الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعضهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا)) ثم بعد ذلك يدخل أهل الجنة الجنة -نسأل الله جميعًا ذلك- وأهل النار -ولا شك كما جاءت النصوص بذلك- يسقطون فيها، وهم يمرون على الصراط، أعاذني الله وإياكم من ذلك.
الركن السادس من أركان الإيمان؛ الإيمان بالقدر
أنتقل بعد ذلك إلى العنصر الثاني من عناصر هذا اللقاء، وهو في الركن السادس والأخير من أركان الإيمان، وهو: الإيمان بالقدر، ويشتمل هذا العنصر على النقاط التالية:
أ- التعريف بالقضاء والقدر، القدر ما سبق به العلم، وجرى به القلم ممّا هو كائنٌ إلى الأبد، وأنه عز وجل قدر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقاتٍ معلومة عنده تعالى وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه.
وقال الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله في تعريفه: المراد -يعني بالقدر- أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدثٍ صادرٍ عن علمه وقدرته وإرادته سبحانه وتعالى ولا شك أن هذا التعريف كاف في الحديث عن القضاء والقدر، وقد عرّفتُ الآن القدر، وأود أن أعرف القضاء.
فأقول: القضاء هو الفصل والحكم، وقد تقرر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذِكر القضاء، وأصله القطع والفصل، يقال: قضى يقضى قضاءً، فهو قاضٍ إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، فيكون بمعنى الخلق، وللعلماء في التفرقة بين القضاء والقدر قولان:
الأول: القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق.
يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله تبارك وتعالى: قال
العلماء: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله، وقال في موضعٍ آخر: القضاء الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل. هذا القول الأول.
القول الثاني: عكس القول الأول، فالقدر هو الحكم السابق، والقضاء هو الخلق، وهذا عكس القول السابق.
ب- أنتقل إلى النقطة التالية في هذا العنصر، وهي بعنوان: وجوب الإيمان بالقدر والأدلة عليه:
الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، ففي (صحيح مسلم) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- في سؤال جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم قال لما سأله عن الإيمان قال:((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال له جبريل عليه السلام: صدقت)).
والنصوص المخبرة عن قدر الله أو الآمرة بالإيمان بالقدر كثيرة، وقد صرح بها القرآن الكريم في نحو مائة آية، ومن ذلك قوله سبحانه:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49).
ومنها قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (الأحزاب: من الآية: 38).
ومنها قوله سبحانه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: من الآية: 2)
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في سُنته ذكر أحاديث متعددة توجب الإيمان بالقضاء والقدر، فقد أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء)).
وفي مسلم أيضًا عن طاوس قال: أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: "كل شيءٍ بقدر"، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس".
أنتقل إلى النقطة التالية، وهي بعنوان: أركان الإيمان بالقدر:
الإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان من أقر بها جميعًا فإن إيمانه بالقدر يكون مكتملًا، ومن انتقص واحدًا منها أو أكثر فقد اختل إيمانه بالقدر، والأركان الأربعة هي:
الركن الأول: الإيمان بعلم الله تبارك وتعالى الشامل المحيط، وقد كثر في كتاب الله، وسُنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تقرير هذا الأصل العظيم، فعلم الله محيطٌ بكل شيءٍ، يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الموجود والمعدوم، والممكن والمستحيلة، وهو عالمٌ بالعباد، وآجالهم، وأرزاقهم، وأحوالهم، وحركاتهم، وسكناتهم، وشقاوتهم، وسعادتهم، ومَنْ مِنْ أهل الجنة منهم ومَنْ مِنْ أهل النار، كل ذلك لأنه سبحانه وتعالى يتصف بصفة العلم الشامل الواسع لكل شيءٍ، قال تعالى في تقرير ذلك:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الحشر: من الآية: 22).
وقال سبحانه: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق: 12).
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر في سُنته في أحاديث كثيرة عن علم الله سبحانه وتعالى الواسع المطلق، ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن أولاد المشركين، فقال:((الله أعلم بما كانوا عاملين)).
الركن الثاني من أركان الإيمان بالقدر: الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيءٍ، دلت النصوص من الكتاب والسُّنة على أن الله كتب في اللوح المحفوظ كل ما كان وما سيقع؛ ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق)) فقوله: ((كتب)) يدل على أن الله عز وجل كتب مقادير الخلائق.
كما ذكر عبادة بن الصامت في حديثه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: ما اكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد)).
واللوح المحفوظ الذي كتب فيه الله مقادير الخلائق سماه القرآن بالكتاب، وبالكتاب المبين، وبالإمام المبين، وبأم الكتاب، والكتاب المسطور، قال تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (البروج: 21، 22).
وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (يس: 12).
وقال: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (الطور: 1، 2).
الركن الثالث من أركان الإيمان بالقدر: الإيمان بمشيئة الله الشاملة، وقدرة الله النافذة، وهذا الأصل يقضي بالإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة ولا سكون في السماوات ولا في الأرض إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى فلا يكون في ملك الله إلا ما يريد، والنصوص المصرحة بهذا الأصل المقررة له كثيرةٌ وافرةٌ منها: قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الإنسان: من الآية: 30).
ومنها: قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: 82).
ويقول سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (الأنعام: من الآية: 35).
