الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأسأل الله تبارك وتعالى في ختام الحديث عن أركان الإسلام أن يوفق المسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها إلى أن يقوموا بأركان الإسلام كما يجب أن يكون، وسنعرف الآن من خلال العنصر الثاني أهمية ما أود الحديث عنه.
أثر الإيمان والعقيدة في تكوين الفرد والمجتمع
العنصر الثاني في هذا اللقاء بعنوان أثر الإيمان، والعقيدة في تكوين الفرد، والمجتمع، ويشتمل على النقاط التالية:
أ- أثر الإيمان في الفرد، والمجتمع:
دعوتكم -أيها الإخوة الكرام- إلى التمسك بأركان الإسلام لما لأركان الإسلام، والأخذ بالدين بصورة عامة من فوائد عظيمة، وأثار طيبة تتحقق في واقع المسلمين، وأنا سأذكر -إن شاء الله تبارك وتعالى فيما بقي من هذا اللقاء كلامًا حول هذا الموضوع، وأبدأ كما ذكرت أنفًا بالنقطة الأولى، وهي أثر الإيمان في الفرد، والمجتمع:
للإيمان آثار كثيرة طيبة في النفس الإنسانية، وفي المجتمع الإنساني، ومن هذه الآثار: الرضا النفسي، والاطمئنان القلبي، فالنفوس البشرية دائمة الاضطراب تزعجها الشدة والبلاء، وتبطرها النعمة والرخاء، وليس مثل الإيمان بالله الواحد الأحد مطمئنًا للنفوس، وجالبا للسعادة والهناء، قال الله تبارك وتعالى:{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} (الرعد: من الآية: 28) ولذلك نحن نسمع كثيرًا عن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله تبارك وتعالى كيف أن مجتمعاتهم سيئة، وأنهم كثيرًا ما يخرجون من هذه الحياة باختيارهم فينتحرون؛ لأنه ليس لديهم طمأنينة وليست عندهم نفوس هادئة لأنهم ابتعدوا عن الإيمان بالله تبارك وتعالى.
أيضًا من أثار الإيمان على الفرد والجماعة: الشجاعة والإقدام. الإيمان يغرس في النفس أن الأرزاق، والآجال بيد الله تبارك وتعالى وأن العباد مربوبون محكومون، أمرهم بيد خالقهم، فما دام العبد متوكلا على الله تبارك وتعالى معتمدًا عليه، فإنه لا يرهب الباطل، ولا يخشى الموت، ويواجه الظلم والطغيان بنفس غير هيابة، وهذا هو السر في وقوف أهل الصلاح من هذه الأمة في وجه الظلم والظالمين، والطغيان.
الأمر الثالث من أثر الإيمان في الفرد والمجتمع: الاستقامة والصلاح، فالذي يراقب الله ويخشاه، ويعلم أنه عليه رقيب، وله حسيب يستقيم على أمر الله تبارك وتعالى وينتهي عنه نهيه، ولا شك أن معتقده سيكون صحيحًا سليما، الذي يعتقد أن الله مطلع عليه، ويعلم خطرات نفسه لا شك أنه سيتحسس مواطن أقدامه، فالإيمان إذن يدعو حقا إلى الاستقامة، والصلاح.
الأمر الرابع من أثر الإيمان في الفرد والمجتمع: تحرير العباد من التخبط الفكري، والفوضى العقائدية، والعبودية للمال، وإخراجهم من ظلمات الشرك والجهل والخرافة والدجل إلى نور الإيمان، والعلم، والتوحيد الذي يكشف الحقائق، ويبَصِّر بالصواب، ومن يدور في تاريخ الأمم يعجب من ذلك الضلال الذي عاش فيه البشر حيث عبدوا الأشجار، والأحجار، والشموس، والأقمار، بل إن البعض ألَّه البشر، والبقر من دون الله تبارك وتعالى.
