الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإبليس جازم بصدق الرسل والكتب، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْمَلُوا، ويرضوا، ويسلموا ما قُبِلَ منهم بحال؛ إذًا التصديق فقط لا يكفي وَحْدَهُ، بل لا بد من الاعتقاد الجازم من الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم نبيًّا ورسولًا، ولا بد من الإعلان عن ذلك باللسان، وتصديق ذلك بالعمل -أي: أن يذعن الإنسان وينقاد لله تبارك وتعالى فما آمن أبدًا من اعتقد ورفض الخضوع والطاعة لله، كما هو حال الشياطين والمستكبرين.
الْمُلَاحَظَةُ السَّادِسَةُ: كُلُّ مَنْ أَنْكَرَ شيئًا من أصول الاعتقاد أو فروعه المعلومة من الدين بالضرورة؛ فإنه كافر لا شك في كفره؛ انتبه لهذا: من أنكر شيئًا من أصول الاعتقاد أو من فروعه المعلومة من الدين بالضرورة، فهو كافر لا شك في كفره.
أما الذي يترك عملًا من الأعمال الشرعية الواجبة، أو يفعل شيئًا مما حرمه الله فإنه يكون عَاصِيًا، وَالَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي هُمُ الْخَوَارِجَ، أَمَّا مَنْهَجُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلَ الْمُحَرَّمَاتِ يُعَدُّ ذنبًا ومعصية تشوه الإيمان وتنقصه، ولكنها لا تزيله وتذهبه.
ولكن الذي يكفر به الإنسان هو إنكار شيء من أصول الاعتقاد الصحيح التي جاءت في كتاب الله، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
معنى الشريعة والأسس التي بنيت عليها
أنتقل بعد ذلك إلى العنصر الثاني في هذا اللقاء، وهو بعنوان: معنى الشريعة والأسس التي بُنِيَتْ عليها، ويشتمل على النقاط التالية:
أ- معنى الشريعة: الشريعة: علم على جميع ما أنزله الله من أحكام، إلا أن بعض العلماء المتأخرين جعلوا الشريعة علمًا على الأحكام العملية دون غيرها.
والاصطلاح الذي وضعه العلماء للأحكام العملية: هو الفقه أو علم الفروع، وَسَنُلِمُّ إِلْمَامَةً سَرِيعَةً بِهَذَا الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ أَقُولُ: إن مدار الفقه في لغة العرب على الفهم والعلم، قال موسى عليه السلام في دعائه لربه:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه: 27 - 28)، وقال قوم شعيبٍ -في خطابهم لنبيهم-:{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} (هود: من الآية: 91).
وبعد مجيء الإسلام غَلَبَ اسْمُ الْفِقْهِ عَلَى عِلْمِ الدِّينِ؛ لِسِيَادَتِهِ وَشَرَفِهِ وفضله على سائر أنواع العلم، كما غلب النجم على الثريَّا، والْعُودُ عَلَى الْمِنْدِل، وَقَدْ كَانَ اسم الفقه شاملًا للدين كله؛ فالفقه: فقه الكتاب والسنة، لا فرق في ذلك بين العقائد والعبادات، والأخلاق والمعاملات والأخبار.
يقول ابن عابدين: المراد بالفقهاء: العالمون بأحكام الله تعالى؛ اعتقادًا وعملًا؛ لأن تسمية علم الفروع فقهًا حادثة، ويؤيده قول الحسن البصري: إنما الفقيه الْمُعْرِضُ عَنِ الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ، الْبَصِيرُ بِدِينِهِ، الْمُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، الْوَرِعُ الْكَافُّ عَنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ، الْعَفِيفُ عَنْ أَمْوَالِهِمْ، النَّاصِحُ لِجَمَاعَتِهِمْ.
وقد خص المتأخرون علم الفقه بفروع الدين دون أصوله -كما علمت من عبارة ابن عابدين السابقة- وقد عرفوه بقولهم: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. فالتعريف -كما ترى- قَصَرَ الفقه على العلم بالأحكام الشرعية العملية -أي: الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ عمل، دون التي تتعلق بالاعتقاد أو الأخلاق.
وَقَدْ عَرَّفْتُ العقيدة، وَذَكَرت المناهج فيها قبل قليل، وبعض الملاحظات عليها، ونحن هنا نتكلم عن علم الشريعة الذي قصره الفقهاء على علم الفقه، ومن هنا صح أن يقال: إن الإسلام عقيدة وشريعة.
