المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خصائص النظام الاقتصادي - أصول الدعوة وطرقها ٤ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الدعوة وصلتها بالحياة وأثر الإسلام في الاجتماع

- ‌الأَحْوَالُ السياسيةُ قَبْلَ الإسْلامِ

- ‌أَبْرَزُ المَعالِمِ السياسيةِ الداخليَّةِ والخارجيةِ للدَّولةِ الإسلامِيةِ

- ‌خَصَائِصُ النِّظامِ السياسيِّ في الإسْلامِ

- ‌نِظامُ المجتمَعِ في الإسلامِ

- ‌خَصائِصُ النِّظامِ الاجتماعيِّ في الإسلامِ

- ‌وُجُوبُ الاجتماعِ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، ونبذُ الاختلافِ والفُرْقَةِ

- ‌الدرس: 2 أثر الإسلام على الاقتصاد وكون الإسلام عقيدة وشريعة

- ‌تعريف الاقتصاد وأساسه

- ‌خصائص النظام الاقتصادي

- ‌دور الاقتصاد الإسلامي بالنسبة للعالم الإسلامي

- ‌تعريف العقيدة، وأهميتها، والمناهج في إثباتها

- ‌معنى الشريعة والأسس التي بنيت عليها

- ‌التشريع حق لله وحده دون سواه

- ‌الدرس: 3 إلمامة بأركان الإيمان

- ‌مذهب السلف في الإيمان مع ذكر أركانه

- ‌الركن الأول من أركان الإيمان؛ الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني من أركان الإيمان؛ الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث من أركان الإيمان؛ الإيمان بالكتب

- ‌الركن الرابع من أركان الإيمان؛ الإيمان بالرسل عليهم السلام

- ‌الركن الخامس من أركان الإيمان؛ الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس من أركان الإيمان؛ الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 إلمامة تحليلية بأركان الإسلام

- ‌تعريف الإسلام، وذكر أركانه، وما يتعلق به

- ‌الركن الأول من أركان الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌شهادة أن محمدًا رسول الله

- ‌الركن الثاني من أركان الإسلام؛ الصلاة

- ‌الركن الثالث من أركان الإسلام؛ الزكاة

- ‌الركن الرابع من أركان الإسلام؛ الصيام

- ‌الركن الخامس من أركان الإسلام؛ الحج

- ‌أثر الإيمان والعقيدة في تكوين الفرد والمجتمع

- ‌الدرس: 5 الإعجاز في القرآن الكريم طريق من طرق أصول الدعوة

- ‌المعجزة في زمانها ومكانها

- ‌المعجزة الخالدة القرآن الكريم

- ‌الدرس: 6 موقف الإسلام من العلم الكوني، والدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌العلاقة بين الإسلام والعلم

- ‌الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

- ‌الدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌الدرس: 7 المسجد والمدرسة ودورهما في الدعوة

- ‌المسجد، ورسالته بين المسلمين

- ‌دور المسجد في المجتمع المسلم

- ‌بعض وظائف المسجد

- ‌دعوة الطلاب إلى الله في المدارس والجامعات:

- ‌الدعوة إلى الله بين المدرسين، وأساتذة الجامعات

- ‌دور المدرسة في تحقيق أهداف التربية الإسلامية

- ‌الدرس: 8 أهم ميادين الدعوة والإعلام الإسلامي

- ‌مقدمات في الإعلام

- ‌الأجهزة الإعلامية الإسلامية المتخصصة

- ‌الإسلام في مواجهة الإعلام الكاذب

- ‌الدعوة إلى الله في التجمعات الإسلامية والمناسبات المختلفة

- ‌الدرس: 9 الجهاد في سبيل الله تعالى

- ‌تعريف الجهاد وذكر أنواعه

- ‌مشروعية الجهاد وسببه ومراحله وفضله

- ‌فضل الجهاد، وثمراته

- ‌مسائل هامة تتعلق بالجهاد في سبيل الله

- ‌الدرس: 10 بعض مواقف الخلفاء الراشدين والصحابة وأثرها في الدعوة

- ‌أبو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه

- ‌حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

- ‌الدرس: 11 دراسة بعض الدعوات ومناهجها في الدعوة

- ‌ جماعة أهل الحديث بالهند

- ‌جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌تابع الحديث عن جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌نشأة جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان والبلاد الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 12 تابع دراسة بعض الدعوات ومناهجها

- ‌حركة " الإخوان المسلمون

- ‌الحزب الإسلامي الكردستاني

- ‌الدرس: 13 ترجمتا الخليفة عمر بن عبد العزيز والإمام أحمد بن حنبل

- ‌سِيرَةُ الإمام عمر بن عبد العزيز الذاتية

- ‌في سيرة عمر بن عبد العزيز العلمية، وولايته

- ‌سيرة الإمام أحمد الذاتية

- ‌عقيدة الإمام أحمد ومحنته

- ‌الدرس: 14 ترجمتا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سيرته

- ‌منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌تابع منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌ترجمة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سِيرُتُه الذَّاتِيَّةِ

- ‌مُؤلفَاتُ الشيخِ، وعقيدتُه، وأثرُ دعوتِهِ في العَالَمِ الإسلَامِيِّ

الفصل: ‌خصائص النظام الاقتصادي

مستخلف في هذا المال، وأن الله هو الذي تفضل عليه وسخر له المال وسخر مخلوقاته؛ كي ينتفع بها الإنسان، وبالتالي على الإنسان أن يستخدم المال في مرضاة الله، وأن يجعل الدنيا وسيلة لا غاية، حتى يصل إلى الغاية المطلوبة، ألا وهي رضوان الله عز وجل وعندئذٍ يتمتع بجنات الخلد التي أعدها الله تبارك وتعالى لعباده المتقين.

‌خصائص النظام الاقتصادي

أنتقل بعد ذلك إلى العنصر الثاني من عناصر هذا اللقاء، وهو بعنوان "خَصَائِصُ النِّظَامِ الاقْتِصَادِيِّ وَمَبَادِئُهُ" وَهَذَا الْعُنْصُرُ يَشْتَمِلُ عَلَى النِّقَاطِ التَّالِيَةِ:

أ- خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي: الْمُطَّلِعُ عَلَى نِظَامِ الاقْتِصَادِ فِي الْإِسْلَامِ يَجِدُهُ نِظَامًا فَرِيدًا بَيْنَ النُّظُمِ الاقْتِصَادِيَّةِ، وهناك مبادئ مهمة كثيرة، وخصائص فريدة بهذا النظام، يحسن ذكرها هنا، وهي: أنه نظام مستقل هذا النظام -أعني: النظام الاقتصادي في الإسلام- نظام مستقل عن غيره من النظم، ولا يمكن بحالٍ أن يوصف بوصفٍ غير الإسلام.

وقد أخطأ الذين حاولوا ربط هذا النظام بواحدٍ من النظم الاقتصادية السائدة -كالرأسمالية والاشتراكية- لأن النظام الاقتصادي يختلف عن غيره في الأهداف والوسائل والتشريعات، واللقاء بينه وبين غيره من النظم في بعض الجزئيات لا يجعل منه نظامًا اشتراكيًّا أو رأس ماليٍّ كما يزعم بعض الذين ينظرون إلى ظاهر الأمور نظرةً جزئية سطحية، ويجب أن يُعْلَمَ أن نظامنا الاقتصادي جزء من كل؛ فالاقتصاد في الإسلام يرتبط مع عقيدة الإسلام وخلق الإسلام وتشريعات الإسلام الأخرى، ولا يمكن أن نقيم نظام الإسلام الاقتصادي بعيدًا عن أنظمة الإسلام الأخرى؛ لأن هذا النظام لا يؤدي دوره الأداء الصحيح في إصلاح الجانب المالي عند الأمة ما لم يعمل الإسلام عمله في

ص: 48

إصلاح النفوس، وغرس القيم الفاضلة فيها، وإحاطة المجتمع بسوره الأخلاقي الذي يحكم مسيرة الفرد والمجتمع.

