المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العلاقة بين الإسلام والعلم - أصول الدعوة وطرقها ٤ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الدعوة وصلتها بالحياة وأثر الإسلام في الاجتماع

- ‌الأَحْوَالُ السياسيةُ قَبْلَ الإسْلامِ

- ‌أَبْرَزُ المَعالِمِ السياسيةِ الداخليَّةِ والخارجيةِ للدَّولةِ الإسلامِيةِ

- ‌خَصَائِصُ النِّظامِ السياسيِّ في الإسْلامِ

- ‌نِظامُ المجتمَعِ في الإسلامِ

- ‌خَصائِصُ النِّظامِ الاجتماعيِّ في الإسلامِ

- ‌وُجُوبُ الاجتماعِ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، ونبذُ الاختلافِ والفُرْقَةِ

- ‌الدرس: 2 أثر الإسلام على الاقتصاد وكون الإسلام عقيدة وشريعة

- ‌تعريف الاقتصاد وأساسه

- ‌خصائص النظام الاقتصادي

- ‌دور الاقتصاد الإسلامي بالنسبة للعالم الإسلامي

- ‌تعريف العقيدة، وأهميتها، والمناهج في إثباتها

- ‌معنى الشريعة والأسس التي بنيت عليها

- ‌التشريع حق لله وحده دون سواه

- ‌الدرس: 3 إلمامة بأركان الإيمان

- ‌مذهب السلف في الإيمان مع ذكر أركانه

- ‌الركن الأول من أركان الإيمان؛ الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني من أركان الإيمان؛ الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث من أركان الإيمان؛ الإيمان بالكتب

- ‌الركن الرابع من أركان الإيمان؛ الإيمان بالرسل عليهم السلام

- ‌الركن الخامس من أركان الإيمان؛ الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس من أركان الإيمان؛ الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 إلمامة تحليلية بأركان الإسلام

- ‌تعريف الإسلام، وذكر أركانه، وما يتعلق به

- ‌الركن الأول من أركان الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌شهادة أن محمدًا رسول الله

- ‌الركن الثاني من أركان الإسلام؛ الصلاة

- ‌الركن الثالث من أركان الإسلام؛ الزكاة

- ‌الركن الرابع من أركان الإسلام؛ الصيام

- ‌الركن الخامس من أركان الإسلام؛ الحج

- ‌أثر الإيمان والعقيدة في تكوين الفرد والمجتمع

- ‌الدرس: 5 الإعجاز في القرآن الكريم طريق من طرق أصول الدعوة

- ‌المعجزة في زمانها ومكانها

- ‌المعجزة الخالدة القرآن الكريم

- ‌الدرس: 6 موقف الإسلام من العلم الكوني، والدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌العلاقة بين الإسلام والعلم

- ‌الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

- ‌الدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌الدرس: 7 المسجد والمدرسة ودورهما في الدعوة

- ‌المسجد، ورسالته بين المسلمين

- ‌دور المسجد في المجتمع المسلم

- ‌بعض وظائف المسجد

- ‌دعوة الطلاب إلى الله في المدارس والجامعات:

- ‌الدعوة إلى الله بين المدرسين، وأساتذة الجامعات

- ‌دور المدرسة في تحقيق أهداف التربية الإسلامية

- ‌الدرس: 8 أهم ميادين الدعوة والإعلام الإسلامي

- ‌مقدمات في الإعلام

- ‌الأجهزة الإعلامية الإسلامية المتخصصة

- ‌الإسلام في مواجهة الإعلام الكاذب

- ‌الدعوة إلى الله في التجمعات الإسلامية والمناسبات المختلفة

- ‌الدرس: 9 الجهاد في سبيل الله تعالى

- ‌تعريف الجهاد وذكر أنواعه

- ‌مشروعية الجهاد وسببه ومراحله وفضله

- ‌فضل الجهاد، وثمراته

- ‌مسائل هامة تتعلق بالجهاد في سبيل الله

- ‌الدرس: 10 بعض مواقف الخلفاء الراشدين والصحابة وأثرها في الدعوة

- ‌أبو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه

- ‌حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

- ‌الدرس: 11 دراسة بعض الدعوات ومناهجها في الدعوة

- ‌ جماعة أهل الحديث بالهند

- ‌جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌تابع الحديث عن جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌نشأة جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان والبلاد الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 12 تابع دراسة بعض الدعوات ومناهجها

