الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في بطني. قال: فتعالج يا أمير المؤمنين؛ فإني أخاف أن تذهب نفسك، فقال: ربي خير مذهب إليه، والله، لو علمت أن شفاي عند شحمة أذني، ما رفعت يدي إلى أذني فتناولته، اللهم خِرْ لعمر في لقائك، قال: فلم يلبث أيامًا حتى مات رحمه الله تبارك وتعالى.
وعن المغيرة بن حكيم قال قالت لي فاطمة بنت عبد الملك -وهي زوج عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كنت أسمع عمر رحمه الله في مرضه الذي مات فيه يقول: اللهم اخف عليهم موتي، ولو ساعة واحدة من نهار، قالت: فقلت له يومًا: يا أمير المؤمنين، ألا أخرج عنك عسى أن تغفى شيئًا؛ فإنك لم تنم، قالت: فخرجت عنه إلى بيت غير البيت الذي هو فيه، قالت: فجعلت أسمعه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83) يرددها مرارًا، ثم أطرق، فَلَبِثَ طويلًا لا أسمع له حسًّا، فقلت لوصيف له يخدمه: ويحك، انظر. فلما دخل صاح، فدخلت عليه، فوجدته ميتًا قد أقبل بوجهه على القبلة، ووضع إحدى يديه على فيه، والأخرى على عينيه رحمه الله تبارك وتعالى.
ومات عمر لعشر ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة رحمه الله وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر رحمه الله فقد كان إمامًا خليفة زاهدًا عابدًا عالمًا بعلمه -رضي الله تعالى عنه.
في سيرة عمر بن عبد العزيز العلمية، وولايته
أنتقل بعد ذلك إلى العنصر الثاني في هذا اللقاء، وتحت هذا الموضوع، وهو بعنوان:"في سيرته العلمية وولايته" ويشتمل على النقاط التالية:
أ- طلبه للعلم:
قال يعقوب بن سفيان، وحدثنا سعيد بن عفير قال: حدثني يعقوب عن أبيه أن عبد العزيز بن مروان بعثه ابنه عمر إلى المدينة يتأدب بها، وكتب إلى صالح بن
كيسان بتعَهده، وكان عمر يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه العلم، وكان صالح بن كيسان يلزمه الصلاة، فأبطأ يومًا عن الصلاة، قال له: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي تُسَكِّنُ شعري، فقال: بلغ بك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟! وكتب إلى عبد العزيز بذلك -يعني: إلى والده- فبعث إليه عبد العزيز رسولًا، فلم يكلمه حتى حلق شعره، وقال عمر بن العزيز: لقد رأيتني وأنا بالمدينة غلام مع الغلمان، ثم تاقت نفسي إلى العلم، وإلى علم العربية والشعر، فأصبت منه حاجتي.
وقال عمر بن العزيز أيضًا عن نفسه: ما بقي أعلم بحديث عائشة منها، يعني عَمْرًا، قال: وكان عمر يسألها رحمه الله تبارك وتعالى.
ب- بعنوان "ذكر طَرف مما أَسْنَدَ من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم":
أَسْنَدَ عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه- الحديث عن جماعة من الصحابة، وعن جماعة من كبار التابعين، إلا أنه كان مشغولًا عن الرواية، فلذلك قل حديثه رحمه الله وسأذكر هنا طائفة، نستدل بها على أنه قد سَمِعَ من بعض الصحابة، وسَمِعَ من كبار التابعين، ورَوَى عنهم رحمه الله تبارك وتعالى فمن جملة ما أسند مثلًا عن الصحابة: أسند عن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- وقد رآه عمر وروى عنه، وصلى أنس بن مالك خلفه، ومما أسند عن أنس: ما أخبر به أبو الحسن قال: حدثنا -أو قال حدثني- الحارث بن محمد العنزي، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عمر بن عبد العزيز، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لتأمرن بالمعروف، وتنهون عن المنكر، أو ليسلطنَّ عليكم عدوًّا من غيركم، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)).
ومما أسند عن ابن عمر رضي الله عنهما وقد سَمِعَ منه الحديث، وروى عنه ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:((إن الله تبارك وتعالى يحب الشابَّ الذي يفني شبابه في عبادة الله، ويحب الإمام المقسط، وأجره أجر من يقوم ستين عامًا يصوم نهاره ويقوم ليله)).
