الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الحموية، التي تناولها كثير من أهل العلم بالشرح والبيان والتحليل وهي في مسألة باب أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته، أملاها في قعدة واحدة بين صلاتي الظهر والعصر، وهذا يدل على فائق علمه رحمه الله تبارك وتعالى. وهناك في الحقيقة أمور كثيرة دقيقة عن شيخ الإسلام وأعماله رحمه الله ولكني أرى أن الوقت يضيق عن استقصاء ذلك والحديث عنه، ولعلي فيما ذكرته آنفًًا من كلمات عن شيخ الإسلام ابن تيمية تبين كثيرًا من أعماله رحمه الله تبارك وتعالى.
ترجمة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب
أنتقل بعد ذلك إلى ترجمة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تبارك وتعالى وأبدأ بسيرته الذاتية، وهذا العنصر يشتمل على النقاط التالية:
أ- اسمه ونسبه:
نسب الشيخ محمد بن عبد الوهاب أذكر بعضه هنا، وهو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف، وينتهي نسبه إلى نزار بن معد بن عدنان، وهو بهذا يلتقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند هذا النسب.
ب- مولده ونشأته العلمية ومواهبه:
ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سنة ألف ومائة وخمس عشرة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في بلدة "العيينة" على الصحيح، في أسرة علمية، تعلم القرآن وحفظه عن ظهر قلب قبل بلوغه عشر سنين، وكان حاد الفهم، وقّاد الذهن زكي القلب سريع الحفظ، قرأ على أبيه في الفقه، وكان -رحمه الله تعالى- في صغره كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام، فشرح الله صدره في معرفة التوحيد وتحقيقه، ومعرفة نواقضه المضلة عن طريقه وجد في طلب العلم، وأدرك وهو في سن مبكرة حظًّا وافرًا من العلم،
حتى إن أباه كان يتعجب من فهمه ويقول: لقد استفدت من ولدي محمد فوائد من الأحكام، وكتبه أبوه إلى بعض إخوانه رسالة نوه فيها بشأنه وفهمه الجيد، وأنه بلغ الاحتلام قبل إكمال اثنتي عشرة سنة من عمره، ورآه أهلًا للصلاة بالجماعة إمامًا لمعرفته بالأحكام، وزوجه بعد البلوغ مباشرة.
ثم من طلب من أبيه الحج إلى بيت الله الحرام فأذن له، فحج وقصد المدينة النبوية وأقام فيها شهرين، ثم رجع بعد ذلك إلى أبيه في العيينة، وأخذ يدرس الفقه على مذهب الإمام أحمد على والده، ورزق مع قوة الحفظ سرعة الكتابة، بحيث إنه كان يخط كراسًا بخط واضح في الجلسة الواحدة بلا سأم ولا تعب مما يحير أصحابه، ويقول عنه عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: وقد كتب بخط يده كثيرًا من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، لا يزال بعضها موجودًا بالمتحف البريطاني بلندن، وهذه العبارة تفيد أن الشيخ ابن عبد الوهاب رحمه الله كما سيتبين لنا بعد ذلك، سلك مسلك السلف الذي سلكه الإمام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى.
