الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أشرت كان في غزوة الأحزاب وتكالبت عليه جموع الشرك، وكان بينه وبين بني قريظة عهدًا، ولكنهم نقضوه وخالفوه وتعاهدوا مع المشركين لكي يقضوا النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم ويقضوا على الإسلام ويستأصلوا شأفة المسلمين. الله عز وجل نصر نبيه وأصحابه، وكانت العاقبة للتقوى وللمتقين، وبعد أن انتصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جموع الشرك وولت فارَّة من المدينة النبوية، أوحى الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يذهب إلى بني قريظة، فنادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الناس:((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)) فتسابق الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- في تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذهبوا إلى بني قريظة وحاصروهم، وأدرك بني قريظة أنهم لن يفلتوا من قبضة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأرادوا أن يعقدوا بينه مرة أخرى صلحًا أو حكمًا وأن يكون صاحب هذا الحكم أو الذي يتفاوض بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو سعد بن معاذ رضي الله عنه.
سعد بن معاذ رضي الله عنه قد أصيب في هذه الغزوة في غزوة الأحزاب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يوضع في خيمة في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون قريبًا منه، فيعوده عليه الصلاة والسلام من قريب. طلب اليهود، يهود بني قريظة أن يتفاوض معهم سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه- فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى سعد بن معاذ وبعث إليه، وأتي به وهو مطعون -رضي الله تعالى عنه- بطعنة جاءت فيه كان فيها وفاته -رضي الله تعالى عنه- أتي بسعد فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سنوات، وذلك لما جاء، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:((احكم فيهم، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل) وبالتالي يصبح هذا الموقف أيضًا من المواقف الجليلة العظيمة لهذا الصحابي الجليل -رضي الله تعالى عنه.
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
-
أنتقل بعد ذلك إلى صحابي آخر من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه- وسأتحدث عنه في نقاط كالتالي:
أ- التعريف به وذكر بعض مناقبه -رضي الله تعالى عنه-:
إنه هو حذيفة بن اليمان، واسم اليمان: حسل -ويقال: حسيل- ابن جابر العبسي اليمني أبو عبد الله رضي الله عنه إنه حذيفة بن اليمان من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو صاحب السر، وكان والد حذيفة مكي من بني عبس وكان قد أصاب دمًا في
قومه، فهرب إلى المدينة، وحالف بني عبد الأشهل فسماه قومه اليمان؛ لحلفه لليمانية وهم الأنصار، وتزوج اليمان والدة حذيفة فولد له بالمدينة، ولما أشرقت شمس النبوة كان حذيفة والده من المسارعين للدخول في الإسلام، ولقد أحبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبًّا شديدًا.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحقيقة بنظرة واحدة إلى أي رجل يعلم صفاته وإمكاناته ومزاياه من أول وهلة، فأحس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن حذيفة يملك ذكاء يندر وجوده وسرعة بديهة تجعله يعالج أعتى المواقف والأزمات بيسر وسهولة، وهو في الوقت ذاته يؤتمن على أخطر الأسرار ولا يذيعها، وكانت أكبر مشكلة تواجه المسلمين في المدينة هي وجود المنافقين من اليهود وأشياعهم، وما كانوا يحيكونه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكائد ودسائس فأفضى النبي عليه الصلاة والسلام لحذيفة بأسماء المنافقين وهو سر لم يطلع عليه أحدًا من أصحابه، حتى كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الملهم، أمير المؤمنين عمر الملهم الذي تحدثت عنه في المحاضرة السابقة الفطن الأريب، يستدل برأي حذيفة وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم.
ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده وإنما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى، ومن ثم يجب على الأريب أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه ومظانه، ولذلك كان هو من أعلم الناس بالفتن لسؤاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها، فهو الذي قال عن نفسه: ((كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفهم لنا. فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ تلزم جماعة
المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)).