كما أسند عن عمرو بن أبي سلمة المخزومي؛ فقد روى عنه عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه- وقد رَوى عنه: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في ثوب واحد متشحًا به، وقد خالف بين طرفيه". وهذا في الحقيقة غريب من حديث عمر بن عبد العزيز، تفرد به الحسن عن عبد الكريم كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله تبارك وتعالى في سيرة عمر بن عبد العزيز.
ومما روى عن السائب -والسائب: هو ابن أخت نمر- مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وَدَعَا له، وحج حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروى عنه عمر بن العزيز -رضي الله تعالى عنه- ما سمعه السائب في سُكْنَى مكة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:((للمهاجر ثلاثة أيام بعد الصوم)).
وقد روى أيضًا عمر بن عبد العزيز عن جماعة من كبار التابعين، منهم: سعيد بن المسيب، وعبد الله بن إبراهيم بن قارض؛ فمن حديثه عنهما: ما أخبرناه. وهذا كلام ابن الجوزي رحمه الله يعني: ما أُخْبِرَ به ابن الجوزي، والذي أخبره: علي بن عمر قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارض، وعن سعيد بن المسيب أنهما حدثاه أن أبا هريرة قال: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب يوم الجمعة فَقَدْ لَغَيْتَ)).
وقد روى أيضًا عن سالم بن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((اللهم أَعِزَّ الإسلام بأحب الرجلين إليك -عمر أو أبي جهل)).
كما روى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:((أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أجود من الريح المرسلة إذا نزل عليه جبريل يدارسه القرآن)). وقد كان جبريل -صلوات الله وسلامه عليه- ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان، فيدارسه القرآن -يعني: يقرأ النبي عليه الصلاة والسلام عليه القرآن.
جـ- وهي بعنوان "ولايته قبل الخلافة":
ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يكون خليفة- ولي المدينة في شهر ربيع الأول في سنة سبع وثمانين، وهو ابن خمسٍ وعشرين سنة؛ ولاها إياها الوليد بن عبد الملك، فولى عمر رضي الله عنه على قضائها أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم، ودعا عمر عشرة نفر من فقهاء البلدة، منهم: عروة والقاسم وسالم، فقال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، وتكونون فيه أعوانًا على الحق؛ إن رأيتم أحدًا يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظالم أن تبلغونني، فأثنوا عليه وافترقوا.
وعن عبد الرحمن بن حسن، قال: أخبرني أبي، قال: بلغني أن الوليد بن عبد الملك استعمل عمر بن عبد العزيز على الحجاز -يعني: المدينة ومكة والطائف- فأبطأ عمر رضي الله عنه عن الخروج، فقال الوليد لحاجبه: ويلك، ما بال عمر لا يخرج إلى عمله؟! قال: زعم أن له إليك ثلاث حوائج، قال: فعجله علي، فجاء به الوليد فقال له عمر: إنك استعملت من كان قبلي، فأنا أحب ألا تأخذني بعمل أهل العدوان والظلم والجور. فقال له الوليد: اعمل بالحق وإن لم ترفع إلينا درهمًا واحدًا. وهذا يبين لنا حرص هذا الخليفة رحمه الله تبارك وتعالى قبل أن يكون خليفة- على العدل والحق رحمه الله تبارك وتعالى.