- ‌حركة " الإخوان المسلمون

- ‌الحزب الإسلامي الكردستاني

- ‌الدرس: 13 ترجمتا الخليفة عمر بن عبد العزيز والإمام أحمد بن حنبل

- ‌سِيرَةُ الإمام عمر بن عبد العزيز الذاتية

- ‌في سيرة عمر بن عبد العزيز العلمية، وولايته

- ‌سيرة الإمام أحمد الذاتية

- ‌عقيدة الإمام أحمد ومحنته

- ‌الدرس: 14 ترجمتا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سيرته

- ‌منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌تابع منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌ترجمة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سِيرُتُه الذَّاتِيَّةِ

- ‌مُؤلفَاتُ الشيخِ، وعقيدتُه، وأثرُ دعوتِهِ في العَالَمِ الإسلَامِيِّ

الفصل: ‌العلاقة بين الإسلام والعلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السادس

(موقف الإسلام من العلم الكوني، والدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان)

‌العلاقة بين الإسلام والعلم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وبعد:

عنوان هذا اللقاء: "بيان موقف الإسلام من العلم الكوني، والدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان". وهذه المحاضرة تشتمل على العناصر التالية:

العنصر الأول: العلاقة بين الإسلام والعلم، ويشتمل على النقاط التالية:

النقطة الأولى: قواعد المنهج العلمي في القرآن الكريم؛ وأقول هذا لأن بعض الناس -خاصة من المفتونين- يباهي بما في هذا العصر من مكتشفات العلم، ومستحدثات الاختراع، ويتشدقون بالدعاوي الفارغة، ومنها: أن التفكير الديني تفكير غيبي لا يصلح نظامًا لحياة، ولا منهجًا لبناء أمة، وأن سواء الصراط في معتقدهم هو الفكر العلماني، واللا ديني، وأنا أريد هنا أن أبين لهؤلاء أن القرآن الكريم هو أعظم دعوة عرفتها الأرض وضعت العلم الصحيح في موضعه من نفع البشر وإصلاح حالهم، وإنك لواجد في كتاب الله العديد من آيات القرآن التي تأمر بالبحث والنظر، وتحض على الدرس والاختبار والتجريب، فإذا كان العلم لا يعتمد غير الدليل والبرهان فها هو القرآن الكريم يجعل البرهان هو الفيصل بينه وبين خصومه، فيقول الله رادًّا على دعاوي اليهود في أن الجنة حكر لهم:{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} ثم يتحداهم أن يأتوا بالقرآن فيقول سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَنْ كَانَ هُودًا أو نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111).

بل إن أعظم قضية في الوجود كله هي التوحيد، وأكبر كبيرة هي الشرك، ومع ذلك فإن القرآن الكريم يطالب المشركين بالقرآن المصدق لزعمهم أن مع الله آلهة أخرى، فيقول سبحانه:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون: 117)، وسدد الله مقالة أصحاب الكهف؛ إذ قالوا:{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (الكهف: 15).

ص: 205

فهم يبينون أن النزاع بينهم وبين قومهم أنهم يعبدون من دون الله آلهة، وأن الذي يفصل في النزاع هو أن يأتوا بسلطان بين، يؤيد زعمهم، وتأملْ تسمية القرآن الكريم للقرآن بأنه سلطان، ووصفه لهذا السلطان بأنه يجب أن يكون بينًا، وأرسل الله أنبياءه بالمعجزات الملموسة القاطعة، وسمى هذه المعجزات آية وعلامة دالة على صدق هذا النبي، كما قال تعالى:{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} (البقرة: 212)، وكما في قوله تعالى:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ، وآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا، ومَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفًا} (الإسراء: 95).

