المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المعجزة الخالدة القرآن الكريم - أصول الدعوة وطرقها ٤ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الدعوة وصلتها بالحياة وأثر الإسلام في الاجتماع

- ‌الأَحْوَالُ السياسيةُ قَبْلَ الإسْلامِ

- ‌أَبْرَزُ المَعالِمِ السياسيةِ الداخليَّةِ والخارجيةِ للدَّولةِ الإسلامِيةِ

- ‌خَصَائِصُ النِّظامِ السياسيِّ في الإسْلامِ

- ‌نِظامُ المجتمَعِ في الإسلامِ

- ‌خَصائِصُ النِّظامِ الاجتماعيِّ في الإسلامِ

- ‌وُجُوبُ الاجتماعِ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، ونبذُ الاختلافِ والفُرْقَةِ

- ‌الدرس: 2 أثر الإسلام على الاقتصاد وكون الإسلام عقيدة وشريعة

- ‌تعريف الاقتصاد وأساسه

- ‌خصائص النظام الاقتصادي

- ‌دور الاقتصاد الإسلامي بالنسبة للعالم الإسلامي

- ‌تعريف العقيدة، وأهميتها، والمناهج في إثباتها

- ‌معنى الشريعة والأسس التي بنيت عليها

- ‌التشريع حق لله وحده دون سواه

- ‌الدرس: 3 إلمامة بأركان الإيمان

- ‌مذهب السلف في الإيمان مع ذكر أركانه

- ‌الركن الأول من أركان الإيمان؛ الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني من أركان الإيمان؛ الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث من أركان الإيمان؛ الإيمان بالكتب

- ‌الركن الرابع من أركان الإيمان؛ الإيمان بالرسل عليهم السلام

- ‌الركن الخامس من أركان الإيمان؛ الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس من أركان الإيمان؛ الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 إلمامة تحليلية بأركان الإسلام

- ‌تعريف الإسلام، وذكر أركانه، وما يتعلق به

- ‌الركن الأول من أركان الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌شهادة أن محمدًا رسول الله

- ‌الركن الثاني من أركان الإسلام؛ الصلاة

- ‌الركن الثالث من أركان الإسلام؛ الزكاة

- ‌الركن الرابع من أركان الإسلام؛ الصيام

- ‌الركن الخامس من أركان الإسلام؛ الحج

- ‌أثر الإيمان والعقيدة في تكوين الفرد والمجتمع

- ‌الدرس: 5 الإعجاز في القرآن الكريم طريق من طرق أصول الدعوة

- ‌المعجزة في زمانها ومكانها

- ‌المعجزة الخالدة القرآن الكريم

- ‌الدرس: 6 موقف الإسلام من العلم الكوني، والدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌العلاقة بين الإسلام والعلم

- ‌الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

- ‌الدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌الدرس: 7 المسجد والمدرسة ودورهما في الدعوة

- ‌المسجد، ورسالته بين المسلمين

- ‌دور المسجد في المجتمع المسلم

- ‌بعض وظائف المسجد

- ‌دعوة الطلاب إلى الله في المدارس والجامعات:

- ‌الدعوة إلى الله بين المدرسين، وأساتذة الجامعات

- ‌دور المدرسة في تحقيق أهداف التربية الإسلامية

- ‌الدرس: 8 أهم ميادين الدعوة والإعلام الإسلامي

- ‌مقدمات في الإعلام

- ‌الأجهزة الإعلامية الإسلامية المتخصصة

- ‌الإسلام في مواجهة الإعلام الكاذب

- ‌الدعوة إلى الله في التجمعات الإسلامية والمناسبات المختلفة

- ‌الدرس: 9 الجهاد في سبيل الله تعالى

- ‌تعريف الجهاد وذكر أنواعه

- ‌مشروعية الجهاد وسببه ومراحله وفضله

- ‌فضل الجهاد، وثمراته

- ‌مسائل هامة تتعلق بالجهاد في سبيل الله

- ‌الدرس: 10 بعض مواقف الخلفاء الراشدين والصحابة وأثرها في الدعوة

- ‌أبو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه

- ‌حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

- ‌الدرس: 11 دراسة بعض الدعوات ومناهجها في الدعوة

- ‌ جماعة أهل الحديث بالهند

- ‌جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌تابع الحديث عن جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌نشأة جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان والبلاد الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 12 تابع دراسة بعض الدعوات ومناهجها