أنتقل بعد ذلك إلى نقطة:
ب- من العنصر الثاني، وهي بعنوان:"الأسس التي بنيت عليها الشريعة الإسلامية":
قَامت هذه الشريعة المباركة على أسس كثيرة، استقرأها العلماء من نصوص الكتاب والسنة، وسأكتفي هنا بأبرزها وهي -كما يلي-: اليسر، ورفع الحرج، هذه الصفة بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَكَوْنُهَا مُيَسَّرَةً، لَا حَرَجَ فِيهَا هُوَ نَتِيجَةٌ مَنْطِقِيَّةٌ لِسِعَتِهَا وَكَمَالِهَا، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْمَعْلَمِ في أكثر من موضعٍ في كتابه؛ فقال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} (البقرة: من الآية: 185) وقال سبحانه: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} (المائدة: من الآية: 6).
وقد بلغ اليسر في الشريعة إلى درجة التخفيف من الواجبات عند وجود الحرج، والسماح بتناول القدر الضروري من الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ فَالَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ اسْتِعْمَالُ الْمَالِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ، كَمَا قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (المائدة: من الآية: 6) والمريض والمسافر يباح لهما الفطر: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: من الآية: 184) وقال -في حق الذي لا يجد قوتًا حلالًا-: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: من الآية: 173).
وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمريض لما شكا له مرضه وعدم قدرته على القيام: ((صلِّ قائمًا؛ فإن لم تستطع فقاعدًا؛ فإن لم تستطع فعلى جنبك)) وَكَانَ مِنْ مَعَالِمِ الْيُسْرِ فِي هَذَا الدِّينِ الْمُبَارَكِ أَنْ أَبَاحَ اللَّهُ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا طعامًا ولا شرابًا إلا إذا كان خبيثًا، وإباحة الطيبات كلها هو مقتضى رفع الله تلك الآصار التي حملتها تلك الأمم من قبلنا؛ فقد وضع الله على الذين هادوا آصارًا وأغلالًا بسبب تمردهم على ربهم، كما قال -جل ذكره-:{فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (النساء: 160 - 161).
وقال سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (الأنعام: 146) ولكن هذه الشريعة جاءت برفع ذلك كله، وأتت باليسر ورفع الحرج؛ لقد جاء النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم كما أخبر الله في الكتب السابقة، وفي القرآن الكريم، جاء؛ ليرفع عن البشرية الآصار والأغلال التي حملتها عبر الأمم أو عبر القرون السابقة، قال سبحانه:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: من الآية: 157).
لقد كان الوحي يتنزل، يأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين معه بمنهج اليسر، وَيُقَوِّمُ مِعْوَجَّ المسلمين في هذا الجانب ويسددهم حين يقوم الانحراف، وَقَدْ فَقِهَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذا المنهج الذي أراده الله بهذه الأمة، فَقَامَ عَلَى تَحْقِيقِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْآخَرِينَ، فَكَانَتْ حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يسرًا كلها؛ كيف لا؛ وقد وعده الله بأن يكون كذلك؟! {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} (الأعلى: من الآية: 8).
إن الناظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعجب لذلك اليسر الْمُدْهِشِ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُ بِهِ نَفْسَهُ فِي عِبَادَتِهِ وَدَعْوَتِهِ وتعامله مع أصحابه وأعدائه: كان صلى الله عليه وآله وسلم يصوم من الشهر حتى يقول القائل: لا يُفْطِرُ. ويفطر من الشهر حتى يقول القائل: لا يصوم. وإذا وجد طعامًا أكل، وإذا وجد شرابًا -عسلًا أو غيره- شرب وإلا صبر.
يُدْعَى فيستجيب، ويُسْأَلُ فَيُعْطِي، في كَلَامَاتٍ قَلِيلَةٍ يُعَالِجُ أَمْرَاضًا نفسية اسْتَحْكَمَتْ فِي النفوس، وفي بساطةٍ وسهولة يقيم الحجة على الخصوم، وبالطريقة نفسها كان يقود المجتمع المسلم، ويقود الجيوش.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يَرْقُبُ صحبه الكرام؛ فإذا رأى منهم ميلًا إلى التعسير ردهم إلى التيسير، وأرشدهم إلى الأخذ بالرفق، وقد وجههم توجيهًا عامًّا إلى هذا المنهج المبارك؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ البخاري ومسلم:((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا))، ((وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ؛ فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَبْلُ؟ قَالُوا: حَبْلٌ لِزَيْنَبَ؛ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، فقال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: لا، حلُّوه ليصلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ؛ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ)) وهكذا يرد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم زوجته إلى اليسر إذا أتعبها طول القيام في صلاة الليل فلا حرج عليها أن تصلي قاعدة.
((وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى زَوْجِهِ عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ وَكَانَتْ تَذْكُرُ مِنْ عِبَادَتِهَا، وَأَنَّهَا لَا تَنَامُ الْلَيْلَ، فَرَدَّهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم (إِلَى الْمَنْهَجِ الوسط) قائلًا: مَهْ، عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ)) إن التشديد على النفوس بالعبادة والطاعة نهج أخذ به المتعبدون أنفسهم في الأمم الخالية، ولم يكن منهجًا موفقًا، ولذلك حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من سلوكه؛ ففي سنن أبي داود:((لا تشددوا على أنفسكم فَيُشَدَّد عليكم؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالديار {رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} الحديد: من الآية: 27)).
الأساس الثاني -من الأسس التي بنيت عليها الشريعة الإسلامية-: العدل:
تتطلع الشعوب دَائِمًا إِلَى إِيجَادِ قَوَانِينَ تَتَّصِفُ بِالْعَدْلِ، وتنفي الظلم والجور، وكم يكون مصاب البشر أليمًا عندما يجدون القوانين التي يرجونها لإقرار العدل والإنصاف تُقَنِّنُ الظلم؛ بحيث يكون هو النظام الذي يحكم في رقاب العباد؛ إننا لا نريد بالعدل هنا تطبيق القاعدة القانونية، فجور القاضي وظلم الحاكم في الحكم بخلاف القانون ليس هو المراد هنا، بل المراد هو اتصاف القانون بالعدل.
إن الذين يضعون القوانين البشرية لا يمكنهم أن ينسلخوا من طبائعهم البشرية، وَلِذَلِكَ نَرَاهُمْ يَمِيلُونَ بِالْقَوَانِينِ اتِّجَاهَ الْجِهَةِ الْحَاكِمَةِ، فَتعطيها من المصالح والمنافع ما لا تعطي غيرها، وهي في هذه الحالة تقرر الظلم، وهي تعلم بذلك.
وفي بعض الأحيان تضع القوانين الظالمة بسبب جهلها بالحكم العادل الذي يجب أن تقننه، وقد حدثنا الله تعالى عن طبيعة الإنسان فقال:{وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: من الآية: 72) فواضع القوانين البشرية بشر، فيهم ظلم وجهالة، وبسبب ذلك يقررون كثيرًا من القواعد القانونية التي تتصف بالظلم.
القوانين الوضعية اليوم تقر الربا، وَتبيح الزنا واللواط، وتجيز شرب الخمر، وتمنع من قتل القاتل واقتصاص الإنسان ممن اعتدى عليه، ولا تزال هذه القوانين تخص بعض فئات المجتمع بحقوق دون بقية أفراد المجتمع، وفي كثيرٍ من الأحيان يغلو واضع القانون في تقرير العقوبة فيقرر العقوبة العظيمة للذنب الحقير، وقد يحكم بالعقوبة على غير من ارتكب الجرم.
أما الشريعة الإسلامية فليست من وضع البشر، بل هي من عند خالق البشر الذي يتصف بالعدل التام وبالحكمة البالغة، يقول سبحانه:{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدا} (الكهف: من الآية: 49) ويقول -جل ذكره-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (النساء: من الآية: 40)، ويقول -سبحانه-:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنعام: 115) قال قتادة: صدقًا فيما قال، وعدلًا فيما حكم.
وقال ابن كثيرٍ رحمه الله: كل ما أخبر الله به فحق لا مِرْيَةَ فيه، ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فهو باطل؛ فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة، كما قال تعالى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: من الآية: 157).
وإذا كان مُنَزِّلُ الشريعة مُتَّصِفًا بالعدل المطلق؛ فَإِنَّ شَرِيعَتِهِ لَا بُدَّ أن تكون كذلك متصفةً بالعدل المطلق، فالأحكام الشرعية هي العدل، والعدل: هو الشريعة الإسلامية؛ فلا تميل القواعد الإسلامية الشرعية إلى جانب الحاكم ضد مصالح المحكوم، ولا تعطي الرجال حقوقًا بحيث تظلم النساء، ولا يمكن أن تخطئ المقدار المناسب للجريمة؛ لأن واضعها يتصف بالعلم المطلق الشامل سبحانه وتعالى.
الأساس الثالث -من الأسس التي بنيت عليها الشريعة الإسلامية-: حفظ مصالح العباد:
يقرر علماء الشريعة -بعد استقرائهم لأحكام الشريعة
ونصوصها- أن مقصد الشريعة الإسلامية تحقيق مصالح العباد على الوجه الأكمل؛ يقول ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى: إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها. ويقول العز بن عبد السلام: والشريعة كلها مصالح؛ إما تدرأ مفاسد، أو تجلب مصالح.
وقد عالج الإسلام صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه، وبصلاح مجموعه -وهم النوع كله- فابتدأ الدعوة إلى إصلاح الاعتقاد الذي هو إصلاح مبدأ التفكير الإنساني الذي يسوقه إلى التفكير الحق في أحوال هذا العالم، ثم عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنه؛ لأن الباطن محرك الإنسان إلى الأعمال الصالحة، كما ورد في الحديث:((ألا وإن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
وقد عالج بعد ذلك إصلاح العمل، وذلك بالتشريعات التي أَنْزَلَهَا، فَتَشْرِيعُ رَبِّ الْعَالَمِينَ رَاعَى -بلا شكٍ- مصالح العباد، والعقيدة الإسلامية والتشريعات الربانية التي جاءت من عند الله تبارك وتعالى كلها لمصلحة الإنسان، فهي جاءت؛ كي ترفع بالإنسان، وترتفع به إلى مصاف الكرم والشرف والمنعة والغلبة -كما ذكرت- ثم بعد ذلك يكون مآله إلى جناتٍ ونهر.
الأساس الرابع: التَّدَرُّجُ فِي التَّشْرِيعِ حين تَنَزُّلِ التشريع، والتدرج في التشريع نوعان:
الأول: التدرج في تشريع جملة الأحكام، بمعنى: أنها لم تُشْرَعْ كلها مرةً واحدة، وإنما شُرِعَتْ شيئًا فشيئًا؛ ففي ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة فُرِضَتِ الصلاة، وفي السنة الأولى من الهجرة شُرِعَ الأَذَانُ والقتال، كما شرعت أحكام من النكاح -كالصداق والوليمة- وفي السنة الثانية شرع الصوم وصلاة العيدين
ونحر الأضاحي والزكاة، وَحُوِّلَتْ فِيهَا الْقِبْلَةُ، وأحلت الغنائم للمجاهدين، وفي السنة الثالثة كان تشريع أحكام المواريث وأحكام الطلاق، كما شرع الله قصر الصلاة في السفر وفي الخوف، وعقوبة الزنا، وأنزل الله أحكام التيمم والقذف، وكان أخيرًا فرض الحج.
وفي السنة السادسة أيضًا بَيَّنَ اللَّهُ أَحْكَامَ الصلح والإحصار، وفيها حرم الله الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، كما حَرَّمَ بعد ذلك الْحُمْر الإنسيَّة، وذلك في السنة السابعة من الهجرة النبوية، وَشَرَعَ أحكام المزارعة والمساقاة، وحد السرقة واللعان، وَمَنَعَ الكفار من دخول مكة، وفي السنة العاشرة حرم الربا تحريمًا، لا خفاء فيه.
النوع الثاني: التدرج في تشريع الحكم الواحد، فكثير من الأحكام لم تُشْرَعْ كما هي عليه الآن من أول الأمر، بل تَدَرَّجَ الشارع في شرعها، فالصلاة -مثلًا- فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ في أول الأمر، ثُمَّ زِيدَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَأُقِرَّتْ في السفر؛ ففي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:((فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، ثم هاجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فَفُرِضَتْ أَرْبعًا وَتُرِكَتْ صَلَاة السفر على الفريضة الأولى)).
وَلَمْ تُبَيَّنْ أحكام الصلاة جملةً واحدة، بل فصل الله ذلك على فترات، وكذلك الزكاة والصيام والجهاد والخمر؛ لم يحرمها الله مرةً واحدة، ولكنها حُرِّمَتْ على أحوال؛ فقد بين الله أولًا إِثْمَ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَنَّ شُرْبَهَا أعظم من نفعها -إن كان فيها نفع- ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَرَّم تناولها قرب الصلاة، فلا يجوز قربان الصلاة حال السكر، ثم حرمها بعد ذلك تحريمًا قاطعًا.
وكل ذلك تدرج في الأحكام؛ حتى يقبل العباد الأحكام الشرعية، ويقبلوا عليها دون مللٍ أو تدرج، فَلَوْ حرمت الخمر في بادئ الأمر أول مرة أو مرةً واحدة ربما