والإيمان بالله عز وجل والاستقامة على المنهج تحرر العبادة من هذه الفوضى؛ لأن ذلك يوجب على العبد ألا يلجأ إلا إلى الله، وأن يتوجه بجميع عبادته إلى ربه ومولاه، وأن يكون فيها مقتفيا أثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومصطفاه، والذي يدفعه إلى ذلك هو الإيمان بالله تبارك وتعالى دون سواه.
الأثر الخامس من أثر الإيمان في الفرد والمجتمع: الثبات على خط واحد في اليسر والعسر، يشكر العبد ربه في النعمة، ويصبر في المصيبة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أمر المؤمن كله له خير، في الحديث:((عجبًا لأمر المؤمن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصبته ضراء صبر فكان خير له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)).
الأثر السادس: الوحدة والاتفاق، فأتباع هذا الدين تأتلف منهم القلوب، وتتفق منهم الأعمال، وكلما استمسكوا بهذا الدين ازدادوا اتحادا؛ لأن ربهم واحد، ولأن دينهم واحد، ووجهتهم واحدة، ومن أرسل إليهم رسول الله واحد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن معشر أهل الإسلام نتوجه إلى قبلة واحدة، ونعتقد معتقد واحدًا، فلم تكون قلوبنا إذن متفرقة؟ فإذا آمن العبد بربه وموالاه أدى ذلك إلى أن يتحد كل من آمن بالله عز وجل على الأمر الذي آمنوا به، وكل ما جاء في دين الله عز وجل يدعو إلى
هذه الوحدة، وإلى هذا الاتفاق، والله عز وجل قد أمرنا بأن نعتصم بحبله، ونهانا عن أن نتفرق، أو نختلف، أو أن يكون الأمر بيننا شيعًا وأحزابا قال جل ذكره:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران: من الآية: 103).
الأثر السابع من أثر الإيمان في الفرد والمجتمع: الحفاظ على النفوس والأموال، فالإيمان بالله تبارك وتعالى هو الذي يغرس خوف الله وخشيته في القلوب، يردع النفوس عن الإفساد في الأرض، فتحفظ النفوس والأموال بذلك، وتحفظ من ناحية أخرى بسبب عدم بذلها في مسار يضيعها، فأهل الجاهلية كانوا ولا يزالون يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل آلهة باطلة لا تضر، ولا تنفع، ولا تزال مئات الملايين إلى اليوم تذهب في كل عام في سبيل المعتقدات الباطلة، والذي يؤمن بالله تبارك وتعالى ويعلم أن المال مال الله عز وجل وحينما يقوم هذا المعتقد في القلب لن يخرج الإنسان مالًا إلا إذا كان ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى لأنه يعلم أنه مستخلف في هذا المال، وأنه ليس فيه حق التصرف كما يشاء، بل له حق التصرف في حدود ما شرعه الله سبحانه وتعالى وبينه له.
الأثر الثامن: التوجه بالأعمال إلى الدار الآخرة، وهذا بعكس ما عليه الكفار الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، فإن هؤلاء لا ينظرون إلى أبعد من موطئ أقدمهم؛ تصوراتهم، وأعمالهم، وإرادتهم محكومة بإطار الحياة الدنيا، أما المؤمن بالله عز وجل فهو ينظر نظرة أخرى، وينطلق انطلاقة أخرى، فهو يتوجه بأعماله إلى الله عز وجل يقصد بها وجه الله تبارك وتعالى يقول الله -جل ذكره-:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: من الآية: 77) فالإنسان الذي يعرف أصله الطيب، وربه الكريم العظيم، وغايته الكبيرة يشعر بالعزة والكرامة، أما الإنسان الذي يظن أن أصله قرد، أو جرثومة خبيثة، أو أن إلهه الشمس، أو القمر، أو البقر، أو أنه خلق عبثًا من غير غاية، فإنه مهين في نفسه،
يشعر بالضعة، والذلة، والهوان:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) والله عز وجل في كتابه قد أثبت هذه العزة لأهل الإيمان، فقال:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: من الآية: 8)، فالعزة في الحقيقة هي لله وحده دون سواه، ثم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأهل الإيمان يعطيهم إياها رب العزة والجلال سبحانه وتعالى.
