المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سيرة الإمام عمر بن عبد العزيز الذاتية - أصول الدعوة وطرقها ٤ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الدعوة وصلتها بالحياة وأثر الإسلام في الاجتماع

- ‌الأَحْوَالُ السياسيةُ قَبْلَ الإسْلامِ

- ‌أَبْرَزُ المَعالِمِ السياسيةِ الداخليَّةِ والخارجيةِ للدَّولةِ الإسلامِيةِ

- ‌خَصَائِصُ النِّظامِ السياسيِّ في الإسْلامِ

- ‌نِظامُ المجتمَعِ في الإسلامِ

- ‌خَصائِصُ النِّظامِ الاجتماعيِّ في الإسلامِ

- ‌وُجُوبُ الاجتماعِ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، ونبذُ الاختلافِ والفُرْقَةِ

- ‌الدرس: 2 أثر الإسلام على الاقتصاد وكون الإسلام عقيدة وشريعة

- ‌تعريف الاقتصاد وأساسه

- ‌خصائص النظام الاقتصادي

- ‌دور الاقتصاد الإسلامي بالنسبة للعالم الإسلامي

- ‌تعريف العقيدة، وأهميتها، والمناهج في إثباتها

- ‌معنى الشريعة والأسس التي بنيت عليها

- ‌التشريع حق لله وحده دون سواه

- ‌الدرس: 3 إلمامة بأركان الإيمان

- ‌مذهب السلف في الإيمان مع ذكر أركانه

- ‌الركن الأول من أركان الإيمان؛ الإيمان بالله

- ‌الركن الثاني من أركان الإيمان؛ الإيمان بالملائكة

- ‌الركن الثالث من أركان الإيمان؛ الإيمان بالكتب

- ‌الركن الرابع من أركان الإيمان؛ الإيمان بالرسل عليهم السلام

- ‌الركن الخامس من أركان الإيمان؛ الإيمان باليوم الآخر

- ‌الركن السادس من أركان الإيمان؛ الإيمان بالقدر

- ‌الدرس: 4 إلمامة تحليلية بأركان الإسلام

- ‌تعريف الإسلام، وذكر أركانه، وما يتعلق به

- ‌الركن الأول من أركان الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌شهادة أن محمدًا رسول الله

- ‌الركن الثاني من أركان الإسلام؛ الصلاة

- ‌الركن الثالث من أركان الإسلام؛ الزكاة

- ‌الركن الرابع من أركان الإسلام؛ الصيام

- ‌الركن الخامس من أركان الإسلام؛ الحج

- ‌أثر الإيمان والعقيدة في تكوين الفرد والمجتمع

- ‌الدرس: 5 الإعجاز في القرآن الكريم طريق من طرق أصول الدعوة

- ‌المعجزة في زمانها ومكانها

- ‌المعجزة الخالدة القرآن الكريم

- ‌الدرس: 6 موقف الإسلام من العلم الكوني، والدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌العلاقة بين الإسلام والعلم

- ‌الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

- ‌الدلالة على أن خالق الإنسان هو مكون الأكوان

- ‌الدرس: 7 المسجد والمدرسة ودورهما في الدعوة

- ‌المسجد، ورسالته بين المسلمين

- ‌دور المسجد في المجتمع المسلم

- ‌بعض وظائف المسجد

- ‌دعوة الطلاب إلى الله في المدارس والجامعات:

- ‌الدعوة إلى الله بين المدرسين، وأساتذة الجامعات

- ‌دور المدرسة في تحقيق أهداف التربية الإسلامية

- ‌الدرس: 8 أهم ميادين الدعوة والإعلام الإسلامي

- ‌مقدمات في الإعلام

- ‌الأجهزة الإعلامية الإسلامية المتخصصة

- ‌الإسلام في مواجهة الإعلام الكاذب

- ‌الدعوة إلى الله في التجمعات الإسلامية والمناسبات المختلفة

- ‌الدرس: 9 الجهاد في سبيل الله تعالى

- ‌تعريف الجهاد وذكر أنواعه

- ‌مشروعية الجهاد وسببه ومراحله وفضله

- ‌فضل الجهاد، وثمراته

- ‌مسائل هامة تتعلق بالجهاد في سبيل الله

- ‌الدرس: 10 بعض مواقف الخلفاء الراشدين والصحابة وأثرها في الدعوة

- ‌أبو بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه

- ‌حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

- ‌الدرس: 11 دراسة بعض الدعوات ومناهجها في الدعوة

- ‌ جماعة أهل الحديث بالهند

- ‌جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌تابع الحديث عن جماعة أنصار السنة المحمدية

- ‌نشأة جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان والبلاد الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 12 تابع دراسة بعض الدعوات ومناهجها

- ‌حركة " الإخوان المسلمون

- ‌الحزب الإسلامي الكردستاني

- ‌الدرس: 13 ترجمتا الخليفة عمر بن عبد العزيز والإمام أحمد بن حنبل

- ‌سِيرَةُ الإمام عمر بن عبد العزيز الذاتية

- ‌في سيرة عمر بن عبد العزيز العلمية، وولايته

- ‌سيرة الإمام أحمد الذاتية

- ‌عقيدة الإمام أحمد ومحنته

- ‌الدرس: 14 ترجمتا شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سيرته

- ‌منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌تابع منهج ابن تيمية وعقيدته