وقال حفيده وتلميذه الشيخ عبد الرحمن بن حسن: لما قدم جده سليمان بن علي من الروضة ونزل العيينة كان أفقه من نزل نجد في وقته فتخرج عليه خلق كثير من أهل نجد، منهم ابناه عبد الوهاب وإبراهيم وكان المتولي للقضاء في العارض ابنه عبد الوهاب، وكان عمه يسافر إلى ما حولهم من البلاد لحاجتهم إليه في الإفتاء وما يقع بينهم من بيع العقارات، وكان عليه اعتمادهم فيما كتبه وأثبته، وأكثر إقامته مع أخيه عبد الوهاب فظهر شيخنا يعني: محمد بن عبد الوهاب بين أبيه وعمه، فحفظ القرآن وهو صغير وقرأ في فنون العلم، وصار له فهم قوي وهمة عالية في طلب العلم، فصار يناظر أباه وعمه في بعض المسائل
بالدليل على بعض الروايات عن الإمام أحمد والوجوه عن الأصحاب، فتخرج عليهما في الفقه وناظرهما في مسائل قرأها في (الشرح الكبير)، و (المغني)، و (الإنصاف) لما فيهما من مخالفة ما في متن (المنتهى) و (الإقناع).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: أمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ وقوة الإدراك وعدم النسيان، سمع الحديث وأكثر في طلبه، وكتب ونظر في الرجال والطبقات، وحصل ما لم يحصل غيره، برع في تفسير القرآن، وغاص في دقائق معانيه، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ له مع سرعة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده، تمسك بأصول الكتاب والسنة وتأيد بإجماع سلف الأمة.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وقد أخبر شيخنا -رحمه الله تعالى- أنه كان في ابتداء طلبه العلم وتحصيله في فن الفقه وغيره، لم يتبين له الضلال الذي كان الناس عليه من عبادة غير الله من جن أو غائب أو طاغوت أو شجر أو حجر أو غير ذلك، ثم إن الله تعالى جعل له نهمة في مطالعة التفسير والحديث، وتبين له من معاني الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة أن هذا الذي وقع فيه الناس من الشرك، أنه الشرك الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بالنهي عنه، وأنه الشرك الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه، فبحث في هذا الأمر مع أهله وغيرهم من طلبة العلم، فاستنار قلبه بتوحيد الله الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه.
جـ- أثر البيئة في توجيه الشيخ علميًّا:
من المعلوم أن الإنسان يتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، وأود هنا أن أبين ما إذا كان للبيئة أثر في توجيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تبارك وتعالى من الناحية
العلمية فأقول: لقد أرصد الشيخ البيئة من حوله بواقعها والناس في حياتهم ودينهم على الغالب في تناقض وتصادم مع ما نشأ عليه الشيخ من علم، وما عرفه من الحق على يد أبيه، ومن خلال مطالعته لكتب المحققين من علماء السلف الصالح، فما يتعلمه من أبيه ومن ميراث العلماء في واد، والناس أو غالب الناس في واد آخر، والحياة الواقعة، والعمل الجاري من الناس على العموم والغالب كان مخالفًا للهدي النبوي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد اصطدم ذلك مع حياة الشيخ العلمية الخاصة التي ورثها من متصل إسناد العدول وحملة العلم النبوي من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه اتصالًا متينًا لا يتطرق إليه انقطاع ولا انفصام، ذلك أن البيئة في "نجد" على الخصوص كما هي في سائر البلاد الأخرى على العموم كانت بيئة جاهلية، بيئة خرافة وبدعة، امتزجت بالنفوس فأصبحت جزءًًا من عقيدتها إن لم تكن هي عقيدتها، ولا شك أن بيئة هذه عقيدتها مناقضة لعقيدة السلف الصالح مناقضة للإسلام الذي يتربى عليه الشيخ في محضن خاص من المحاضن التي يحفظ الله بها دينه، ويقيم على الناس بها حجته، استمرارًا لرسالة خاتم أنبيائه ورسله محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- ولا بد أن يخرج الشيخ إلى هذه البيئة ويعاملها بمقتضى سنة الله في خلقه الذي خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملًا وهو العزيز الغفور.
والشيخ بين أمرين: إما أن يستسلم للبيئة ويصبح مثل: الآخرين فتكون نفسه وقلبه وروحه ميدانًا للمتناقضات وصراعها واختلاط البدعة والوهم بعقيدته السليمة ودينه القيم وحياته الطيبة، وتصبح الجاهلية سائدة في نفسه كالأكثر الغالب من الناس، وإما أن يصمم على محاربة الخرافة المنتشرة والبدعة الشائعة والجاهلية الجاثمة الثقيلة، وما أثقلها من كابوس جاثم، إنها حياة أغلبية المجتمع من حوله التي تضغط بقوة على من يحيى بالإسلام ونوره، ولكن قد اختار
الشيخ رحمه الله وجزاه خيرًًا أن يقوم لله قومة انصدعت لها جبال الجاهلية، وتقطعت بها غيوم الباطل وشبهاته، فعزم على تنحية البدع من الحياة التي حوله، وإيقاظ النائمين، وتنبيه الغافلين، والعمل على نشر الإسلام والنور من الكتاب والسنة وسيرة الصالحين، وذلك بتأثير البيئة العلمية التي نشأ فيها الشيخ رحمه الله تبارك وتعالى.
