المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعريف الجهاد وذكر أنواعه - أصول الدعوة وطرقها ٤ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الدعوة وصلتها بالحياة وأثر الإسلام في الاجتماع

- ‌الأَحْوَالُ السياسيةُ قَبْلَ الإسْلامِ

- ‌أَبْرَزُ المَعالِمِ السياسيةِ الداخليَّةِ والخارجيةِ للدَّولةِ الإسلامِيةِ

- ‌خَصَائِصُ النِّظامِ السياسيِّ في الإسْلامِ

- ‌نِظامُ المجتمَعِ في الإسلامِ

- ‌خَصائِصُ النِّظامِ الاجتماعيِّ في الإسلامِ

- ‌وُجُوبُ الاجتماعِ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، ونبذُ الاختلافِ والفُرْقَةِ

- ‌الدرس: 2 أثر الإسلام على الاقتصاد وكون الإسلام عقيدة وشريعة

- ‌تعريف الاقتصاد وأساسه

- ‌خصائص النظام الاقتصادي

- ‌دور الاقتصاد الإسلامي بالنسبة للعالم الإسلامي

- ‌تعريف العقيدة، وأهميتها، والمناهج في إثباتها

- ‌معنى الشريعة والأسس التي بنيت عليها

- ‌التشريع حق لله وحده دون سواه

- ‌الدرس: 3 إلمامة بأركان الإيمان

- ‌مذهب السلف في الإيمان مع ذكر أركانه

- ‌الركن الأول من أركان الإيمان؛ الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني من أركان الإيمان؛ الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث من أركان الإيمان؛ الإيمان بالكتب

- ‌الركن الرابع من أركان الإيمان؛ الإيمان بالرسل عليهم السلام

- ‌الركن الخامس من أركان الإيمان؛ الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس من أركان الإيمان؛ الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 إلمامة تحليلية بأركان الإسلام

- ‌تعريف الإسلام، وذكر أركانه، وما يتعلق به

- ‌الركن الأول من أركان الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌شهادة أن محمدًا رسول الله

- ‌الركن الثاني من أركان الإسلام؛ الصلاة

- ‌الركن الثالث من أركان الإسلام؛ الزكاة

- ‌الركن الرابع من أركان الإسلام؛ الصيام

- ‌الركن الخامس من أركان الإسلام؛ الحج

- ‌أثر الإيمان والعقيدة في تكوين الفرد والمجتمع

- ‌الدرس: 5 الإعجاز في القرآن الكريم طريق من طرق أصول الدعوة

- ‌المعجزة في زمانها ومكانها

- ‌المعجزة الخالدة القرآن الكريم

- ‌الدرس: 6 موقف الإسلام من العلم الكوني، والدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌العلاقة بين الإسلام والعلم

- ‌الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

- ‌الدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌الدرس: 7 المسجد والمدرسة ودورهما في الدعوة

- ‌المسجد، ورسالته بين المسلمين

- ‌دور المسجد في المجتمع المسلم

- ‌بعض وظائف المسجد

- ‌دعوة الطلاب إلى الله في المدارس والجامعات:

- ‌الدعوة إلى الله بين المدرسين، وأساتذة الجامعات

- ‌دور المدرسة في تحقيق أهداف التربية الإسلامية

- ‌الدرس: 8 أهم ميادين الدعوة والإعلام الإسلامي

- ‌مقدمات في الإعلام

- ‌الأجهزة الإعلامية الإسلامية المتخصصة

- ‌الإسلام في مواجهة الإعلام الكاذب

- ‌الدعوة إلى الله في التجمعات الإسلامية والمناسبات المختلفة

- ‌الدرس: 9 الجهاد في سبيل الله تعالى

- ‌تعريف الجهاد وذكر أنواعه

- ‌مشروعية الجهاد وسببه ومراحله وفضله

- ‌فضل الجهاد، وثمراته

- ‌مسائل هامة تتعلق بالجهاد في سبيل الله

- ‌الدرس: 10 بعض مواقف الخلفاء الراشدين والصحابة وأثرها في الدعوة

- ‌أبو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه

- ‌حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

- ‌الدرس: 11 دراسة بعض الدعوات ومناهجها في الدعوة

- ‌ جماعة أهل الحديث بالهند

- ‌جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌تابع الحديث عن جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌نشأة جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان والبلاد الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 12 تابع دراسة بعض الدعوات ومناهجها

