الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْجُمَهُ، صَحَّ، وَيُكْرَهُ لِلْحُرِّ أَكْلُ أُجْرَتِهِ، وَيُطْعِمُهُ الرَّقِيقَ وَالْبَهَائِمَ. وَقَال الْقَاضِي: لَا تَصِحُّ.
ــ
أعلمُ. وأمَّا ما لا يَتَعَدَّى نَفْعُه فاعِلَه مِن العِباداتِ المَحْضَةِ، كالصِّيامِ، وصَلاةِ الإِنْسانِ لِنَفْسِه، وحَجِّه عن نَفْسِه، وأداءِ زَكاةِ نَفْسِه، فلا يجوزُ أخْذُ الأجْرِ عليه بغيرِ خِلافٍ؛ لأنَّ الأجْرَ عِوَضٌ للانْتِفاعِ، ولم يَحْصُلْ لغيرِه ههُنا انْتِفاعٌ، فأشْبَهَ إجارَةَ الأعْيانِ التي لا نَفْعَ فيها.
2189 - مسألة: (وإنِ اسْتَأْجَرَ مَن يَحْجُمُه، صَحَّ، ويُكْرَهُ للْحُرِّ أكْلُ أُجْرَتِه، ويُطْعِمُه الرَّقِيقَ والبَهائِمَ. وقال القاضي: لا يَصِحُّ)
يجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ حَجّامًا لِيَحْجُمَه، وأجْرُه مُباحٌ. اختارَه أبو الخَطّابِ. وهو قولُ ابنِ عَبَّاسٍ، قال: أنا آكُلُه. وبه قال عِكْرِمةُ، والقاسِمُ، ومحمدُ بنُ عليِّ بنِ الحُسَينِ، ورَبِيعَةُ، ويَحْيَى الأنْصارِيُّ، ومالِكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. وقال القاضي: لا يجوزُ. وذَكَرَ أنَّ أحمدَ نَصَّ عليه، قال: وإن أُعْطِيَ شيئًا مِن غيرِ عَقْدٍ ولا شَرْطٍ، فله أخْذُه، ويَصْرِفُه في عَلْفِ دابَّتِه، وطُعْمِ عَبْدِه، ومُؤْنَةِ صِناعَتِه، ولا يَحِلُّ أكْلُه. وكَرِهَ كَسْبَ الحَجّامِ عثمانُ، وأبو هريرةَ، والحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ؛
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «كَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ» . مُتَّفَقٌ عليه (1).
وقال: «أطْعِمْهُ ناضِحَكَ ورَقِيقَكَ» (2). ولَنا، ما روَى ابنُ عباسٍ، قال: احْتَجَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأعْطَى الحَجّامَ أجْرَه، ولو عَلِمَه حَرامًا لم يُعْطِه. مُتَّفَقٌ عليه (3). وفي لَفْظٍ: ولو عَلِمَه خَبِيثًا لم يُعْطِه. ولأنَّها مَنْفَعةٌ مُباحَةٌ، لا يَخْتَصُّ فاعِلُها بكَوْنِه مِن أهْلِ القُرْبَةِ، فجازَ الاسْتِئْجارُ عليها، كالخِتانِ، ولأنَّ بالناسِ حاجَةً إليها، ولا نَجِدُ كُلَّ أحَدٍ مُتَبَرِّعًا بها، فجازَ الاسْتِئْجارُ عليها، كالرَّضَاعِ، ولأنَّ قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في كَسْبِ الحَجّامِ:«أطْعِمْهُ رَقِيقَكَ» . دَلِيلٌ على إباحَتِه، إذ غيرُ جائزٍ أن يُطْعِمَ رَقِيقَه ما يَحْرُمُ
(1) هذا الحديث لم يرد في صحيح البخاري بهذا اللفظ.
وأخرجه مسلم في: باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن. . .، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1199.
كما أخرجه أبو داود، في: باب في كسب الحجام، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 238. والترمذي، في: باب ما جاء في ثمن الكلب، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 5/ 276. والدارمي، في: باب النهي عن كسب الحجام، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 272. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 464، 465، 4/ 14، 141.
(2)
تقدم تخريجه في 1/ 307، 308. ويضاف إليه كما أخرجه أبو داود، في: باب كسب الحجام، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 238.
(3)
أخرجه البخاري، في باب خراج الحجام، من كتاب الإجارة. صحيح البخاري 3/ 122. ومسلم، في: باب حل أجرة الحجامة، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1205.
