لم يكن كذلك لم يكن له إلا بحكم الحاكم لقطع الخلاف ودفع معرة النقض من بعد وليس كل مختلف فيه يحتاج إلى حكم الحاكم بل إذا كان مذهب الموصي والوصي هو وجوب التخلص من ذلك ولم يكن ثم منازع من وارث أو غيره كان له الإستقلال فهكذا ينبغي أن يقال وإذا كان الوارث صغيرا كان الأمر إلى وليه فإن لم يكن له ولي كان له عند بلوغه الدعوى على الوصي بماله فيه حق شرعي.
وأما كون للموافق المرافعة إلى المخالف فلا بد أن يكون على بصيرة بأن عند المخالف الصواب وبيده الحق وإن فعل ذلك كان الواجب علينا الأخذ على يده ومنعه من ذلك.
وأما قوله: "وما علمه وحده قضاه سرا" فوجهه أنه على بصيرة وقد أمره الوصي بالنيابة وأقامه مقامه فكان عليه أن يقضي ديونه الثابتة عليه بالشرع وأثبتها وأحقها بالقضاء ما كان الوصي يعلم به ويتيقنه وإذا نوزع رافع إلى الحاكم ليقطع عنه اللجج.
ولا وجه لقوله فإن منع أو ضمن ضمن بل ليس لأحد من الورثة منعه ولا تضمينه فيما هو معلوم لديه ومتيقن عنده وغاية ما يستحقه المخاصم له هو المرافعة إلى الحاكم فيحكم في ذلك بوجه الشرع ويقطع ما عرض بينهم من الخصومة.
قوله: "ويعمل باجتهاده".
أقول: إذا عرف للموصي قصد كان العمل عليه ووجب على الوصي امتثاله لأن التنجيز والتقييد هو عائد إلى أمره للوصي بالنيابة فليس له أن يفعل غير ما رسمه له الموصي إلا أن يأمره بما لا يحل فليس له الإمتثال كما تقدم ومع التباس الأمر عليه ووقوع الخلاف في الحادثة ترافع إلى حاكم الشرع فما قضى به عمل عليه وقد قدمنا ما يغني عن التكرار ها هنا.
وأما قوله: "ويصح الإيصاء منه" فوجهه أنه قد ثبت له التصرف فيما أقامه الموصي فيه مقامه فله أني جعله إلى الغير في حال حياته ويكون له بمنزلة الوكيل وله أيضا أن يوصي به بعد
موته إلى وصيه وليس في الشرع ما يمنع من هذا فالأصل الجواز وبهذا تعرف أن له أن ينصب معه من يعينه على التنفيذ لأن الأمر قد صار إليه والتنفيذ قد تعين عليه وليس بهذا بأس ولا عنه مانع من رواية ولا دراية.
[فصل
ويضمن بالتعدي والتراخي تفريطا حتى تلف المال فإن بقي أخرج الصغير متى بلغ وعمل باجتهاد الوصي وبمخالفته ما عين من مصرف ونحوه ولو خالف مذهبه قيل إلا في وقت صرف أو في مصرف واجب أو شراء رقبتين بألف لعتق والمذكور واحدة به وبكونه أجيرا مشتركا وإنما يستحقها إن شرطها أو اعتادها أو عمل للورثة فقط وهي من رأس المال مطلقا ومقدمة على ما هو منه] .
قوله: "فصل: ويضمن بالتعدي".
أقول: التعدي سبب مستقل للضمان لأنه أمر بأمر فليس له أن يتعداه ولا يخالفه فإن فعل فقد اختار لنفسه ضمان ما تلف بسبب تعديه وهكذا إذا تراخى تفريطا لا لسبب من الأسباب فإن تراخيه تساهل منه ومخالفة لأمر الموصي يوجب عليه الضمان لأن التنجيز قد صار واجبا عليه وإن أراد الخلوص من الوصايا فعل قبل أن يفرط بالتراخي فيتلف مال الغير بسببه.
وأما قوله: "فإن فعل أخرج الصغير متى بلغ" فالذي ينبغي في هذا أن يقال قد بطلت وصايته بتعديه أو تفريطه فإن لم يتلف المال كان الأمر إلى الوارث كما سيأتي أن لكل وارث ولاية كاملة مع عدم الوصي فإن كان الوارث صغيرا كان الأمر إلى وليه وإلا ناب عنه الإمام أو الحاكم ولا وجه لانتظار لبلوغه ولا العمل باجتهاد الوصي وهكذا يضمن الوصي بمخالفة ما عين الموصي إذا تسبب عن ذلك تلف شيء من المال لأنه مأمور بأمر فمخالفته له سبب لضمانه.
وأما قوله: "وبكونه أجيرا مشتركا" فوجهه أنه قد صار بالأجرة أجيرا مع كونه وصيا فيضمن ضمان الأجير وقد قدمنا الكلام على ما صرح به المصنف من تقسيم الأجير إلى خاص ومشترك وإثبات أحكام لكل واحد منهما فليرجع إليه.
وأما كونه لا يستحق الأجرة إلا مع الشرط أو الإعتبار فذلك ظاهر أما مع الشرط فلكون الموصي قد رضي بذلك فكان عليه القدر المشروط من الأجرة وأما مع الإعتياد فلكون معاملته محمولة على ما جرت به عادته ولكن إذا لم يعلم بذلك الوصي لم يجب عليه ولا على وارثه دفع ما يعتاده من الأجرة بل يدفع إليه أجرة المثل.
