المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عقيدة الإمام أحمد ومحنته - أصول الدعوة وطرقها ٤ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الدعوة وصلتها بالحياة وأثر الإسلام في الاجتماع

- ‌الأَحْوَالُ السياسيةُ قَبْلَ الإسْلامِ

- ‌أَبْرَزُ المَعالِمِ السياسيةِ الداخليَّةِ والخارجيةِ للدَّولةِ الإسلامِيةِ

- ‌خَصَائِصُ النِّظامِ السياسيِّ في الإسْلامِ

- ‌نِظامُ المجتمَعِ في الإسلامِ

- ‌خَصائِصُ النِّظامِ الاجتماعيِّ في الإسلامِ

- ‌وُجُوبُ الاجتماعِ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، ونبذُ الاختلافِ والفُرْقَةِ

- ‌الدرس: 2 أثر الإسلام على الاقتصاد وكون الإسلام عقيدة وشريعة

- ‌تعريف الاقتصاد وأساسه

- ‌خصائص النظام الاقتصادي

- ‌دور الاقتصاد الإسلامي بالنسبة للعالم الإسلامي

- ‌تعريف العقيدة، وأهميتها، والمناهج في إثباتها

- ‌معنى الشريعة والأسس التي بنيت عليها

- ‌التشريع حق لله وحده دون سواه

- ‌الدرس: 3 إلمامة بأركان الإيمان

- ‌مذهب السلف في الإيمان مع ذكر أركانه

- ‌الركن الأول من أركان الإيمان؛ الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني من أركان الإيمان؛ الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث من أركان الإيمان؛ الإيمان بالكتب

- ‌الركن الرابع من أركان الإيمان؛ الإيمان بالرسل عليهم السلام

- ‌الركن الخامس من أركان الإيمان؛ الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس من أركان الإيمان؛ الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 إلمامة تحليلية بأركان الإسلام

- ‌تعريف الإسلام، وذكر أركانه، وما يتعلق به

- ‌الركن الأول من أركان الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌شهادة أن محمدًا رسول الله

- ‌الركن الثاني من أركان الإسلام؛ الصلاة

- ‌الركن الثالث من أركان الإسلام؛ الزكاة

- ‌الركن الرابع من أركان الإسلام؛ الصيام

- ‌الركن الخامس من أركان الإسلام؛ الحج

- ‌أثر الإيمان والعقيدة في تكوين الفرد والمجتمع

- ‌الدرس: 5 الإعجاز في القرآن الكريم طريق من طرق أصول الدعوة

- ‌المعجزة في زمانها ومكانها

- ‌المعجزة الخالدة القرآن الكريم

- ‌الدرس: 6 موقف الإسلام من العلم الكوني، والدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌العلاقة بين الإسلام والعلم

- ‌الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

- ‌الدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌الدرس: 7 المسجد والمدرسة ودورهما في الدعوة

- ‌المسجد، ورسالته بين المسلمين

- ‌دور المسجد في المجتمع المسلم

- ‌بعض وظائف المسجد

- ‌دعوة الطلاب إلى الله في المدارس والجامعات:

- ‌الدعوة إلى الله بين المدرسين، وأساتذة الجامعات

- ‌دور المدرسة في تحقيق أهداف التربية الإسلامية

- ‌الدرس: 8 أهم ميادين الدعوة والإعلام الإسلامي

- ‌مقدمات في الإعلام

- ‌الأجهزة الإعلامية الإسلامية المتخصصة

- ‌الإسلام في مواجهة الإعلام الكاذب

- ‌الدعوة إلى الله في التجمعات الإسلامية والمناسبات المختلفة

- ‌الدرس: 9 الجهاد في سبيل الله تعالى

- ‌تعريف الجهاد وذكر أنواعه

- ‌مشروعية الجهاد وسببه ومراحله وفضله

- ‌فضل الجهاد، وثمراته

- ‌مسائل هامة تتعلق بالجهاد في سبيل الله

- ‌الدرس: 10 بعض مواقف الخلفاء الراشدين والصحابة وأثرها في الدعوة

- ‌أبو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه

- ‌حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

- ‌الدرس: 11 دراسة بعض الدعوات ومناهجها في الدعوة

- ‌ جماعة أهل الحديث بالهند

- ‌جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌تابع الحديث عن جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌نشأة جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان والبلاد الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 12 تابع دراسة بعض الدعوات ومناهجها

- ‌حركة " الإخوان المسلمون

- ‌الحزب الإسلامي الكردستاني

- ‌الدرس: 13 ترجمتا الخليفة عمر بن عبد العزيز والإمام أحمد بن حنبل

- ‌سِيرَةُ الإمام عمر بن عبد العزيز الذاتية

- ‌في سيرة عمر بن عبد العزيز العلمية، وولايته

- ‌سيرة الإمام أحمد الذاتية

- ‌عقيدة الإمام أحمد ومحنته

- ‌الدرس: 14 ترجمتا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سيرته

- ‌منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌تابع منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌ترجمة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سِيرُتُه الذَّاتِيَّةِ

- ‌مُؤلفَاتُ الشيخِ، وعقيدتُه، وأثرُ دعوتِهِ في العَالَمِ الإسلَامِيِّ

الفصل: ‌عقيدة الإمام أحمد ومحنته

وروى عبد الله بن إسحاق الخراساني: أخبرنا بنان بن أحمد القصباني: أنه حضر جنازة أحمد، فكانت الصفوف من الميدان إلى قنطرة باب القطعية، وحذر من حضرها من الرجال بثمانمائة ألف، ومن النساء بستين ألف امرأة، ونظروا في من صلى العصر يومئذٍ في مسجد الرصافة فكانوا نيفا وعشرين ألفًا.

قال موسى بن هارون الحافظ يقال: إن أحمد لما مات مسحت الأمكنة المبسوطة التي وقف الناس للصلاة عليها، فحذر مقادير الناس بالمساحة على التقدير ستمائة ألف أو أكثر، سوى ما كان في الأطراف والحواري والسطوح والمواضع المتفرقة أكثر من ألف ألف.

وهذا يدل على مكانة الإمام رحمه الله تبارك وتعالى عند المسلمين عمومًا، وعند أهل السنة والأئمة خصوصًا، ويذكرني هذا بقول القائل: بيننا وبينهم الجنائز، وذلك في المبتدعة، فأهل السنة يحضر جنازتهم الكثير والكثير -رحم الله تبارك وتعالى هذا الإمام العالم الرباني.

‌عقيدة الإمام أحمد ومحنته

أنتقل بعد ذلك إلى عقيدته ومحنته.

معلوم: أن الإمام أحمد رحمه الله تبارك وتعالى كان يكره الكلام، ويحذر منه، ويحذر من المبتدعة، ومن الجلوس إليهم بحال من الأحوال أن حنبل روى عنه، فقال: سمعت أبا عبد الله يقول: من أحب الكلام لم يفلح؛ لأنه يؤول أمرهم إلى حيرة، عليكم بالسنة والحديث، وإياكم والخوض في الجدال والمراء، أدركنا الناس وما يعرفون هذا الكلام، عاقبة الكلام لا تؤول إلى خير.

وللإمام أحمد كلام كثير في التحذير من البدع وأهلها، وأقوال في السنة، ومن نظر في كتاب (السنة) لأبي بكر الخلال رأى فيه علمًا غزيرًا ونقلًا كثيرًا.

ص: 448

ثم قال الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله تبارك وتعالى: وإلى الإمام أحمد المنتهى في معرفة السنة علمًا وعملًا، وفي معرفة الحديث وفنونه، ومعرفة الفقه وفروعه، وكان رأسًا في الزهد والورع والعبادة والصدق رحمه الله تبارك وتعالى.

كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تبارك وتعالى يقف عند النصوص، ولا يتجاوز ما جاء في القرآن والحديث، فكان متبعًا لسلف هذه الأمة الصالحين، وسأذكر هنا نصًّا من قوله رحمه الله تبارك وتعالى يبين ذلك بوضوح، قال: هذا مذاهب أهل العلم والأثر، فمن خالف شيئا من ذلك أو عاب قائله فهو مبتدع، وكان قولهم -هنا يذكر الإمام أحمد بن حنبل قول أهل السنة والجماعة في بعض أمهات مسائل الاعتقاد رحمه الله تبارك وتعالى مما يبين: أنه كان يسلم بما جاء عن السلف الصالح، ولما جاء في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول: وكان قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة والإيمان يزيد وينقص، ومن زعم أن الإيمان قول والأعمال شرائع فهو جهمي، ومن لم ير الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ، والزنا والسرقة وقتل النفس والشرك كلها بقضاء وقدر من غير أن يكون لأحد على الله حجة، وهو بهذا يرد على القدرية رحمه الله إلى أن قال: والجنة والنار خلقتا ثم خُلِق الخلق لهما، لا تفنيان، ولا يفنى ما فيهما أبدًا، إلى أن قال: والله تعالى على العرش، والكرسي موضع قدميه، وقال حنبل بن إسحاق: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تُروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ((إن الله ينزل إلى سماء الدنيا

)) إلى آخر الحديث، فقال: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا نرد شيئًا منها، إذا كان أسانيد صحاحًا، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولًا، ونعلم أن ما جاء به حق رحمه الله تبارك وتعالى.