- ‌حركة " الإخوان المسلمون

- ‌الحزب الإسلامي الكردستاني

- ‌الدرس: 13 ترجمتا الخليفة عمر بن عبد العزيز والإمام أحمد بن حنبل

- ‌سِيرَةُ الإمام عمر بن عبد العزيز الذاتية

- ‌في سيرة عمر بن عبد العزيز العلمية، وولايته

- ‌سيرة الإمام أحمد الذاتية

- ‌عقيدة الإمام أحمد ومحنته

- ‌الدرس: 14 ترجمتا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سيرته

- ‌منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌تابع منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌ترجمة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سِيرُتُه الذَّاتِيَّةِ

- ‌مُؤلفَاتُ الشيخِ، وعقيدتُه، وأثرُ دعوتِهِ في العَالَمِ الإسلَامِيِّ

الفصل: ‌تعريف الجهاد وذكر أنواعه

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس التاسع

(الجهاد في سبيل الله تعالى)

1 -

الجهاد في سبيل الله

‌تعريف الجهاد وذكر أنواعه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين. وبعد:

فأحييكم أيها الإخوة الكرام في بداية هذا اللقاء، وعنوان هذا اللقاء الجهاد في سبيل الله تعالى، ويشتمل على العناصر التالية العنصر الأول تعريف الجهاد، وذكر أنواعه، ويشتمل على النقاط التالية:

أ- كلمة عن الحروب بصورة عامة:

قبل أن أفصّل القول في موضوع الجهاد في الإسلام أود أن أتكلم عن الحرب بصورة عامة، فأقول -وبالله التوفيق-:

منذ أن وُجِدَتْ البشرية على سطح الكرة الأرضية، وهناك صراعٌ بين الحق والباطل، بين قوى الخير وقوى الشر، ولعل هذا ما يشير إليه قول الله تبارك وتعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (المائدة: 27: 31).

فهذه الآيات تبين ما جرى بين ابني آدم، وهذا كان في أول الخلق كما نعلم ذلك؛ لأن آدم عليه السلام هو أبو البشر، وأبو المخلوقات من بني آدم، وقد حصل هذا مع اثنين من أولاده، فدل هذا على أن الصراع بين الحق والباطل قديمٌ جدًّا.

كما يذكر لنا القرآن الكريم موقف موسى عليه السلام من بني إسرائيل، وقد طلب منهم أن يدخلوا الأرض المقدسة ويقاتلوا القوم الجبارين، فجبنوا وتخاذلوا وتقاعسوا، وهذا هو شأنهم دائمًا، النكس بالعهود، وعدم الاستجابة للأوامر، وظهورهم على حقيقتهم الجبانة إذا داهمهم خطرٌ محققٌ، قال الله -تبارك

ص: 297

وتعالى- في بيان ذلك: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: 21: 23).

وقال سبحانه مبينًا دفع الناس بعضهم ببعض: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40).

ويمكن إرجاع الحرب التي تحدث بين الشعوب والأمم إلى أسباب، هي:

السبب الأول: المنافسة التي تحدث بين القبائل المتجاورة عادة، ولعل الحروب الطاحنة التي دارت رحاها بين القبائل العربية قبل الإسلام تؤيد هذا السبب، وتبرز صحته، وأذكر على سبيل المثال من ترك الحروب حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس.

السبب الثاني: العدوان الذي ينشأ بين الأمم المتأخرة في الثقافة والحضارة، وكثيرًا ما تستهدف تلك الأمم استغلال الشعوب المستضعفة، وبسط سلطانها عليها لتسخيرها لأغراضها العدوانية، وللاستفادة من منافع بلادها بغير حق.

السبب الثالث: الغضب لله ولدينه، وهو الجهاد المشروع في الإسلام، ومن أنواعه: الدفاع عن كلمة التوحيد، والسعي لعبادة الله في الأرض، وإقامة شعائر الدين، وهذا ما سأتحدث عنه بتفصيل -إن شاء الله تبارك وتعالى فيما سيأتي بعد.