- ‌حركة " الإخوان المسلمون

- ‌الحزب الإسلامي الكردستاني

- ‌الدرس: 13 ترجمتا الخليفة عمر بن عبد العزيز والإمام أحمد بن حنبل

- ‌سِيرَةُ الإمام عمر بن عبد العزيز الذاتية

- ‌في سيرة عمر بن عبد العزيز العلمية، وولايته

- ‌سيرة الإمام أحمد الذاتية

- ‌عقيدة الإمام أحمد ومحنته

- ‌الدرس: 14 ترجمتا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سيرته

- ‌منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌تابع منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌ترجمة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سِيرُتُه الذَّاتِيَّةِ

- ‌مُؤلفَاتُ الشيخِ، وعقيدتُه، وأثرُ دعوتِهِ في العَالَمِ الإسلَامِيِّ

الفصل: ‌المعجزة الخالدة القرآن الكريم

الذين يؤمنون بالرسول وبالرسالة التي حملها دون أن يطالبوا بمعجزة تشهد لها وله؛ لأن الخير التي تحمله رسالات الرسل إلى أقوامهم خير شاهد على أنها حق، وأنها من عند الله ولكن لا يرى هذا الخير إلا ذوو القلوب السليمة والبصائر المنيرة، وهذا كل خير يسوقه الله إلى عباده، يقع من الناس كما يقع الغيث من الأرض، ينفع أقوامًا ويضر آخرين، وتحيا به الأرض على حين لا تُمسك منه أخرى قطرة واحدة، وبالتالي أقول: إن الناس اختلفوا في قبول معجزات الأنبياء بين مكذب ومصدق، وكان اليهود على رأس المكذبين بمعجزات الأنبياء والمرسلين، فكذبوا بما جاء به موسى عليه السلام وبما جاء به عيسى عليه السلام وبما جاء به نبي الهدى والرحمة محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه.

‌المعجزة الخالدة القرآن الكريم

أنتقل بعد ذلك إلى العنصر الثاني من عناصر هذا اللقاء، وهو بعنوان "المعجزة الخالدة: القرآن الكريم" ويشتمل على النقاط التالية:

أ- القرآن الكريم معجزة النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم لكل نبي آياته ومعجزاته التي يؤيد بها دعوى نبوته ورسالته؛ فما هي المعجزة أو المعجزات التي جاء بها خاتم الأنبياء وإمام المرسلين -سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاء بها لتقطع على الناس طريق الشك فيه وفيما يدعيه؟

لا شك عندنا في أن معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم العظيمة الباقية الخالدة هي القرآن الكريم، كما صرح بذلك القرآن نفسه في قوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 50، 51) فهذه الآية صريحة في قطع الكافرين عن البحث في آيات أخرى غير القرآن الكريم

ص: 193

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51).

وإن كان الله عز وجل قد أيد نبيه وحبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة أخرى إلا أن القرآن الكريم هو الرحمة والذكرى معًا، هو المعجزة وهو الشرعية ففي الشريعة يجدون الرحمة، وفي الآيات التي نزلت بهذه الشريعة يرون الذكرى والمعجزة لقوم يؤمنون، وكذلك يقول الله -تبارك تعالى- عن القرآن الكريم وموقف قريش منه-:{أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} (الشعراء: 197: 201).