أنتقل إلى نقطة تالية في هذا العنصر، وهي بعنوان مواقف من حياته وجهاده في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى:
لقد كان لحذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه- مواقف جليلة في الدعوة إلى الله وفي الجهاد في سبيل الله عز وجل وذلك لما جاء يوم أحد، وخاض المسلمون تلك الغزوة أمام مشركي قريش وكان في جند المسلمين حذيفة -رضي الله تعالى عنه- فأما حذيفة فقاتل قتال من يبحث عن الشهادة ويشتاق إليها، وأما أبوه فقد استشهد يومئذ، قتله بعض الصحابة غلطًا، ولم يعرفه؛ لأن الجيش يختفون فيما يلبسونه من لأمة الحرب ويسترون وجوههم فإن لم يكن لهم علامة بيّنة ربما قُتل الإنسان، وربما قتل الأخ أخاه -وهو لا يشعر- ولما شدوا على اليمان يومئذ بقي حذيفة يصيح ويقول: أبي، أبي، يا قومي فراح خطئًا فتصدق حذيفة -رضي الله تعالى عنه- بدية والده على المسلمين، وهذا موقف عظيم من مواقف هذا الصحابي الجليل -رضي الله تعالى عنه- حينما يتنازل عن دية والده الذي قتل خطئًا.
ثم إني أود هنا أن أذكر بعد ذلك مواقف مشرقة من جهاده في الفتوحات الإسلامية -رضي الله تعالى عنه- لأن البعض قد لا يعلم أن حذيفة رضي الله عنه كان من أصحاب السبق العظيم في فتوحات العراق كلها، ففي همدان والري، والدينور، تم الفتح على يديه، وفي معركة نهاوند كانت المعركة الكبرى، حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين ألفًا والمسلمون في ثلاثين ألفًا يقودهم الإيمان بالله والعقيدة الراسخة التي سكبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قلوب أصحابه حتى كان الواحد منهم يقابل جيشًا بأكمله فلا يخاف ولا يخشى إلا الله سبحانه وتعالى وكان عمر -رضي الله تعالى عنه- وقتئذ هو أمير المؤمنين، وأدرك عمر رضي الله عنه من الذي يقوم بهذه الفتوحات ومن الذي يمكن أن
يكون من المجاهدين الصابرين الصادقين في سبيل الله حقًّا، من هم الرجال الذين يمكن أن يتملكوا الراية وأن يمسكوها وأن يقبضوا عليها، وأن يفتح رب العزة والجلال سبحانه وتعالى عليهم؛ ولذلك نجد أن عمر رضي الله عنه كتب خطابًا في هذه المعركة وكتابًا قال فيه:"بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى النعمان بن مقرن، سلام عليك -أنا أذكر هذا الخطاب لأبين للمستمعين الكرام ماذا كان يعلم عن حذيفة رضي الله عنه وماذا فعل حذيفة -رضي الله تعالى عنه- وفيما أذكر إشارة لامعة واضحة إلى جهاد هؤلاء الصحب الكرام جميعًا في سبيل الله تبارك وتعالى وأنهم -رضوان الله تعالى عليهم- بذلوا كل ما يملكون في سبيل نشر الإسلام، والدعوة إليه وفي سبيل إسعاد الناس بنطقهم بلا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب عمر إلى النعمان بن مقرن: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنه قد بلغني أن جموعًا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين ولا توطئهم وعرًا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم، ولا تدخلهم غيضًا -والغيض هو المكان الملتف الشجر، وهنا أمير المؤمنين رضي الله عنه يحرص على جند الإسلام، ويسعى في أن يحتفظ بهؤلاء الرجال الأبرار، ولا يود -رضي الله تعالى عنه- أن يهلكوا أو أن يكونوا في مكان يمكن أن يصابوا فيه بأذى، وهذا من حب أمير المؤمنين -رضي الله تعالى عنه- للإسلام، ولله ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولدين الله عز وجل وحبه أيضًا لمن دخل في هذا الدين، وتأملوا قول أمير المؤمنين بعد ذلك- فإن رجلًا من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار والسلام عليك، فسر في وجهك ذلك حتى تأتي "ماء" فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها -مكان هناك- فإذا اجتمع إليك جنودك فسر إلى القيروان، ومن جمع معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا -استنصروا يعني بالله- وأكثروا من لا حول ولا قوة إلا بالله.