ولقد ذَكَرَتْ آيات القرآن الكريم العديد من الآيات الكونية؛ لتحرك العقول، ولتستلفت الأنظار إلى آيات الله في الكون كله، وأنا سأبسط لك القول في بعض هذه الآيات على النحو التالي؛ حيث إن هناك آيات تحث على النظر في الأرض، كما قال الله تبارك وتعالى:{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20، 21)، ويقول -جل ذكره-:{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت: 20)؛ فهل يتصور متصور أن أمره تعالى إلى عباده: {فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} هي دعوه لهم أن يفتحوا أعينهم ويغمضوها، أو أن يقلبوا أبصارًا شاردة زائغة، أم أن القرآن بقوله:{انْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} إنما دعاهم إلى النظرة العلمية الفاحصة المدققة، وتأمل قوله تعالى:{بَدَأَ الْخَلْقَ} مع أنه تعالى يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ومَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (الكهف: 51) فهذه آيات تظهر فيها تكاملية الإسلام، وشمولية منهجه، وأنه الدين الذي يربي أتباعه على أن يأخذوا قسطًا من المادة، وألا يغفلوا نصيبهم من حقوق الروح، وهؤلاء هم الذين يبتغون فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا.

ص: 206

إذن المنهج العلمي في القرآن الكريم، وَضَعَ قاعدة هامة، وهي النظر في ملكوت السموات، والأرض، بل تقليب النظر، والاستفادة مما أودعه الله عز وجل في هذا الكون، وأن يبحث الإنسان وأن يجتهد في التوصل إلى ما يفيده في هذه الحياة الدنيا، والقرآن الكريم أشار إلى ذلك في كثير من آياته.

أنتقل بعد ذلك إلى النقطة التالية في هذا اللقاء، وهي بعنوان "موقف أعداء الله من العلاقة بين القرآن والعلم":

ولا بد عند حديثي عن موقف الإسلام من العلم الكوني أن أشير إلى هذا الأمر؛ لأن هذه المسألة هي قضية متجددة لدوام محاولات الفكر البشري فهم القرآن الكريم، وتدبر أسراره، والوقوف على بواطن إعجازه، والتتبع لمرامي غاياته، والباحثون في هذه القضية عمومًا عدة طرائق، فطائفة تجحد القرآن الكريم، وتناصبه العداء، وهي بالتالي تريد في قبح خبيث أن تتسلم موجة المد العلمي في عصرٍ فُتن فيه الناس بمعجزات العلم، وفتوحاته أيما فتون؛ لإظهار العلاقة بين القرآن، والعلم بأنها علاقة تناقض دائم، وتنافر موصول، وتريد إفساد عقائد المسلمين، وصرفهم عن دينهم باسم العلم، وهم دائمًا يعزفون نغمة، واحدة هي التشكيك في آيات القرآن الكريم باسم العلم، وصد الناس عن الأحكام باسم العلمانية، ويرددون بأن عصر المحراب قد انتهى، واستقبل الناس عهد المختبرات وغرف التشريح، وهؤلاء إما صليبي أو صهيوني يحمل في قلبه مواريث الحقد على الإسلام وأمجاده، وشر الثلاثة أبناء الشيوعية الذين أشربوا في قلوبهم عبادة الأوهام الماركسية، وذلوا خانعين لطواغيتها، ولعله من العدل هنا أن أذكر بعضًا من نماذج أقوال هؤلاء المجرمين.

ص: 207

يقول صاحب كتاب (الإسلام نشأته ومستقبله) عن العقائد التي تحاربها الشيوعية، وهو يدعو إليها، ويعتنقها، يقول: ومن ضمن هذه البقايا الخرافات الدينية المخالفة للعلوم، ويمثل الدين الإسلامي إحدى هذه البقايا!.

تأمل كيف نص بالذات على الدين الإسلامي!! يقول: ويمثل الدين الإسلامي إحدى هذه البقايا المحافظ عليها من قبل جزء من سكان الجمهورية السوفيتية.

ثم يقول أيضًا: فآراء القرآن والسنة عن الكون، وكذلك عن نشوء وتطور الحياة في الأرض، وعن أصل الإنسان، وليدة التأخر والجهل، وما هي إلا مقولات من الأساطير التي كُتِبَتْ في التوراة، وكتب في القرآن أن الله خلق جميع الحيوانات من الماء، وفي سبعة أماكنَ مختلفة يذكر القرآن الكريم كيف خُلِقَ الإنسان، ويناقض القرآن نفسه في هذه الخصوص؛ إذ يقول في المرة الأولى: إن الله خلق الإنسان من التراب، وفي الثانية: من الطين، وفي الثالثة: من خلاصة الطين.