تلك هي معجزة الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما نطق بها القرآن الكريم، ولذلك قال الإمام الباقلاني رحمه الله تبارك وتعالى: إن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بُنِيَتْ على هذه المعجزة القرآن الكريم وإن كان قد أيد صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك بمعجزات كثيرة إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة وأحوال خاصة وعلى أشخاص خاصة، ونُقِلَ بَعضها نقلًا متواترًا يقع العلم به وجودًا، وبعضها مما نُقِلَ خاصًّا -نُقِل نقلًا خاصًّا- إلا أنه حكي بمشهد من الجمع العظيم الذين شاهدوه؛ فلو كان الأمر على خلاف ما حكي لأنكروه أو لأنكره بعضهم، فحل محل المعنى الأول، وإن لم يتواتر أصل النقل فيه، وبعضها مما نُقل من جهة الآحاد، وكان وقوعه بين يدي الآحاد؛ فأما دلالة القرآن الكريم فهي معجزة أو عن معجزة عامة، عمت الثقلينِ، وبقيت بقاء العصرين، ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد، هكذا ذكر الإمام الباقلاني رحمه الله وأقول تعقيبًا على كلامه: إن المعجزات الأخرى الثابتة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا تؤيد صدقه سواء ثبتت بالتواتر أو الآحاد إذا صح الخبر بذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكلاهما -أعني: الخبر المتواتر والآحاد- يفيد العلم والعمل فإذا صح الخبر وجب قبوله ووجب العمل به أيضًا.

ص: 194

ويقول ابن خلدون رحمه الله تبارك وتعالى مبينًا أن معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي أعظم معجزة أتى بها عليه الصلاة والسلام يقول: واعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة "القرآن الكريم" المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي، ويأتي بالمعجزة شاهدة على صدقه، ويريد ابن خلدون بذلك أن يقول إن الرسول من الرسل كان يحمل إلى الناس أمرين؛ شريعة يوحى إليه بها يدعوهم إليها، ومعجزة تشهد له بأنه رسول من عند الله، وأنه صادق فيما يدعو إليه.

ثم يقول ابن خلدون: فالقرآن نفسه هو الوحي المدعى، وهو الخارق المعجز، فشاهده في عينه، ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي، فهو واضح الدلالة؛ لاتحاد الدليل والمدلول فيه، ومعنى هذا الذي يقوله ابن خلدون: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمل إلى الناس أمرًا واحدًا فقط هو الشريعة، وفي الشريعة نفسها المعجزة التي تشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصادق فيما يقول عن الله.

ثم يقول ابن خلدون: وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما من نبي من الأنبياء إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحي إلي، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)).

وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أشرت سابقًا -له- معجزات أخرى حسية كثيرة؛ كانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام، وهي معجزات عظيمة، ونحن نؤمن بالصحيح الثابت منها، ولكنها معجزات شاهدها الذين عاصروها، وبقي القرآن هو المعجزة الخالدة الأبدية؛ لأن القرآن الكريم آية فريدة بين آيات الرسل جميعًا؛ إذ هي آية باقية دائمة خالدة لا تزول بوفاة من نزلت عليه، كما هو الحال بالنسبة للرسل

ص: 195

السابقين، وهي آية تخاطب العقول والقلوب، كما تخاطب فطرة الإنسان عبر الزمان والمكان.

لقد كانت معجزته الوحي المتلوَّ ألا وهو القرآن الكريم، ولم يشأِ الحق تبارك وتعالى أن يجعل معجزة الرسالة الأخيرة حسية؛ تُذْهِلُ من يراها؛ فلو شاء لأنزل معجزة قاهرة تلوي أعناق الذين يشاهدونها، فلا يملكون معها جدالًا ولا انصرافًا عن الإيمان بها، قال تعالى:{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشعراء: 4).