د- توجه الشيخ للرحلة في طلب العلم:
قال ابن بشر رحمه الله تبارك وتعالى: لما تتحقق للشيخ معرفة التوحيد ونواقضه وما كان قد وقع فيه كثير من الناس من البدع المضلة، صار ينكر هذه الأشياء، واستحسن الناس ما يقول، لكن لم ينتهوا عن ما فعل الجاهلون ولم يزيلوا ما أحدث المبتدعون، هنا توجه الشيخ رحمه الله للرحلة في طلب العلم للتسلح بسلاح ماض قاطع؛ فإن إنكار الشيخ لهذه الأمور الشائعة جعلته في مواجهة للمعارضة من علماء السوء وتلبيساتهم وشبهاتهم، وتأليب العامة عليه، وتهمتهم إياه بالانحراف والجهل، فكان كل ذلك يزيد تفكيره وحرصه على تحصيل العلم وإدراك الحق، فلا بد أن يرحل في طلب العلم وتحقيق ما شرح الله له صدره من حقيقة هذا الدين القيم على أيدي حملته العدول، الذين لن تخلو منهم الأرض ولن ينقطع منهم زمان إلى قيام الساعة، فليرحل إلى مظانهم في أقطار البلاد الإسلامية، حيث إنهم لا يحصرون في مكان دون آخر ولا زمان دون زمان؛ فإن للعلماء بقايا وفي الزوايا خبايا، وحجة الله قائمة، وذكره محفوظ، وميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مضبوط وذلك في الكتب والصدور، يحمله من كل خلف عدوله، ويتوارثه جيل بعد جيل، ورب مُبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
ليرحل الشيخ حينئذ في طلب العلم، والتسلح بسلاحه؛ فإن الطريق إلى الله لا بد من أعداء قاعدين عليه، ولا شك أنهم عندهم من الفصاحة والعلم والحجج؛ ولذلك وجب على المسلم أن يتعلم من دين الله ما يصير له سلاحًا يقاتل به هؤلاء الشياطين الذين يصدون عن سبيل الله ويقطعون الطريق إليه، كما ذكر ذلك الشيخ رحمه الله في بعض رسائله؛ لذلك قرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يرتحل من بلده "العيينة" يطلب العلم والنصرة وإعداد العدة من النور والحكمة، ولعله يجد ما يساعده على ما عرف من دين الإسلام، والشيخ رحمه الله رحل رحلات متعددة، وأنا سأقف بعض الوقفات وأنقل بعض من كلمات الذين ترجموا لهذا العالم الجليل رحمه الله وذكروا رحلاته العلمية.
من هؤلاء المؤرخ ابن بشر رحمه الله حيث قد ذكر عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه قال: بأنه رحل في طلب العلم وحج بيت الله الحرام، وقضى حجه وسار بعد ذلك إلى المدينة النبوية -على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم- وقد ذكر المؤرخ ابن بشر ذلك عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقال: فلما رأى -هذا كلام ابن بشر- أنه لا يغني القول ولم يتلق الرؤساء الحق بالقبول، تجهز من بلد "العيينة" إلى حج بيت الله الحرام، فلما قضى حجه سار إلى المدينة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- وكلام ابن بشر هذا يفيد أن الشيخ بدأ رحلاته العلمية من العيينة إلى الحجاز، فحج بيت الله الحرام أولا ثم سار إلى "المدينة" ثانية، وعلى ما يظهر من كلام بن غنام وكلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، أن الشيخ رحمه الله كان قد حج قبل هذه الحجة التي ذكرها ابن بشر بداية، حج في طلب العلم قبل أن يرحل رحمه الله تبارك وتعالى أيضًًا إلى الحج مرة أخرى ليحج ويتعلم، وفي ذلك يقول: ابن غنام رحمه الله عن والد الشيخ -يعني والد الشيخ محمد بن عبد الوهاب- أن والد الشيخ قال: وقد تحققت -يقول:
عن ابنه- وقد تحققت أنه بلغ الاحتلام قبل إكمال اثنتي عشرة سنة على الإتمام، وزوجته بعد البلوغ في ذلك العام، ثم طلب مني الحج إلى بيت الله الحرام، فأجبته بالإسعاف لذلك المرام، فحج وقضى ركن الإسلام وأدى المناسك على التمام، ثم قصد مدينته عليه الصلاة والسلام وأقام فيهما شهرين، ثم رجع بعد ذلك فائزًا بأجر الزيارة والمناسك.