الأثر العاشر: من أثر الإيمان في الفرد والمجتمع: معرفة شيء من العوالم غير المنظورة كالملائكة، والجن، والجنة، والنار، وهي كلها من عالم الغيب، ذلك لأن المؤمن بالله عز وجل يؤمن بجميع ما جاءه من عند الله تبارك وتعالى مما شاهد، ومما لم يشاهد، فالإيمان بالله تبارك وتعالى يجعل العبد يسلم بما جاء عن الله تبارك وتعالى من أمور الغيب، ومن ذلك أمر الملائكة الكرام الكاتبين الذين يراقبون أعمال العباد، وما إلى ذلك مما سبق أن أشرت إليه، وكذلك يؤمن بالجن، يؤمن بالجنة، يؤمن بالنار، يؤمن بما أخبر الله عز وجل به في يوم القيامة
…
وما إلى ذلك.
الأثر الذي يلي ذلك والأخير من أثر الإيمان على الفرد والمجتمع: العلم بعظمة الله تبارك وتعالى وقوة الله، وسلطانه وجبروته من خلال التعرف إلى صفات الله عز وجل فأنت يا أيها المؤمن حينما تؤمن؛ تؤمن بالله عز وجل وتتعرف على صفات الله تبارك وتعالى وتسلم بها كما جاءت في كتاب الله، وفي صحيح سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا يجعلك تعرف شيئًا عن عظمة الله تبارك وتعالى وعن قدرة الله، وعظيم قدرة الله، وصفات الكمال الثابتة لرب العزة والجلال سبحانه وتعالى.
أنتقل بعد ذلك إلى النقطة التالية في هذا العنصر، وهي ب- بعنوان: نتائج اتخاذ العقيدة الإسلامية أساسًا لنظام المجتمع:
سبق أن بينت أثر الإيمان والعقيدة في تكوين الفرد والمجتمع، وأود هنا أن أبين النتائج المترتبة على اتخاذ العقيدة الإسلامية أساسًا لنظام المجتمع؛ لأن المجتمع الذي يتخذ العقيدة الإسلامية أساسًا للنظام؛ يحقق النتائج التالية:
أولًا: الرباط الإيماني: الإسلام يعتبر المؤمنين بالعقيدة الإسلامية إخوة في الدين، قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} (الحجرات: من الآية: 10) وفي الحديث الشريف:
المسلم أخو المسلم، والإخوة الإيمانية من أعظم الروابط بين المسلمين، وعلى أساسها تكون الموالاة، وقد يشترك المسلم مع أخيه المسلم بروابط أخرى، كرابطة النسب، أو الإقليم، وهذه الروابط غير منكورة، ولا مرفوضة في الإسلام، ولكن بشرط: ألا تحمل شيئًا من الباطل، وألا تعلو على رابطة الإيمان، ومستلزماتها، والرابطة الإيمانية لا تقتضى بحال اضطهاد غير المسلمين، أو إيذائهم، ومن المعلوم أن الإسلام يقبل في عضوية المجتمع الإسلامي غير المسلمين، ويأمر بحمايتهم، فإذا فات غير مسلم رابطة الإيمان، وقوة الدين، فلن تفوته حماية المسلمين، ولن يفوته عدل الإسلام، وبر المجتمع الإسلامي، قال تعالى:{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} (المائدة: من الآية: 2) وقال سبحانه: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8).