لقد شاء الله تبارك وتعالى أن تكون الرسالة رسالة مفتوحة إلى الأمم كلها وإلى الأجيال كلها، وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان، فناسب أن تكون معجزاتها مفتوحة كذلك، للبعيد والقريب، لكل أمة ولكل جيل، والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها، ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى لا واقعًا يشاهد، أما معجزة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وبعد أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان لا تزال إلى اليوم كتابًا مفتوحًا ومنهجًا مرسومًا يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم لو هُدُوا إلى اتخاذه إمامًا، ويلبي حاجاتهم كاملة، ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل وأفق أعلى ومصير أمثل.

أنتقل بعد ذلك إلى النقطة التالية في هذا العنصر، وهي في بيان بعض جوانب الإعجاز في كتاب الله تبارك وتعالى القرآن الكريم معجز في كل جانب من جوانبه، وفي كل ناحية من نواحيه، فهو معجز في بناءه التعبيري في استقامته على خصائص واحدة في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصه، كما هي الحال في أعمال البشر؛ إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد المتغير الحالات، بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد

ص: 196

ثابت لا يتخلف، يدل على أن مصدره هو رب العزة والجلال سبحانه وتعالى وهو معجز أيضًا في بنائه وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة، بل كل توجيهاته تلتقي وتتماسك وتتكامل، وتحيط بالحياة البشرية وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهج الشامل الضخم مع جزئية أخرى، ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية، وكلها مشدودة إلى محور واحد في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه فطرة الإنسان المحدود، ولا بد أن يكون هناك علم شامل لا يتقيد بحدود الزمان والمكان، يدل على إعجاز هذا القرآن في بنائه وتناسق أجزائه.

وهو معجز أيضًا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس ولمس مفاتيحها وفتح مغاليقها واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها، وعلاج عقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين، وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة، وهو معجز في إخباره عن المغيبات التي وراء عالم الشهادة؛ كعالم الملائكة والجن واليوم الآخر، وما يكشف الإنسان عنه من تاريخ الإنسان، وما تأتي به الأحداث إلى اليوم يصدق ما جاء به النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يخط بالقلم ولم يقرأ من كتاب، فقد أخبر القرآن الكريم عن أخبار سبقت، كما أخبر عن أمور لاحقة، وقد عرف العالم اليوم وقبل اليوم، من خلال ما أخبر الحق تبارك وتعالى أنه كتاب حق صادق فيما جاء به، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا صادق فيما جاء به من عند الله تبارك وتعالى.

وأيضًا القرآن الكريم معجز فيما أخبر به من حقائق الكون التي لم يهتدِ الإنسان إلى معرفتها، ولم يكتشف بعض أسرارها إلا حديثًَا، وسأبين شيئًا من ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى في المحاضرة التالية، وهو أيضًا معجز في تشريعاته وأحكامه في شمولها وسموها وصلاحياتها للإنسان على مر العصور،

ص: 197

والله إن كتاب الله تبارك وتعالى بما جاء فيه من تشريعات ربانية وأحكام إلهية تشمل ما يحتاج الناس إليه في كل عصر ومصر، وتصلح حياتهم، لو تمسك الناس به وقاموا بما جاءهم به لوجدوا فيه الخير الكثير، ولأيقنوا أن القرآن حقًّا معجزة خالدة باقية؛ لأنه يلبي احتياجات كل عصر بما فيه من تشريعات أتت من عند الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.

ولهذا أقول وأكرر بأن القرآن الكريم هو المعجزة الكبيرة العظيمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا تحدى الله العرب بالقرآن الكريم؛ فقال لهم ربنا سبحانه وتعالى في كتابه: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 23، 24).

وهذه الآية أيضًا دليل على أن القرآن الكريم كتاب معجز، ذلك أن الله عز وجل تحدى العرب، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان، والقرآن الكريم من جنس الكلام الذي يتكلمون به أن يأتوا بمثل هذا القرآن، والتحدي قائم إلى يوم القيامة، ومع ذلك ما استطاع أحد من البشر، بل من الإنس أو الجن أن يأتي بشيء، حتى ولو كان من مثل كتاب الله تبارك وتعالى لأن الله قال لهم في الآية السابقة:{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (البقرة: 23) فهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يأتوا إذًا بشيء حتى يقارب كتاب الله تبارك وتعالى أو يشبه كتاب الله -جل ذكره- والله عز وجل قد كرر التحدي مرات ومرات؛ فما استطاعوا وما فعلوا ولن يفعلوا، كما قال لهم أيضًا سبحانه:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (هود: 13، 14).

ص: 198

فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلًا على أنه منه -أعني: من عند الله تبارك وتعالى ودليلًا أيضًا على وحدانيته، وفي هذا أمران؛ أحدهما: التحدي الإلهي، والآخر: أنهم لم يأتوا إليه بمثله، والذي يدل على ذلك العلم المتواتر الذي يقع به العلم الضروري، فلا ينكر جحود واحد من هذين الأمرين -أعني: تحدي الله عز وجل للعرب بالقرآن وأنهم لم يأتوا بشيء من مثل القرآن الكريم- فإذا ثبت هذا وجب أن يعلم بعده أن تركهم الإتيان بمثله كان لعجزهم عنه، والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن الكريم أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي، وجعله دلالة على صدقه ونبوته، فقد تضمنت أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم، وسبي ذريتهم، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا، وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه بأمر قريب هو عادتهم في لسانهم ومألوفٌ من خطابهم، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال وإكثار المراء والجدال، وعن الجلاء عن الأوطان وعن تسليم الأهل والذرية للسبي؛ فلما لم يحصل هناك معارضة منهم، عُلِم أنهم عاجزون عنها، ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره، وتكذيب قوله، وتفريق جمعه، وتشتيت أسبابه، وكان من صدق به يرجع على أعقابه، ويعود في مذهب أصحابه، فلما لم يفعلوا شيئًا من ذلك -مع طول المدة ووقوع الفسحة- وكان أمره يتزايد حالًا فحالًا، ويعلو شيئًا فشيئًا، وهم على العجز عن القدح في آياته والطعن في دلالته عاجزون، علم علمًا بينًا أنهم كانوا لا يقدرون على معارضته ولا على توهين حجته، وقد أخبر الله تبارك وتعالى أنهم قوم خصمون.

وقال: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} (مريم: 97) وعلم أيضًا أنهم ما كانوا يقولون من وجوه اعتراضهم على القرآن مما حكى الله عز وجل عنهم من قولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (الأنفال: 31) وقالوا أيضًا عن القرآن:

ص: 199

{مَا هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} (القصص: 36) وقالوا أيضًا: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر: 6) وقالوا أيضًا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفرقان: 4، 5) .... إلى آيات كثيرة نحو هذا، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمورهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور من تعليل وتعذير، وموافقة بما وقع التحدي إليه، وعرف الحث عليه، وهذا أيضًا من أكبر الأدلة على عجزهم، وأن القرآن الكريم كتاب الله حقًّا المعجز الباقي الخالد.

وقد عُلم أن العرب ناصبوا القرآن الحرب، وناصبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم العداء، وجاهروه ونابذوه وقطعوا الأرحام، وأخطروا بأنفسهم، وطالبوه بالآيات والإتيان بغير ذلك من المعجزات، يريدون تعجزيه؛ ليظهروا عليه بوجه من الوجوه؛ فكيف يجوز إذن أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم، وذلك يدحض حجته، ويفسد دلالته، ويبطل أمره، فيعدلون عن ذلك إلى ما ساروا إليه من الأمور التي ليس عليها مزيد في المنابذة والمعاداة؟ ويُترك الأمر الخفيف؟ هذا مما يمتنع وقوعه في العادات، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء، ويمكن أن يقال: إنهم لو كانوا قادرين على المعارضة والإتيان بمثل ما أتى به لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة، وهم ما هم عليه من السلاقة والمعرفة بوجوه الفصاحة، وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته، وأنهم يضعفون عن مجاراته، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقرِّعهم ويؤنبهم عليه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يطلب منهم كما أشرت وذكرت أن يعارضوه أو يأتوا بشيء من مثله، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.

وقد ذكر الله عز وجل عنهم فيما ذكر أنهم ما استطاعوا ولن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولو اجتمع على ذلك الإنس والجن، وهذا فيه تفخيم لكتاب الله تبارك وتعالى وإعلاء من شأن هذا الكتاب المعجز، تأملوا قول الحق تبارك وتعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88)

ص: 200

ولذلك أثنى الله عز وجل على كتابه، وبَيَّنَ أنه كتاب الحق والصدق، شرَّع فيه الشرائع، وبين فيه العقائد، وأخبر أنه نزل من عنده سبحانه وتعالى قال -جل ذكره-:{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل: 2).

ولقد حفظ الله كتابه من التغيير والتحريف والتبديل، وهذه منقبة عظيمة للقرآن الكريم، لم تنلها أي أمة من الأمم، فالكتب السابقة على القرآن الكريم حُرِّفت وغُيِّرت وبُدِّلَتْ، أما كتاب الله تبارك وتعالى فالأمر فيه ما قاله منزله سبحانه وتعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) وهو كتاب يشتمل على الذكر حقًّا، ولذلك أقول للمسلمين: عليكم بالاهتمام والعناية بكتاب الله تبارك وتعالى فهو والله، كتاب لم ينزل من عند رب العزة والجلال كتاب مثله بحال من الأحوال، فهو هدى للمتقين، وهو كتاب تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم، كما قال ربنا سبحانه:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23).

والله عز وجل قد أحكم آيات القرآن الكريم، وأشاد ربنا به في كتابه فقال:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1) وأخبر سبحانه وتعالى أنه من عنده -جل ذكره- وأنه لو كان من عند غير الله لوجد الناس فيه اختلافًا كثيرًا، أما القرآن فهو من عند الله تبارك وتعالى الحكيم الخبير ولذلك أحكم الله آياته فلا تجد فيه تناقضًا أو تعارضًا بحال من الأحوال، ولذلك أوجه القول في نهاية هذا اللقاء لعموم المسلمين، فأقول: عليكم بكتاب الله تبارك وتعالى الزموا كتاب الله عز وجل قراءة وتأملًا وتدبرًا وعملًا بأحكام الله تبارك وتعالى-

ص: 201

لأن القرآن الكريم فيه ما فيه من الخير العظيم الذي لو رجع إليه أهل الإيمان، وطبقوه كما نزل من عند الرحمن، لاعتلوا بذلك درجات في الدنيا والآخرة، وإن سلف هذه الأمة الصالح لما تمسك بكتاب الله تبارك وتعالى وساروا عليه، واقتفوا أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم دانت لهم الدنيا بأكملها، وإن أهل الإيمان اليوم لو سلكوا نفس الطريق، وتمسكوا بما كان عليه الصدر الأول لنالوا ما نال هؤلاء السابقين.

ونحن اليوم وقد حفظ لنا الله لنا كتابه، وقامت هيئات علمية كثيرة على طباعة كتاب الله عز وجل من أبرزها وأعلاها مجمع الملك فهد رحمه الله تبارك وتعالى لطباعة المصحف الشريف، هذا المجمع الذي يسر وصول المصحف، ويسر وصول كتاب الله تبارك وتعالى إلى بيوت المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فانتهزوا يا أمة الإسلام وجود كتاب ربكم بينكم، واعملوا بأحكامه، واتلوه آناء الليل وأطراف النهار، تنالون بذلك خيرًا عظيمًا، ولكم بذلك جنة عرضها كعرض السماء والأرض، والله عز وجل قد أعدها لعباده المتقين الذين يتمسكون بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

وأكتفي في هذا اللقاء في هذا الختام الجميع ألا وهو الدعوة إلى الرجوع إلى القرآن الكريم.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 202