الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس
(الإعجاز في القرآن الكريم طريق من طرق أصول الدعوة)
المعجزة في زمانها ومكانها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وبعد:
أواصل الحديث حول سلسلة محاضرات طرق الدعوة، وعنوان هذا اللقاء:"الإعجاز في القرآن الكريم: فائدته، وأهميته"، وهذه المحاضرة أيضًا أقسمها إلى عدة عناصر:
العنصر الأول بعنوان "المعجزة في زمانها ومكانها" ويشتمل على النقاط التالية:
أ- تعريف المعجزة:
المعجزة في اللغة: اسم فاعل من الإعجاز، والإعجاز مصدر للفعل "أعجز"، يقال: عجز فلان عن الأمر، وأعجزه الأمر: إذا حاوله فلم يستطعه، ولم تتسع له مقدرته وجهده.
أما المعجزة في لسان الشرع فهي: أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة. يقول ابن خلدون -رحمه الله تعالى-: إن المعجزات هي أفعال يعجز البشر عن مثلها؛ فسميت بذلك معجزة، وليست من جنس مقدور العباد، وإنما تقع في غير محل قدرتهم. ولهذا أقول: سميت معجزة لذلك؛ لأن سائر البشر يعجز عن مثلها أو الإتيان بمثلها.
والمعجزة إما حسية تجابه الحواس وتتحدى القُدَر -أعني القدر: العباد الآخرين- وأغلب المعجزات التي سبقت معجزة نبي الإسلام كانت من هذا النوع -أعني: معجزات حسية- أي: أنها كانت تقع في مجال الحس، وخاصة حاسة النظر؛ حيث إنها في هذا المجال تنكشف للناس على صورة تكاد تكون واحدة، لا اختلاف عليها بينهم؛ لأن الناس لا يختلفون كثيرًا في مدلول المرئيات، على حين يختلفون اختلافًا بعيدًا في مدلول ما يقع للحواس الأخرى من مسموعات ومشمومات وملموسات، وما إلى ذلك، وإما أن تكون المعجزة
عقلية تواجه العقل، وتلقاه بكل ما فيه من قوى -من قوى الإدراك والاستبصار- وهذا النوع من المعجزات لا يقع من الناس موقعًا متقاربًا، وإنما يلقاه كل إنسان بما لديه من إدراك وفهم، وقدرة على التمييز بين المدركات والتفرقة بين الخير والشر.
يقول السيوطي رحمه الله: وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم، وأكثر معجزات هذه الأمة الإسلامية عقلية؛ لفرط ذكائهم وكمال أفهامهم، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خُصَّتْ بالمعجزة العقلية الباقية؛ ليراها ذوو البصائر.
أنتقل بعد ذلك إلى النقطة التالية: تعدد المعجزات واختلافها:
المعروف في تاريخ الأديان وفي نصوص الكتب المقدسة الباقية منها إلى اليوم شيء، وإن كانت قد حرفت وغيرت وبدلت، ولكن كما هي موجودة الآن بين يدي أصحابها المعروف فيها أن كل نبي كان يحمل بين يديه إلى قومه آية صدقه في معجزة يلقاهم بها متحديًا على صورة لم يسبقه إليها أحد قط، ولم ينكشف للناس شيء من وجهها قبل أن تطلع عليهم قاهرة متحدية، والقرآن الكريم قد شفى المقام في هذا، وأشار إلى بعض معجزات الأنبياء ممن ذكرهم رب العزة والجلال في كتابه، وكان بعض الأنبياء يحمل إلى قومه أكثر من معجزة، ويجيء إليهم بأكثر من دليل يدل على أنه مرسل من عند الله، وهذه المعجزات التي بين يديه هي شهود عدول على صدق ما يقول وما يدعي؛ فموسى عليه السلام قد حمل إلى بني إسرائيل عصًا كانت تتفجر منها المعجزات يلقي بها من يده فتنقلب حية تسعى، ويضرب بها البحر فينفلق عن طريق يبس بين جبال عالية من الماء، ويضرب بها وجه الحجر فيتفجر منه الماء وتسيل العيون، ثم كان معه إلى جانب تلك العصا
ومعجزاتها معجزة أخرى هي يده؛ يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، ثم من معجزاته -صلوات الله وسلامه عليه- سوق آيات النقمة والبلاء على فرعون وقومه، كما أشار إلى ذلك ربنا في قوله:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} (الأعراف: 133).