ص: 298

السبب الرابع: غضبٌ للسلطان، وهي الحرب التي يخوضها صاحب السلطان ضد المتمردين على حكمه الخارجين على سلطانه.

أما الجهاد في الإسلام، فهو جهاد إنساني لم يشهد المؤرخون أنبل من أغراضه، ولا أسمى من أهدافه، ولا أرفع من مقاصده، فهو يجنح للسلم إن طلب العدو ذلك، وهو رحيم رفيق لا يعتدي ولا يأخذ على حين غرة، ولا يقتل شيخًا مُسِنًّا، ولا امرأة، ولا طفلًا، ولا آمنًا غير باغٍ ولا آثم، وشريعة الإسلام في الجهاد شريعة عادلة غير معتدية كغيرها من الشرائع الإسلامية التي جاءت لتحمي لا لتبدد، ولتعدل لا لتبغي لا لتفرق، ولتنشر السلام والأمن لا لترهب الضعيف الآمن.

ولقد ظل رسول الهدى والرحمة صلى الله عليه وآله وسلم في مكة المكرمة ثلاثة عشرة سنة يدعو إلى عقيدة التوحيد بالحسنى، ويصبر على أذى المؤذين واعتداء المعتدين، ولم تمتد يده الشريفة لرد الأذى، أو لدفع العدوان بعدوان مثله، وإنما صلى الله عليه وآله وسلم صبر وصابر، وحث المسلمين على الثبات والتحمل والدفع بالحسنى، ورد الإيذاء بالقول الحكيم حتى ضاقت نفوس الصحابة -رضوان الله عليهم- مما عانوا ومما لاقوا من عنت المشركين، ومن مضايقة الضالين، ومن اعتداء المعتدين، فما كان منهم إلا أن تركوا الديار والأهل والأوطان والمال أيضًا، تركوا ملاعب الصبًا ومرتع الشباب، تركوا الأحبة والأصحاب، وهان عليهم المال والممتلكات؛ فهاجروا من مكة إلى الحبشة مرتين فرارًا بدينهم، وإيثارًا لما عند الله من ثواب وأجر، ولقد كانت الآيات في هذه المرحلة تتنزّل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأمره بالصبر والعفو عن هؤلاء الجاهلين المكذبين، وبيان ذلك في قول الله تعالى مثلًا:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) وكقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصّلت: 34).

ص: 299

وقال -جل من قائل- مبينًا شيئًا من صفات عباد الرحمن، وكيف كانوا يواجهون أهل البغي والعدوان، يقول سبحانه:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (الفرقان: 63).

وقال -جل شأنه-: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 35).

ونزلت الآيات تطرى في تثبيت جلال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي الصبر على تحمل واجبات الدعوة، وفي احتمال الأذى في سبيل الله، ولِمَ لا يكون ذلك وقد أمره ربه سبحانه وتعالى بذلك في قوله:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 124).

وقد كانت الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة تنفذ من وراء الحجب، وتدخل إلى النفوس والقلوب؛ فتلين لها القلوب، وتخضع لها النفوس، وتهذب بها الأخلاق، وتسمو بها الأرواح، وتطمئن لها الضمائر، وتنشط الأجسام، وتستنير العقول، وكان كل مَنْ يعرف الإسلام ويقتنع بهذه الدعوة المثلى يذهب إلى قومه، ويبشرهم بجنة عرضها السموات والأرض، إن هم نطقوا بالشهادتين إيمانًا واحتسابًا، وإن هم اطمئنوا بالتوحيد، وإن صدقت قلوبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يدعو إليه؛ ولهذا رأينا أن الناس دخلوا في دين الله أفواجًا، ولكن الشر وأعوانه، والشرك وأتباعه، والباطل وأهله ساءهم ظهور الحق، وساءهم أن يروا الناس مؤمنين موحدين، فأوقعوا الأذى المادي والمعنوي، والعذاب بكل أصنافه وبشتى مراتبه في النفوس الأبية الموحدة، وانتفش الضلال، وازداد المكر، وظن الكفر أن الصولة والجولة له فتعمق في غوايته، وتفنن في مفاسده، وكانت حربًا نكراء على المسلمين المؤمنين؛ إذ أن وجود الإسلام والمسلمين المتمسكين به يرعب الكافرين، ويخيف أعداء الدين، والله تبارك وتعالى كما أخبر في كتابه

