الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(ترجمتا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب)
1 -
ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية
سيرته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وبعد:
سبق أن ترجمت للإمامين الإمام الزاهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تبارك وتعالى والإمام العالم الرباني أحمد بن حنبل رحمه رحمه الله تبارك وتعالى وفي هذا اللقاء أترجم وأحاول أن أنتهي من ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى وهذه المحاضرة تشتمل على العناصر التالية العنصر الأول: في سيرته الذاتية وتشتمل على النقاط التالية:
أ- اسمه ونسبه ونشأته:
فأقول عن اسمه بأنه هو: شيخ الإسلام وحافظ الأنام المجتهد في الأحكام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي رحمه الله تبارك وتعالى وفي "تاريخ إربل" وهي بلدة في شمال العراق تقع إلى الشرق من الموصل أنه جده سئل عن اسم تيمية فأجاب أن جده حج وكانت امرأته حاملًا، فلما كان بتيماء -وهي بلدة قريبة من تبوك في شمال المملكة العربية السعودية- رأى جارية حسنة الوجه وقد خرجت من خباء، فلما رجع وجد امرأته قد وضعت جارية فلما رفعوها إليه، قال: يا تيمية يا تيمية يعني: أنها تشبه التي رآها في تيماء، فسمي بها.
وقال ابن النجار: ذكر لنا أن محمدًا هذا يعني: الجد الأعلى لابن تيمية كانت أمه تسمى تيمية وكانت واعظة فنسب إليها وعرف بها.
وقد ولد شيخ الإسلام رحمه الله تبارك وتعالى بحران وهي بلدة قرب "الرها" من أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، يوم الاثنين عاشر ربيع الأول: سنة إحدى وستين وستمائة وقدم به والده بأخويه عند استيلاء التتار على البلاد إلى "دمشق" سنة سبع وستين وستمائة.
ب- شيوخه وتلاميذه:
ذكر الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تبارك وتعالى بعضًا من شيوخ هذا الإمام الحبر العالم الرباني رحمه الله فقال: سمع الحديث من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عجلان والشيخ شمس الدين الحنبلي، والشيخ شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين بن الصيرفي، ومجد الدين بن عساكر، والشيخ جمال الدين البغدادي، والنجيب بن المقداد، وابن أبي الخير، وابن علَّان إلى أن قال الإمام ابن كثير رحمه الله تبارك وتعالى وخلق كثير سمع منهم الحديث.
وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث ولازم السماع بنفسه مدة سنين، وهذا يدل على أن شيخ الإسلام رحمه الله طلب الحديث مبكرًا وقرأ الكثير من الكتب ولازم الشيوخ والسماع لمدة سنين حتى أصبح إمامًا في العلم والديانة رحمه الله تبارك وتعالى.
ومن الواجب -أن أذكره هنا- أن أتحدث عن تلامذة شيخ الإسلام الأعلام؛ لأن عنوان هذه النقطة: شيوخه وتلاميذه، وقد أشرت إلى بعض شيوخه رحمه الله أما عن تلامذته فقد ذكر صاحب جلاء العينين تراجم طائفة من تلامذة شيخ الإسلام الأعلام الذين كانوا من بعده من أشهر من رجال الإسلام لما خلفوا من الآثار التي طار ذكرها في الأمصار، وانتفع بها أبناء الأعصار؛ لأن شيخ الإسلام رحمه الله كتب له الله القبول ورزقه العلم النافع الذي ورثه بعده، وقد تلقى هذا العلم كثير من التلاميذ وكثرة التلاميذ وشهرتهم تدل على أن الأستاذ والمربي والمعلم إمام جليل قدير في الفهم والوعي والعلم.
ومن أشهر تلاميذ شيخ الإسلام الذين ورثوا علومه هو العالم الرباني شيخ الإسلام الثاني: شمس الدين محمد بن قيم الجوزية صاحب الآثار الكثيرة المحررة الذي حبس مع الشيخ في قلعة دمشق ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ. وقد
قال برهان الدين القاضي: ما تحت أديم السماء أوسع علمًا منه -يعني: من ابن القيم- وابن القيم رحمه الله لا شك أنه حقًّا قد ورث علم شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد وضح فكر شيخ الإسلام، ويعتبر شرح كتبه في الكتب التي ألفها وتركها رحمه الله بأسلوب للغاية.
ومن هؤلاء التلاميذ أيضًا: الإمام الحافظ مؤرخ الإسلام شمس الدين أبو عبد الله محمد الذهبي صاحب "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" وصاحب أيضًا كتاب "سير أعلام النبلاء" وهو إمام عالم جليل القدر أيضًا والمكانة رحمه الله تبارك وتعالى قال عنه العلامة الشيخ تاج الدين السبكي في طبقاته الكبرى: كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها، ثم أخذ يخبر عنها أخبار من حضرها، يقول هذا في تلميذ الإمام ابن تيمية رحمه الله وهذا التلميذ هو الإمام الحافظ المؤرخ الإمام الذهبي رحمه الله صاحب الكتب الكثيرة المفيدة في العلم.
ومن التلاميذ أيضًا الحافظ الكبير عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير البصروي ثم الدمشقي رحمه الله قال عنه ابن حبيب: انتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير ومن تصانيفه التاريخ المسمى بـ"البداية والنهاية" وأيضًا له كتاب طبقات الشافعية وله أيضًا التفسير العظيم المشهور بـ"تفسير ابن كثير" وغير ذلك من التفاسير وقد كتب الله عز وجل القبول لهذا التفسير كما كتب أيضًا القبول لغيره من الكتب.
ومن التلاميذ أيضًا الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي، عده الذهبي في طبقات الحفاظ وقد عد له ابن رجب في طبقاته ما يزيد على سبعين مصنفًا، وقد توفي رحمه الله وعمره أربعون سنة أو أقل.
ومن خلال هذه الأربعين رحمه الله كتب هذه الكتب وصنف هذه المصنفات، ولا شك أن الإمام ابن تيمية الذي أترجم له له أثر عظيم في مثل هذا الإمام العالم الذي مات وعمره أربعون سنة أو أقل وقد ترك هذه المصنفات الغالية النفيسة.
ومن تلاميذ شيخ الإسلام أيضًا قاضي القضاة شرف الدين أبو العباس أحمد بن الحسين المشهور بقاضي الجبل، قرأ على الشيخ تقي الدين ابن تيمية عدة تصنيفات في علوم شتى، وأذن له في الإفتاء في شبيبته، قال ذلك الذهبي فيه، وقال عنه أيضًا الذهبي: هو مفتي الفرق سيف المناظرين، وبالغ ابن رافع وابن حبيب في مدحه وله اختيارات في المذهب.
ومن التلاميذ أيضًا زين الدين عمر الشهير بابن الوردي، له تصانيف في النحو والأدب والتصوف والتاريخ وقد أطنب في ترجمة شيخ الإسلام في تاريخه ومن نظمه:
سبحان من سخر لي حاسدي
…
يحدث لي في غيبتي ذكرا
لا أكره الغيبة من حاسد
…
يفيدني الشهرة والأجر
ومن التلاميذ أيضًا زين الدين أبو حفص عمر الحراني، ولي نيابة الحكم وقال: لم أقض قضية إلا وأعددت لها الجواب بين يدي الله تعالى، وهذا يدل على ورعه رحمه الله تبارك وتعالى.
ومن التلاميذ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح، قال أبو البقاء السبكي: ما رأت عيناي أفقه منه -يعني: من ابن مفلح رحمه الله تعالى- وهو تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية. وقال ابن القيم: ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح. وقال ابن كثير: وله مصنفات كثيرة منها على "المقنع" نحو: ثلاثين مجلدًا و"المنتقى" وكتاب "الفروع" ويقع في أربع مجلدات وله كتاب في أصول
الفقه وله أيضًا "الآداب الشرعية" الكبرى والوسطى والصغرى وهو كتاب أيضًا نافع ومفيد للغاية.
هؤلاء بعض تلاميذ شيخ الإسلام رحمه الله تبارك وتعالى وإلا فالذين انتفعوا بعلمه وكتبه، وما خلفه بعد ذلك من علم رحمه الله كثير وكثير وكثير، ولكنها إشارة، وقد ذكرت بعضا من الأعلام الكبار الذين هم تلامذة لشيخ الإسلام والتلاميذ أئمة، فما بالنا بالأستاذ الذي خرج وتعلم على يديه هؤلاء الأئمة. ولا شك أن نبوغ التلميذ يدل ويشير ويرشد إلى نبوغ وفقه وعلو منزلة ومكانة أستاذه رحم الله تبارك وتعالى هؤلاء الأئمة الأعلام وجعلنا من الذين يسلكون مسلكهم وينهجون نهجهم في أصول الدين وفروعه.
جـ- زهده وورعه:
ذكر بعض أهل العلم زهدًا رقيقًا وورعًا عظيمًا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى من ذلك ما قاله ابن فضل الله العمري، قال: كان يجيئه من المال في كل سنة ما لا يكاد يحصى فينفقه جميعه آلافًا ومئين، لا يلمس منه درهمًا بيده، ولا ينفقه في حاجته، بل كان إذا لم يقدر -يعني: لم يقدر إلى صرف هذا المال- يعمد إلى شيء من لباسه فيدفعه إلى السائل. يعني: إذا لم يكن عنده شيء ينفقه في سبيل الله تبارك وتعالى فيدفع إلى السائل ما يلبسه هو. قال: وهذا مشهور عند الناس من حاله.
وحكى من يوثق به، قال: كنت يومًا جالسًا بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية، فجاءه إنسان فسلم عليه، فرآه الشيخ محتاجًا إلى ما يعتم به يعني: إلى عمامة يلبسها، فنزع الشيخ عمامته -من غير أن يسأله الرجل- فقطعها نصفين فاعتم،
ودفع النصف الآخر لذلك الرجل، ولم يستحي أن يفعل ذلك أمام الحاضرين، وهذا من ورعه وإقباله على الله وتقشفه وتقلله من زينة الحياة الدنيا وحرصه على البر والخير والمعروف رحمه الله تبارك وتعالى.
وحدث من يوثق به أن الشيخ كان مارًّا في بعض الأزقة، فدعا له بعض الفقراء وعرف الشيخ حاجته ولم يكن مع الشيخ ما يعطيه، فنزع ثوبًا على جلده ودفعه إليه، وقال: بعه بما تيسر وأنفقه، واعتذر إليه من كونه لم يحضر عنده شيء من النفقة، ففعل ذلك رحمه الله وكونه نزع ثوبًا على جلده ودفعه إليه يفيد أنه نزع شيئًا من ثيابه الداخلية ولا يمكن أن يفقه الإنسان غير ذلك وهذا في الحقيقة أيضًا دليل على ورع هذا الإمام العالم الرباني رحمه الله تبارك وتعالى.
أنتقل بعد ذلك أيضًا إلى نقطة تالية في هذا العنصر وهي بعنوان: ثناء الأئمة عليه.
لو أردت أن أجمع وأن أستقصي ما قيل في الإمام ابن تيمية رحمه الله لجمعت في ذلك مجلدات كبيرة؛ فإن الذين كتبوا عن ابن تيمية كتبوا كلامًا كثيرًا عنه؛ عن شخصه، عن علمه، عن زهده، عن ورعه، عن مكانته، عن ما كان يقوم به من دعوة وجهاد وتضحية وفداء، عن سجنه وما كان فيه رحمه الله تبارك وتعالى ولذلك سأجتزئ في هذا المقام وأذكر بعضا مما قيل في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى.
ومن ذلك ما ذكره الإمام الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" من كلام عن شيخ الإسلام رحمه الله قال فيه: وقرأ بنفسه ونسخ "سنن أبي داود" وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل وتفقه وتمهر وتقدم وصنف ودرس وأفتى وفاق الأقران وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف،
وأقول: والله إنها كلمات جليلة القدر من هذا الإمام العالم الرباني.
أيضًا الحافظ ابن حجر رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما يذكر أنه صنف ودرس وأفتى وفاق الأقران وصار أعجوبة في سرعة الاستحضار وأنه اطلع على مذاهب السلف والمنقول والمعقول، وإلى غير ذلك مما كان عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
في الحقيقة أذكر هنا كلمة قالها الإمام الشوكاني رحمه الله بعد ذكره لكلام ابن حجر هذا، فالإمام الشوكاني نقل كلام ابن حجر في كتابه "البدر الطالع" وعقب عليه بقوله: وأقول: أنا لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما أظنه سمح الزمان ما بين عصر الرجلين بمن شابههما أو يقاربهما، 18:50هذه كلمة أيضًا من العالم الجليل الإمام الشوكاني رحمه الله يقول بأنه لا يعلم بعد ابن حزم مثل: ابن تيمية رحمه الله يعني: الزمان لم يجد بعد ابن حزم برجل كابن حزم أو يقارب ابن حزم إلا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وأنا أقول معقبًا على ذلك: رحم الله ابن حزم وغيره من الأئمة، ولكن ابن تيمية فاق ابن حزم بمراحل متعددة ويكفي أنه كان على معتقد صحيح، وكان متبعًا لمنهج سلف هذه الأمة الذي قد خالف شيئًا منه الإمام ابن حزم رحمه الله تبارك وتعالى ثم قال الشوكاني رحمه الله قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضى منه العجب -يعني: من شيخ الإسلام ابن تيمية- إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف التي يوردها منه ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، وكانت السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره، فيه هدى رحمه الله تبارك وتعالى يعني: كان يعرف أصول الديانة وكان مستقيمًا على الهدي الرباني الذي جاء من عند الله تبارك وتعالى.
ثم قال: مع ما كان عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذ النفس، ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد -فتاويه فقط- بل أكثر، وكان قولًا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، ثم قال -يعني: الحافظ الذهبي رحمه الله ومن خالطه يعني: خالط شيخ الإسلام وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين منه أصحابه وأضداده، وكان أبيض أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت فصيحًا سريع القراءة تعتريه حدة، لكن يقهرها بالحلم. ثم قال الحافظ الذهبي رحمه الله: ولم أر مثله في ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه، وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشرا من البشر، تعتريه حدة في البحث وغضب وصدمة للخصوم تزرع له عداوة في النفوس، ولولا ذلك لكان كلمة إجماع، فإن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بأنه بحر لا ساحل له، وكنز ليس له نظير، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالًا وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد.
هذه الكلمات -وسأتابع بعد قليل كلام الإمام الحافظ الذهبي- أود أن أقف عندها حتى لا يظن أحد أن الإمام الحافظ الذهبي وهو تلميذ لشيخ الإسلام ابن تيمية يطعن على شيخه وتلميذه الإمام ابن تيمية رحمه الله أقول: ليس هذا بصحيح، وإنما هذا هو ما علمه شيخ الإسلام ابن تيمية لطلابه وتلاميذه، علمهم أن لا يقلدوا أحدًا وألا يتابعوا أحدًا على خطئه وعلمهم رحمه الله أن كل واحد يخطئ ويصيب، وأن المعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى ومن هؤلاء أنبياء الله والرسل فالله عز وجل قد عصمهم في تبليغ الوحي والرسالة، أما غيرهم من آحاد الناس فكل يؤخذ من
قوله ويرد عليه -كما قال إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله تبارك وتعالى.
وهنا قد أشار إلى أن ابن تميمة قد تعتريه حدة في البحث وغضب وصدمة للخصوم، ولعل هذا كان من باب رد الفعل عند هذا الإمام؛ لأنه سجن وبغي عليه وظلم من الناس واتهم بأنه أدخل على الدين ما ليس منه، وأدخل على السلف ما لم يعتقدوه، ولا شك أن هذا كان من الباطل، وشيخ الإسلام كان من أكثر الناس التصاقًا ومعرفة وسيرًا على منهج سلف هذه الأمة الصالحين -كما سأشير إلى ذلك -إن شاء الله تعالى- بعد قليل عند ذكري لمنهجه وعقيدته رحمه الله تبارك وتعالى.
ثم قال الحافظ الذهبي رحمه الله: وكان محافظًا على الصلاة والصوم معظمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا لا يؤتى من سوء فهم، فإن له الذكاء مفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زاخر، ولا كان متلاعبًا بالدين، ولا ينفرد بمسائل للتشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة بمن تقدمه من الأئمة فله أجر على خطئه وأجران على إصابته.
هذا في الحقيقة أيضًا يوضح موقف الإمام الذهبي من شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى ومع هذا فقد وقع لشيخ الإسلام مع أهل عصره قلاقل وزلازل وامتحن -رحمه الله تعالى- مرة بعد أخرى في حياته وجرت له فتن عديدة، والناس قسمان في شأنه، فبعض منهم مقصر به عن المقدار الذي يستحقه، بل يرميه بالعظائم، وبعض آخر يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد ويتعصب له كما يتعصب أهل القسم الأول عليه، وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بالكتاب والسنة، فإنه لا بد أن يستنكره
المقصرون، وهذا ما وقع من الذين تكلموا وآذوا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى. هذا يقع ويستنكر المقصرون الذين لم يفقهوا الدين مثل ما جاء به شيخ الإسلام، ويقع له معهم محنة بعد محنة ثم يكون أمره بعد ذلك أعلى، وقوله الأولى، ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره، وهكذا حال هذا الإمام، فإنه بعد موته عرف الناس مقداره واتفق الألسن بالثناء عليه، إلا من لا يعتد به وطارت مصنفاته واشتهرت مقالاته.
وهذا كلام صحيح، بل والله إنه عين الحق؛ فأين الذين آذوا شيخ الإسلام وتكلموا عليه، أين هم اليوم في الواقع المعاصر من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية وثناء الناس على شيخ الإسلام ابن تيمية. إن ابن تيمية لا تجد مكتبة عامة أو خاصة في الغالب إلا ولابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى له كتب فيها، فلقد أعلى الله من شأن هذا العالم الجليل الرباني لدفاعه عن عقيدة السلف الصالح، رحم الله تبارك وتعالى جميع سلفنا الصالح.
هـ- اعتقاله وسببه ووفاته:
في الحقيقة يعني: طال الحديث عن شيخ الإسلام في ترجمته وكان لا بد من ذلك؛ لأنه أمام يستحق والله؛ لأنه جدد الدين أكثر مما أتكلم عليه، وقد عرف من قبلي -وأنا لا أقول شيئًا من عندي- قد عرف تلاميذه وعرف أهل العلم -من بعد عصر شيخ الإسلام- عرفوا جميعًا من هو ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى والآن أتحدث عن اعتقال شيخ الإسلام رحمه الله وحاله في المعتقل:
نقل صاحب (الكواكب الدرية) عن شيخه علم الدين أنه في شهر ربيع الأول، سنة ستمائة وثمان وتسعين وقع بدمشق محنة للشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية وكان الشروع فيها من أول الشهر، وكان سببها ترجيح مذهب السلف في الصفات على مذهب المتكلمين، وكان قبل ذلك بقليل أنكر أيضًا أمر المنجمين، ثم عقدت له عدة مجالس في المناظر في مصر والشام وحبس في القطرين يعني: في مصر والشام.
ونقل صاحب (جلاء العينين) على الحافظ ابن كثير رحمه الله أنه قال: وأكثر ما نالوا منه أي: أعداؤه الحبس مع أنه لا ينقطع في بحث، يعني: لا ينقطع عن العلم ولا عن الكتابة لا بمصر ولا بالشام. ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه. قيل: ومن جملة أسباب حبسه رحمه الله خوفهم أنه
ربما يدعى ويطلب الإمارة، فلقي أعداؤه عليه طريقًا من ذلك، فحسنوا للأمراء حبسه لسد تلك المسالك.
وقد ذكر صاحب (الكواكب الدرية) أن الشيخ لما سجن بمصر بحبس القضاة بحارة الديلم، صار الحبس بالاشتغال بالعلم والدين خيرًا من كثير من الزوايا والمدارس، وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده، وكثر المترددون إليه حتى صار السجن يمتلئ منهم، ولما ورد أمر بسجنه بقلعة دمشق أظهر السرور بذلك، وقال: إني كنت منتظرًا ذلك، وهذا فيه خير عظيم.
ونقل عنه وارث علومه العلامة ابن القيم رحمه الله الذي حبس بقلعة دمشق معه- نقل عنه في كتابه (الكلم الطيب) أنه قال: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وكان يقول في مجلسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا إلي فيه من الخير أو نحو هذا، وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، يقول هذا ما شاء الله أن يقول، ثم قال ابن القيم بأن شيخه ابن تيمية قال له ذات مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
ولما أدخل ووصل إلى القلعة وصار داخل سورها، نظر إليه وقال: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب -وعلم الله- ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط -مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف- وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا وأشرحهم صدرًا وأقواهم قلبًا وأسرهم نفسًا تلوح
نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله فننقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من رَوْحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها، وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وكان دخوله رحمه الله قلعة دمشق آخر مرة سادس شهر شعبان من عام سبعمائة وست وعشرين، وما زال مقيمًا في قاعتها إلى أن كانت وفاته ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة سنة سبعمائة وثمان وعشرين رحمه الله تبارك وتعالى وقد صلي عليه عقب صلاة الظهر بجامع بني أمية، ولم يبق في دمشق من يستطيع المجيء للصلاة إلا حضر لذلك، حتى غلقت الأسواق بدمشق، غلقها أصحابها ولم يتمكنوا من فتحها، وعطلت معايشها يومئذ وحصل للناس من مصابه أمر شغلهم عن كثير من أمورهم وأسبابهم، وخرج الأمراء والرؤساء والعلماء والفقهاء والأتراك والأجناد والرجال والنساء والصبيان من الخواص والعوام، قال بعض من حضر ولم يتخلف فيما أعلم إلا ثلاثة أنفس كانوا قد اشتهروا بمعاندته فاختفوا من الناس خوفًا على أنفسهم بحيث غلب على ظنهم أنهم متى خرجوا رجمهم الناس، وهذا في الحقيقة تكريم أي تكريم لشيخ الإسلام ابن تيمية.
واتفق جماعة ممن حضر وشاهد الناس والمصلين عليه: أنهم يزيدون على نحو من خمسمائة ألف، وحضرها نساء كثير بحيث حذرن بخمسة عشر ألفًا، قال أهل التاريخ لم يسمع بجنازة تمثل هذا الجمع إلا جنازة الإمام أحمد بن حنبل، رحم الله تبارك وتعالى الجميع.