ثم ذكر ابن غنام أن الشيخ بعد رجوعه من "المدينة" إلى "العيينة" أخذ في القراءة على والده في الفقه على مذهب الإمام أحمد ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم إلى ما يليه من الأقطار، وزاحم فيه العلماء الكبار، فوطئ الحجاز والبصرة لذلك مرارًا وأتى الإحساء لتلك الأوتار.
ويقول الشيخ عبد اللطيف أيضًًا: وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام قدمه والده في الصلاة ورآه أهلًا للإتمام، ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذلك المقصد والمرام، وبادر إلى قضاء فريضة الإسلام، وأداء المناسك على التمام، ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وأقام بها قريبًا من شهرين، ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة في الفقه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله ثم بعد ذلك رحل يطلب العمل.
وعلى هذا يتضح من كلام ابن غنام والشيخ عبد اللطيف أن حجته الأولى كان يدفعه إليها واجب أداء واجب ركن الإسلام وفريضته لما توفرت شروطها ببلوغ الشيخ ألا وهي حج بيت الله الحرام، أما هذه الحجة التي ذكرها ابن بشر أولا في بداية رحلته العلمية فواضح أنها كانت بعد أن قرر مغادرة العيينة لطلب العلم.
وبنحو ما ذكرته هنا ذكره بعض العلماء ومنهم الشيخ مسعود الندوي رحمه الله تبارك وتعالى حيث قد ذكر في كتابه "محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه"
قال ما نصه: وكان قد تشرف بحج بيت الله الحرام، وكان مركزية الحجاز قد أثرت في نفسه، وحينما فكر في طلب العلم قصد الحجاز، إلى أن قال: حج بيت الله الحرام وزار المسجد النبوي مرة ثانية، ثم حضر مجالس العلماء وانقطع لطلب العلم.
وعلى هذا فإن الرحلة الأولى التي ذكرتها أنا الآن في بداية كلامي، عن توجه الشيخ للرحلة، عندما ذكرت أنه توجه إلى المدينة وإلى مكة، وتوجه أولا إلى مكة للحج ثم ذهب بعد الحج إلى "المدينة" يظهر أنها حجة كانت تالية بعد الحجة التي وجه فيها والد الإمام محمد بن عبد الوهاب ليحج بيت الله الحرام لما طلب منه الشيخ ذلك، والشيخ على ما يروي ابن بشر من رحلته العلمية خرج من "المدينة" بعد أن أقام فيها ما شاء الله يطلب العلم إلى نجد، ومن نجد تجهز إلى البصرة يريد الشام، فلما وصل البصرة جلس فيها يقرأ عند عالم من أهل "المجموعة" و"المجموعة" هذه قرية من قرى البصرة في مدرسة فيها.
ويذكر حفيد الشيخ وتلميذه الشيخ عبد الرحمن بن حسن في معرض رده على ابن منصور الذي يفتخر برحلته إلى البصرة والزبير، ويقول: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب هكذا يقول: ابن منصور مفتخرًا بذهابه إلى "البصرة" و"الزبير" ومعرضًا بأن ابن عبد الوهاب لم يذهب ولم يرحل لطلب العلم، فقال هذا الرجل وهو ابن منصور: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يتخرج على أشياخ في العلم، قال الشيخ عبد الرحمن ردًّا عليه: إن الشيخ أيضًًا سافر إلى البصرة غير مرة، كل مرة يقيم بين من كان بها من العلماء فما الذي يخص ابن منصور بأخذ العلم منها دونه، إذا كان الكل قد سافر إليها، ويقول عبد الرحمن بن حسن: ثم إن شيخنا -رحمه الله تعالى- بعد رحلته إلى البصرة رحل إلى الإحساء، ثم رجع من الإحساء أيضًًا إلى البصرة.