ص: 300

مع الذين آمنوا، ومع الذين اتقوا، والذين هم محسنون، واتجهت إرادة الله تبارك وتعالى لابتلاء المؤمنين ولتمحيصهم، ولإظهار حقيقة تمسكهم بالحق وثباتهم عليه، وتفانيهم في سبيله؛ ففرض الجهاد بعد الهجرة إلى المدينة المنورة.

ولعلي بهذا قد أوضحت أمرًا مهمًا بين حديثي عن الجهاد في سبيل الله، هو أن الصراع قائمٌ بين الحق والباطل، وأن الجهاد في سبيل الله عز وجل تطلبته مواقف، ودعت إليه أمور، وهو أمرٌ يختلف تمامًا عن الحروب التي كانت تقوم وتدور رحاها بين الكافرين والجاهلين قبل بعثة النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.

ب- تعريف الجهاد:

عَرّفَ العلماء الجهاد لغة بأنه: المشقة، فيقال: جَهدت جهادًا أي: بلغت المشقة، وجاهد العدو مجاهدة وجهادًا قاتله، وجاهد في سبيل الله كذلك، وفي الحديث:((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)) والجهاد محاربة الأعداء، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قولٍ أو فعلٍ، والمراد بالنية التي يشير إليها العلماء عند تعريفهم للجهاد، أو قولهم: بأن الجهاد في سبيل الله لا بد أن يكون كذلك، أو ما جاء في الحديث:((ولكن جهاد ونية)) المراد بالنية هنا: إخلاص العمل لله، والمعنى: أنه لم يبق بعد فتح مكة هجرة؛ لأنها قد صارت دار إسلام، وإنما هو الإخلاص في الجهاد وقتال الكفار، وإن بقيت الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وأيضًا هجران المعاصي والذنوب والآثام، وما إلى ذلك.

وعلى هذا فالجهاد هو المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب واللسان، أو ما أطاق من شيء، وفي حديث الحسن -رضي الله تعالى عنه-:"لا يجهد الرجل ماله ثم يقعد يسأل الناس" قال النضر: قوله: "لا يجهد الرجل ماله" أي: يعطيه ويفرقه جميعًا ها هنا وها

ص: 301

هنا، وهذا في قوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (البقرة: من الآية: 219) هذا هو معنى الجهاد في اللغة.

أما الجهاد في الشرع، فهو: بذل الجهد في جهاد الكفار؛ لأن الكفر بالله يعتبر من أكبر الجرائم الشنيعة التي يرتكبها مخلوقٌ في حقِّ خالقه؛ لما فيه من عقوقٍ وجحودٍ للفضل والجَميل، ويُطلق الجهاد في الشرع أيضًا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق، وتتحقق مجاهدة النفس بتعلم أمور الدين؛ لقول الله تبارك وتعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} (محمد: من الآية: 19) ولقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: من الآية: 28).

ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين)) ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((العلماء ورثة الأنبياء)) كما يتحقق بأمور الدين بالعمل وتعليم الدين ونشره مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث كثير أصاب أرضًا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مَثَلُ مَنْ فَقِه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومَثَلُ مَنْ لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلت به)).

وقال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: "كونوا ربانيين حلماء فقهاء" ويقال الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره؛ إذن الجهاد يكون أيضًا بتعلم أمور الدين ونشره والدعوة إليه.

أما مجاهدة الشيطان فإنها تتحقق بدفع ما يأتي به من الشبهات، وما يزينه من الشهوات؛ إذ أن الشيطان متوعد لآدم وبنيه، وذلك واضح من قول الله -تبارك

ص: 302

وتعالى-: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف: 16، 17).

وأما مجاهدة الفساق فتحقق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبإلزامهم على الحق واتباعه، واجتناب المنكر والتبري منه؛ لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) وفي رواية: ((وليس بعد ذلك من حبة خردل من إيمان)).

وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وتكون مجاهدتهم أكبر وآكد إذا اعتدوا على حرمات المسلمين وأوطانهم ومقدساتهم إلى أن يعود الأمن إلى ديار المسلمين، وتعلو كلمة الله دون أن تَحُدّ منها فتنة المفتنين وضلالة المضلين، قال الله تبارك وتعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: من الآية: 193).

وسيأتي توضيحٌ لذلك أكثر -إن شاء الله تبارك وتعالى فيما سيأتي بعد، ولكني أردت هنا أن أبين عند تعريفي للجهاد في الشرع أنه يشمل الجهاد بالسيف والسنان، ويشمل أيضًا الجهاد في سبيل دفع الشيطان، وفي نشر رسالة الإسلام، ورد المعتدين من الفساق والظالمين، وما إلى ذلك.

جـ- أنواع الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى:

للجهاد أنواع كثيرة منها:

النوع الأول: الجهاد بالنفس، أي: أن يذهب المؤمن بنفسه، ويقاتل أعداء العقيدة وأعداء الدين، والجهاد بالنفس أعلى مراتب الجهاد وأعظمها قدرًا وأعلاها شأنًا، وهل يملك الإنسان أغلى من روحه فيجود بها في سبيل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشيرًا ومبينًا عظمة الجهاد بالنفس في سبيل الله تبارك وتعالى يقول:((انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرِجه إلا إيمانٌ وتصديقٌ برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل)).

ص: 303

النوع الثاني من أنواع الجهاد: الجهاد بالمال، فالمسلم القادر يجهز نفسه بماله، ويجاهد كذلك في سبيل الله عز وجل بنفسه، فيكون قد جمع بين فضيلتين عظيمتين: الجهاد بالنفس، والجهاد بالمال، وقد يكون غير قادر جسميًا على القتال، ولكنه قادر ماليًّا فينفق من ماله لمساعدة المجاهدين بالنفس في سبيل الله تبارك وتعالى.

وفي عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان المجاهد المسلم يجهز نفسه بعدة القتال، وبمركب القتال، وبزاد القتال، ولم تكن هناك رواتب يتناولها القادة والجند، وإنما كان العمل تطوعًا بالنفس وتطوعًا بالمال، وهذا شأن العقيدة حين تسكن في القلب، وكان كثيرٌ من الفقراء المسلمين الراغبين في الجهاد في سبيل الله تعالى والزود عن منهج الله في أرضه وراية العقدية، لا يجدون ما يزودون به أنفسهم، ولا ما يتجهزون به من عِدة ومركب؛ فيلجئون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطبلون منه الوسيلة التي تحملهم إلى ميدان المعركة البعيد الذي لا يبلغه على الأقدام، فإذا لم يجدوا ذلك {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَاّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} (التوبة: من الآية: 92).

النوع الثالث من أنواع الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى: المساعدة على الجهاد:

وأود من إخواني المستمعين أن ينتبهوا لهذه المسألة؛ لأن البعض قد يغفل عنها، وقد يظن أن الجهاد بالنفس أو بالمال فقط، فإذا لم يحب أن يجاهد بنفسه، أو ضعف عن ذلك لسببٍ ما، أو كان ليس عنده مال ظن أنه قد برئ بذلك، ولم يفعل شيئًا، ولم يقدم خيرًا للمجاهدين في سبيل الله تبارك وتعالى وهذا في الحقيقة أمرٌ غير صحيح، بل إن المساعدة على الجهاد في سبيل الله نوعٌ من أنواع الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى ويكون ذلك بالإسهام في كل عملٍ من شأنه التمكين من أسباب النصر، ويتحقق هذا بمضاعفة الجهد في الإنتاج الحربي، سواء كان ذلك بالصناعة أو

ص: 304

الزراعة أو التجارة، وبالمساهمة في جلب المعدات الحربية، أو العمل على إنتاجها وترقية مستواها؛ لتضارع أرقى الأسلحة وأقواها.