الخاصية الثانية -من خصائص النظام الاقتصادي في الإسلام-: أنه نظام فطري؛ عندما يتعامل الفرد وفق نظام الإسلام يجد هذا النظام قريبًا إلى فطرته، فلا تجد صدودًا عن التعامل به، فَالْإِنْسَانُ مَفْطُورٌ عَلَى حُبِّ التَّمَلُّكِ، وَالْإِسْلَامِ يُبِيحُ الْمِلْكِيَّةَ فِي أَوْسَعِ صوَرِهَا، وكل ما يفعله هو تقييدها بقيود؛ حتى لا تضر الفرد والمجتمع، وكذلك يبيح الإسلام له من العمل ما لا يضر بنفسه أو بغيره من الأفراد أو من المجتمعات، وأنت إذا نظرت في النظام الشيوعي وَجَدْتَهُ نِظَامًا يُصَادِمُ الفطرة الإنسانية؛ حيث يمنع أصحابه من ملكية وسائل الإنتاج، ويحول الشعب إلى عمالٍ عند الدولة، وفي سبيل تحقيق هذا المبدأ استولى على الأراضي والمصانع والمنشآت.

وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ مَفْطُورًا عَلَى حُبِّ التَّمَلُّكِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ هُنَاكَ ثَارُوا، فَسَالَتْ دِمَاؤُهُمْ أَنْهَارًا؛ لقد قتل الشيوعيُّونَ في روسيا أكثر من ثلاثين مليونًا من البشر، هذا عدا الذين سَجَنُوهُمْ أو نَفَوْهُمْ، ويصادم النظام الشيوعي الفطرة الإنسانية من جانبٍ آخر؛ فهو يطالب كل عاملٍ في الدولة أن يبذل كل ما يستطيع في سبيل تحقيق الغاية من العمل الذي يقوم به، ولكنه لا يعطيه ما يكافئ جهده، بل يعطيه من المال ما يسد حاجته، والإنسان مفطور على أن يبذل من الجهد بمقدار ما يتوقع من المكافأة؛ فإذا كانت المكافأة محدودة قل الجهد، وَدَفَعَ ذلك الْعُمَّالَ إِلَى التقاعس عن العمل، وبالتالي يقل الإنتاج، وأنت إذا نظرت في نظام الإقطاع وجدته يصادم الفطرة الإنسانية أيضًا؛ فلم يكن يسمح -ولا يمكن أن يُسْمَحَ- في ذلك النظام للإنسان أن ينتقل من مجال عملٍ إلى مجالٍ آخر، فكل عملٍ مقصور على فئةٍ معينة، وهذا يخالف الفطرة الإنسانية، فالمرء قد لا يناسبه عمل معين، ويناسبه غيره.

ص: 49

الخاصية الثالثة: الاعتدال والتوازن: إن مشكلة الأنظمة الاقتصادية التي تختلف عن الإسلام أنها ترى جانبًا واحدًا من الحقيقة، ويخفى عليها بقية الجوانب، والإسلام تَفَرَّدَ؛ لأنه من تنزيل العليم الخبير سبحانه بالرؤية الشاملة لجميع الجوانب، فجاء نظامه الاقتصادي معتدلًا متوازنًا، يتضح هذا للناظر في النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي وضع التشريعات الكثيرة لحماية حرية الملكية الفردية وحرية العمل، ولكنه أهمل إهمالًا كبيرًا رعاية حق المجتمع، فنال الأغنياء والأثرياء في تلك المجتمعات أكثر من حقهم، فَنَشَأَتْ عَنْ ذَلِكَ مَظَالِمُ كثيرة، ووقع الضرر بالآخرين.

وأنت إذا نظرت في النظام الشيوعي وجدت واضعيه يهدفون إلى تحقيق مصلحة المجتمع، وَلَكِنَّهُمْ فِي سَبِيلِ تَحْقِيقِ ذَلِكَ ظَلَمُوا الْفَرْدَ، وَمَنَعُوهُ مِنْ حُقُوقِهِ فِي الْمِلْكِيَّةِ وَالْعَمَلِ، وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وحده؛ ليضع نظامًا صالحًا لإقامة حياة الأفراد وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه؛ لا يُظْلَمُ فِيهِ الْفَرْدُ ولا المجتمع، وهذا ما لا نجده في النظم الأرضية البشرية.

الخاصية الرابعة: تحقيق التراحم والتعاون: إن الإسلام يقيم نظامًا اقتصاديًّا، ينسجم في مساره مع هدف الإسلام في إقامة المجتمع الإسلامي المتراحم المتعاون؛ فالتشريعات الاقتصادية الإسلامية توجه الأغنياء إلى السعي في مصالح الفقراء، وتقديم العون لهم، وسد خُلتِهِمْ، وليس لهم في ذلك مِنَّةٌ، بل هو أمر إلهي رباني، يُعَاقَبُ من حَادَ عَنْهُ؛ فالإسلام يقول لأبنائه: أنتم إخوة فيما بينكم.

ويقول لهم: المال الذي في أيديكم مال الله، وللفقراء حق في أموالكم، ويفرض في سبيل تحقيق هذا فرائض -كالزكاة والخمس من الغنيمة والخراج- ويحبب ويحث على الصدقات والإنفاق، وهذا يجعل المجتمع الإسلامي مجتمعًا تسوده الألفة والمودة بين أبناء هذا

ص: 50

المجتمع، ويتحقق فيه التواصل، والتراحم، والتعاون، والبر، والمودة، وما إلى ذلك.

وأنت إذا نظرت إلى المجتمع الشيوعي تجد أن أحد أَعْمِدَتِهِ الَّتِي يَقُومُ عَلَيْهَا هُوَ الصِّرَاعُ بَيْنَ طَبَقَاتِ الْمُجْتَمَعِ، هَذَا الصِّرَاعُ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى العداوة والبغضاء وسفك الدماء ونهب الأموال، ومن ينظر في حال الدول الشيوعية يعلم صدق هذا الذي نقوله.

والمجتمعات الرأسمالية لا تخلو من هذا المرض؛ فالفارق هناك بين البشر كبير؛ فئة كبيرة هي التي تملك الثروة، وبقية الأفراد لا يملكون إلا القليل، والأغنياء هناك لا شأن لهم بالفقراء؛ فالمال مالهم، ولا شأن لأحدٍ بهم، وهذا يدعو إلى قطيعة هذه المجتمعات والنفرة فيما بينهما بعكس ما جاء به الإسلام والنظام الاقتصادي.

الخاصية الخامسة -من خصائص النظام الاقتصادي في الإسلام-: هو أنه نظام يقوم على أخلاق الإسلام وَقِيَمِهِ: لَقَدْ قَامَ النِّظَامُ الْإِسْلَامِيُّ عَلَى إِتَاحَةِ فُرَصِ الْعَمَلِ أَمَامَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، كَمَا أَبَاحَ التَّمَلُّكَ لَهُمْ عَلَى حَدٍّ سواء، ولكنه لم يترك ذلك فوضى من غير حدودٍ ولا ضوابط؛ لقد عنى الإسلام بغرس الأخلاق الفاضلة والقيم الحميدة التي تُقِيمُ مِنَ الْإِنْسَانِ حَارِسًا عَلَى نَفْسِهِ، تَمْنَعُهُ من التصرفات الخاطئة، ولذلك تجد كثيرًا من المسلمين لا يسرقون، ولا يغشون، ولا يحتكرون، ولا يكذبون في التعامل، مع قدرتهم على هذا كله؛ لخوفهم من الله تبارك وتعالى بل ترى النوم قد جفاهم، وملأ القلق نفوسهم إذا دخل شيء من المال في حيازتهم؛ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَعْرِفُوا حُكْمَهُ الشَّرْعِيَّ، وَلَا يَهْدَأُ لَهْمُ بَالٌ حَتَّى يَقِفُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فِيهِ، وتراهم يتخلصون منه، ويبذلونه في مصارفه الشرعية؛ إذا تبين لهم أنه لا يحل لهم.