وقال عبد الرحمن بن حسن أيضًًا: إن الشيخ خرج من البصرة إلى نجد قاصدًا الحج فحج رحمه الله فلما قضى الحج وقف في الملتزم وسأل الله أن يظهر هذا الدين بدعوته وأن يرزقه القبول من الناس، فخرج قاصدًا المدينة مع الحجاج يريد الشام، فعرض له بعض سراق الحجيج فضربوه وسلبوه وأخذوا ما معه وشجوا رأسه وعاقه ذلك عن مسيره مع الحجاج، فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها، ثم رجع إلى نجد فقام فيهم يدعوهم إلى التوحيد.
فكلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله هذا واضح وصريح في أن الشيخ خرج من البصرة إلى نجد قاصدًا الحج، فحج ووقف في الملتزم وسأل الله أن يظهر هذا الدين بدعوته، وأن يرزقه القبول من الناس، ثم خرج من مكة قاصدًا المدينة مع الحجاج ليسافر منها إلى الشام مع حج الشام، ولكن فاته ركب الشام بسبب ما تعرض من لصوص البادية سراق الحجيج، وحين قدم المدينة لم يدركهم، وسواء بقي في المدينة أو لم يبق بها فإنه رجع إلى "نجد" من "المدينة" وقام يدعو أهل "نجد" إلى التوحيد، فلما لا تكون هذه حجة ثالثة أيضًًا؛ حيث كانت الثانية هي بداية رحلاته العلمية على ما أشرت إلى ذلك في توجيه رواية ابن بشر رحم الله تبارك وتعالى الجميع.
هـ- شيوخه وما أخذه عنهم من فنون العلم وتلاميذه رحمه الله تبارك وتعالى:
في الحقيقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بناء على ما ذكرته في رحلاته، كانت له شيوخ كثيرون، وسأذكر هنا بعض شيوخه في البلاد التي أخذ منهم العلم، وأبدأ بديار نجد، وقد ذكرت في ما مضى أن الشيخ تلقى العلم في نشأته العلمية في بلدة العيينة على والده الشيخ عبد الوهاب قاضي العيينة وعلى عمه الشيخ إبراهيم، وهما أخذا عن أبيهما علامة الديار النجدية، ومرجع علمائها الشيخ سليمان بن علي، ولا يستبعد أخذه عن غير والده
وعمه، ولكننا نستطيع تسمية أبيه وعمه؛ لأن هذا أمر متأكد منه، فأبوه الشيخ عبد الوهاب ابن الشيخ سليمان بن علي، وقد ولد في مدينة "العيينة" قاعدة بلدان "نجد" إذ ذاك، وكان والده الشيخ سليمان بن علي هو علامة "نجد" في زمنه، هو قاضي "العيينة" فشب في بيت علم وفضل، واشتغل بالعلم من صغره، فأخذ عن والده وعن غيره من علماء "العيينة" و"نجد" كالشيخ محمد بن ناصر حتى أدرك -لا سيما في الفقه- فإنه فقيه لا كأبيه، ودرس وأفتى وكتب عن بعض المسائل الفقهية كتابات حسنة وولي قضاء "العيينة" فمكث فيها مدة طويلة رحمه الله تبارك وتعالى. وقد ربى ابنه الشيخ محمد تربية علمية، وقد أشرت إلى ذلك، ولا شك أن الأب إذا كان عالمًا ومعلمًا سيعتني بتعليم وتربية أولاده قبل غيرهم.
أما الشيخ الثاني الذي أخذ الشيخ بن عبد الوهاب عنه العلم في ديار "نجد" هو: الشيخ إبراهيم بن الشيخ سليمان بن علي وهو عم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تبارك وتعالى وقد أخذ الشيخ إبراهيم أيضًا عن أبيه وعن غيره من العلماء حتى حصل -خصوصًا في الفقه- وكتب من كتب الفقه شيئًًا كثيرًا بيده، وخطه حسن مضبوط، وقد ولي القضاء في بلدة أشيقر، ولا شك أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب الترجمة في هذا اللقاء، قد أخذ عن عمه هذا كثيرًا من صنوف العلم.