كما أخرجه أبو داود، في: باب في كسب الحجام، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 239. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 316، 324، 333، 351، 365.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أكْلُه؛ فإنَّ الرَّقِيقَ آدَمِيٌّ يُحَرَّمُ عليه أكْلُ ما حُرِّمَ على الحُرِّ، وتَخْصِيصُ ذلك بما أُعْطِيَه مِن غيرِ اسْتِئْجارٍ تَحَكُّمٌ لا دَلِيلَ عليه. فعلى هذا، تَسْمِيةُ كَسْبِه خَبِيثًا لا يَلْزَمُ منه التَّحْرِيمُ، فقد سَمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الثُّومَ والبَصَلَ خَبِيثَينِ (1) مع إباحَتِهما، وإنَّما كَرِهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك للحُرِّ تَنْزِيهًا له؛ لِدَناءةِ صِناعَتِه، وليس عن أحمدَ نَصٌّ في تَحْرِيمِ (2) كَسْبِ الحَجّامِ ولا اسْتِئْجارِه عليها، وإنَّما قال: نحنُ نُعْطِيه كما أعْطَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ونقولُ له كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئِلَ عن أكْلِه نَهاهُ، وقال:«أَعْلِفْهُ النَّاضِحَ والرَّقِيقَ» . هذا مَعْنَى كلامِه في جميعِ الرِّواياتِ، وليس هذا صَرِيحًا في تَحْرِيمِه، بل فيه دَلِيلٌ على إباحَتِه، كما في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على ما بَيَّنّا، فإنَّ إعْطاءَه للحَجّامِ دَلِيلُ إباحَتِه، إذ لا يُعْطِيه ما يَحْرُمُ عليه، وهو عليه
(1) أخرجه مسلم، في: باب نهى من أكل ثوما أو بصلا. . .، من كتاب المساجد. صحيح مسلم 1/ 396. وأبو داود، في: باب في أكل الثوم، من كتاب الأطعمة. سنن أبي داود 2/ 325. والنسائيُّ، في: باب من يخرج من المسجد، من كتاب المساجد. المجتبى 2/ 34، 35. وابن ماجه، في: باب من أكل الثوم فلا يقربن المسجد، من كتاب الإقامة. سنن ابن ماجه 1/ 324. والإمام أحمد، في: المسند 1/ 15، 28، 4/ 19.
(2)
سقط من: الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
السلامُ، يُعَلِّمُ الناسَ ويَنْهاهم عن المُحَرَّماتِ، فكيف يُعْطِيهم إيّاها؟! فعلى هذا، يكونُ نَهْيُه عليه السلام عن أكْلِه نَهْيَ كَراهةٍ لا نهْيَ تَحْرِيمٍ، وكذلك قولُ الإِمامِ أحمدَ، فإنَّه لم يَخْرُجْ عن قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفِعْلِه، بل قَصَد اتِّباعَه، وكذلك سائِرُ مَن كَرِهَه مِنَ الأئِمَّةِ، يتَعَيَّنُ حَمْلُ قَوْلِهم على الكَراهةِ، فلا يكونُ في المَسْألةِ قائِلٌ بالتَّحْرِيمِ. إذا ثَبَت هذا، فإنَّه يُكْرَهُ للحُرِّ أكْلُ أُجْرَةِ الحَجّامِ، ويُكْرَهُ تَعَلُّمُ صِناعَةِ الحِجامةِ وإجارَةُ نَفْسِه لها؛ لِما ذَكَرْنا مِنَ الأخْبارِ، ولأنَّ فيها دَناءةً، فَكُرِه الدُّخُولُ فيها، كالكَسْحِ. وفيما ذَكَرْناه إن شاء اللهُ تعالى جَمْعٌ بين الأخْبارِ وتَوْفِيقٌ بينَ الأدِلَّةِ الدَّالَّةِ عليها. فعلى هذا، يُطْعِمُه الرَّقِيقَ والبَهائِمَ، كما جاء في الأخْبارِ الصَّحِيحَةِ. واللهُ أعلمُ.
فصل: فأمَّا اسْتِئْجارُ الحَجّامِ لغيرِ الحِجامةِ، كالفَصْدِ، وحَلْقِ الشَّعَرِ وتَقْصِيرِه، والخِتانِ، وقَطْعِ شيءٍ مِن الجَسَدِ للحاجةِ إليه، فجائِزٌ؛ لأنَّ قَولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«كَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيثٌ» . يُرِيدُ بالحِجامَةِ، كما نَهَى عن مَهْرِ البَغِيِّ، أي في البِغاءِ. ولذلك (1) لو كَسَب بصِناعةٍ (2) أُخْرَى لم يَكُنْ خَبِيثًا، بغيرِ خِلافٍ. وهذا النَّهْي مُخالِفٌ لِلْقِياسِ فيَخْتَصُّ بالمَحلِّ الذي وَرَد فيه، ولأنَّ هذه الأُمُورَ تَدْعُو الحاجَةُ إليها، ولا تَحْرِيمَ فيها، فجازَتِ الإِجارَةُ فيها، كسائِرِ المنافِعِ المُباحَةِ.
(1) في ق، ر، ر 1:«وكذلك» .
(2)
في م: «في بضاعة» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: ويجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ كَحّالًا لِيَكْحَلَ عَينَه؛ لأنَّه عَمَلٌ جائِزٌ، ويُمْكِنُ تسْلِيمُه ويُقَدِّرُ (1) ذلك بالمُدَّةِ؛ لأنَّ العَمَلَ غيرُ مَضْبُوطٍ، ويَحْتاجُ إلى بَيانِ عَدَدِ ما يَكْحَلُه، في كلِّ يومٍ مَرَّةً أو مَرَّتَينِ. فإن قَدَّرَها بالبُرْءِ، فقال القاضي: لا يجوزُ؛ لأنَّه غيرُ مَعْلُومٍ. وقال ابنُ أبي موسى: لا بَأْسَ بمُشارَطةِ الطَّبِيبِ على البُرْءِ؛ لأنَّ أبا سَعِيدٍ حينَ رَقَى الرجلَ شارَطَه على البُرْءِ. قال شيخُنا (2): والصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ، جوازُ ذلك، لكن (3) يكونُ جَعالةً لا إجارَةً؛ فإنَّ الإِجارَةَ لابُدَّ فيها مِن مُدَّةٍ مَعْلُومةٍ، أو عَمَلٍ مَعْلُومٍ، والجَعالةُ تجوزُ على عَمَلٍ مَجْهُولٍ، كَرَدِّ اللُّقَطَةِ والآبِقِ. وحَدِيثُ أبي سَعيدٍ في الرُّقْيَةِ إنَّما كان جَعالةً، فيجوزُ ههُنا مثلُه. إذا ثَبَت هذا، فإنَّ الكُحْلَ إن كان مِن العَلِيلِ، جازَ؛ لأنَّ آلاتِ العَمَلِ تكونُ مِن المُسْتَأْجِرِ، كاللَّبِنِ في البِناءِ والطِّينِ والآجُرِّ ونحوها. وإن شَرَطَه على الكَحّالِ، جازَ. وقال القاضي: يَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ؛ لأنَّ الأعْيانَ لا تُمْلَكُ بعَقْدِ الإِجارَةِ، فلا يَصِحُّ اشْتِراطُه على العامِلِ، كَلَبِنِ الحائِطِ. ولَنا، أنَّ العادَةَ جارِيَةٌ به، ويَشُقُّ على العَلِيلِ (4) تَحْصِيلُه، وقد
(1) بعده في م: «على» .
(2)
في: المغني 8/ 120.
(3)
في م: «لكى» .
(4)
في م: «العامل» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَعْجِزُ عنه بالكُلِّيَّةِ، فجازَ ذلك، كالصِّبْغِ مِن الصَّبّاغِ، والحِبْرِ والأقْلامِ مِن الوَرّاقِ. وما ذَكَرَه يَنتَقِضُ بهذَينِ الأصْلَينِ. وفارَقَ لَبِنَ الحائِطِ؛ لأنَّ العادَةَ تَحْصِيلُ المُسْتَأْجِرِ إيّاه، ولا يَشُقُّ ذلك، بخِلافِ مَسْألَتِنا. وقال أصحابُ مالكٍ: يجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ مَن يَبْنِي له جِدارًا والآجُرُّ مِن عندِه؛ لأنَّه اشْتَرَى ما يُتِمُّ به الصَّنْعَةَ التي عَقَد عليها، فإذا كان مَعْرُوفًا، جازَ، كما لو اسْتَأْجَرَه لِيَصْبُغَ له ثَوْبًا والصِّبْغُ مِن عندِه. ولَنا، أنَّ عَقْدَ الإِجارَةِ عَقْدٌ على المَنْفَعَةِ، فإذا شَرَط بَيعَ العَينِ، صار كبَيعَتَين في بَيعةٍ. ويُفارِقُ الصِّبْغَ، مِن حيثُ إنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إليه؛ لأنَّ تَحْصِيلَ الصِّبْغِ يَشُقُّ على صاحِبِ الثَّوْبِ، وقد يكونُ الصِّبْغُ لا يَحْصُلُ إلَّا في حببٍ (1) يَحْتاجُ إلى مُؤْنةٍ كَثِيرةٍ، لا يَحْتاجُ إليها في صَبْغِ هذا الثَّوْبِ، فجازَ؛ لِمَسِيسِ الحاجَةِ إليه، بخِلافِ مَسْألَتِنا.
فصل: فإنِ اسْتَأْجَرَه مُدَّةً، فكَحَلَه فيها، فلم تَبْرَأْ عَينُه، اسْتَحَقَّ الأجْرَ. وبه قال الجماعةُ. وحُكِيَ عن مالكٍ، أنَّه لا يَسْتَحِقُّ أجْرًا حتى تَبْرَأَ عَينُه. ولم يَحْكِ ذلك أصحابُه، وهو فاسِدٌ؛ لأنَّ المُسْتَأْجِرَ قد وَفَّى
(1) في تش، م:«خنب» . وفي الأصل غير منقوطة.
والحُبُّ: الجرة صغيرة كانت أو كبيرة، فارسي معرب. تاج العروس (ح ب ب).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
العَمَلَ الذي وَقَع العَقْدُ عليه، فوَجَبَ له الأجْرُ وإن لم يَحْصُلِ الغَرَضُ، كما لو اسْتَأْجَرَه لبِناءِ حائِطٍ يَوْمًا، أو لخِيَاطةِ قَمِيصٍ، فلم يُتِمَّه فيه. فإن بَرِئَتْ عَينُه في أثْناءِ المُدَّةِ، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ فيما بَقِيَ مِنَ المُدَّةِ؛ لتَعَذُّرِ العَمَلِ، فهو كما لو حَجَز عنه أمْرٌ غالِبٌ، وكذلك لو ماتَ. فإنِ امْتَنَعَ عن الاكْتِحالِ مع بَقاءِ المَرَضِ، اسْتَحَقَّ الكَحّالُ الأجْرَ بمُضِيِّ المُدَّةِ، كما لو اسْتَأْجَرَه يومًا للبِناءِ فلم يَسْتَعْمِلْه فيه. فأمَّا إن شارَطَه على البُرْءِ، فهي جَعالةٌ لا يَسْتَحِقُّ شيئًا حتى يُوجَدَ البُرْءُ، سواءٌ وُجِدَ قَرِيبًا أو بَعِيدًا، فإن بَرِئَ بغيرِ كَحْلِه أو تَعَذَّرَ الكَحْلُ لمَوْتِه أو غيرِ ذلك مِن المَوانِعِ التي مِن جِهَةِ المُسْتَأْجِرِ، فله أجْرُ مِثْلِه، كما لو عَمِلَ العامِلُ في الجَعالةِ ثمَّ فَسَخ العَقْدَ. فإنِ امْتَنَعَ لأمرٍ مِنْ جِهَةِ الكَحّالِ أو غيرِ المُسْتَأْجِرِ، فلا شيءَ له. وإن فَسَخ الجاعِلُ الجَعالةَ بعدَ عَمَلِ الكَحّالِ، فعليه أجْرُ عَمَلِه، وإن فَسَخ الكَحّالُ، فلا شيءَ له، على ما يُذْكَرُ في بابِ الجَعالةِ، إن شاءَ اللهُ تعالى.
فصل: ويَصِحُّ أن يَسْتَأْجِرَ طَبِيبًا لِمُداواتِه. والكلامُ فيه كالكَلامِ في الكَحّالِ سواءً، [إلَّا أنَّه](1) لا يجوزُ اشْتِراطُ الدَّواءِ على الطَّبِيبِ؛ لأنَّه إنَّما جازَ في الكَحّالِ على خِلافِ الأصْلِ؛ للحاجَةِ إليه، وجَرْي العادَةِ به، ولم يُوجَدْ ذلك المَعْنَى (2) ههُنا، فيَثْبُتُ الحُكْمُ فيه على وَفْقِ الأصْلِ.