الأمر الثاني من نتائج اتخاذ العقيدة الإسلامية أساسًا لنظام المجتمع: زوال العصبية، والمقصود بالعصيبة التناصر بالحق والباطل لاشتراك المتناصرين بالنسب -أي نسب القبيلة، أو السلالة، أو الأسرة- وكان هذا المفهوم للعصبية هو الشائع عند العرب قبل الإسلام، فكان أفراد القبيلة ينصر بعضهم بعضًا في الحق وفي الباطل، لماذا؟ لانتسابهم إلى قبيلة واحدة، وقد أنكر الإسلام هذه العصبية، وأمر بنبذها فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:((ليس منًا من دعا إلى عصبية وليس منا من مات على عصبية)) وقال عليه الصلاة والسلام عن العصبية: ((دعوها فإنها منتنة)).
وبعد أن كان شعار الجاهلية: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا بمعنى: كن بجانبه في الحالين أصبح الشعار في الإسلام: انصر أخاك ظالمًا بأن تمنعه من الظلم، أو
مظلومًا بأن تقف بجانبه ضد ظالمه، وذم العصبية في الإسلام لا يقف عند حد العصبية القائمة على أساس المشاركة في القبيلة، أو الجنس، وإنما تتعداها إلى كل عصبية قائمة على سبب آخر ما دام جوهر العصبية موجودًا، وهو نصرة الغير بالباطل بغير هذه المشاركة، وعلى هذا فانتصار أصحاب الإقليم الواحد، أو الحرفة الواحدة، أو المذهب الواحد بعضهم لبعض في الباطل هو من العصبية المقيتة المذمومة، إن خلو المجتمع الإسلامي من العصبية بأنواعها يقلل فرص الاعتداء والظلم، والبغي، ويساعد على شد الأفراد إلى معاني الحق والعدل، وفي هذا كله خير مؤكد للمجتمع ولأفراده.
الأمر الثالث والأخير من نتائج اتخاذ العقيدة الإسلامية أساسًا لنظام المجتمع: تقوى الله تبارك وتعالى لأنه بزوال العصبية تزول نتائجها، ومنها التفاخر بالأحساب والأنساب، والعظام البالية، فليس مجرد انتساب الفرد إلى قبيلة معينة مدعاة إلى الفخر، ولا إلى فضله، وعلو منزله، إذ لا علاقة بين فضل الإنسان وبين انتسابه إلى قوم معينين، أو إلى قبيلة معينة، وإنما المعقول أن يقدر فضل الإنسان بقدر ما تحمله نفسه من فضائل، وأخلاق كريمة، وبقدر ما يقدمه مصالح الأعمال، وهذا كله يحققه تقوى الله عز وجل ومن هنا كان أساس التفاضل في الإسلام تقوى الله، وأما الانتساب إلى القبائل، فهو للتعارف فقط كانتسابه إلى بلدة معينة، أو حرفة معينة، أو بيت معين، أو تسميته باسم معين، فكل هذه الأشكال من الانتساب، أو الأسماء يقصد بها التعارف، وما يترتب عليه من تعاون أو تكاليف قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
وبهذا الميزان الدقيق العادل لمعرفة أقدار الناس، وفضلهم أصبح المجال واسعًا للتنافس في الخير، وبلوغ المنزلة العالية التي يطمح إليها الإنسان، فلا يمنعه منها
مانع من فقر، أو لون، أو ذكورة، أو أنوثة، أو دمامة خلقة، أو ضعف، كما لا يرفع عن الإنسان أبدًا إذا فاتته التقوى، لا يرفع عنه شرف النسب، أو كثرة المال لا يرفع عنه بحال من الأحوال الذلة، والمهانة، وعدم التقدير، والاحترام؛ لأن تقوى الله تبارك وتعالى هي المدار الذي يدور رفعة الإنسان. هذه هي نتائج اتخاذ العقيدة الإسلامية أساسًا للنظام المجتمع.
أنتقل بعد ذلك إلى النقطة التالية في هذا العنصر، وهي ج- بعنوان: الإيمان يدفع إلى المثل العليا:
في الحقيقة في ختام الحديث عن الإيمان وأركانه، والإسلام وأركانه- أود أن أبرز أمرًا مهما للغاية، وهو أن الإيمان يدفع إلى المثل العليا، وسأبين هذا إن شاء الله تبارك وتعالى بشيء من التفصيل؛ لأني أود، وأدعو، وأحب أن أركز في المستمعين أن الإيمان لا يختصر على القول، وإنما هو اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، والأركان، وبالتالي فعلى المؤمن أن يترجم إيمانه إلى حياة عملية، واقعية، ومن هنا كانت هذه النقطة: الإيمان يدفع إلى المثل العليا.