أنتقل بعد ذلك إلى شيوخ الشيخ في بلدان أخرى غير بلده العيينة، فأبدأ بالحجاز، وهنا بعض الناس يشكك في أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يتعلم في رحلاته العلمية، وأنه لم يأخذ عن الشيوخ، ولكن في الحقيقة أخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن كثير من الأئمة والعلماء والشيوخ، وقد ذكر الشيخ عبد العزيز بن باز أنه أخذ عن بعض علماء الحرم الشريف، ويقول الدكتور العثيمين: وتشير
بعض المصادر إلى أنه درس على علماء الحرمين، وهذا يعني: أنه درس في كل من مكة والمدينة، ولكن عدم ذكر المصادر لأي عالم درس محمد بن عبد الوهاب عليه في مكة يرجح أنه لم يدرس فيها مدة تستحق العناية والبحث.
وهنا قال الدكتور صالح العبود رحمه الله: ولكني وجدت في بعض المصادر أن الشيخ أخذ عن الشيخ عبد الله بن سالم البصري، وهو مكي، وأذكر هنا من هو الشيخ عبد الله بن سالم البصري، فهو: الشيخ عبد الله بن سالم بن محمد بن سالم بن عيسى البصري أصلًا، المكي مولدًا ومدفنًا، الشافعي مسند الحجاز، عمدة المحققين ولد رحمه الله سنة ألف وخمسين، وقد تأهل للعلم في مكة ومات فيها، وقد ترجم له العلامة الشيخ عابد السندي الحنفي فقال: وأما إمام الحديث والمقدم في عصره، الشيخ عبد الله بن سالم البصري، فهو إمام عصره، إلى أن قال: جمع في علم الحديث بين الرواية والدراية وبلغ من التحقيق أكمل غاية، وصنف التصانيف الفائقة، وقرأ في المسجد الحرام عدة كتب، من جملتها البخاري ومسلم، والسنن الأربع، وقرأ البخاري أيضًًا بتمامه في جوف الكعبة الشريفة مرتين، وقرأ مسند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى جميعه في الروضة الشريفة في ستة وخمسين مجلسًا سنة ألف ومائة وإحدى وثلاثين.
وقد ذكرت عن هذا الشيخ لأبين أن الشيخ عبد الله بن سالم البصري أصلًا، المكي مولدًا، الذي درس عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان عالمًا، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب إذن قد درس على أئمة ورموز أهل العلم في عصره رحمه الله تبارك وتعالى وهذا الشيخ عبد الله بن سالم يعتبر هو الشيخ الثالث للشيخ محمد بن عبد الوهاب، بعد شيخه الأول: أبيه عبد الوهاب، وشيخه عمه الثاني: إبراهيم ابني الشيخ سليمان بن علي علامة نجد،
وقد ذكرت ترجمتهما وأشرت إليهما قبل قليل.
أما شيوخ الشيخ في المدينة النبوية، فكان على رأسهم الشيخ العالم عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف رؤساء بلدة "المجمعة" ووالد إبراهيم مصنف (العذب الفائض شرح ألفية الفرائض) الشيخ محمد بن عبد الوهاب درس على هذا العالم رحمه الله تبارك وتعالى وكان في المدينة المنورة، حيث كانت المدينة المنورة ملتقى العلماء وطلاب العلم من مختلف الأقطار الإسلامية، وكان بعض هؤلاء يأتي إليها فيستقر فيها، وكان بعضهم يأتي إليها فيقيم فيها فترة ثم بعد ذلك يغادرها إلى وطنها، وقد ضمت في تلك الفترة بالذات علماء درس عليهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتأثر بهم عدد ممن أصبحت لهم أدوار مهمة في بلدانهم.
وأيضًا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تبارك وتعالى أخذ عن الشيخ هذا العالم عبد الله بن إبراهيم وهو شيخه الرابع، أخذ عنه العلموجالسه كثيرًا وصارت بينهما محبة، وكان الشيخ بمحمد بن عبد الوهاب حفيًًّا، وبذل جهدًًا كبيرًا في تثقيفه وتعليمه، وكان من أكبر عوامل توثيق الروابط بينهما وتمكين المحبة، توافق أفكار الشيخ ومبادئه مع تلميذه في عقيدة التوحيد، والتألم مما عليه أهل نجد وغيرهم من عقائد باطلة زائفة، وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن شيخه هذا: كنت عنده يومًًا، فقال لي: تريد أن أريك سلاحًا أعددته للمجمعة، قلت: نعم. فأدخلني منزلًا عنده فيه كتب كثير، وقال: هذا الذي أعددنا لها.
