المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعريف العقيدة، وأهميتها، والمناهج في إثباتها - أصول الدعوة وطرقها ٤ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الدعوة وصلتها بالحياة وأثر الإسلام في الاجتماع

- ‌الأَحْوَالُ السياسيةُ قَبْلَ الإسْلامِ

- ‌أَبْرَزُ المَعالِمِ السياسيةِ الداخليَّةِ والخارجيةِ للدَّولةِ الإسلامِيةِ

- ‌خَصَائِصُ النِّظامِ السياسيِّ في الإسْلامِ

- ‌نِظامُ المجتمَعِ في الإسلامِ

- ‌خَصائِصُ النِّظامِ الاجتماعيِّ في الإسلامِ

- ‌وُجُوبُ الاجتماعِ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، ونبذُ الاختلافِ والفُرْقَةِ

- ‌الدرس: 2 أثر الإسلام على الاقتصاد وكون الإسلام عقيدة وشريعة

- ‌تعريف الاقتصاد وأساسه

- ‌خصائص النظام الاقتصادي

- ‌دور الاقتصاد الإسلامي بالنسبة للعالم الإسلامي

- ‌تعريف العقيدة، وأهميتها، والمناهج في إثباتها

- ‌معنى الشريعة والأسس التي بنيت عليها

- ‌التشريع حق لله وحده دون سواه

- ‌الدرس: 3 إلمامة بأركان الإيمان

- ‌مذهب السلف في الإيمان مع ذكر أركانه

- ‌الركن الأول من أركان الإيمان؛ الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني من أركان الإيمان؛ الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث من أركان الإيمان؛ الإيمان بالكتب

- ‌الركن الرابع من أركان الإيمان؛ الإيمان بالرسل عليهم السلام

- ‌الركن الخامس من أركان الإيمان؛ الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس من أركان الإيمان؛ الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 إلمامة تحليلية بأركان الإسلام

- ‌تعريف الإسلام، وذكر أركانه، وما يتعلق به

- ‌الركن الأول من أركان الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌شهادة أن محمدًا رسول الله

- ‌الركن الثاني من أركان الإسلام؛ الصلاة

- ‌الركن الثالث من أركان الإسلام؛ الزكاة

- ‌الركن الرابع من أركان الإسلام؛ الصيام

- ‌الركن الخامس من أركان الإسلام؛ الحج

- ‌أثر الإيمان والعقيدة في تكوين الفرد والمجتمع

- ‌الدرس: 5 الإعجاز في القرآن الكريم طريق من طرق أصول الدعوة

- ‌المعجزة في زمانها ومكانها

- ‌المعجزة الخالدة القرآن الكريم

- ‌الدرس: 6 موقف الإسلام من العلم الكوني، والدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌العلاقة بين الإسلام والعلم

- ‌الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

- ‌الدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌الدرس: 7 المسجد والمدرسة ودورهما في الدعوة

- ‌المسجد، ورسالته بين المسلمين

- ‌دور المسجد في المجتمع المسلم

- ‌بعض وظائف المسجد

- ‌دعوة الطلاب إلى الله في المدارس والجامعات:

- ‌الدعوة إلى الله بين المدرسين، وأساتذة الجامعات

- ‌دور المدرسة في تحقيق أهداف التربية الإسلامية

- ‌الدرس: 8 أهم ميادين الدعوة والإعلام الإسلامي

- ‌مقدمات في الإعلام

- ‌الأجهزة الإعلامية الإسلامية المتخصصة

- ‌الإسلام في مواجهة الإعلام الكاذب

- ‌الدعوة إلى الله في التجمعات الإسلامية والمناسبات المختلفة

- ‌الدرس: 9 الجهاد في سبيل الله تعالى

- ‌تعريف الجهاد وذكر أنواعه

- ‌مشروعية الجهاد وسببه ومراحله وفضله

- ‌فضل الجهاد، وثمراته

- ‌مسائل هامة تتعلق بالجهاد في سبيل الله

- ‌الدرس: 10 بعض مواقف الخلفاء الراشدين والصحابة وأثرها في الدعوة

- ‌أبو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه

- ‌حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

- ‌الدرس: 11 دراسة بعض الدعوات ومناهجها في الدعوة

- ‌ جماعة أهل الحديث بالهند

- ‌جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌تابع الحديث عن جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌نشأة جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان والبلاد الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 12 تابع دراسة بعض الدعوات ومناهجها

- ‌حركة " الإخوان المسلمون

- ‌الحزب الإسلامي الكردستاني

- ‌الدرس: 13 ترجمتا الخليفة عمر بن عبد العزيز والإمام أحمد بن حنبل

- ‌سِيرَةُ الإمام عمر بن عبد العزيز الذاتية

- ‌في سيرة عمر بن عبد العزيز العلمية، وولايته

- ‌سيرة الإمام أحمد الذاتية

- ‌عقيدة الإمام أحمد ومحنته

- ‌الدرس: 14 ترجمتا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سيرته

- ‌منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌تابع منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌ترجمة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سِيرُتُه الذَّاتِيَّةِ

- ‌مُؤلفَاتُ الشيخِ، وعقيدتُه، وأثرُ دعوتِهِ في العَالَمِ الإسلَامِيِّ

الفصل: ‌تعريف العقيدة، وأهميتها، والمناهج في إثباتها

بعد ما ذكرت دور الاقتصاد الإسلامي بالنسبة للعالم الإسلامي وأهميته، أذكر هنا أيضًا أهمية -أو دور- الاقتصاد الإسلامي بالنسبة للعالم أجمع، وقد أشرت إلى أن العالم الإسلامي يتجاذبه في ذلك اتجاهان؛ الاتجاه الرأسمالي والاتجاه الاشتراكي، ولكلٍ منهما مساوئ، وقد أشرت إلى ذلك قبل قليل، وقد أوضحت فيما مضى أن للإسلام اتجاهًا خاصًّا، وأن له سياسة اقتصادية متميزة، وهي سياسة تجمع بين المصلحتين؛ الخاصة والعامة، وكلاهما لديه أصل.

فهي لا تهدر المصلحة العامة شأن النظم الاقتصادية أو الجماعية، وإنما هي منذ البداية تعتد بالمصلحتين على درجةٍ واحدة، وتحاول دومًا التوفيق بينهما، وهي سياسة تجمع بين المصلحة المادية والحياة الروحية؛ وإذا كانت السياسة الاقتصادية الإسلامية على هذا النحو توفقُ بين كافة المصالح المتعارضة بما يحقق الصالح العام، وَتُقَدِّمُ الحل العملي للمشكلة الاقتصادية، وبالتالي لمشكلة الحرب والسلام؛ فإنه لمن الخير للبشرية كلها أن تأخذ بالإسلام، وأن تعرف دوره في ذلك، وأنه هو الوحيد الذي يلبي لها احتياجاتها، وهو الوحيد الذي يسهم في الاقتصاد وفي حل مشاكل العالم الاقتصاديَّة، ومن هنا تبرز أهمية الاقتصاد الإسلامي ودوره بالنسبة للعالم أجمع.

ولذلك نحن ننادي من خلال ما جاءنا من عند الله عز وجل العالم كله أن يأخذوا بهذه الأنظمة والتشريعات التي جاءت من عند الله عز وجل إن أردوا رفعةً ونشاطًا وحيوية وعزة وكرامةً في هذه الحياة الدنيا، قبل أن يلقوا رب العزة والجلال سبحانه وتعالى.

وأكتفي بهذا، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

2 -

الإسلام عقيدة وشريعة

‌تعريف العقيدة، وأهميتها، والمناهج في إثباتها

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وبعد:

ألتقي بكم -أيها المستمعون الكرام- في المحاضرة الرابعة، وهي بعنوان "الإسلام عقيدة وشريعة" وهذه المحاضرة تشتمل على عدة عناصر:

العنصر الأول: تعريف العقيدة وأهميتها والمناهج في إثباتها: ويشتمل على النقاط التالية:

أ- تعريف العقيدة لغة واصطلاحًا:

العقيدة في اللغة: مأخوذة من مادة "عَقَد"، أعني: من الفعل "عَقَدَ" وهذا الفعل مداره في اللغة على اللزوم والتأكد والاستيثاق، قال تعالى في القرآن الكريم:{لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} (المائدة: من الآية: 89) وتعقيد الأيمان إنما يكون بقصد القلب وعزمه -بخلاف لغو اليمين التي تجري على اللسان بدون قصد- والعقود هي أوثق العهود، ومنها قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: من الآية: 1) وهذا في الحقيقة يبرز شيئًا من مكانة العقيدة، حينما تؤخذ من هذه المادة، ألا وهو "عَقَدَ" الدالة على اللزوم والتأكد والاستيثاق، ومعنى هذا أنها عقيدة يجب أن تكون ملازمة للإنسان، مستوثقًا منها، وأن يكون قائمًا عليها، قامت في قلبه بيقينٍ واستيثاقٍ وتأكيد.

تعريف العقيدة في الاصطلاح: العقيدة في الاصطلاح: هي الأمور التي تُصَدِّقُ بِهَا النفوس، وتطمئن إليها القلوب، وتكون يقينًا عند أصحابها، لا يمازجها ريب، ولا يخالطها شك، وأصول عقائد الدين التي جاءت من عند الله تبارك وتعالى حددها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:((الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى)).

ص: 60

أنتقل بعد ذلك إلى النقطة التالية في هذا العنصر: وهي: ب- بعنوان "أهمية العقيدة":

لا شك أن العقيدة لها أهمية عظيمة في حياة الإنسان؛ بل في حياة البشرية جمعاء، ويدلنا على ذلك أمور كثيرة، يمكننا أن نوجزها في النقاط التالية:

العقائد: هي الركائز والأسس التي تقوم عليها المبادئ والشرائع، فالبشر أسرى المعتقدات والأفكار؛ فالذين يعتقدون أن الله هو ربهم ومعبودهم، وأن مصيرهم إليه، وأن الدنيا معبر وطريق، يقيمون حياتهم وفق شريعة الله؛ بحيث تهيمن هذه الشريعة على تصرفاتهم وأعمالهم، والذين كفروا بالله، وقالوا بأزلية المادة، أقاموا حياتهم وِفْقَ مُعْتَقَدَاتِهِم، وعملوا لهذه الحياة، وقد قال الله عنهم:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَاّ الدَّهْرُ} .

والذين أَلَّهُوا الأبقار، فَضَّلُوهَا عَلَى آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَقَدَّمُوا لَهَا الْقَرَابِينَ وَالنذور، وَحَرَّمُوا ذبحها، وأهلكوا أنفسهم في سبيل تقديسها، وقل مثل ذلك في الذين عَبَدُوا النيران والأشجار والأحجار والشمس والقمر، والعقائد في الحقيقة تظهر أهميتها في أنها تستولي على أنفس أصحابها، وتدفعهم لبذل أموالهم وأنفسهم في سبيل تحقيق ما يعتقدونه، وهم راضون مطمئنون، وهذا يفسر لنا السر في انْتِصَارِ أَصْحَابِ الْعَقَائِدِ، وَعَدَمِ تَنَازُلِهِمْ عَنْ مَبْدَئِهِمْ، على الرغم من الآلام والمصائب التي تعترض طريقهم، وَضَلَالُ الْإِنْسَانِ في معتقده يجر عليه البلاء، ويضل عمله وسعيه، واعتبر في هذا بالذين قدسوا الأصنام؛ كيف أهانوا أنفسهم؟ وكيف ضيعوا أموالهم؟ وكيف سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ عندما حاربهم المسلمون؟ وعندما يقومون لمحاربة دين الله تبارك وتعالى فيخسرون بذلك أنفسهم وأهليهم، وفي النهاية يخلدون في النار وبئس المصير.

وأعظم خلافٍ حصل على مدار التاريخ: هو الاختلاف حول قضايا الاعتقاد، ولذلك كانت أعظم مهمات الرسل تصحيح عقائد البشر الزائفة؛ لأن الناس قد عبدوا على مدار التاريخ الأصنام والأوثان والقبور، والله عز وجل أرسل الأنبياء والمرسلين؛ كَيْ يَرُدُّوا النَّاسَ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمْ الْحَقّ؛ فَنُوح عليه السلام نَهَى قومه

ص: 61

عن عبادة الأصنام والأوثان فلم يستجيبوا: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 23)، وإبراهيم عليه السلام قال لقومه -مناقشًا إياهم فيما يعبدون-:{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء: 72 - 74) وقال القرآن للعرب -منكرًا عليهم-: {أَفَرَأَيْتُمْ اللَاّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (النجم: 19 - 22)، ونسب الضَّالُّونَ الولد إلى الله:{وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: من الآية: 30) والنصاري زعموا في عيسى ما زعموه: {وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: من الآية: 30).

ولقد ذكر الله عز وجل معتقدهم الآثم في أكثر من آية من كتابه، والعرب زعموا أن الملائكة إناث:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (الزخرف: من الآية: 19) وذلك ولا شك إفك كبير: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} (الصافات: 149 - 156).

واختلف البشر في صفات ربهم، وَنَسَبُوا إِلَيْهِ الْقَبَائِحَ، فَالْيَهُودُ -عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ تَتْرَى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ- قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيام، وتَعِبَ في اليوم السابع واستراح، فأكذبهم الحق في مقالتهم أنه تعب وقال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (ق: 38) ومن افتراءاتهم على الله قولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} (المائدة: من الآية: 64) وهذه الخلافات العقائدية تسبب اختلافًا بين الأمم، بل بين أبناء الأمة الواحدة؛ فيتعادون، ويتباغضون، ثم يتقاتلون، ويتناحرون، وما خبر الحروب الدينية التي

ص: 62

قامت بين النصارى عنا ببعيد، وقد أهلكت الحرث والنسل، وصدق الله إذ يقول:{وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (المائدة: من الآية: 14).

أما العقيدة الصافية المستقيمة: فإنها تجلب المودة والمحبة بين البشر؛ قال سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: من الآية: 103) والعقيدة التي جاء بها الرسل ضرورية للبشر ضرورة الماء والهواء؛ لَأَنَّهَا تُحَرِّرُ الْعَقْلَ مِنَ الْخُرَافَةِ، وَتُفَسِّرُ لِلْإِنْسَانِ لُغْزَ الْحَيَاةِ، وَتَدُلُّه على مصدر وجوده، ومصدر وجود الكون، كَمَا تُعَرِّفُهُ العلاقة التي بينه وبين الله، وبينه وبين الكون وتحدثه عن العوالم الأخرى التي هي من عالم الغيب، وَتُبَصِّرُهُ بِمَصِيرِهِ بَعْدَ الْحَيَاةِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِجَابَةِ الشَّافِيَةَ عن هذه القضايا؛ فإنه سيبقى متعبًا قلقًا حائرًا.

والذي ينظر في حال الفلاسفة والمفكرين الذين لم يهتدوا بهدي الله سيشعر بمدى التعب النفسي والإرهاق الفكري الذي عانى منه هؤلاء الرجال جميعًا، وبالتالي فالعقيدة الإسلامية مهمة في حياة الإنسان؛ بها يصلح الإنسان، وتصلح حياته، وتصلح، وتستقيم نظرته في هذه الحياة الدنيا، فيعبد ربًّا واحدًا، ويتوجه إلى إلهٍ واحد، ويعرف أنه خُلِقَ لغاية كريمة، وأن مراده ونهايته إلى رب العزة والجلال -سبحانه- فلا يعيش إلا لله، ولا يصرف همه إلا في مرضاة الله تبارك وتعالى.

النقطة الثالثة تحت هذا العنصر بعنوان "المناهج في إثبات العقائد": هناك منهجان لمعرفة قضايا الاعتقاد، وانْتَبِهُوا غَايَةَ الانْتِبَاهِ لهذا، الأول: منهج الرسل، وَهَذَا الْمَنْهَجُ يَقِفُ الْعَقْلُ الْإِنْسَانِيُّ فِيهِ عِنْدَ حَدِّ التَّصْدِيقِ بِاللَّهِ تبارك وتعالى ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَلَقَّى عَنِ اللَّهِ عَقِيدَتَهُ فِي اللَّهِ وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر.

ص: 63

والعقل الإنساني هنا يتدبر وحي الله ويفقهه، ولا يخوض في هذه القضايا بعيدًا عما أوحى الله إليه، وعلى المسلم في هذه الحال أن يتأكد من صدق نسبة النصوص إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لَأَنّ هذه النصوص -إن كانت صادقة- وجب عليه أن يترك رأيه وهواه، وَيُحَكِّمُ مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ، وهذا المنهج يمكن أن نطلق عليه "المنهج الإيماني القرآني النبوي"، وعمدة هذا المنهج: الأخذ بنصوص الكتاب وصحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسائل الاعتقاد.

المنهج الثاني: منهج الفلاسفة الذين رفضوا الاحتكام إلى الشرع، وأصروا على أن يضربوا في بَيْدَاءَ شَاسِعَةٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، لَقَدْ غَفَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخُوضَ فِي هَذِهِ الْمَيَادِينِ بنفسه؛ لأنها قضايا غيبية، لا تدخل في نطاق قدرات العقول البشرية.

ولذلك فإن الفلاسفة كانوا أعدى أعداء الرسل، وَقَدْ تَأَثَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ بِهُؤَلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ، فاحتكموا إلى الموازين والمقاييس العقلية التي أخذوها من أولئك الْفَلَاسَفَةِ، وَعَارَضُوا بِهَا الشَّرْعَ، وَحَكَّمُوهَا فِي الشَّرْعِ، وردوا بها كثيرًا من الأحكام الشرعية بحجة: أن الأدلة العقلية يقينية، والأدلة الشرعية كثير منها ظنيّ الثبوت، ظني الدلالة، أو ظني الثبوت، وإن كان قطعيَّ الدلالة، أو ظني الدلالة وإن كان قطعي الثبوت.

فَرَدَّ هَؤُلَاءِ أَحَادِيثَ الْآحَادِ فِي الْعَقِيدَةِ، وَمُنْهُمْ مَنْ رَدَّهَا فِي الْعَقِيدَةِ وَالْأَحْكَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بنصوص الكتاب؛ لِكَوْنِهَا ظَنِّيَّةَ الدلالة، ويمكننا أن نسمي هذا المذهب "المذهب الفلسفية الكلامي"، وهذا فريق من الناس أكثر الناس اختلافًا وتناقضًا، وَقَدْ حَذَّرَ الْعُلَمَاءُ الْجَهَابِذَةُ مِنْ مَغَبَّة السَّيْرِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ، وَبَعْضُ سَالِكِيهِ تَرَاجَعَ عَنْه جزئيًّا أو كليًّا بعد أن عرفوا ما فيه من اعوجاج، والطريق الأول: طريق الرسل، وهو طريق سهل قصير مأمون العواقب.

ص: 64

أما هذا فإن سالكيه لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ إلا بعد أن يقتحموا لُجَّةَ البحر الخضم؛ فِمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الشَّكَ أولًا، ومنهم من أوجب النظر، أو القصد إلى النظر، ومنهم الذين نَادَوْا بتعلم الرياضيات، والطبيعيات، ومنهم من قال: نبدأ بالمنطق ثم الطبيعيات والرياضيات، وهي علوم لا يتقنها إلا الخاصة؛ فكيف يتيسر لعوام الناس تعلمها؟

إن الوحي عندنا أساس، والعلم السماوي هو نور العقل، والعلم السماوي يعرفنا بربنا وأنفسنا والكون من حولنا، ولسنا بحاجة إلى مقاييس الفلاسفة وموازين المتكلمين.

قيل لابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: كَيْفَ عَرَفْتَ ربك؟ قال: "عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي" وصدق والله؛ اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا.

وإذا كان العقل يستضيء بنور الوحي؛ فإن الوحي السماوي قد حَوَى الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الْبَاهِرَةَ، وَأَلْزَمَ الْعَقْلَ بِالنَّظَرِ فِي مَلَكُوت السَّمَوَاتِ والأرض، والتفكير في ذلك في قدرة العقل ومؤنته، وهذا التفكر يؤكد الإيمان ويقويه، كما قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 190 - 191).

أنتقل بعد ذلك إلى النقطة الرابعة وهي:

د- تحت هذا العنصر، وهي بعنوان:"ملاحظات مهمة في المسائل الاعتقادية":

طالما أنني أتحدث هنا عن العقيدة، وَأُبَيِّنُ أَنَّ الْإِسْلَامَ عَقِيدَةٌ وَشَرِيعَةٌ، لا بد أن أتحدث عن العقيدة هنا بشيءٍ من التفصيل؛ فبعد أن بَيَّنْتُ أن المنهج الصحيح الصواب في المسلك الذي يجب أن يَسْلُكَهُ الإنسان هو أن يلتزم بنصوص الكتاب والسنة، وهو مذهب الأنبياء والمرسلين، أود في هذه النقطة أيضًا أن أعطي بعض الملاحظات المهمة التي تتعلق بالمسائل الاعتقادية، وهذه الملاحظات هي كما يلي:

ص: 65

الأول: أنها عقيدة غيبية، وَلَيْسَتْ أُمُورًا مَحْسُوسَةٌ؛ فالله غيب، وكذلك الملائكة، واليوم الآخر، والقدر؛ أما الرسل والكتب فالإيمان بها إنما يكون بالتصديق بنسبتها إلى الله تعالى -أي: أن الله عز وجل أرسل الرسل، وأنزل الكتب- فهذا غيب، وهناك قضايا هامة أُلْحِقَتْ بِمَسَائِلِ الاعْتِقَاد، وبُحِثَتْ فِي كُتُبِ الْعَقِيدَةِ لِأَهَمِّيَّتِهَا، وأمور الإيمان بصورة عامة التي جاءت من عند الله تبارك وتعالى كلها أمور غيبية -أعني بذلك: مسائل الإيمان وأركان الإيمان- فالله غيب، والملائكة كذلك، والأنبياء، والمرسلون، واليوم الآخر، والقدر؛ خيره وشره، كل ذلك أركان الإيمان، وهي مسائل غيبية، وهي سمة من سمات هذا الدين.

الثاني من هذه الملاحظات: أن نعرف أن مصدر هذا الغيب هو الوحي السماوي الصادق؛ فالغيب مصدره من رب العزة والجلال سبحانه وتعالى ونحن إذا عَلِمْنَا شيئًا من الأمور المستقبلية، أو علم الله عز وجل بَعْضَ أَنْبِيَائِهِ شيئًا من ذلك، فإنما هذا من الله سبحانه وتعالى وحده، وعلم الغيب عند الله سبحانه وتعالى وحده دون سواه، قال جل ذكره:{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة: 1 - 3).

فالإيمان بالغيب أمارة من أمارات الإيمان، بل هي صفة من الصفات الجليلة للمؤمنين، وطالما أنهم يؤمنون بالغيب دَلَّ ذَلِكَ على أنهم لا يعلمونَهُ، ويصدقون به، وأن مصدره هو رَبُّ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ سبحانه وتعالى والإيمان بالغيب يقابله: عدم التصديق إلا بالمحسوس -كما هي نظرية الشيوعيين- وقد باء هؤلاء بالخسران لما لم يؤمنوا برب العزة والجلال سبحانه؛ لأنهم لا يشاهدونه، وهذا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ عُقُولِهِمْ وَفَسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ.

الْمُلَاحَظَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ هَذِهِ الْمُلَاحَظَاتِ: أَنَّ مَسَائِلَ الْعَقَائِدِ يَقِينٌ، وَلَا تَصِحُّ الْعَقِيدَةُ مَعَ الشَّكِّ؛ فالشك ينافي الاعتقاد الصحيح، قال الله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: من الآية: 15) وهذا في الحقيقة مدح لهذا الإيمان، مدح لهم؛ لأنهم

ص: 66

آمنوا دون ارتياب، آمنوا بيقين واعتقادٍ سليم، بخلاف حال الذين ذَمَّهُمُ اللَّهُ لِرَيْبِهِمْ وَشَكِّهِمْ، فقال عنهم:{وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} .

الملاحظة الرابعة: العقيدة في الإسلام وحدة متشابكة مترابطة؛ إذا هُدِمَ أصل من أصولها خرج صاحبها من دائرة الإسلام، فالذي يكفر باليوم الآخر أو الجنة أو النار، أو يُكَذِّبُ الرسلَ أو واحدًا منهم، أو يكذب بالملائكة أو بواحدٍ منهم، أو بشيء مما أخبر الله عز وجل به فهو كافر، وإن آمن بغيره، قال تعالى: -في الذين يكفرون ببعض أصول الاعتقاد-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا} (النساء: 150 - 151).

وقد ذَمَّ اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ لِكُفْرِهِمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَمُصْطَفَاهُ صلى الله عليه وآله وسلم وَفِي هَذَا يَقُولُ -جَلَّ ذكره-: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمَْ} (البقرة: من الآية: 91).

ومن هنا يظهر لنا خطأ إطلاق اسم الإيمان على الذين يؤمنون بوجود الله من الكفار، ولو لم يعبدوه ويوحدوه، ولو لم يؤمنوا بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ فالإيمان بوجود الله وحده لا يكفي، ولا يُطْلَقُ على العبد هذا الاسم إلا إذا أتى بجميع أركان الإيمان؛ فَإِذَا تَرَكَ بَعْضَهَا أَوْ أَنْكَرَ وَاحِدًا مِنْهَا فَقَدْ هَدَمَ بِذَلِكَ إِيمَانَهُ؛ لَأَنَّ الْأَمْرَ -كَمَا ذَكَرْتَ- بأن الإيمان وحدة متشابكة مترابطة.

الملاحظة الخامسة: الاعتقاد الجازم لا يكفي وحده، وانتبه -أيها المستمع الكريم- لهذه الملاحظة الدقيقة، الاعتقاد الجازم لا يكفي وحده، وذلك لأن فرعون جزم بأن الآيات التي جاء بها موسى من عند الله عز وجل هي من الله تبارك وتعالى ولقد ذكر الله ذلك عنه وعن قومه:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النمل: من الآية: 14).

ص: 67