الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كانت وظائف المسجد قد انكمشت في هذا العصر بعد أن زاحمته المؤسسات المعاصرة، وبسبب فتور التدين لدى بعض المسلمين، أو انحرافهم أو قعودهم عن سلوك الطريق المستقيم، والانخداع بزخرف الحياة المادية التي سادت في المجتمعات غير الإسلامية، وبسبب الضعف السياسي والاقتصادي الذي شاب الأقطار الإسلامية، التي وقعت فريسة للاستعمار السياسي بعد الاستعمار العسكري والفكري، ومع الهيمنة الاقتصادية للغير، ثم شيوع البدع والخرافات التي باعدت بين الكثيرين من المسلمين وبين الدين الصحيح.
إذا كان ذلك، كان على أمة الإسلام أن تعود إلى استعادة أعباء ووظائف المساجد، وإبراز العمل بها، فلا تظل مقصورة أو محصورة في أداء الصلوات، وإنما تمتد وتعود إلى التعليم وغيره على نحو ما سبق، وبهذا يظهر دور المسجد في التوجيه الاجتماعي.
بعض وظائف المسجد
"وظائف المسجد" ويشتمل هذا العنصر على النقاط التالية:
أ- المسجد دار للإفتاء:
تحدث -فيما مضى- عن دور المسجد في الدعوة إلى الله، وفي خدمة المجتمع عمومًا، وأود هنا أن أضيف إلى ذلك أمورًا أخرى يقوم بها المسجد، ومن ذلك أنه دار للإفتاء، ذلك أنه يقع للناس في أمور دينهم ودنياهم أشياء فيها غموض، تقلق بَالَهُم، فتهفو نفوسهم لإزالتها، فيتوجهون إلى المسجد حيث لا يخلو من عالم يفتيهم في أمور دينهم ودنياهم.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: ((بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئًا بين ظَهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ؟ فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟ قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد أجبتك.
فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني سائلك فمشددٌ عليك في المسألة، فلا تجد عليَّ في نفسك، فقال صلى الله عليه وسلم له: سَلْ ما بدا لك، فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: اللهم نعم، فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم نعم، فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأَنَا رسول مَن ورائي مِن قومي، وأنا ضِمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر)).
والشاهد من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس في المسجد، وكان يأتي إليه أصحاب الحاجات ومن يودون أن يتعلمون العلم، فيسألون رسول الهدى والرحمة صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه: ((أن رجلًا قام في المسجد فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أين تأمرنا أن نهل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن)).
ب- المسجد دار للقضاء:
أقول: إن كان المسجد دار إفتاء، فهو أيضًا دار للفصل بين المتخاصمين، وللقضاء العادل بين المتنازعين، حيث يأمن فيه كل إنسان على نفسه، ويطمئن إلى أخذ حقه، قال تعالى:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} (ص: 21، 22).
قال الإمام القرطبي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسيره: ليس في القرآن ما يدل على القضاء في المسجد إلا هذه الآيات، وبها استدل من قال بجواز القضاء في
المسجد، ولو كان ذلك لا يجوز -كما قال الشافعي رحمه الله لَمَا أقرهم داود عليه السلام على ذلك، ويقول:"انصرفا إلى موضع القضاء".
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء يقضون في المسجد، وقد قال مالك رحمه الله تبارك وتعالى: القضاء في المسجد من الأمر القديم -يعني: في أكثر الأمور- ولا بأس أن يجلس في رحبته؛ ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض، ولا يقيم فيه الحدود، ولا بأس بخفيف الأدب.
وقد قال أشهب: يقضي في منزله، وأين أحبَّ.
وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: ((أتى رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه، فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم فلمَّا شهد على نفسه أربعة، قال: أبِكَ جنون؟ قال: لا، قال: اذهبوا به، فارجموه)) قال ابن شهاب فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه بالمصلى.
والشاهد من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالرجم على هذا الرجل وهو في المسجد لما أتَى إليه وناداه وأخبره بما أخبره به.
أنتقل بعد ذلك إلى النقطة التالية في هذا العنصر، وهي آخر نقطة فيه وفي هذا اللقاء، وهي بعنوان:"المسجد دار للرعاية الاجتماعية والصحية":
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقسم الأموال الواردة إليه على ذوي الحاجات، فإن لم تكن هناك أموال وكان الناس في حاجة، دعا الأغنياء إلى البذل والإنفاق، وقام بتوزيعها على الفقراء والمحتاجين في المسجد أيضًا، وفي أوقات الحرب يمكن أن يتخذ المسجد مأوًى لمن يلجأ إليه ويحتمي فيه، ودار للإسعاف عند الضرورة.
وعن المنذر بن جرير، عن أبيه رضي الله عنه قال: ((كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءه قوم عراة مجتاب النمار -والنمار: كساء من صوف مخطط، أو العباء-
متقلدي السيوف، عامتهم بل كلهم من مضر، فتمعَّر وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لِمَا رأى بهم من الفاقة فدخل، ثم خرج، فأمر بلالًا فأذن وأقام، فصلى، ثم خطب فقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره -حتى قال صلى الله عليه وسلم: ولو بشق تمرة، فجاء رجل من الأنصار بِصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتهلل كأنه مُذهبه صلى الله عليه وآله وسلم وذلك من الصفاء والاستنارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَن سن في الإسلام سنه حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليها وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا)) وهذا الحديث في مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أصيب سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه- يوم الخندق، رماه رجلٌ من قريش -يقال له: ابن العرقة- في الأكحل -والأكحل: عرق في اليد- فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيمة في المسجد؛ ليعوده من قريب)).
وهذا يدل على أن المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان دارًا للرعاية الاجتماعية والصحية.
وهكذا يجب أن تكون مساجد المسلمين اليوم، تشفي وتغلي، وتقدم النافع والمفيد للمسلمين في شتى مجالات الحياة، وعلى أهل الإسلام -وعلى الدعاة منهم بوجه أخص- أن يعتنوا برواد المساجد، وبالأحياء التي تكون حول هذه المساجد، وأن يقدموا لها الخدمات الجليلة النافعة.