وهذا الكلام الباهت الذي صدر من حاقد على الإسلام ورسوله، وكتاب الله عز وجل لا يحتاج إلى مناقشة، ولكني أردت أن أبين أن أعداء الله عز وجل وقفوا موقفا عجيبًا من القرآن الكريم، وحاولوا أن يقولوا للناس وأن يثبتوا، وهم على عماية وضلالة أن القرآن الكريم لا علاقة له بالعلم، وزعموا -وبئس ما زعموا- أن القرآن الكريم يحارب العلم.

وفي الحقيقة يمكنني أن أقول: المثل السائر في هؤلاء رمتني بدائها وانسلت. فهذا، وإن كان قد وُجِدَ عند الصليبيين فلن يوجد في الإسلام منه شيء، ولكني هنا قبل أن أشير إلى شيء من ذلك أيضًا أود أن أذكر أيضًا موقف التبشير، وأعني بذلك: الحملات الصليبية في القديم والحديث في هذه القضية.

أقول: إن الأحقاد التي حملتها الصليبية -قديمًا وحديثًا- تجاه الإسلام جعلتها دائمًا وأبدًا تحاول النيل من الإسلام، وتسلك كل سبيل للقضاء عليه، ولقد

ص: 208

سلك الاستعمار الصليبي سبيل الحرب والمؤامرة، كما سلك عملاؤه وأذنابه -سلكوا جميعًا- بث الدسائس، وذرع الفتن بين المسلمين، أما أبواقه ودعاته، فقد شنوا -ولا يزالون- حربًا فكرية تستهدف صرف المسلمين عن دينهم إلى المسيحية أو حتى إلى الإلحاد؛ لأن القضاء على هذا الدين غاية الغايات عند هؤلاء، وارتداد أتباعه أطيب المنى، ولقد أنشئت المعاهد والإرساليات والجامعات بتخطيط استعماري بعيد النظر طويل النفس، وبقلب ملئ بغضًا للإسلام، وكانت الغاية من هذه المؤسسات العلمية هي تنشئة أبناء المسلمين على طعام الاستعمار وموائد الصليبية؛ حتى يشبوا وقد أصبح الإسلام زادًا لم يعرفوا له طعمًا، وغذاء لم يروا له شكلًا.

واستهدفت الحملة الفكرية على الإسلام زعزعة عقائد المسلمين في الإسلام بشتى السبل، ومنها ادعاء مناقضة القرآن للعلم، وكانت كتابات كثير من المبشرين وصبيانهم تعرض بهذا وتصرح به وفق الأوضاع والظروف، وكانوا يصورون الإسلام على أنه عبارة عن أمور غيبية أو خرافات، وكانت العلمنة أو العلمانية هي الراية التي رُفِعت -وما زالت ترفع- في حرب الإسلام، ولقد وجد هؤلاء المجرمون العلم الحديث اليوم فرصة لكي يتحدثوا فيه عن القرآن الكريم، وأن القرآن الكريم يناقضه ويعارضه، وبئس ما زعموا وقالوا، فهذا قد وجد عندهم، ودعا أتباع الكنيسة إلى أن يخرجوا عليها، ووجد فيما عرف بعد ذلك بالعلمانية.

أما دين الإسلام فلا يتناقض، ولا يتعارض مع العلم بحال، وقد أشرت في النقطة السابقة أن القرآن الكريم يدعو إلى النظر وإلى التأمل، وإلى البحث في ملكوت السموات والأرض، ولتأكيد هذه الحقيقة أنتقل إلى النقطة التالية، وهي:

ص: 209

ج- بعنوان "آراء بعض علماء المسلمين في هذه القضية"، وسأسوق هنا بعضًا من أقوال علماء المسلمين؛ لأدلل بها على أن أهل الإسلام وعلماء المسلمين لم يقولوا أبدًا بأن القرآن يتعارض مع العلم الحديث، ولم يقفوا موقفًا عدائيًّا بحال من الأحوال مع العلم السليم الصحيح، أبدأ أولًا برأي الشيخ عبد الوهاب خلاف رحمه الله تبارك وتعالى حيث تعرض لهذا الموضوع في كتابه "علم أصول الفقه" عند حديثه عن وجوه إعجاز القرآن الكريم، وكان مما قال:

القرآن أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون حجة له، ودستورًا للناس، وليس من مقصده -يعني: من مقصد القرآن الكريم- أن يقرر نظريات علمية، ولكنه في مقام الاستدلال على وجود الله، ووحدانيه، والتذكير بآلائه ونعمه، جاء بآيات تُفهم منها سنن كونية كشف العلم الحديث براهينها، فكان ذلك برهانًا جديدًا على أن القرآن الكريم من عند الله تبارك وتعالى وعلى هذا الوجه من وجوه الإعجاز أرشد الله سبحانه وتعالى بقوله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ، وفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، ولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 52، 53).

ثم ذكر بعض الآيات الكريمة التي تتضمن صورًا من الإعجاز العلمي، وَرَدَّ على المحتجين بأن آيات القرآن الكريم لها مدلولات لا تتبدل، والنظريات العليمة عرضة للتغير والتبدل؛ بأنه يرى أن تفسير آية قرآنية بما كشفه العلم من سنن كونية ما هو إلا فهم للآية بوجه من وجوه الدلالة على ضوء العلم، وليس معناه أن الآية لا تفهم إلا لهذا الوجه من الوجوه.

ص: 210

أنتقل بعد ذلك إلى رأي علم آخر من علماء الإسلام، وهو الدكتور محمد جمال الدين الفندي رحمه الله تبارك وتعالى والدكتور الفندي كان أستاذًا للطبيعة الجوية بكلية العلوم بجامعة القاهرة، وقد اتجه في سنواته الأخيرة إلى بحث العلاقة بين القرآن الكريم والعلم، وقد أصدر في ذلك عدة مؤلفات، منها:(روائع الإعجاز في القرآن الكريم)، و (القرآن والعلم)، و (الكون بين الدين والعلم)، وغير ذلك.

وقد عني الدكتور المذكور انطلاقًا من دائرة تخصصه لخدمة العلاقة بين الدين والعلم، وأصدر في ذلك عدة مؤلفات، وسأنقل هنا نظرته إلى هذا المنهج من كتابه (الله والكون)؛ إذ يقول فيه: اتخذت من الكون مَعْلَمًا لي، منه أستمد حقائق، وإليه أرد تلك الحقائق مستخدمًا حواسي، وعقلي، ولقد شاءت إرادة الخالق -جل شأنه- أن يتخذ في الكون أعجب النظم، وأروعها لتنفيذ إرادته، وإظهار آياته، وهي نظم وآيات أقرب ما تكون لفهم المتخصصين من العلماء الذين اتخذوا من الكون مَعْلَمًا لَهُمْ، وَعِندما تكلم الخالق في القرآن الكريم -وهو كتاب الله المقروء- كان من الطبيعي أن يستمد أمثلته وحكمه من الكون الذي هو كتاب الله المنظور، وليس من المعقول أن يخالف الكلام العمل -أي: لا يمكن أن يتحدث القرآن الكريم عن ظاهرة كونية كالسحاب أو السماء أو الرياح بطريقة تخالف ما نراه، وما نلمسه بالعقل- ولهذا ننادي بضرورة إظهار تلك الآفاق الواسعة التي فتحها أمامنا عصر العلم بطريقة سليمة لكثير من معاني الآيات الكونية في القرآن الكريم، مع أننا نقول: إننا لا نُحَمِّلُ القرآن الكريم ولا آيات القرآن الكريم ما لا طاقه لها به، ولا نوغل أيضًا في العلم على غير أساس أو تخصص.

وقد أشار الدكتور الفندي إلى خطئين منهجيين يقع فيهما كثير ممن نصبوا أنفسهم للكتابة عن علاقة القرآن بالحقائق والنظريات العلمية، وهذان الخطآن أو الخطيئتان هما ظلم اللغة عمدًا أو عن جهالة بتحويل ألفاظها دلالات ما عرفها عربي، ولا سمع بها أعجمي.

ص: 211

الأمر الثاني: القول علم العلم بغير علم؛ ادعاء وتعالمًا، وقد قال الرسول -صلوات الله وسلامه عليه-:((المتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور)).

أنتقل أيضًا بعد ذلك إلى رأي الأستاذ عبد الوهاب حمودة -رحمه الله تعالى- وكان أستاذًا بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وله عدد من المؤلفات الإسلامية، وقد عالج الأستاذ هذا الموضوع، وناقش أدلة المانعين لاستخدام العلم، وَبَيَّنَ أن العلم لا يتعارض مع كتاب الله تبارك وتعالى طالما أنه علم صحيح مبني على أسس عليمة سليمة فقال: والرأي الذي نميل إليه هو أننا في حاجة شديدة إلى أضواء من العلم تكشف لنا عن حِكَمٍ، وأسرار جاءت بها الآيات الكريمة، ولا ضرر من عدم قَصْرِ فهمه على ما عند العرب في علمها ومألوف معارفها؛ لأن القرآن الكريم أنزل للناس كافة يأخذ منه كل على قدر استعداده وحاجته، ما دام لا يتنافى مع ما قصده القرآن الكريم من الهداية؛ فكم من حكمة فيه إذا مستها يد العلم أسفرت أسرارها، وأبانت عن سر إعجازها، وسحر بيانها، وكل ما يساعد من العلوم على الكشف عن الأسرار الكونية، والدلالة على قدرة الصانع الحكيم، والإبانة عن مبلغ آياته، ونعمه، ولا يتعارض مع أسلوب اللغة، ومألوف تعبيرها من غير إغراب ولا تكلف، ولا إغراق في التأويل، وإسراف في التحديد، فهو مما يجوز أن يستخدم في فهم آيات القرآن الكريم؛ لا تفنى عجائبه، ولا تُحْصَى أسراره.

هذه أقوال بعض أهل العلم من المسلمين، سقتها هنا؛ لأرد بها على موقف أعداء الله من العلاقة بين القرآن الكريم والعلم، وأرد عليهم دعوتهم؛ بأن القرآن يتعارض مع العلم، وقد يسأل سائل:

ما هو القول الفصل في هذه القضية، وقد اختلف فيها بعض المسلمين؟

ص: 212

النقطة رابعة: فيصل القول في علاقة القرآن الكريم بالعلم:

وبعد قراءة وبحث في هذا الموضوع رأيت أن النظرة العلمية إلى آي القرآن الكريم تنقسم إلى ثلاثة أنواع؛ النوع الأول: بيان وجه الإعجاز العلمي، ومن نافلة القول أن أقول: إن إعجاز القرآن الكريم ليس قاصرًا على وجه واحد من وجوه الإعجاز، بل الصحيح أن الإعجاز وجوه شتى، منها: هذا الوجه العلمي، وبيان هذا الوجه من الإعجاز العلمي يتضح في بعض آيات القرآن الكريم، خاصة تلك التي يتعلق موضوعها بالأكوان، وبالخلق العامل لهذه الأكوان، ويجد القارئ لتلك الآيات الكريمة أنها تقرر حقيقة علمية مستقرة لا يعتورها الزيف، ولا التغيير، وأن هذه الحقيقة لم تكن معروفة في عصر التنزيل، وهي لا تتعلق بأمر اعتقادي يجب أن يكون قاطعًا، ولا بحكم شرعي لا ينبغي أن يكون مفصلًا، ولا ينتقص من قدر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم لم يعرفوا تفاصيل هذا السر من أسرار الكون الذي جاءت آيات قرآنية تشير إليه في إيجاز.

فهو -كما ذكرت الآن- أمر لا تتعلق به عقيدة ولا شريعة، وقد ظهر لهؤلاء السابقين في حياتهم من وجوه إعجاز القرآن ما ظهر من وجوه كثيرة، وأولها: الإعجاز البياني، وهو يكفي أن يكون حجة ناهضة، ودليلًا رائعا، ومطمعًا رادعًا لمن لم يؤمن، ثم شَاءَتْ حكمة العليم الخبير سبحانه أن يكون هذا الوجه من الإعجاز مخبوءًا في هذا الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه لهذا الجيل من الناس الذي فتن فتونًا كبيرًا بمبتكرات العلم التجريبي ومخترعاته، وهذا من رحمة الله بعباده، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى كتابه هاديًا للبشر في كل عصر كافيًا لحاجاتهم القلبية، والعقلية، والنفسية، والتشريعية، والسياسية، والاقتصادية في كل مصر، ومن صور هذا

ص: 213

الإعجاز، وهي كثيرة أنك تقرأ قول الله تبارك وتعالى:{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة: 3، 4) ففي هذه الآية الأخيرة صورة من صور الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ذلك أنه قد أضحى من المسلمات القطعية أن بصمات أصابع أي إنسان لا تتشابه مع بصمات أي إنسان آخر من هذه الملايين التي عاشت أو تعيش أو ستحيا على هذه الأرض حتى أصبحت هذه البصمات دليلًا لا يرقى إليه الشك في كثير من المعاملات الرسمية، فتوقيع إنسان ما على صك مالي أو وثيقة بيع قد يداخله التزييف والتزوير، ونحن نسمع عن هذا كثيرًا.

وأما أمر البصمة فهو يستعصي على التزييف، وعلى التزوير، ولهذه الأسرار في البصمة الإنسانية جاء قول الله تعالى:{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة: 4)، ومعنى نسوي بنانه هنا هي كمعنى قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار: 6: 8) فمعناها في الموضعين: أنه جعل خلقته عل النحو الأتم الأكمل السواء، وتمام تسوية البنان، وهو طرف الإصبع أن يكون على النحو المعجز الذي ذكرناه من قبل، وقد جاء هذا الإعجاز في كتاب الله تبارك وتعالى وتوصل العلم الحديث إليه.

النوع الثاني من نظرتنا العلمية للقرآن الكريم: هو التفسير العلمي، ونعني بالتفسير العلمي أن يقوم المفسر بشرح بعض التفصيلات العلمية لشيء ذكره القرآن الكريم، وذكر آية الله فيه، وفهم الذين استمعوا القرآن الكريم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعمة الله فيما ذكر على سبيل الإجمال، وأفصل هذا الإجمال الآن بمثال شارح: قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} (النحل: 66) فالله سبحانه وتعالى يمتن على عباده

ص: 214

بهذا اللبن السائغ، وكل من سمع هذه الآية، وقت نزولها من مؤمن أو كافر لا يشك في فائدة هذا اللبن، وما فيه من سكريات، وما فيه من فيتامينات، وما ماثل ذلك بالكميات المحددة، والمقادير المفصلة؛ فهل يكون ذكر هذه المعارف حول هذه الآية الكريمة إلا إظهارًا لأسرار آيات الله في الخلق، وبيانًا لمزيد فضله على عباده، وردًّا على بعد المولعين بتقدم العلوم في عصرهم، وهذا ما أعنيه بالتفسير العلمي.

والفرق بين بيان الإعجاز العلمي في الآية، وتفسيرها تفسيرًا علميًّا أن الأول: هو كشف المغطى، والثاني: هو تفسير المجمل، وبيان وجه الإعجاز العلمي، والتفسير العلمي صحيح ومقبول.

النوع الثالث من نظرتنا العلمية إلى آي القرآن الكريم: ما يعرف بالتأويل العلمي، والتأويل العلمي هو التعسف في فهم آيات القرآن الكريم، وبترها من سياقاتها؛ لتخدم معاني بعيدة عن أغراضها، فتأول آيات القرآن الكريم بالمزعزع من النظريات، والمضطرب من التخمينات، وهذا التأويل في الحقيقة سفه في الرأي، وقول على الله بغير علم، وعدوان على بيان القرآن الكريم، ومسخ لدلالات الألفاظ اللغوية، وهذا هو المردود والمرفوض والمرذول، وأمثلته كثيرة، وفي كل يوم ترى منها جديدًا؛ لأن التأويل تفسير بالهوى، وقول بالظن، والهوى لا ضابط له، والظن لا يقمعه إلا اليقين، والذي أود تقريره هنا في هذه القضية هو أن القرآن الكريم لا يوجد فيه نص من النصوص يناقض حقيقة علمية ثابتة بحال من الأحوال، وهذه ناحية من نواحي إعجازه، كما أن الذي أشار إليه القرآن الكريم من الحقائق العلمية يُعَدّ أيضًا دليلًا من دلائل هذا الإعجاز، وهذا القدر من التدليل على إعجاز القرآن الكريم من هذه الناحية يكفي، ويشفي،

ص: 215