هكذا كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النعمان بن مقرن، ثم كتب إلى نائب الكوفة بعد ذلك، عبد الله بن عبد الله أن يعيِّن جيشًا ويبعثهم إلى نهاوند وليكن الأمير عليهم حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه. وأنا ذكرت ذلك لأبين كيف أن عمر رضي الله عنه، هذا الرجل الملهم الموفق- كيف أنه يعرف الرجال وأنه قد اختار حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه- عمر بن الخطاب يكتب إلى نائبه في الكوفة فيقول: ليكن الأمير على هؤلاء جميعًا حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه- حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، فإن قتل النعمان فحذيفة بعد ذلك: يعني يذهب حذيفة بالجيش من الكوفة حيث النعمان هناك، فإذا التقى كان النعمان هو قائد الجيش، فإن قتل النعمان رجع الأمر إلى حذيفة
ليكون قائدًا عامًا على الجيش بعد ذلك كله، وهكذا يفصل أمير المؤمنين رضي الله عنه الأمر بنظر ثاقب، فيسير حذيفة رضي الله عنه في جيش كثيف نحو النعمان ليوافيه بماء، بالمنطقة التي سيلتقي فيها معه هناك، وسار مع حذيفة خلق كثير من أمراء العراق، وقد أرصد في كل كورة ما يكفيها من المقاتلة وجعل الحرس في كل ناحية واحتاطوا احتياطًا عظيمًا حتى انتهوا إلى النعمان بن مُقرِّن -رضي الله تعالى عنه- حيث اتَّعَدوا يعني اتفقوا على المكان الذي يلتقون فيه، فدفع حذيفة -رضي الله تعالى عنه- ابن اليمان إلى النعمان كتاب عمر وفيه الأمر له بما يعتمده في هذه الوقعة، فكمل جيش المسلمين في ثلاثين ألفًا من المقاتلين، وتعبأت الفرس تعبئة عظيمة، واصطفوا صفوفًا هائلة في عَدد وعُدد كبير لم ير مثله، وقد تغلغل هؤلاء بعضهم في بعض وألقوا أشياء من الحديد وراء ظهورهم حتى لا يتمكنوا من الهرب أو الفرار.
ثم إن النعمان بن مقرن -رضي الله تعالى عنه- كبر عندئذ التكبيرة الأولى، كبر التكبيرة الأولى، فتأهب الناس للحملة، ثم كبر الثانية وهز الراية، فتأهبوا أيضًا، ثم كبر الثالثة وحمل وحمل الناس على المشركين وجعلت راية النعمان تنقض على الفرس حتى تصافحوا بالسيوف، واقتتلوا قتالًا لم يعهد مثله في موقف من المواقف المتقدمة، ولا سمع السامعون بوقعة مثلها، وقد قتل من المشركين ناس كثيرون في هذه الغزوة، ولكن النعمان -رضي الله تعالى عنه- وهو يجاهد في سبيل الله مات شهيدًا؛ فدفعت الراية بعد ذلك إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فأقام حذيفة أخاه نُعيمًا مكانه، وأمر بكتم موت النعمان حتى يبين الحال، لئلا ينهزم الناس، فلما أظلم الليل؛ انهزم المشركون مدبرين وتبعهم المسلمون، وهكذا انتهت المعركة بهزيمة ساحقة للفرس على أيدي الموحدين الذين امتلأت قلوبهم حبًّا لرسول الله، ولنصرة دين الله -على رسول صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة والسلام- وكان هؤلاء الرجال من وراء دعوة الإسلام يدعون الناس إليها ويجاهدون في سبيل الله فرضي الله تعالى عن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا هو نهاية حديثي، وفي الختام أصلي وأسلم على النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم.