الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر أن جهاد النفس يقع أيضًا في أربع مراتب: إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق، والثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، والثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه مَنْ لا يعلم، ورابعها: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى أذى الخلق.
ثم أشار إلى جهاد الشيطان، وذكر أنه مرتبتان: إحداهما: جهاده على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان، والثانية: جهاده على دفع ما يُلقي إليه الشيطان من الإرادات الفاسدة والشهوات.
ثم قال: "وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد وجهاد المنافقين أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
ثم قال رحمه الله: وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب: الأولى باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه".
فهذه ثلاث عشر مرتبة من الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى هذه كلمات يسيرة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى وهي تفيدنا هنا عند حديثي عن أنواع الجهاد في سبيل الله عز وجل.
مشروعية الجهاد وسببه ومراحله وفضله
مشروعية الجهاد، وسببه، ومراحله، وفضله، ويشتمل على النقاط التالية:
أ- تاريخ تشريع الجهاد في الإسلام:
قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تبارك وتعالى في تفسيره: شرع الله تبارك وتعالى الجهاد في الوقت الأليق به؛ لأن المسلمين كانوا بمكة أقل عددًا، وكان المشركين أكثر عُدة وعددًا، فلو أمر الله المسلمين، وهم أقل من العشر
بقتال الباقين لشق عليهم ذلك، فلما بغى المشركون، وأخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بين أظهرهم وهموا بقتله، وشردوا أصحابه شذر مذر؛ فذهبت طائفة إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة، فلما استقر بالمدينة ووافاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واجتمعوا عليه، وقاموا بنصره، وسارت لهم دار إسلام ومعقلٍ يلجئون إليه، شرع الله سبحانه وتعالى جهاد الأحزاب.
ويرى بعض العلماء أن هناك حكمة أخرى من وراء تأخير تشريع الجهاد إلى ما بعد الهجرة، وهي: أن الإسلام يحرص كل الحرص على تربية نفوس المؤمنين كي يصبحوا أهلًا لتحمل الأمانة، وأهلًا للدافع عن العقيدة، فأصّل فيهم الفضائل، وبذر فيهم بذور الصبر والمصابرة، والثبات والمجاهدة، واحتمال المكاره، وأعدهم إعدادًا جعل منهم نماذج فريدة للشجاعة والثبات، والنضج والوعي يهابهم المشركون، ويحتسبون منهم، ويخافون من مواجهتهم رغم قلة عددهم، والإيمان يفعل الأعاجيب، ويورث في النفس البشرية شحنة عالية من الطاقة المتدفقة، ورصيدًا هائلًا من القوة الفاعلة الدافعة، وهذا في الحقيقة ثمرة جليلة من ثمرة العقيدة الإسلامية الصحيحة.
فالإسلام إذن ما شرع الجهاد إلا بعد أن ربى هؤلاء الفتية تربية صحيحة سليمة، دفعتهم إلى الاستجابة لأمر الله تبارك وتعالى حينما طُلِبَ منهم الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد اتفقت كلمة علماء المسلمين على أن الجهاد إنما شُرِعَ بعد الهجرة؛ حيث واصل المشركون عدوانهم على المؤمنين، وذلك بتعزير مَنْ بقي منهم بمكة، وملاحقة مَنْ هاجر إلى المدينة، وبحبك المؤامرات للقضاء على الدعوة في مهدها، ونجد أن صاحب الدعوة صلى الله عليه وآله وسلم إزاء هذا العدوان المرير المتواصل، وإزاء تجاوز قريش لحدود العقل والمنطق، وذلك في إيقاعها الضرر تلو الضرر بالمسلمين المؤمنين البررة الأتقياء، كان يتطلع إذن إلى أن يرد هذا العدوان
عنه وعن أصحابه؛ ولذلك أذن الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال ردًّا للعدوان، وتثبيتًا لدعائم الدولة الإسلامية، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 39، 40).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى في كتابه (زاد المعاد): إن الله تبارك وتعالى لم يأذن للمسمين في القتال بمكة، إذ لم يكن لهم يوم ذاك شوكة يتمكنون بها من القتال، وإن سياق الآية يدل على أن الإذن كان بعد الهجرة، وبعد إخراجهم من ديارهم، فإنه سبحانه وتعالى قال:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} وهؤلاء هم المهاجرون، وإن الله سبحانه أمر المؤمنين بالجهاد الذي يعم الجهاد باليد والسيف والآلة وغير ذلك، ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة.
فأما جهاد الحجة فهو يختلف عن القتال اختلافًا بينًا، والفرق بينهما جليٌّ وظاهر، وقد أُمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بجهاد الحجة في مكة المكرمة بقول الله تبارك وتعالى:{فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (الفرقان: 52) فهذه الآية الكريمة مكية، والمراد بالجهاد فيها: جهاد التبليغ والبيان، وجهاد الحجة والدليل والبرهان.
ب- سبب تشريع الجهاد:
الإسلام دين حجة وبرهان، الإسلام -كما نعلم جميعًا- دينٌ نزل من عند الله تبارك وتعالى ليحق الحق ويبطل الباطل، وهو دينٌ يقوم على الاقتناع العقلي والفهم لكل من يدخل
فيه، ولم يلزم الإسلام أحدًا على الدخول فيه إلزامًا، ولم يرغم أحدًا على قَبُولِه، فكيف يتهم بعد ذلك بأنه دين يلزم الناس بالدخول فيه، أو أنه يكرههم عليه؟! والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى لم يُشرع إلزام الناس على الدخول في دين الله، أو إكراههم على ذلك؛ ولهذا نقول بكل ثقة وبكل يقين في سبب مشروعية الجهاد في سبيل الله:
إن الجهاد في سبيل الله إنما شرع لرد العدوان، ودفع الشر، وللدفاع عن النفس، وهو مبدأ لا يمكن أن يجادل فيه عاقل منصف نزيه مهما كان معتقده، وقد واصل المشركون كيدهم اللئيم، ومكرهم الخبيث، وعدوانهم المتزايد على المسلمين أينما حلوا وفوق أي أرض نزلوا، وفي أي البلدان وُجِدوا وإلى أي الأقطار اتجهوا يوقعون بهم شتى أنواع الأذى، ومختلف ضروب العذاب؛ ليفتنوهم عن دينهم، وليردوهم على أعقابهم، وقد هموا بما لم ينالوا، هموا بقتل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الدعوة وحامل الرسالة لولا أن تدخلت عناية الله ورحمته من اليد الآثمة الشريرة، وصدق الله:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ} (المائدة: من الآية: 67).
وأمام تزايد ظلم قريش تطلع المؤمنون بالأمل الوثاب إلى يوم عزيز، يأذن الله به بقتال الكافرين ليجدوا طريقًا مشروعًا وسبيلًا سليمًا، يرفعون به ما لحقهم من ضيم وهوان، ويردون به ما نالهم من أذى وعذاب، ويستردون ما غُصِبَ منهم من حقٍّ ومالٍ وممتلكات، وعلى هذا فإن الإسلام دين عزة وقوة ومنعة، وليس بدين استسلام واستكانة، ورضى بالهوان، وطلب معيشة ذليلة، وهو لا يرضى للمسلمين الخنوع والجبن، وقبول واقع مرير وحياة وضعية، والفضيلة كل الفضيلة تتجلى في رد الاعتداء، ومنع الخضوع للأقوياء المشركين، ولو تُرِكَ الأشرار وشأنهم يعيثون فسادًا من غير رادعٍ يردعهم، ولا مانع يمنع طغيانهم وبغيهم لعم الفساد في البر والبحر، ومصداق ذلك في قول الله تبارك وتعالى:
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: من الآية: 251).
ولعل الحكمة من مشروعية الجهاد في الإسلام قد استبانت إذن، ويمكن إرجاعها إلى العوامل التالية:
أولًا: الدفاع عن النفس.
ثانيًا: رد العدوان.
ثالثًا: تأمين حرية العقيدة، وإقامة الشعائر الدينية.
يقول الشيخ عبد الله بن زيد المحمود رحمه الله تبارك وتعالى في كتابه (الجهاد المشروع في الإسلام): لقد عشنا زمنًا طويلًا، ونحن نعتقد ما يعتقده بعض العلماء وأكثر العوام من أن قتال الكفار سببه الكفر، وأن الكفار يُقاتَلون حتى يسلموا، لكننا بعد أن توسعنا في علم الكتاب والسنة، والوقوف على سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تحققنا بأن القتال في الإسلام إنما شرع دفاعًا عن الدين، وعن أذى المعتدين على المؤمنين، وليس ذلك بالظن ولكنه اليقين، ثم استشهد رحمه الله بقول الإمام ابن تيمية: الصحيح أن القتال شرع لأجل الحرب لا لأجل الكفر، وهذا الذي يدل عليه الكتاب والسنة، وهو مقتضى الاعتبار، وذلك أنه لو كان الكفر هو الموجب للقتال لم يجز إقرار كافر بالجزية، وأعتقد بعد ذلك يتضح لكل بصير ومتأمل أسباب تشريع الجهاد في الإسلام.
جـ- مراحل تشريع الجهاد:
إن المتتبع لآيات الجهاد وزمن نزولها، وأقوال علماء التفسير فيها، يرى أن فريضة الجهاد قد مرت بمراحل تشريعية يمكن إجمال الكلام عنها في نقاط أساسية، هي -
وأنا ذكرتها هنا بتفصيل، وسيتضح ذلك بعد قليل عند ذكري لهذه المراحل الخمسة-:
المرحلة الأولى: تتمثل في الرد على عدوان كفار مكة، والتصدي لإيذائهم وظلمهم، وهذا ما يُفهم من قول الله تبارك وتعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: 39) ويؤيد هذا المعنى ما رُوي عن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: "إن أبا بكر -رضي الله تعالى عنه- قال حين نزلت هذه الآية: فعرفت أنه سيكون قتال" وهذا بمعنى التهيؤ والاستعداد لفريضة الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.
المرحلة الثانية: السماح للمسلمين بقتال مَنْ يعتدي عليهم، ولعل هذا المعنى هو الذي يشير إليه قول الله تبارك وتعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) وقوله سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194).
المرحلة الثالثة: الإذن بقتال اليهود وإخراجهم من ديارهم، ذلك لأنهم نقضوا ما كان بينهم وما بين المسلمين من عهود ومواثيق، وتآزروا مع أعداء الدعوة لقتال المسلمين وقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله سبحانه قوله الكريم:{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (الأنفال: 56، 57).
المرحلة الرابعة: الإذن بقتال قوى الشر متمثلة باليهود والنصارى الذين تكتلوا ووقفوا ضد الدعوة الإسلامية، ومنعوا الناس من الدخول في دين الله، وهذا المعنى يفيده قول الله تبارك وتعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29).
المرحلة الخامسة: الإذن بقتال أعداء الإسلام عامة من مشركين ووثنيين وأهل كتاب؛ نظرًا لتكتل هذه الطوائف، ومحاربتها للإسلام والمسلمين.