وقد ذكرت ذلك في بداية الحديث عن الشيخ رحمه الله وقد استفاد الشيخ بن عبد الوهاب من هذا العالم في علم الحديث وأجازه، وقد أجازه أيضًًا الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف في كل ما حواه ثبت الشيخ عبد الباقي أبي المواهب الحنبلي قراءة وتعلمًا وتعليمًا من "صحيح البخاري" بسنده إلى مؤلفه، وصحيح
مسلم بسنده إلى مؤلفه، وشروح كل منهما، و"سنن الترمذي" بسنده، و"سنن أبي داود" بسنده، و"سنن ابن ماجه" بسنده، و"سنن النسائي الكبرى" و"سنن الدارمي" ومؤلفاته بالسند، وسلسلة العربية بسندها عن أبي أسود الدؤلي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- إلى غير ذلك من سائر الكتب التي كان الشيخ رحمه الله تبارك وتعالى قد كان له سند فيها، فأجاز أيضًًا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تبارك وتعالى فيها.
أما الإمام العالم الخامس من مشايخ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تبارك وتعالى فهو: الإمام الشيخ العالم الكبير المحدث محمد حياتو بن إبراهيم السندي المدني وهو أحد العلماء المشهورين الربانيين وعظماء المحدثين، ولد في إقليم السند، ونشأ وقرأ العلم على الشيخ محمد نعيم بن محمد أمين السندي من تلامذة الشاه ولي الله الدهلوي، ثم هاجر إلى الحرمين الشريفين فحج، ثم توطن المدينة المنورة، ولازم الشيخ الكبير أبا الحسن محمد بن عبد الهادي السندي المدني، صاحب الحواشي على دواوين السنة الستة، وأخذ عنه وجلس مجلسه بعد وفاته أربعًا وعشرين سنة، وكان الشيخ محمد حياة السندي من المنكرين للبدع في الدين، وللأعمال الشركية، وقد أخذ عنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب العلم، وتفقه على يديه في هذه العقيدة، والسنة النبوية الصحيحة أيضًًا.
يقول ابن بشر رحمه الله تبارك وتعالى: وحكي أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقف يومًًا عند الحجرة النبوية، عند أناس يدعون ويستغيثون عند حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرآه محمد حياة السندي فأتى إليه، فقال الشيخ -لابن عبد الوهاب طبعًًا- ما تقول: في هؤلاء؟ قال: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (سورة الأعراف: الآية: 139) وكان أيضًًا من المعارضين للتعصب للمذاهب
الفقهية، وترك الحديث الصحيح المحكم الذي لم ينسخ للالتزام بالمذهب، وهذا قد نقله عنه كثير من أهل العلم.
والشيخ محمد بن حياة الله السندي، ومنهجه السلفي أثر في الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعًا، وكان الشيخ من تلامذته الخواص، ومكث عنده زمنًًا وأخذ عنه علمًًا نبويًّا نافعًا في المدينة المنورة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: وكان له أكبر الأثر في توجيهه إلى إخلاص توحيد عبادة الله والتخلص من رق التقليد الأعمى والاشتغال بالكتاب والسنة.
أما الشيخ السادس من مشايخ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فهو الشيخ الإمام إسماعيل بن محمد العجلوني الشافعي، وقد ولد بعجلون سنة ألف وسبعة وثمانين هجرية، وأخذ العلم عن الشيخ أبي المواهب مفتي الحنابلة بدمشق، وعن كثير من المشايخ الكبار، وأجازه الشيخ عبد الله بن سالم البصري المكي، والشيخ أبو الحسن السندي ثم المدني وغيرهما، وألف المؤلفات المفيدة، منها:"كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" وكانت وفاته بدمشق في شهر الحرام سنة اثنتين وستين ومائة وألف، وقد ذكره من مشايخ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الشيخ عبد القادر بن أحمد المعروف بابن بدران الدمشقي، في كتابه "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل".
وقد ثبت أن العجلوني رحمه الله رحل إلى الحجاز، وأخذ عن المشايخ بمكة، وقد يكون -كما أشرنا- من قبل أن عبد الوهاب رحمه الله تبارك وتعالى التقى به وتعلم على يديه إما في مكة أو في المدينة رحمهم الله تبارك وتعالى.