ويتحقق الجهاد أيضًا بإعداد الجنود إعدادًا دينيًّا تربويًّا وخلقيٌّا وعسكريًّا، ومن ثَمّ تدريبهم على أحدث الأسلحة وأجودها؛ حتى يكونوا مسلمين مجاهدين، فالتربية والخُلق مطلبٌ ديني حري أن يتحقق، بل يجب أن يكون الخُلق قبل التدريب على حمل السلاح والدعوة إلى الجهاد، وقبل التحام الجيشين للقتال؛ لأننا نحن المسلمين نقاتل من أجل عقيدة لها قيمها، ولها مبادئها ومثلها، وإذا أردنا أن ننتصر على قوى الشر فعلينا أن نقف على قاعدة صلبة من الإيمان والتقوى، والخُلق الكريم، فإننا بهذه المُثل وبتحقيقها نستطيع -إن شاء الله تبارك وتعالى أن ننتصر، والله عز وجل ينجز وعده للمتقين الذين يحيون بالعقيدة، ومن أجلها قال الله -جل ذكره- مبينًا وعده هذا لعباده المؤمنين:{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: من الآية: 40).

وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51).

وقال -جل ذكره-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) تأملوا قوله سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ

} إلى آخره، فلا بد إذن من الاعتقاد الصحيح، ومن العمل بهذا الدين، ومن الخُلق القويم؛ حتى ننال وعد الله تبارك وتعالى بالنصر والتمكين، أما أولئك القوم الذين يتركون العبادات، ويفعلون المنكرات، ويرتكبون ما حرم الله تبارك وتعالى ففيم يريدون أن يجاهدوا إذن؟

هؤلاء في الحقيقة قومٌ فاسقون يجب جهادهم أولًا، وهم في حقيقة الأمر ليسوا جنودًا للإسلام، وإنما هم جنودٌ للأهواء والشهوات، إن الجندي المسلم هو الذي يحمل المصحف بيد ويحمل السلاح باليد الثانية، هذا المجاهد حقًّا، وهذا الذي وعده الله عز وجل بإحدى الحسنيين: إما النصر وإما الجنة.

ص: 305

ومن المساعدة على الجهاد أيضًا -أيها الإخوة الكرام-: أن يتبرع الإنسان بالدم، فالتبرع بالدم كالتبرع بالمال سواء بسواء، وهو من المساعدة على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.

ومن المساعدة أيضًا: حراسة أجهزة الدولة من تخريب العدو، والتصدي لدعايات العدو وإشاعات المنافقين والمغرضين، ومن ثَمّ كشفها والرد عليها بالكلمة الواضحة.

ويتحقق الجهاد أيضًا بالعمل البناء لإقامة التضامن الإسلامي، وتكتيل جهود المسلمين، وتوطيد أواصر المحبة بينهم، وتوجيه قواهم المادية والمعنوية لمقاومة العدو المتربص بالمسلمين الدوائر، وعلى المؤمنين أن يحفظوا أسرار المجاهدين كي لا تتسرب للعدو، وأن يعملوا رعاية أسر المقاتلين والشهداء بأي نوعٍ من أنواع الحماية والإحسان، وذلك تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:((من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخيرٍ فقد غزا)) وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يدخل بيتًا بالمدينة غير بيت أم سُليمٍ -رضي الله تعالى عنها- إلا على أزواجه؛ فقيل له في ذلك -يعني: قيل له: لِمَ تدخل بيت أم سُليمٍ؟ - فقال: ((إني أرحمها، قُتِلَ أخوها معي)) وهذا أيضًا لون من المساعدة في سبيل الله تبارك وتعالى وذلك بالمواساة، وتقديم المساعدة بأي لونٍ من ألوان التقديم.

وأحب أن أشير للمستمع الكريم إلى أن الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى ذكر كلمات عن مراتب الجهاد في سبيل الله عز وجل وهي تدخل تحت أنواع الجهاد، وسأشير إليها الآن إشارة يسيرة خفيفة كي أبصر إخواني بأن الجهاد لا يقتصر على الجهاد بالنفس فقط كما ذكرت آنفًا، وإنما يتعداه إلى أمورٍ أُخر.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى: "الجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين".

ص: 306