ص: 51

ولا يكتفي الإسلام بغرس التقوى والخلق القويم في النفس الإنسانية، ولكنه أيضًا يضع الضوابط الشرعية التي تحكم التصرفات العملية، ويأمر الدولة الإسلامية أن تقوم على مراعاة هذه الضوابط والأحكام؛ فهناك مصادر للمال لا يرضاها الإسلام، ولا يجيز لأبنائه التعامل من خلالها؛ كالسرقة والغش والزنا وبيع المحرمات -كالخمر والخنزير- وأكل مال اليتيم، والغلول من الغنيمة، ونحو ذلك.

الشياطين، وانظر إلى المجتمع الرَّأْسِمَالِيِّ البعيد عن هذه الضوابط؛ كيف يقيم الصروح الضخمة التي تُدَمِّرُ القيم والأخلاق، وتؤدي إلى الظلم والاستبداد؟! فالبنوك الربوية التي تَمْحَقُ الكسب تقوم في كل مدينة وقرية، وتستخدم جيوشًا من العمال والموظفين؛ كي تُحَقِّقَ الْكَسْبَ الْحَرَامَ لِفَرِيقٍ مِنَ الْبَشَرِ، والعمارات الشاهقة ترتفع في كثيرٍ من المدن؛ لتتاجر بالأعراض وتتاجر بالأموال، والأموال هناك تُبْذَلُ بِسَخَاءٍ؛ لِإِقَامَةِ الْعُرُوضِ الْفَاجِرَةِ هُنَا وَهُنَاكَ بِاسْمِ الْفَنِّ، فَمُسَابَقَاتُ مَلِكَاتِ الْجَمَالِ والأمثال والأفلام والتمثيليات والمسارح، أغلبها تقوم على الإفساد والظلم.

وانظر إلى إسرافهم في الإنفاق، وكيف يحرقون المحاصيل؛ حتى لا ترخص الأسعار، وانظر كيف يمتصون دماء الشعوب، ويتوزعون بينهم مناطق النفوذ؟! وَكُلُّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ إِنَّمَا صَدَرَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؛ لأنهم لا يعرفون الأخلاق، ولا يتمتعون بها، أما الإسلام جاء بتعاليم كريمةٍ شريفة عظيمة وخصائص فريدة أقام من خلالها صروح العدل والكرامة، ولذلك أقول بأن مِنَ الْخَصَائِصِ الْعَظِيمَةِ في الاقتصاد الإسلامي: أنه اقْتِصَادٌ يَقُومُ عَلَى أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ وَقِيَمِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مَا لَا يَتَوفَّرُ فِي أَيِّ نظامٍ من الأنظمة الأخرى.

ونحن إذا نظرنا إلى ذلك علمنا فضل الإسلام ومكانة الإسلام، وأهمية الحرص على أن نأخذ جميع أنظمتنا من الإسلام الذي جاء من عند الله تبارك وتعالى وهذه مبادئ وخصائص -أيها المستمع الكريم- مهمة، يجب أن ننتبه إليها، وأن نفهمها، وأن نعرفها، وأن نتعلمها.

ص: 52

ننتقل بعد ذلك إلى نقطة أخرى في هذا العنصر، وهي بعنوان "المبادئ العامة في النظام الاقتصادي الإسلامي":

النظام الاقتصادي الإسلامي فيه جملة كبيرة من المبادئ العامة، وهي تقوم أيضًا على أساس الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَعَنْ هَذِهِ الْمَبَادِئِ تَتَفَرَّعُ جُزْئِيَّاتٌ كَثِيرَةٌ وتنظيمات مختلفة، وَسَأَذْكُرُ هُنَا -إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- من هذه المبادئ العامة بعضها، وهي:"حرية العمل" و"حق الملكية" و"حق الإرث".

وَسَأَذْكُرُ كلامًا يَسِيرًا حَوْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ المبادئ؛ الأمر الأول -أو المبدأ الأول-: هو حرية العمل: الإسلام يحث على العمل، ويكره العجز والكسل، وأشرف الأعمال وأعظمها قدرًا عند الله ما يقرب إليه من العبادات الخالصة -كالصلاة والأعمال المباحة- إذا اقترنت بها النية الصاحية -كالزراعة والصناعة ونحو ذلك.