د- خلافته وعدله:
كان عمر -رضي الله تعالى عنه- عادلًا في خلافته، وقد يسأل سائل: كيف أتت عمر الخلافة؟ فأذكر ما ذكره ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: قال حدثنا محمد بن سعيد، قال: قال: رجاء بن حيوة: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثيابًا خضرًا من خز، ونظر في المرآة فقال: أنا -والله- الملك الشاب، فخرج إلى الصلاة يصلي بالناس الجمعة، فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَى وُعِكَ، فلما ثقل كتب كتابًا عهده إلى ابنه أيوب -وهو غلام لم يبلغ- فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟! إنه مما يُحْفَظُ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح، فقال: كتاب أستخير فيه، وأنظر، ولم أعزم عليه، فمكث يومًا أو يومين، ثم خرقه، قال: ثم دعاني، فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت: هو غائب بقسطنطينية، وأنت لا تدري؛ أحي هو أم ميت؟! قال: يا رجاء؛ فمن ترى؟! فقلت: رَأْيك يا أمير المؤمنين، وأنا أريد أن أنظر من تذكر، فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه -والله- فاضلًا خيارًا مسلمًا. قال: هو -والله- ذلك، ولئن وليته ولم أولِّ أحدًا من ولد عبد الملك لتكونن فتنة، ولا يتركونه أبدًَا يلي عليهم، إلا أن أجعل أحدهم بعده، ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم، قال: فأجعل يزيد بن عبد الملك بعده؛ فإن كان مما يسكنهم ويرضون به قلت رأيك.
فكتب بيده هذا الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز؛ إني وليته الخلافة بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له، وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا؛ فيطمع فيكم". وختم الكتاب وأرسل إلى كعب بن جابر -صاحب شرطته- أنْ مُرْ أهلَ بيتي أن يجتمعوا بجمعهم، ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي هذا
إليهم، فأخبرهم أنه كتابي، ومرهم فليبايعوا من وليت، ففعل رجاء، فقالوا: قال: نعم. فدخلوا، فقال لهم: عهدي، فاسمعوا له وأطيعوا، وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب، قال: فبايعوه رجلًا رجلًا، ثم خرج بالكتاب مختومًا في يد رجاء، قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: يا أبا المقدام، إن سليمان كانت لي به مودة، وكان بي برًّا، فأنا أخشى أن يكون قد أسند إلي من هذا الأمر شيئًا، فأنشدك الله، إلا أعلمتني إن كان ذلك؛ حتى أستعفيه الآن، قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ذلك، فقال رجاء: والله، ما أنا مخبرك حرفًا واحدًا، فذهب عمر -رضي الله تعالى- عنه غضبان.
ولما مات سليمانُ بويع لعمر -رضي الله تعالى- عنه بالخلافة، وكان عمر رضي الله عنه إمامًا خليفة عادلًا، قال سفيان الثوري: أئمة العدل خمسة -تأملوا هذه الكلمات من إمام كسفيان الثوري رحمه الله تبارك وتعالى أئمة العدل خمسة- أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز؛ من قال غَيْرَ هَذَا فَقَدِ اعْتَدَى. هذه كلمة في الحقيقة كبيرة وعظيمة وجليلة ولها وقع في التاريخ الإسلامي؛ لأنها صدرت من هذا الإمام العالم الزاهد: سفيان رحمه الله تبارك وتعالى ثم انظروا بعد ذلك إلى كلمة أيضًا قالها إمام أهل السنة والجماعة في عصره: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تبارك وتعالى قال الإمام أحمد: يروى في الحديث: ((أن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يُصَحِّحُ لهذه الأمة دينها)).
قال أحمد: فنظرنا في المائة الأولى؛ فإذا هو عمر بن العزيز، ونظرنا في المائة الثانية فنراه الشافعي، وبناء على ذلك، فإن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تبارك وتعالى يعتبر أن الخليفة الزاهد الراشد العادل الموفق عمر بن عبد العزيز رحمه الله تبارك وتعالى هو الذي كان على رأس المائة الأولى، الذي أعز الله تبارك وتعالى به الدين، وصحح به مسيرة الخلفاء الذين قبله، الذين قد جاوزا شيئًا من الحد، ولا يسلم غالبًا من هذا بشرٌ، وإن كان وقع شيء من ذلك فأمر هؤلاء العباد إلى الله تبارك وتعالى-
وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ أنهم كانوا على الإسلام وعلى الدين، وكانوا متمسكين به، وإن كانت وقعت منهم أخطاء، فأمرهم بعد ذلك إلى رب العزة والجلال سبحانه، ونسأل الله عز وجل أن يعفوَ عنهم، وأن يغفر لهم، وأن يتجاوز عن سيئاتهم، ولكن لم يكن كعمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه- مما سبقه من الأمراء، كان -رحمه الله تعالى- عادلًا في حكمه مقسطًا عالمًا جليلًا ورعًا زاهدًا رحمه الله تبارك وتعالى.