(1) في م: «لأنه» .
(2)
في م: «المنع» .
فَصْلٌ: وَلِلْمُسْتَأْجِرِ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِنَفْسِهِ وَبِمِثْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ بِمَنْ هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا مِنْهُ، وَلَا بِمَنْ يُخَالِفُ ضَرَرُهُ ضَرَرَهُ.
ــ
فصل: ويجوزُ أن يَسْتَأْجِرَ مَن يَقْلَعُ ضِرْسَه؛ لأنَّها مَنْفَعةٌ مُباحَةٌ مَقْصُودَةٌ، فجاز ذلك عليها، كالخِتانِ. فإنْ أخْطَأَ فقَلَعَ غيرَ ما أُمِرَ بقَلْعِه، ضَمِنَه؛ لأنَّه مِن جِنايَتِه. وإن بَرَأ الضِّرْسُ قبلَ قَلْعِه، انْفَسَخَتِ الإِجارَةُ؛ لأنَّ قَلْعَه لا يجوزُ. وإن لم يَبْرَأْ، لكنِ امْتَنَعَ المُسْتَأْجِرُ مِن قَلْعِه، لم يُجْبَرْ عليه؛ لأنَّ إتْلافَ جُزْءِ الآدَمِيِّ مُحَرَّمٌ في الأصْلِ، وإنَّما أُبِيحَ إذا صار بقَاؤُه ضَرَرًا، وذلك مُفَوَّضٌ إلى كلِّ إنْسانٍ في نَفْسِه إذا كان أهْلًا لذلك، فصاحِبُ الضِّرْسِ أعْلَمُ بمَضَرَّتِه ونَفْعِه وقَدْرِ ألَمِه.
فصل: قال، رضي الله عنه:(وللمُسْتَأْجِرِ اسْتِيفاءُ المَنْفَعَةِ بنَفْسِه وبِمثْلِه، [ولا يجوزُ بِمَن هو أكْثَرُ ضَرَرًا منه، ولا بِمَن يُخالِفُ ضَرَرُه ضَرَرَه) كلُّ مَن اسْتَأْجَرَ عَينًا لمَنْفَعَتِها فله أن يَسْتَوْفِيَ المَنْفَعَةَ بنَفْسِه وبِمثْلِه] (1). فإذا اكْتَرَى دارًا للسُّكْنَى فله أن يُسْكِنَها مثلَه؛ لأنَّه لم يَزِدْ على اسْتِيفاءِ حَقِّه، ولأنَّه حَقُّه، فجازَ أن يَسْتَوْفِيَه بنَفْسِه وبِوَكِيلِه إذا كان مِثْلَه
(1) سقط من: م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في الضَّرَرِ أو دُونَه، كقَبْضِ المَبِيعِ، واسْتِيفاءِ الدَّينِ. ويَضَعُ فيه ما جَرَتْ عادَةُ السّاكِنِ به مِن الرَّحْلِ والطَّعامِ، ويَخْزُنُ فيها الثِّيابَ وغيرَها ممَّا لا يَضُرُّ بها. ولا يُسْكِنُها مَن يَضُرُّ بها كالقَصّارِينَ والحَدّادِينَ، ولا يَجْعَلُ فيها الدَّوابَّ؛ لأنَّها تَرُوثُ فيها وتُفْسِدُها، ولا يَجْعَلُ فيها السِّرْجِينَ ولا رَحىً، ولا ما يَضُرُّ بها، ولا شيئًا ثَقِيلًا فوقَ سَقْفٍ؛ لأنَّه يُثْقِلُه، وقد يَكْسِرُ خَشَبَه، فإن شَرَط ذلك، جازَ. وبه قال الشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأْي. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالِفًا. ولا يَمْلِكُ فِعْلَ ما يَضُرُّ بها؛ لأنَّه فوقَ المَعْقُودِ عليه، فلم يَكُنْ له فِعْلُه، كما لو اشْتَرَى شيئًا لم يَمْلِكْ أخْذَ أكْثَرَ منه، فإن جَعَل الدّارَ مَخْزَنًا للطَّعامِ، فقال أصحابُنا: يجوزُ ذلك؛ لأنَّه يجوزُ أن يَجْعَلَها مَخْزَنًا لغيرِه، ويَحْتَمِلُ أن لا يجوزَ؛ لأنَّه يُفْضِي إلى تَخْرِيقِ الفأرِ أرْضَها وحِيطانَها، وذلك ضَرَرٌ لا يَرْضَى به صاحِبُ الدّارِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وإنِ اكْتَرَى ظَهْرًا لِيَرْكَبَه، فله أن يُرْكِبَه مِثْلَه ومَن هو أخَفُّ منه، ولا يُرْكِبُه مَن هو أثْقَلُ منه؛ لأنَّ العَقْدَ اقْتَضَى اسْتِيفاءَ مَنْفَعَةٍ مُقَدَّرةٍ بذلك الرّاكِبِ، فكان له أن يَسْتَوْفِيَ ذلك بنَفْسِه ونائِبِه، وله اسْتِيفاءُ أقَلَّ منه؛ لأنَّه بعضُ حَقِّه، وليس له اسْتِيفاءُ أكْثَرَ منه؛ لأنَّه أكْثَرُ ممّا عَقَدَ عليه. ولا يُشْتَرَطُ التَّساوي في الطُّولِ والقِصَرِ، ولا المَعْرِفةِ بالرُّكُوبِ. وقال القاضي: يُشْتَرطُ أن يكونَ مِثْلَه في هذه الأوْصافِ كلِّها؛ لأنَّ قِلَّةَ المَعْرِفةِ بالرُّكُوبِ يُثْقِلُ على المَرْكُوبِ ويَضُرُّ به. قال الشاعر:
لم يَرْكَبُوا الخَيلَ إلَّا بَعْدَما كَبِرُوا
…
فَهُمْ ثِقالٌ عَلَى أكْفالِهَا عُنُفُ (1)
ولَنا، أنَّ التَّفاوُتَ في هذه الأُمُورِ مع التَّساويِ في الثِّقَلِ يَسِيرٌ، فَعُفِيَ عنه، ولهذا لا يُشْتَرَطُ ذِكْرُه في الإِجارَةِ، ولو اعْتُبِرَ ذلك لاشْتُرِطَتْ مَعْرِفَتُه في الإِجارَةِ، كالثِّقَلِ والخِفَّةِ.
فصل: فإن شَرَط أن لا يَسْتَوْفِيَ المَنْفَعَةَ بمِثْلِه ولا بمَن دُونَه، فقِياسُ قولِ أصحابِنا صِحَّةُ العَقْدِ وبُطْلانُ الشَّرْطِ، فإنَّهم قالُوا في مَن شَرَط أن يَزْرَعَ في الأرْضِ حِنْطَةً ولا يَزْرَعَ غيرَها: يَبْطُلُ الشَّرْطُ ويَصِحُّ العَقْدُ. ويَحْتَمِلُ أن يَصِحَّ الشَّرْطُ. وهو أحَدُ الوَجْهَين للشّافِعيَّةِ؛ لأنَّ
(1) البيت من شواهد لسان العرب، والتاج (ع ن ف).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المُسْتَأْجِرَ يَمْلِكُ المَنافِعَ مِن جِهَةِ المُؤْجِرِ، فلا يَمْلِكُ ما لم يَرْضَ به، ولأنَّه قد يكونُ له غَرَضٌ في تَخْصِيصِه باسْتِيفاءِ هذه المَنْفَعَةِ. وقالوا في الوَجْهِ الآخَرِ: يَبْطُلُ الشَّرْطُ؛ لأنَّه يُنَافِي مُوجِبَ العَقْدِ، إذ مُوجِبُه مِلْكُ المَنْفَعَةِ والتَّسْلِيطُ على اسْتِيفائِها بنَفْسِه ونائِبِه، واسْتِيفاءُ بعضِها بنَفْسِه وبعضِها بنائِبِه، والشَّرْطُ يُنافِي ذلك، فكان باطِلًا. ولا يَبْطُلُ به العَقْدُ في أصَحِّ الوَجْهَين؛ لأنَّه لا يُؤَثِّرُ في حَقِّ المُؤْجِرِ نَفْعًا ولا ضَرًّا، فأُلْغِي، وبَطَل العَقْدُ على مُقْتَضاه. والآخَرُ يُبْطِلُه؛ لأنَّه يُنافِي مُقْتَضاه، أشْبَهَ ما لو شَرَط أن لا يَسْتَوْفِيَ المَنافِعَ.