وَفِي بَابِ الْكَسْبِ وَالنَّشَاطِ الاقْتِصَادِيِّ يحث الإسلام على العمل، ويبارك العامل، ويثني على جهد وكسبه الحلال، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله:{فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: من الآية: 10) وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15) وفي الحديث الشريف: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَط خَيْرٌ من أن يأكل من عَمِلِ يَدِهِ)) وَالْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ وَبَذْلِ النَّشَاطِ الاجتماعي والاقتصادي جاء عامًّا مطلقًا، وعلى هذا فإنه يشمل جميع أنواع النشاط الاقتصادي، ومختلف أنواع المعاملات والمكاسب، وذلك مثل: التجارة والزراعة والصناعة والشركة والمضاربة والإجارة، وسائر ما يباشره الإنسان من أوجه العمل والنشاط الاقتصادي؛ لغرض الكسب الحلال.

وَلَا تَنْقُصُ قيمة الإنسان في نظر الإسلام بمباشرة أي عملٍ حلال -وإن عده الناس عملًا بسيطًا أو حقيرًا- لأن قيمة الإنسان في نظر الإسلام في دينه وتقواه، لا في ماله

ص: 53

وغناه، ولا في عمله ومهنته، ولهذا وجدنا أكابر الأمة من علمائها وفقهائها يمتهنون مختلف المهن الحرة المباحة كما وجدنا بعض الصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- يؤجرون أنفسهم لغيرهم؛ للقيام ببعض الأعمال المباحة الحلال لقاء أجرٍ معلوم.

والإسلام قد حث على إعانة الفقير، وَجَعَلَ الْمُعِينَ خَيْرًا من الْمُعَانِ مِنْ جِهَةِ نَوَالِ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وفي هذا يقول صلى الله عليه وآله وسلم:((الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى)) وهذا يدعو إلى العمل وإلى الكسب المباح، وإلى أن يسعى الإنسان، وأن يبذل قصارى جهده في أن يؤمن له ولمن يعول ما يحتاجون إليه، وهذا من المبادئ العامة التي أتى بها الإسلام.

المبدأ الثاني -من هذه المبادئ-: حق الملكية الفردية؛ من الأمور الْبَدَهِيَّةِ الواضحة التي يعرفها صغار المطلعين على الشريعة الإسلامية أن الإسلام أَقَرَّ لِلْأَفْرَادِ بحق الملكية الفردية، وبهذا الإقرار أمكن للفرد أن يكون مالكًا؛ قال الله تبارك وتعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (يس: 71) فأثبت الله تعالى هنا للناس الملك؛ لما خلقه الله سبحانه وتعالى وقد قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (البقرة: من الآية: 279) فأثبتت هذه الآية الملك للناس، وأضافت المال إليهم إضافة ملكٍ واختصاص، وقد قال تعالى:{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (الأنعام: من الآية: 152) وقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} (الليل: 17 - 18).

فهذه الآيات الكريمات وأمثالها تضيف المال للإنسان؛ مما يدل دلالة قاطعةً واضحة على أن الإسلام يقر مبدأ الملكية الفردية، وَفِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي تُقَرِّرُ هَذَا الْمَبْدَأَ، ومن ذلك ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم:((لَا يَحِلُ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ)) وقد شرعت نظم الإسلام -أو جاءت النظم في الإسلام- قائمة على هذا

ص: 54

الأساس ألا وهو الإقرار بمبدأ حق الملكية الفردية، وَمِنْ ذَلِكَ الْمِيرَاثُ وَالزَّكَاةُ، وَالْمُهُورُ فِي النِّكَاحِ، والنفقات، وغير ذلك؛ إذ بدون الاعتراف بحق الملكية لا يبقى معنى للميراث، ولا يمكن تحقيق فرض الزكاة.

والدلائل الشرعية الدالة على إقرار مبدأ حق الملكية الفردية لا تفرق بين مالٍ ومال؛ فسواء كان المال المملوك منقولًا أو عقارًا؛ مأكولًا أو غير مأكول؛ حيوانًا أو نباتًا؛ وسائل إنتاج أو وسائل استهلاك، فكل هذا الاختلاف في المال -موضوع الملكية- لا يهم؛ لأن المال المضاف إلى الفرد إضافة ملكٍ واختصاص، الذي جاءت به النصوص الشرعية -وذكرنا بعضها- لم تقيد المال بصفة معينة، بل جاءت مطلقةً من كل قيد، عدا ما عُرِفَ من نصوص أخرى من حرمة تملك بعض الأشياء -كالخمر والخنزير- أو ما كان سبب ملكه حرامًا، وإن كان هو بنفسه يصلح أن يكون مملوكًا؛ كالمغصوب والمسروق ونحو ذلك.

وقد رَتَّبَ الإسلام على مبدأ حق الملكية الفردية التزامًا عامًّا على الكافَّةِ باحترامه -على الكافة أن يحترموه وأن لا يمسوه إلا بوجه حق- كما قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} (البقرة: من الآية: 188) وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} (النساء: 2)، وقد سبق أن ذكرت الحديث:((لَا يَحِلُ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ)) كما قرر الإسلام عقابًا لمن ينقض هذا الالتزام، ويتجاوز على حق الملك للغير، فهناك عقوبة السرقة وقطع الطريق وخيانة الأمانة والنهي ونحو ذلك؛ سواء أكانت هذه العقوبات عقوبات حدودٍ أم تعذير.

وَلَكِنَّ إقرار الإسلام -مع هذا- بحق الملكية الفردية -كَمَا ذَكَرْتُ وَأَشَرْتُ- لا يعني أنه حق مطلق من كل قيد، وأن موقف الإسلام منه هو موقف الحارس له فقط، فالحقيقة أن الإسلام -مع إقراره بحق الملكية وحمايته له- فَإِنَّهُ يُنَظِّمُه ويقيده بجملة قيود منذ نشأته إلى اندثاره، وبهذا يجمع الإسلام بين موقفينِ بالنسبة لحق الملكية الفردية؛ الأول: الاعتراف به والحماية له، الثاني: التقييد والتنظيم لهذا الحق، وهذا

ص: 55

التقييد يظهر في أمورٍ كثيرة جاءت بها الشريعة الإسلامية؛ فهناك وَضَعَ الإسلام أسبابًا شرعيةً للملكية -كالعمل والسعي أو الميراث أو ما إلى ذلك- أما أن يستولي الإنسان على المال الحرام، أو أن ينفق المال المباح الذي تَمَلَّكه في معصية الله تبارك وتعالى فالإسلام يمنع كل ذلك.

المبدأ الثالث -من المبادئ التي أود الحديث عنها هنا-: حق الإرث، وهو من المبادئ المقررة في الشرع الإسلامي؛ فإذا مات شخص، وترك مالًا، وورثه أقرباؤه كان -أو وجب- أن يرثه أقرباؤه على مقتضى ما جاءت به شريعة الإسلام، والإسلام قد أعطى هذه الحقوق للأقرب فالأقرب، ونال المستحقون للميراث سهامًا معينة من تركة الميت، جاء بها الإسلام، وذلك إذا تَوَفَّرَتْ شروط الميراث وأسبابه، وزالت موانعه حسب الشرع الإسلامي، وكما هو مقرر فيه.

وحق الإرث يقوم على أساسٍ من الفطرة والعدل واحترام إرادة المالك، ويدفع الإنسان إلى أن يبذل المزيد من الجهد والنشاط، وهذا النظام أيضًا يحقق ضمانًا اجتماعيًّا لأفراد الأسرة الواحدة، وَيُفَتِّتُ الثَّرَوَاتِ، ويمنع تكديسها، فهو لهذا كله مبدأ عظيم من مبادئ النظام الاقتصادي الإسلامي.

وأود أن أشير هنا -قبل أن أنتقل من هذه المبادئ- أن هذا المبدأ -ألا وهو حق الإرث- قائم على أساسٍ من العدل؛ فإن الإنسان في حياته يعيل أولاده، ويعيل من هو مكلف بِإِعَالَتِهِمْ -كأمه وأبيه وزوجته- وقد يُلْزَمُ بهذا الإنفاق إلزامًا عن طريق القضاء إذا امتنع عنه، والغالب عدم امتناعه.

فمن العدل إذًا أن تكون أمواله بعد موته لأولئك الذين كان هو السبب في وجودهم -كأولاده- أو كانوا هم السبب في وجوده -وذلك مثل أبويه- ليستعينوا جميعًا بهذه الأموال بالإنفاق منها على أنفسهم، كما كان هو في حياته ينفق منها عليهم، وهذا الحق أيضًا -ألا وهو حق الإرث- يقوم على أساس احترام إرادة المالك، وذلك أن الإنسان يرغب رغبةً أكيدة أن تكون أمواله بعد موته لأقربائه لا لغيرهم، فيجب احترام إرادته في هذا، وأن تُدْفَعَ أمواله إلى ورثته من بعده، وَقَدْ فَصَّلَ الشَّرْعُ الْإِسْلَامِيّ الحكيم هذا، وَبَيَّنَ حِصَصَ هَؤُلَاءِ الْأَقْرِبَاء من الميراث على نحوٍ دقيق عادل،

ص: 56

ولا شك أن المسلم يسره ويرضيه أن تصير أمواله إلى ورثته من بعده وفقًا لهذا التقسيم الشرعي العادل.

وأيضًا حق الإرث يدفع إلى أمرٍ آخر -ألا وهو بذل المزيد من النشاط والجهد- وهذا أمر واضح؛ لأن الإنسان في حياته لا يعمل لنفسه فقط، وإنما لمن يهمه شأنهم من أفراد أسرته أيضًا، فالإنسان يكد ويتعب ويجتهد في حياته ويعمل؛ ليسد حاجات أهله ومن يعول، وكما أنه يعمل لتوفير حاجاتهم الحاضرة، فكذلك يبذل أيضًا جهدًا آخر؛ لتوفير ما يسد حاجاتهم في المستقبل؛ فإن بقي في قيد الحياة تولى الإنفاق بنفسه عليهم، وإن مات هو تولوا هم بأنفسهم الإنفاق من أمواله التي تركها لهم.

وعلى هذا فإذا مُنِعَ التَّوَارُثُ؛ فإن الإنسان تضعف همته في العمل، ويقل نشاطه الاقتصادي؛ لأنه يعلم أن ثمرة جهده لا ترجع إلى أفراد أسرته الَّذِينَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِهِمْ، ولا شك أن المجتمع سيخسر كثيرًا من فتور الناس عن العمل، ومن ضعف دوافعهم على بذل كل ما يستطيعون من جهدٍ ونشاطٍ اقتصادي.

ومبدأ الميراث يحقق في الحقيقة ضمانًا اجتماعيًّا داخل الأسرة؛ لما يوفره من أموالٍ تعود إلى الأحياء منهم إذا مات أحدهم، وترك مالًا؛ فلا يضيع الصغير واليتيم والأرملة، ولا يصيرون عالة على المجتمع، وفي هذا تخفيف عن كاهل الدولة في سد حاجات المحتاجين.

وكذلك الميراث أيضًا: يُفَتِّتُ الثَّرَوَاتِ، وَيَمْنَعُ مِنْ تَكْدِيسِهَ في أيدٍ قليلة؛ لأن تَرِكَةَ الإنسان بعد موته تُقَسَّمُ عَلَى عَدَدٍ غَيْرِ قَلِيلٍ من أقاربه، ولما كان الإنسان غير مخلدٍ في الدنيا، وَعُمْرُهُ فِي الْغَالِبِ قصير، لا يتجاوز بعض عشراتٍ من السنين؛ فإن الثروة التي يجمعها الإنسان في حياته لا بد أن تتفتت بعد زمنٍ قصير، وتفتيت الثروات الكبيرة مما يُرَغِّبُ فِيهِ الْإِسْلَامُ، ويسلك لتحقيقه سبلًا كثيرة هادئة مريحة، لا عنف فيها ولا اهتزاز، ومن هذه السبل تقرير مبدأ الميراث؛ فتنظيم الإرث في الإسلام جاء إذًا على غايةٍ من العدل والدقة، مما لا نجد له نظيرًا مطلقًا في أي شرعٍ آخر.

ص: 57