أَخْتَمُ هَذَا اللقاءَ في ترجمة الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تبارك وتعالى بهذا العنصر، وهو بعنوان "المسئوليات الصادقة لدى عمر بن عبد العزيز"، فأقول في هذا: إذا كانت الشهور التسعة والعشرون التي عاشها خليفةٌ تعتبر بالنسبة للتاريخ الإنساني كله بمثابة لحظة، فإن هذه اللحظة قد صارت من أعظم أزمان التاريخ تزكيةً للإنسان وتأثيرًا في الحقيقة؛ إِذْ أَعْطَتِ الْبَشَرِيَّة في شتى عصورها وأديانها وأجناسها المثل على ما تستطيع الإرادة الإنسانية أن تحقق من عزة وكرامة واستقامة؛ إذا جعلت الله رَقِيبَهَا، والحق كتابها.
إنني أود أن أقدم كلمات للدنيا كلها من خلال مسيرة الإمام العادل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- وأبرز المسئوليات الصادقة التي كان يشعر بها، ويحس بها؛ كي يترسم المسلم أيضًا خطاهم.
لقد حرص أمير المؤمنين على أن يدرك الناس أنه لا يأتيهم بجديد من المبادئ والنظم، فكل ذلك في قرآنهم ودينهم وتراث الرعيل الأول الصالح من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، إنما يأتي عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- بروح قوية وكبيرة وعالية، هي روح المسئولية الورعة الصادقة، يزكيها فهم سديد لجوهر الإسلام وأهداف شريعته.
وإذن فإن علينا أن نرصد مسار علاقته بمسئولياته في ثلاثة مطالع؛
المطلع الأول: وضوح المسئولية في وعيه.
المطلع الثاني: استغراقه فيها -يعني: في المسئولية.
المطلع الثالث: إخلاصه لها.
فأما عن الأول -ألا وهو وضوح المسئولية في وعيه- فنحن نعلم أنه لكي تستغرق قضية ما إنسانًا ما استغراقَ إيمانٍ لا استغراق بحث، فإنها لا بد أن تكون قد بلغت من الوضوح والإسفار في تفكير صاحبها وشعوره المدى الذي يقهر كل غموض، ويتخطى كل تساهل والقضية التي استغرقت عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- كانت من هذا الطراز، فهي لا تستغرقه استغراق باحثٍ يحاول التأكد من صحتها وصدقها، بل استغراق مؤمن مفعم باليقين.
فلننظرِ الآن مظاهر وضوحها إليه، وإذا كانت كلماته وخطبه رحمه الله إنما تعبر تعبيرًا مطلقًا عن حقيقة اتجاهاته ومقاصده، فإنها أيضًا كفيلة بإعطائنا صورة هذا الوضوح، ولنبدأ مثلًا معه بخطبة من الخطب؛ لنعرف كيف أن المسئولية الملقاة على عاتق أمير المؤمنين الخليفة الزاهد الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تبارك وتعالى كانت في غاية الوضوح.
يقول رحمه الله: "لقد سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه من بعده سننًا؛ الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة لدين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا الركون لأمر خالفها؛ من اهتدى بها فهو المهتدي، ومن استنصر بها فهو المنصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا، أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب؛ فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فهو حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بقاض، وإنما أنا مُنَفِّذ، ولست بمبتدع إنما أنا متبع، ولست بخيركم إنما أنا رجل منكم، غير أني أثقلكم حملًا".
هكذا تتضح المسئولية في روعه غاية الوضوح؛ فموضوعها -إذن- هذا الدين الذي أتم الله به النعمة، وارتضاه للناس دينًا، وحاملها ليس مشرعًا ولا قاضيًا، إنما هو مُنَفِّذٌ للدين ومبادئِهِ، وهذا الوضع لا يمنحه أيَّ امتياز بحال، وإنما هو قال -كما ذكر في خطبته السابقة-: لست بخيركم إنما أنا رجل منكم.
والفارق الوحيد بينه وبين أفراد أمته هو أنه أثقلهم حملًا وهو -كما نرى- محسوب عليه، وليس محسوبًا له، ولهذا نرى حقًّا أن المسئولية لدى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تبارك وتعالى كانت واضحة غاية الوضوح.