الركن الرابع من أركان الإيمان بالقدر: الإيمان بأن الله خالق كل شيء، وقد قررت النصوص القرآنية والنبوية أن الله خالق كل شيء، فهو الذي خلق الخلق وكونهم وأوجدهم، فهو الخالق وما سواه مربوب مخلوق، قال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} (الرعد: من الآية: 16).
وقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (الأنعام: من الآية: 1).
والنصوص في هذا كثيرة، وهي تقرر أن الله خالق أعمال العباد، وممّا جاء في القرآن صراحة ممّا يدل على ذلك قوله سبحانه:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: 95، 96).
د- أنتقل بعد ذلك إلى النقطة التالية والأخيرة في هذا اللقاء، وهي: الإيمان بقدر الله تبارك وتعالى وأن هذا الإيمان لا يؤدي إلى ترك العمل، فالإيمان بالقدر لا يؤدي إلى ترك العمل، وأقول هذا؛ لأن بعض الناس ضل في هذا الباب، وقال: إذا كان الله عالمًا بكل شيءٍ نفعله، وعالمًا بمصيرنا إلى الجنة أو النار، وكان هو الخالق لأفعالنا فلماذا نعمل وننصب؟ ولماذا لا نترك الأقدار تجري في أعنتها؟ وقد تعمقت هذه الضلالة عند طوائف من العُبّاد والزهاد وأهل التصوف، وذهب إلى هذا القول بعض جهالة المسلمين أيضًا وأهل الزيغ والزندقة، وهذا الفريق يؤمن بالقدر، وأن الله عالمٌ بكل شيءٍ، وخالقٌ لكل شيءٍ، ومريدٌ لجميع الكائنات، ولكنهم زعموا أن كل ما خلقه الله وشاءه فقد رضيه وأحبه، وزعموا أنه لا حاجة بالعباد إلى العمل والأخذ بالأسباب، فما قُدرَ لهم سيأتيهم، وزعموا أن العباد مجبورون على أفعالهم، فالإنسان عندهم ليس له قدرة تؤثر في الفعل، بل هو مع القدر كالريشة في مهب الريح.
وفي الحقيقة هذا الاعتقاد المنحرف الذي أصاب طائفةً من الناس كانت له أثارٌ سيئةٌ على المجتمع بصورة عامة وعليهم بصورة خاصة، فقد دفعهم هذا المعتقد إلى ترك الأعمال الصالحة الخيرة التي توصلهم إلى الجنة وتنجيهم من النار، وارتكبوا كثيرًا من الموبقات بدعوى أن القدر آتٍ آت، وكل ما قُدرَ للعبد سيصيبه، كما ترك هؤلاء الأخذ بالأسباب؛ فتركوا الصلاة والصيام كما تركوا الدعاء والاستعانة بالله والتوكل عليه، ورضي كثيرٌ من هؤلاء بظلم الظالمين وإفساد المفسدين، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يهتموا بإقامة الحدود والقصاص.
وقد عرض شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذا الفريق ومعتقده، فقال: الذين اعترفوا بالقضاء وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي، فهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع والأمر والنهي مع الاعتراف بالربوبية العامة بكل مخلوق، وأنه
ما من دابة إلا ربي آخذٌ بناصيتها، وهذا هو الذي يُبتلى به كثيرًا إما اعتقادًا وإما حالًا طوائف من الصوفية والفقراء، حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة بالمحرمات، وإسقاط الواجبات، ورفع العقوبات.
وهذا في الحقيقة ضلالٌ بعيدٌ وانحرافٌ خطيرٌ وقعوا فيه، وأداهم ذلك إلى القعود والكسل وترك العمل، وبالتالي ما عرفوا طريقًا لعبادة الله عز وجل وهذا ضلال، فالإيمان بالقدر لا يعني أن يترك الإنسان الأسباب أو العمل، بل إن الإيمان بالقدر يدفع إلى العمل؛ لأن الإنسان لا يعلم ماذا قُدِرَ عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أشار ذلك إلى سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن الاتكال على كتابة الله تبارك وتعالى لِمَ قدره وقضاه، وكتبه في اللوح المحفوظ، أو أن يعمل الإنسان؟ فأشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العمل، سئل عليه الصلاة والسلام:((أرأيت ما نحن فيه؟ هل هو أمرٌ قد فُرِغَ منه أم أمرٌ مستأنف؟ فقال: أمرٌ قد فُرِغَ منه، فقيل له صلى الله عليه وآله وسلم: أفلا نَدَعُ العمل، ونتكل على كتابنا هذا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم مرشدًا وموجهًا: اعملوا فكلٌّ ميسرٌ لما خُلِقَ له)).
فالإيمان بالقدر يوجب الأخذ بالأسباب، ويوجب السعي إلى العمل، وترك العمل اتكالًا على القدر هو في الحقيقة آفة أُصيب بعض الناس الذين ضلوا وانحرفوا عن صراط الله المستقيم، وبالتالي ضلالهم سيحيق بهم، فعلى العبد أن يؤمن بقضاء الله وقدره، بأركانه التي سبقتُ أن أشرتُ إليها، ثم بعد ذلك يعمل ويسعى، ويسأل الله حسن الخاتمة، ويُسلِم أمره إلى رب العزة والجلال سبحانه وتعالى.
وبهذه الكلمات ينتهي معكم هذا اللقاء المبارك، -إن شاء الله تبارك وتعالى واستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.