وأما قوله: "أو عمل للورثة" فلا وجه له بل لا بد من الشرط عليهم أو الإعتياد للأجرة
في مثل ذلك وإلا فالأصل عندهم في المنافع عدم العوض فكان عليهم هنا أن لا يجعلوا مجرد العمل للورثة سببا لاستحقاق الأجرة.
وأما دعوى أن أجرة الوصي من رأس المال ومقدمة على ما هو منه فكلام لم يربط بدليل ولا اقتضاه رأي صحيح وغاية ما هناك أن تكون أجرته من مخرج ما يباشر إخراجه وتنفيذه فما كان من الرأس كانت أجرته فيه من الرأس وما كان من الثلث كانت أجرته فيه من الثلث تنزيلا له منزلة المستحقين لشيء من التركة من دين لهم أو صرف إليهم.
[فصل
فإن لم يكن فلكل وارث ولاية كاملة في التنفيذ وفي القضاء والإقتضاء من جنس الواجب فقط ولا يستبد أحد بما قبض ولو قدر حصته ويملك ما شرى به ويرجعون عليه لا على أي الغريمين فإن لم يكونوا فالإمام ونحوه] .
قوله: "فصل: فإن لم يكن فلكل وارث ولاية كاملة".
أقول: القرابة لها زيادة اختصاص والورثة لهم أيضا مزيد خصوصية على سائر القرابة الذين لا يرثون ويدل على هذا ما أخرجه أحمد "4/136، 5/7"، وابن ماجه "2433"، وابن سعد وعبد بن حميد وابن نافع والباوردي والطبراني في الكبير والضياء في المختارة بإسناد رجاله ثقات عن سعد بن الأطول أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا قال فأردت أن أنفقها على عياله فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه"، فقال: يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال:"فأعطها فإنها محقة".
وأما تقييد القضاء والإقتضاء والتنفيذ بكونه من جنس الواجب فوجهه ظاهر لأن في العدول عن الجنس مخالفة لقصد الموصي وقد يكون فيه مخالفة لغرض سائر الورثة.
وأما كونه لا يستبد أحد من الورثة بما قبض فوجهه واضح لأنه مشترك بين جميعهم ولا وجه لقوله ويملك ما شرى به ولكنه بنى على عدم تعين النقد فيملك ويغرم لهم مثله والظاهر أن لهم المطالبة بإرجاع عين النقد الذي قبضه لأنه فيما عدا نصيبه غاصب وقد قدمنا في الغصب ما قدمنا.
وأما قوله: "فإن لم يكونوا فالإمام والحاكم" فوجهه شمول ولايتهما بمثل هذا فإن تنفيذ وصايا الموصي بما يجب عليه التخلص عنه وبما يتقرب به من القرب حق عليهما لأن إهمال ذلك منكر والقيام به أمر بمعروف وهما أحق الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[فصل
وندب ممن له مال غير مستغرق بثلثه في القرب ولو لوارث ومن المعدم بأن يبره الإخوان] .
قوله: "فصل: وندب ممن له مال غير مستغرق بثلثه في القرب".
أقول: التقرب إلى الله عزوجل بطاعاته مشروع لعباده في كل وقت وإليه وقع الترغيب بالآيات والأحاديث الكثيرة وحالة الوصية من جملة الأوقات التي تدخل تحت تلك الأدلة ولا سيما والموصى أحوج ما كان إلى التقرب بالبر والإحسان ومثل هذا لا يحتاج إلى الإستدلال عليه بمثل قوله: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم" الحديث المتقدم.
وأما اشتراط أن يكون ماله غير مستغرق بالدين فوجهه أن قضاء ما يجب قضاؤه أهم من التقرب بما لا يجب وألزم وأحق.
وأما التقييد بالثلث فإن كان له وارث فهو صحيح وإن لم يكن له وارث فله أن يجاوزه كما قدمنا تحقيقه.
قوله: "ولو لوارث".
أقول: إن كان الدليل على جواز الوصية للوارث هو ما ورد في القرآن من الوصية للوالدين والأقربين فقد وقع الإتفاق على أنه منسوخ غير ثابت الحكم والقول بأنه نسخ الوجوب وبقي الندب غير مسلم ولو سلمنا لكان ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أنه: "لا وصية لوارث"، رافعا لهذا الندب ودافعا له فإنه قد ثبت ذلك من طرق منها ما أخرجه أحمد "4/182"، والنسائي "6/247"، والترمذي "2121"، وصححه وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وهي تقصع بجرتها وإن لغامها يسيل بين كتفي فسمعته يقول:"إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"، ومنها ما أخرجه أحمد "5/267"، وأبو داود "2870"، والترمذي "2120"، وابن ماجه "2713"، وحسنه الترمذي من حديث أبي أمامة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بقول:"إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"، وما قيل من أن في إسناده إسماعيل بن عياش فقد تقرر عند الأئمة الحفاظ أنه قوي إذا روى عن الشاميين وهذا من روايته عن الشاميين لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة وقد صرح في روايته بالتحديث فلم يبق للحديث علة يعل بها ومنها ما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة"، وقد حسنه ابن حجر في التلخيص وقال في الفتح رجاله ثقات قال لكنه معلول فقد قيل أن عطاء الذي رواه عن ابن عباس هو الخراساني وأخرج نحوه البخاري "5/372"، من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفا قال: إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع انتهى. وقد تقرر أن الرفع