المؤمن يعيش لرسالة كبيرة، ويعمل لهدف رفيع، ويحيا في ظل مثل عليا يعيش لها، ويموت عليها، هي القربى إلى الله، والعبد يسعى دائما في مرضاة الله تبارك وتعالى وهو في سبيل مثله يكبح جماح نفسه، ويقمع طغيان هواه، ويضغط على غرائزه وشهواته احتسابا لله، وإيثارا لما عنده، وابتغاء مرضاته، وإيمانا لحسن الثواب لديه، قد وضع نصب عينيه قول ربه -جل شأنه-:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (آل عمران: 14 - 17).
فهذه هي الثمرات الأخلاقية للإيمان، وهذه هي صفات المؤمن التقي الذي آثر ما عند الله على شهوات الحياة، إن هدف المؤمن أن يقترب من الله -جل في علاه- ويحصل على مثوبته ورضاه، وهذا يجعل حياته كلها موصولة الأسباب بالله، ويجعله يحيا دائما، وهو يرجو الله، والدار الآخرة، ثم إن أخطر شيء على أخلاق الناس هو هذه الدنيا بمتاعها، ومغرياتها بزخارفها، وشهواتها من النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب، والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث.
إن الغلو في حب الدنيا هو رأس كل خطيئة، والتنافس عليها أساس كل بلية من أجل متاع الدنيا يبيع الأخ أخاه، ومن أجل متاع الدنيا يقتل الابن أباه، ومن أجلها يخون الناس الأمانات، وينكصون العقود، ومن أجلها يجحد الناس الحقوق، وينسون الواجبات، ومن أجلها يبغي الناس بعضهم على بعض، ويعيشون كسباع الغابة، أو أسماك البحار، يفترس القوي الضعيف، ويلتهم الكبير الصغير من أجل شهوات الدنيا، ومفاتنها يغش التجار ويطففون، ويتجبر الرؤساء ويستكبرون، ويجور القضاة ويرتشون، ويطغى الأغنياء ويترفون، وينافق ضعفاء الناس ويتزلفون، من أجل الدنيا يكتم العالم ما يعلم أنه الحق، ويفتي بما يعتقد أنه الباطل، من أجل الدنيا يروج الصحفي الكذب والزور، ويخفي الحقائق، وهي أوضح من فلق الصبح، من أجل الدنيا يهجو الشاعر كل حليم رشيد، ويزف عرائس المديح إلى كل سكير وعربيد، من أجل الدنيا تسفك الدماء، وتستباح الحرمات، وتداس القيم، ويباع الدين، والشرف، والوطن، والعرض وكل معنى إنساني كريم، كل هذا من أجل الدنيا، ومتاع الدنيا، وشهوات الدنيا من أجل امرأة، أو كأس، أو عمارة، أو قطعة أرض، أو منصب يصغر أو يكبر، أو دنانير تقل أو تكثر، أو حظوة لدى رئيس، أو شهرة بين الناس، أو غير ذلك من هم البطن، وشهوة الفرج، وحب الجاه والمال.
إن حب الحياة والأمل فيها جزء من فطرة الإنسان، حب الحياة والأمل أمر فطري في الإنسان، ولولا ذلك ما عمرت الأرض، ولا ترعرعت شجرة الحياة فلم يكن ممن ينافي الحكمة أن يزين الله للناس حب الشهوات، ولكن الخطر كل الخطر أن يستغرق الناس في حب الدنيا، وطول الأمل فيها، وأن تكون هذه الحياة القصيرة هي أكبر همهم، ومبلغ علمهم، ومنتهى آمالهم، فالدنيا زينت لك، خذ من زينتها بالمعروف، وبقدر ما تحتاج إليه مع الالتزام بأوامر رب العزة والجلال سبحانه وتعالى، وهذا هو ديدن المؤمن في موازنته كما قال الله فيما سبق أن ذكرته:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} فالدنيا مفتنة، وعلى الإنسان أن يأخذ حظه، ونصيبه منها، ولكن أن يجعل أكبر همه، وأن يجعل مبلغ علمه: هو إرضاء الحق تبارك وتعالى وابتغاء وجه الله سبحانه، والإيمان وحده هو الذي يعطي صاحبه القدرة على مقاومة إغراء الدنيا وفتنتها.
إن العبد قد لا يملك الدنيا، ولكنها لا تملكه، وقد تمتلئ بها يداه، ولكن لا يمتلئ بها قلبه، ذلك أنه يعيش في الدنيا بروح المرتحل، كأنه غريب، أو عابر سبيل، ومن عاش في الدنيا بهذه الروح، فلا خوف عليه من امتلاك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، إنه يحيا في الدنيا بقلب أهل الآخرة، ويمشي وقدمه في الأرض، وقلبه موصول بالسماء.
المؤمن وحده هو الذي امتلأ يقينًا بأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأنها قنطرة عبور إلى الحياة الباقية، وأن ركعتين خاشعتين لله عند الله خير من الدنيا وما فيها، وأن غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وأن موضع قدم الإنسان في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وحسب المؤمن أن يعلم أن أنبياء الله ورسله وأولياءه عاشوا في الدنيا معذبين مضطهدين، وأن أعداءه، وأعداء رسله من
الكفرة، والمكذبين، والملحدين كثيرًا ما عاشوا منعمين مترفين، قال تعالى:{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 33: 35).
إن الاستعلاء على متاع الدنيا والاستكبار على شهواتها، ومغرياتها ليس معناه أيضًا تحريم طيباتها، أو تحريم مصالحها، أو تعويق سيرها، إنما المقصود أن تكون الآخرة مراد المؤمن، وغاية سعيه، فلا يكون ممن يريد حرث الدنيا، لا ممن يريد حرث الآخرة لا ممن يكون، ولا أن يكون، ولا أن يفضل العاجلة التي وصف الله أهلها بالطغيان، فقال:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (النازعات: 37 - 38)، والله عز وجل خاطب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في شأن هؤلاء الذين اشتغلوا بالدنيا، وتركوا الآخرة:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ} (النجم: 29، من 30). بل يجب أن يكون المؤمن ممن أراد الآخرة، وسعى لها سعيها، واتخذ الدنيا وسيلة لا غاية، وممرًّا لا مقرًّا.
إن الذي لا يوقن بالآخرة يقينًا جازمًا يصعب فطامه عن شهوات الدنيا، ويصعب صرفه عن مجونه، ولذاته، أما أهل الإيمان فالإيمان يغرس فيهم مثلًا عليًا هو ما أشير إليها الآن، ولا ريب أن للغرائز في دفع الإنسان سلطان لا ينكر، ولكن المثل العليا التي يعيش لها المؤمن تعلو به على الغرائز، وسلطانها الغريزة الجنسية بخاصة لعلها أعتى الغرائز وأقواها، حتى إن في علماء النفس من فسر بها السلوك البشري كله مثل فرويد، وهو تفسير حيواني يتجاهل غرائز الإنسان الأخرى، ويتجاهل سائر ملكاته الروحية، ودوافعه النفسية، وأننا لا أنافشه هنا الآن، ولكني لا أشك في أن الغريزة الجنسية تتجلى في الشباب على أشدها، ولا شيء يمنع الشباب من الوقوع فيما حرم الله تعالى إلا الإيمان بالله عز وجل إن هذه القوة الغريزية التي هي في الشباب لا ينظمها، ولا يحل لدى الإنسان ما فيها من رغبة في إتيان المنكر إلا بالإيمان بالله تبارك وتعالى.
لا يمنع الوقوع في المنكرات إلا الإيمان، وهذا
ما حدث ليوسف عليه السلام شاب في ريعان الشباب شاب مكتمل الرجولة رائع الفتوة تدعوه إلى نفسها امرأة ذات منصب، وجمال ليست من عامة الناس، ولكنها امرأة العزيز الذي هو في بيتها، وهو عبدها، وخادمها، والأبواب مغلقة، والسبل ميسرة كما حكى القرآن:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} (يوسف: من الآية: 23) فماذا كان موقفه أمام هذا الإغراء، وتلك الفتنة التي تخطف الأبصار، ألانت قناته فاستسلم وخان عرضًا ائتمن عليه؟ كلا، إنما قال:{مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: من الآية: 23).
ولقد حاولت المرأة بكيدها ومكرها، وبكل ما لديها من ألوان الإغراء والتهديد أن تذيب من صلابة يوسف عليه السلام وأن تضعضع من شموخه، وأعلنت ذلك لنسوتها في ضيق وغيظ:{وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} (يوسف: 32) ومع كل ذلك انتصر يوسف عليه السلام لأن المثل العليا تمثلت فيه نتيجة لإيمانه بالله تبارك وتعالى.
كذلك أيضًا الإيمان ينتصر على غريزة الأنانية، أو حب الذات، غريزة الأنانية غريزة عاتية جبارة ربما تكون كامنة في كثير من النفوس، ولكن عنصر الإيمان إذا دخل هذه المعركة، ألا وهي هذه الغريزة العاتية عند بعض الناس، أطفأها، وصارت بردًا وسلامًا، الإسلام هو الذي يحطم طغيان الأنانية بين الناس، وفي القصة التي روتها أم سلمة زوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مثل واضح على مبلغ أثر الإيمان في النفوس على مبلغ أثر الإيمان في تكوين العبد إلى مثل عليا رفيعة يرتفع بها إلى مصاف عالية كريمة. هذه القصة باختصار: رجلان أتيا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يختصمان في مواريث بينهما وليست لهما بينة إلا دعواهما، كلاهما يقول: هذا حقي، وينكر على صاحبه أن يقول له حقه، ويحتكم الرجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي صدر كل منهما فرديته، وأنانيته، وحبه لذاته، ونفسه، وحرصه على أن يكون ما عند آخيه له.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمعهما
هذه الكلمات: ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه من شيء، فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار)).
سمع الرجلان المختصمان هذه الكلمات الهادئة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلمست أوتار الإيمان من صدريهما، وأيقظت فيهما خشية الله والدار الآخرة، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما لصاحبه:"حقي لك" فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما، وتوخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم تحالا)).
أي يحل كل منكم صاحبه، ويسامحه فيما عسى أن يكون من حقه هنا كانت كلمة الإيمان وكلمة الضمير الذي أيقظه هذا الإيمان، فالإيمان -باختصار شديد الإيمان- القوي يدفع إلى مثل عليَا رفيعة، ويقف أمام طغيان الغرائز الإنسانية، فيكفكف من غلوائها، ويحد من شرهها، ويقوم من انحرافها، ويوجهها وجهة الخير والسداد والصلاح، ولهذا أقول يجب علينا أن ننمي الإيمان في القلوب، يجب علينا أن نحرص على هذا الإيمان، وأن نترجمه إلى واقع عملي في المجتمع الذي نعيش فيه، وإذا كان أهل الإيمان بهذه المثابة وبهذا الفهم، وحققوا هذا الإيمان كما طلبه منهم رب العباد سبحانه وتعالى سادوا الدنيا بأكملها؛ لأن الله عز وجل قد وعد أولياءه، ومن قام بشرعه بنصره وتمكينه في هذه الأرض.
أسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يحقق الإيمان في قلوبنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأكتفي بهذا على أن ألتقي بكم -أيها الإخوة الكرام- في لقاء آخر، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.