ص: 449

وهذه كلمات جليلة من هذا العالم الجليل تبين موقفه رحمه الله تبارك وتعالى من الاعتقاد الصحيح الذي كان عليه، وهذا الاعتقاد -كما سأذكر فيما بعد- كان متغيرًا عند كثير من الفرق، وقد نال الإمام أحمد أذًى بسبب تمسكه بعقيدة السلف الصالح -كما سيأتي بيان ذلك -إن شاء الله تعالى- بعد قليل وذلك في النقطة التالية.

جـ- المحنة التي جرت له رضي الله تعالى عنه قبل أن أذكر هذه المحنة:

أود أن أذكر بين يدي هذه المحنة كلمات قليلات للإمام الذهبي رحمه الله قال فيها: كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائمًا في خلافة أبي بكر وعمر، فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر رضي الله عنه وانكسر الباب، قام رءوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذُبِح صبرًا، وتفرقت الكلمة، وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين، فظهرت الخوارج، وكفرت سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب، وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية المجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المائتين، فظهر المأمون الخليفة وكان ذكيًّا متكلمًا، له نظر في المعقول، فاستجلب كتب الأوائل، وعرب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخبأ ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رءوسها، بل والشيعة، فإنهم كانوا كذلك، وآل به الحال -أعني بالمأمون- إلى أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء فلم يُمْهَل، وهلك لعامه وخلى بعده شرًّا وبلاءً في الدين، فإن الأمة ما زالت على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأن كلام الله مخلوق مجعول، وأنه إنما يضاف إلى الله تعالى إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله، فأنكر ذلك العلماء، ولم تكن الجهمية يظهرون في دولة المهدي الرشيد والأمين، فلما ولي المأمون كان منهم، وأظهر المقالة، ولهذا كان المأمون هو أول من امتحن الناس في مسألة القرآن الكريم.

ص: 450

وقد قال أبو الفرج الجوزي رحمه الله تبارك وتعالى عنه-: خالطه قوم من المعتزلة؛ فحسنوا له القول بخلق القرآن، فكان يتردد ويراقب بقايا الشيوخ، ثم قوي عزمه، وامتحن الناس -يعني بفتنة القول بخلق القرآن.

أما عن المحنة التي حصلت للإمام أحمد رحمه الله تبارك وتعالى مع المأمون والمعتصم والواثق، فقد تحدث عنها كثير من العلماء، ومنهم الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تبارك وتعالى وقد ذكر ذلك في (البداية والنهاية).

ومما جاء في ذلك قوله: ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل في أيام المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق؛ بسبب القرآن العظيم وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد، والتهديد بالقتل بسوء العذاب، وأليم العقاب، وقلة مبالاته بما كان منهم في ذلك، وصبره عليه وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم، وكان أحمد عالمًا بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة والأخبار المأثورة، قال تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 1: 3) وقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: 17).

وقد ذكر الإمام ابن كثير هذا كمقدمة عن الابتلاء الذي حصل لإمام أهل السنة، وأنه كان يفهم الآيات الواردة في الابتلاء، وكان عاملًا بها رحمه الله تبارك وتعالى.

ثم قال الإمام الحافظ ابن كثير وقد روى الإمام أحمد الْمُمْتَحَنَ في (مسنده) قائلًا فيه: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عاصم بن بهدلة: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أشد بلاءً؟ فقال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الله الرجل على حسب دينه،

ص: 451

فإن كان رقيق الدين ابتلي على حسب ذلك، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذلك، وما يزال البلاء بالرجل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)).

ثم ذكر بعد هذا الإمام الحافظ بعضًا من الأحاديث الواردة في ذلك، ثم لخص فتنة ومحنة الإمام أحمد في كلمات، قال فيها: إن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة، فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، ونفي الصفات عن الله عز وجل.

قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء، فحملوه على ذلك، وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم، فكتب إلى نائبه إلى بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين، فلما وصل الكتاب -كما ذكرنا- استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق، فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، فحملَا على بعير وسيِّرَا إلى الخليفة بعد أن أمر بذلك، وهما مقيدان في محمل على بعير واحد، فلما كان بلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم، يقال له: جابر بن عامر، فسلم على الإمام أحمد، وقال: يا هذا!! إنك وافد الناس فلا تكن شؤمًا عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا -يعني فيجيبوا على كلامك- فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميدًا.

ص: 452

قال أحمد رحمه الله وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه، فلما اقترب من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة، جاء خادم، وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه، ويقول: يعز عليّ يا أبا عبد الله، إن المأمون قد سل سيفًا لم يسله قبل ذلك، وإنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، قال: فجثا الإمام أحمد على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، وقال: سيدي غرّ حلمُك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل.

وبعد قليل جاء منادٍ ينادي بموت المأمون، وكان ذلك في الثلث الأخير من الليل، قال أحمد رحمه الله: ففرحنا، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد وُلِّي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد، وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ونالني منهم أذى كثير وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق، وصلى عليه أحمد رحمه الله تبارك وتعالى فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان، فأودع في السجن نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل: نيفًا وثلاثين شهرًا ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم، وقد كان أحمد -وهو في السجن- هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه، وقد أُحضِر الإمام أحمد عند المعتصم رحمه الله تبارك وتعالى وأُحضِر أحمد، وكانت عليه قيود، وقد زيد فيها، وقد ذكر هو ذلك -رحمه الله تعالى- فقال: جاءوني بدابة فحملت عليها، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلّم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت، وأغلق علي، وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا أنا في أناء فيه ماء وجدته، فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة فلما أصبحت، فإذا أنا على القبلة ولله الحمد، ثم دعيت فأدخلت

ص: 453

على المعتصم فلما نظر إلي -وعنده ابن أبي دؤاد- قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن؟ وهذا شيخ كبير، فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادن!! فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس فجلست، وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة، ثم قلت: يا أمير المؤمنين إلامَ دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ يعني: إلى أي شيء دعا إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس، ثم قلت: يعني الإمام أحمد، فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه، ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض لك، ثم قال: يا عبد الرحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ قال أحمد: فقلت: الله أكبر هذا فرج للمسلمين، ثم قال: ناظره يا عبد الرحمن. فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن فلم أجبه، فقال المعتصم: أجبه، فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت، فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر، فسكت، فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين كفرنا وكفرك، ولم يكن هذا من مذهب الإمام أحمد، فلم يلتفت إلى ذلك، فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن، فقلت -يعني: قال الإمام أحمد-: كان الله ولا علم، فسكت، فجعلوا يتكلمون من هاهنا، فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أعطوني شيئًا من ذلك أقول به، فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا، فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟ وجرت مناظرات طويلة، واحتجوا على الإمام أحمد بقول الله تبارك وتعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (الأنبياء: 2) وبقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} (الرعد: 16) وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقول الله تعالى:

ص: 454

{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (الأحقاف: 24) فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالّ مضل مبتدع، وهنا قضاتك والفقهاء، فسلهم فقال لهم: ما تقولون؟ فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني، وناظروه أيضًا في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته عليهم، قال: فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهلهم بالعلم والكلام، ولكن الإمام أحمد بن حنبل تصدى لهم في كل ما كانوا يتكلمون به، ولم يجدوا سبيلًا أو طريقًا إلى إقامة الحجة على الإمام أحمد رحمه الله تبارك وتعالى وبعد مجادلات طويلة تفوق فيها الإمام رحمه الله تبارك وتعالى ولم يجد هؤلاء الناس معهم حجة ضربوه -رضي الله تعالى عنه.

وقد قال الإمام أحمد في ذلك كلمات نقلها عنه الحافظ ابن كثير قال: لما لم يكن لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة، فقالوا: يا أمير المؤمنين هذا كافر ضال مضل، وقال إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين، ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله، ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمي واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شيء، فعند ذلك قال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه، واخلعوه، واسحبوه.

قال أحمد: فأُخِذْت، وسحبت، وخلعت، وجيء بالعقابين، -يعني: خشبتين- تربط فيهما الأرجل والسياط، وأنا أنظر، وبدءوا يضربون في الإمام رحمه الله أسواطًا، حتى كان يغمى عليه، وكلما غمي أو غمي عليه رحمه الله تركوه، فإذا فاق ضربوه رحمه الله تبارك وتعالى وهناك كلام كثير يضيق الوقت والمقام عن الإشارة إليه ويكفي أن نعلم أن الإمام رحمه الله تبارك وتعالى قد أوذي في ذلك وضرب ضربًا شديدًا رحمه الله تبارك وتعالى.

ص: 455

وأود هنا أن أنتقل إلى نقطة أخرى أبين فيها موقف الإمام أحمد رحمه الله بعد المحنة.

الله عز وجل أولًا: ثبت الإمام أحمد ولم يقل بقولهم، حتى نصره الله تبارك وتعالى عليهم، وهذا الانتصار أيضًا جعل الإمام أحمد، يثبت بعد هذه المحنة ثبوتًا كالجبال رحمه الله تبارك وتعالى.

ولذلك أود في دقائق معدودة أقول فيها: لما ولي المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته، فإنه كان محبّا للسنة وأهلها ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق: لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن، ولما تولى نيابة بغداد عبد الله بن إسحاق كتب المتوكل إليه: أن يحمل إليه الإمام أحمد، فقال لأحمد في ذلك فقال: إني شيخ كبير وضعيف فرد الجواب على الخليفة بذلك، فأرسل يعزم عليه ليأتينه الإمام وكتب إلى أحمد: إني أحب أن آنس بقربك وبالنظر إليك، ويحصل لي بركة دعائك، وهذا يدل على أن الله عز وجل يؤيد أئمة أهل الدين مهما وقع عليهم من ظلم سابق، ولهذا سار إليه الإمام أحمد، وهو عليل في بنيه وبعض أهله، فلما قارب العسكر تلقاه وصيف الخادم في موكب عظيم، فسلم وصيف على الإمام أحمد فرد السلام، وقال له: قد أمكنك الله من عدوك ابن أبي دؤاد، فلم يرد عليه جوابًا، وهذا في الحقيقة حسن أدب ووقار من الإمام أحمد رحمه الله تبارك وتعالى يعني: لم يشمت في عدوه الذي فعل به ما فعل.

والشاهد: أن الإمام أحمد كرم بين يدي المتوكل تكريمًا شديدًا، وأراد منه الخليفة أن يقيم هناك عنده ليحدث الناس عوضًا عما فاتهم منه في أيام المحنة وما بعدها من السنين المتطاولة، فاعتذر إليه بأنه عليل وأسنانه تتحرك، وهو ضعيف، وكان الخليفة يبعث إليه في كل يوم مائدة فيها ألوان الأطعمة والفاكهة والثلج مما يقوم مائة وعشرين درهمًا في كل يوم، والخليفة يحسب أن أحمد يأكل، ولم يكن

ص: 456

أحمد رحمه الله يأكل شيئًا من ذلك بالكلية، ثم أقسم عليه ولده حتى شرب قليلًا من السويق بعد ثمانية أيام، وجاء عبيد الله بن يحيى بن خاقان بمال جزيل من الخليفة جائزة له، فامتنع من قبوله، فألح عليه الأمير فلم يقبل، فأخذها الأمير ففرقها على بنيه وأهله، وقال: إنه لا يمكن ردها، لا يمكن ردها على الخليفة، وكتب الخليفة لأهله وأولاده في كل شهر بأربعة آلاف درهم، فمانع أبو عبد الله الخليفة، فقال الخليفة: لا بد من ذلك، وما هذا إلا لولدك، فأمسك أبو عبد الله عن ممانعته، ثم أخذ يلوم أهله وعمه رحمه الله تبارك وتعالى.

وهكذا ينتصر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بعد أن ثبت في المحنة، وبعد أن ضرب وحبس وأوذي إيذاءً شديدًا رحمه الله إلا أن الله عز وجل أعز به الدين، ونصر به السنة، ورفع به راية القرآن الكريم، وبالتالي أصبح الإمام أحمد إمام عند أهل السنة والجماعة، ونحن ندعو طلبة العلم إلى أن يستفيدوا من مواقف هذا الإمام الجليل، وأن يصبروا على الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وهم في ذلك متمسكين بهدي القرآن الكريم والسنة النبوية وفق فهم سلف أهل الأئمة الصالحين.

وأكتفي بهذا وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 457