أنتقل بعد ذلك إلى صورة سريعة أخرى لأنظر في المطلع الثاني من مسئوليات عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- وهو استغراقه في هذه المسئولية، بمعنى: أنه استغرق -رحمه الله تعالى- في مسئولياته، وأفنى جهده فيها؛ كي يخرج منها سالمًا بفضل الله تبارك وتعالى لذلك أقول: لقد احتوت عمر بن عبد العزيز المسئولية في خضمها، فنسي نفسه وأهله ودنياه وعالمه، نسي كل شيء سواها؛ لأنه يريد إرضاء الله عز وجل ويريد أن يقف بين يدي الله تبارك وتعالى وربُّه عنه راض، بل إنه رحمه الله نسي حقه في استشعار الرضا والأمن جزاء ما يقدم لدين الله ودنيا الناس من ولاه وبر، حتى حقه هذا نسيه في غمرة خوفه المشبوب من الله، لم يعد يذكر سوى مسئوليته الفادحة، وبدت له أعماله الشامخات كأنها ليست شيئًا مذكورًا، وسيطرت على شعوره وفكره صورة واحدة، تلك هي صورة موقفه بين يدي الله سبحانه، يسأله عن كل شيء قدمه، وعن كل فرضٍ من عبادته.
تقول فاطمة زوجه -رضي الله تعالى عنها-: لقد كان يذكر الله في فراشه فينتفض انتفاضة العصفور من شدة الخوف، حتى كانت تقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم. ويقول علي بن زيد رحمه الله تبارك وتعالى كان يبدو -ويعني بذلك: عمر بن عبد العزيز كان يبدو- وكأن النار لم تخلق إلا له.
وبهذا الوضوح الكامل لمسئوليته، وبهذا الاستغراق العظيم فيها، يستكمل الولاء زواياه، بالإخلاص المطلق الذي يربطه بهذه المسئولية أوثق رباط، والإخلاص للمسئولية يشكل السياج المنيع الذي يحفظها داخل موضوعيتها، ويصونها من تقحم الأنانية والهوى عليها، وهذا هو جوهر الإخلاص لدى أمير المؤمنين -عمر بن عبد العزيز رحمه الله فهو لا يستغرق فيها استغراق من يريد أن يبلغ بها مجدًا شخصيًّا أو مغنمًا ذاتيًّا، بل استغراق فان فيها، متبتل لها، ليس بين يديه ولا من خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله شيء يلهيه عنها، أو يغريه بها؛ إنه إخلاص يعكسه إخلاصه لله رب العالمين، ورجل كعمر حين يخلص لله فلا تستطيع ألف دنيا كدنيانا أن تدخل في هذه الصفقة ندًّا أو شريكًا.
لقد كان رضي الله عنه وأرضاه دائم الترديد لهذه الآية الكريمة: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف: من الآية: 106) واتخذ منها نذيرًا يلهب به نفسه؛ لتبلغ بإخلاصها لربه ولدينه ولمسئوليته أقصى ما يستطيع أولو العزم الراشدون، وكان يدرك بنور بصيرته رحمه الله أن أدنى مجاملة على حساب إخلاصه لمسئوليته إنما هو شرك خفي، من نوع ذلك الشرك الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه مخبرًا أن له دبيبًا كدبيب النمل.
لقد نجح عمر رضي الله عنه نجاحًا باهرًا في صون إخلاصه من دبيب النمل هذا، وأضحى الناس يقول بعضهم لبعض: هذا أول خليفة أموي لا نجد حاجة في قرع بابه، فإنما يكون لنا من حق يأتينا ونحن في دورنا، وما ليس لنا بحق فدون بلوغه قطع الرقاب.
أجل لم يكن لإخلاص ابن عبد العزيز مزاحمٌ ولا منافس لا من قرابة ولا من صداقة. إن تاريخ عمر بن عبد العزيز رحمه الله تبارك وتعالى تاريخ مليء بالأحداث الجميلة والكريمة. ذلك أنه كان نموذجا يقتدى ويحتذى به في العدل والورع