وعيسى عليه السلام كانت معجزته في يده وفي فمه؛ يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وبكلمة من فمه وإشارة من يده يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص.
واختلاف المعجزات في أجيال الناس مما اقتضته دواعي الحكمة التي جاءت المعجزات من أجلها؛ ذلك لأن الناس يختلفون باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، وإذ كانت غاية المعجزة أن يرى الناس فيها صدق الرسول، وقيام الدليل على صحة دعواه؛ فكان لا بد أن تكون هذه المعجزة جارية مع تفكير من تلقاهم وتتحداهم؛ آخذة بعقولهم وقلوبهم فيما يدور في هذه العقول، وما يختلج في تلك القلوب، وبهذا تستولي المعجزة على كيان الناس، وتخرس ألسنتهم.
وهذا، وإن يكن من الممكن أن يتحقق في المعجزة الواحدة تتكرر جيلًَا بعد جيل، فتظل أبدًا متحدية ظاهرة، إلا أن ذلك يذهب بكثير من تأثير المعجزة، وينزل بقدر كبير من قدرها في أعين الناس؛ فلو أن عصا موسى مثلًا كانت هي المعجزة التي يتناولها الرسل -رسولًا بعد رسول- وكانت في كل مرة وفي كل حال تطلع على الناس بتلك المعجزات التي كانت لها عند موسى، أو بمعجزات أخرى غيرها؛ لو أن ذلك كان لما كان لها على الناس ذلك السلطان الذي للمعجزة التي تجيء متفردة بوجودها، والتي تجيء إلى الناس على غير انتظار وعلى خلاف أية صورة يتصورنها، ذلك أن أقل ما يقع للناس من المعجزة الواحدة المتكررة أنها
ربما كانت وليدة الصدفة، توارثها أصحابها خلفًا عن سلف، أو أنها بنت تجربة ناجحة لرجل حاذق ماهر آثر بها نفسه، وجعل سرها مستغلقًا إلا على من يلقاه ويرضى من ورثته أو تلاميذه وحواريه.
ثم إن حَصْرَ أَمَارَاتِ السَّمَاءِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ فِيهِ اتِّهَامٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ، وفتح باب واسع للتشكك في صدق الرسول؛ إِذْ إِنَّ الْقُدْرَةَ الْإِلَهِيَّةَ لَا حُدودَ لَهَا؛ فَكَيْفَ لَا يَرَاهَا الناس إلا في صورة واحدة تتكرر على الأجيال؟ لهذا كان من تدبير الحكيم العليم القادر أن يكون في يد كل نبي دليل صدقه الذي لا يشاركه فيه غيره، وأن تكون معجزته التي يلقى بها الناس حدثًا فريدًا لم يقع لهم في خاطر، ولم يجل لهم في تفكير، وهذا يجعلنا نقول بأن المعجزات تعددت واختلفت لهذا السبب.
النقطة الثالثة: المعجزة لازمة للرسول:
إن الرسول يجيء إلى الناس محملًا برسالة فريدة بين الرسالات التي يحملها الناس إلى الناس فيما بينهم؛ إنه يحمل رسالة من الله إلى الناس، يدعوهم فيها إلى أمور تتغير بها معالم حياتهم الروحية والعقلية، بل والمادية، فهو يدعوهم -أول ما يدعوهم- إلى ترك ما يعبدون من معبودات باطلة فاسدة، وأن ينخلعوا انخلاعًا كاملًا عما بينهم وبين هذه المعبودات من صلة، وأن يوجهوا وجهوهم خالصة لله وحده لا شريك له، فهو يجيئهم أَوَّلًا بالمعجزة التي تَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ فَإِذَا اسْتَقَامَ لَهُ ذَلِكَ، وَعملتِ الْمُعْجِزَةُ عَمَلَهَا فِي النَّاسِ فَآمَنُوا لَهُ وَصَدقُوا بِهِ، دَخَلَ إِلَى نُفُوسِهِمْ وَإِلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ الشريعة التي شرعها الله لهم، فدعاهم إليها، وأخذهم بها، وأقام وجودهم عليها.
وهذا الأمر العظيم الذي يجيء به الرسول إلى الناس مخبرًا إياهم أنه إنما يبلغهم رسالة من الله تلقاها عنه وأمره بتبليغها إليهم -هذا الأمر- لا يمكن أن يقبله الناس على
عِلَّاتِهِ وَأَنْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ بِلَا نَظَرٍ وَبِلَا مُرَاجَعَةٍ، وإنما يلقونه بالعجب والدهش، ويقفون منه موقف الريبة والحذر، أو التهمة والإنكار؛ إنه لأمر عظيم أن يجيء في الناس من يقول: إنه رسول الله؛ إنها دعوى عجيبة تحتاج إلى برهان، بل وإلى أكثر من برهان، يقوم إلى جوارها، يؤيدها ويفتح للناس الطريق إلى قبولها والتصديق بها.
من أجل هذا كان الرسول دائمًا مطالبًا من قومه بأن يقدم لهم الدليل القاطع الذي يشهد له أنه متصل بوحي الله تبارك وتعالى وأنه القائم بالسفارة بين الله والناس، وهذا الدليل ينبغي ألا يكون في طوق البشر أن يحصلوا على مثله، وإنما هو من خلق القدرة الإلهية التي يدعي الرسول المرسل الاتصال بها، قد اختصته به، وجعلته بين يدي دعواه، ومن هنا كان الدليل مُعْجِزَةً يَعْجَزُ النَّاسُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، وَكَانَ آيةً -أَيْ: أَمَارَةً وَعَلَامَةً- على صدق الرسول وصدق ما جاء به.
إن السفير الذي يقوم بالسفارة بين دولة ودولة لا تُقْبَل سفارته، ولا يُعول عليها إلا إذا حمل بين يديه أوراقًا مختومة بخاتم دولته، موثقة بالأدلة التي تثبت شخصيته ومهمته، والسفارة بين الله والناس أعظم سفارة يقوم بها إنسان في هذا العالم، ولهذا اقتضت حكمة الله أن يؤيد رسله بالمعجزات والأمارات التي تشهد لهم أنهم رسل، وأنهم حملة رسالته إلى عباده.
النقطة الرابعة: الناس والمعجزات:
أقول: مع أن الرسل قد جاءوا إلى أقوامهم بالأمارات القاطعة والمعجزات القاهرة التي تشهد أنهم رسل الله، مع هذا فقد وقف كثير من الناس إزاء هذه المعجزات وقفة عناد وعنات، فاستقبلوا الرسول استقبال مكذب مرتاب، أو منابذٍ محارب.
إن الذي دخل على المكذبين الرسل والمعادين لهم لم يكن من جهة قصور في المعجزة، أو نقص في كفاية الأدلة المقنعة والبراهين المبينة، وإنما كان ذلك لما يقع في تفكير الناس من استكثار
هذا الأمر على بشر من بينهم، وتختلط عند الناس في هذا الأمر كثير من الأفكار المضطربة والعواطف المتضاربة من الغيرة والحسد إلى عظمة الأمر واستكثاره على إنسان أن يستقل به، وينفرد دون سائر الناس فقد كذب اليهود بكل المعجزات التي جاءهم بها أنبياؤهم، وهي معجزات قاهرة مبصرة، فموسى عليه السلام قد فلق بهم البحر، ونجاهم من فرعون، وفجَّر لهم من الحجر عيونًا يستقون منها ويحيون عليها، وأنزل عليهم المن والسلوى، ومع هذا فلم يروا في ذلك كله دلائل صدقه؛ فقالوا له:{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} (البقرة: 55).
وهذا يبين شدة عنت اليهود، وأنهم قوم -كما قال الله عنهم في كتابه- يكذبون الأنبياء والمرسلين ويقتلونهم كذلك.
وعيسى عليه السلام جاء بالمعجزات التي أنطقت الجماد وأحيت الموات، فلم يكن فيها لليهود مقنع، ومحمد عليه الصلاة والسلام جاء إلى قريش بالمعجزة الخالدة، فأسمعهم آيات الله التي أخذت بمجامع القلوب، واستولت على عقولهم، فما أذعنوا للحق ولا استجابوا له؛ وإن يكونوا قد عرفوه واستيقنوه، قال تعالى عنهم:{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَاّ بَشَرًا رَسُولًا} (الإسراء: 90: 92).
ولا شك أن هذا الموقف الذي يقفه الناس من معجزات الرسل هو موقف لم يحتكم فيه الناس إلى عقولهم، بقدر ما كانوا يحتكمون إلى أهوائهم الغالبة وعاداتهم المتحكمة، وإذا كان كثير من الناس لم يصدقوا بمعجزات الرسل، ولم ينتفعوا بما حملوا إليهم من خير وهدى؛ فإن كثيرًا من الناس أيضًا قد صدقوا الرسل، وآمنوا بما معهم، وانتفعوا به واستقاموا عليه، وقليل في الناس أولئك