- ‌ترجمة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب

- ‌سِيرُتُه الذَّاتِيَّةِ

- ‌مُؤلفَاتُ الشيخِ، وعقيدتُه، وأثرُ دعوتِهِ في العَالَمِ الإسلَامِيِّ

الفصل: ‌سيرة الإمام عمر بن عبد العزيز الذاتية

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثالث عشر

(ترجمتا الخليفة عمر بن عبد العزيز والإمام أحمد بن حنبل)

1 -

ترجمة الإمام عمر بن عبد العزيز

‌سِيرَةُ الإمام عمر بن عبد العزيز الذاتية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وبعد:

عنوان محاضرة هذا اللقاء "ترجمة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تبارك وتعالى ما تحدثت عنه فيما مضى من أول لقاء في المحاضرات إلى المحاضرة السابقة كان كله يتعلق بأصول الدعوة ومناهجها، وبعض العاملين في حقلها، والمطلوب في المنهج: أن أترجم لبعض الشخصيات، وعلى حسب الترتيب نبدأ بالخليفة الراشد العادل -كما ذكرتُ وأشرت- وأنا أذكر هذا؛ لألفت نظر المستمعين والدارسين إلى أهمية الاعتناء بتراجم هؤلاء الأئمة العباد الزهاد الأمراء العلماء؛ كي نتأسى بهم؛ لأنهم في الحقيقة أعلام بارزة في دنيا الناس، فبدلًا من أن يهتم أبناء المسلمين بمعرفة بعض الشخصيات التي لا تفيد ولا تنفع، بل ربما تضرُّ، ويعتنون بذلك غاية العناية أن ندرس هؤلاء الدعاة، وأن نعرف شيئًا عن حالهم، وكيف سلكوا طرقًا صحيحة؛ سواء كان ذلك في العدل أو العلم، أو في الدفاع عن عقيدة أهل السنة والجماعة؛ كي نتأسى بهم في فعلهم.

ثم بعد ذلك أقول: عناصر هذا اللقاء:

العنصر الأول: في سيرته الذاتية: ويشتمل على النقاط التالية:

أ- مولده ونسبه:

ولد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تبارك وتعالى سنة ثلاث وستين من الهجرة النبوية، وهي السنة التي ماتت فيها ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ابن شوذب: لما أراد عبد العزيز بن مروان أن يتزوج أم عمر بن عبد العزيز قال لقيمه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي؛ فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح، فتزوج أم عمر بن عبد العزيز.

قال ابن سعد رحمه الله: وهو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عن الجميع- وقد ساق ابن الجوزي رحمه الله خَبَرَ جَدِّ عمرَ بْنِ عبد العزيز لأمه، فقال: حدثنا عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده -أسلم- قال: "بينا أنا مع

ص: 421

عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وهو يعسُّ بالمدينة، إذ أعياه، فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامزقيه بالماء، فقالت لها ابنتها: يا أمتاه؛ أو علمت بما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم، فقالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى؛ ألا يُشَابَ اللبن بالماء، فقالت لها: يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامزقيه بالماء؛ فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه، والله، ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلا، وعمر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم عَلِّمِ البابَ، واعرف الموضع، ثم مضى في عسسه، فلما أصبح قال: يا أسلم، امضِ إلى ذلك الموضع، فانظر من القائلة، ومن المقول لها، وهل لهم من بعل؟ قال أسلم: فأتيت الموضع فنظرت، فإذا الجارية أيم لا بعل لها، وإذا أمها ليس لها رجل، فأتيت عمر بن الخطاب فأخبرته، فدعا عمر ولده فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه؟ فقال عبد الله: لي زوجة. وقال عبد الرحمن -أيضًا ابنه-: لي زوجة. وقال عاصم: يا أبتاه، لا زوجة لي، فزوجني، فبعث إلى الجارية فزوجها، فولدت لعاصم بنتًا، وولدت البنت عمر بن عبد العزيز".

كذلك نسبه العلماء -كما ذكر ابن الجوزي- عن محمد بن سعد -رحم الله تبارك وتعالى الجميع.

ب- بعنوان "أخلاقه وآدابه وعلو همته رحمه الله تبارك وتعالى":

وقفت في الحقيقة على كلمات جميلة دقيقة للإمام الحافظ الذهبي رحمه الله تبارك وتعالى أحب أن أوردها هنا، وأسمعها لكم -أيها الأبناء الأعزاء- في بداية كلمتي عن أخلاقه وآدابه وعلو همته؛ قال الذهبي رحمه الله: قد كان هذا الرجل حسن الْخَلْق والْخُلْق، كامل العقل، حسن السمت، جيد السياسة،

ص: 422

حريصًا على العدل بكل ممكن وافر العلم، فقيه النفس، ظاهر الذكاء والفهم، أوَّاهًا منيبًا قانتًا لله حنيفًا زاهدًا مع الخلافة، تأمل هذه الكلمة -زاهدًا مع الخلافة- يعني: أن الدنيا أتته، ومع ذلك زهد فيه رحمه الله ناطقًا بالحق -مع قلة المعين وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملوه، وكرهوا محاققته لهم ونقصه أعطياتهم، وأخذه كثيرًا مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق- وعد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين، والعلماء العاملين.

وهذه كلمات جميلة فيها ثناء حسن على هذا الخليفة الإمام العادل الزاهد رحمه الله تبارك وتعالى ومن أدبه وخلقه ما ذكره عنه ابن الجوزي -رحمه الله تعالى- وهو أنه دخل عليه ناس من الحرورية -الحرورية: هم الخوارج- فذاكروه شيئًا، فأشار إليه بعض جلسائه أن يُرْعِبَهُمْ وأن يتغير عليهم؛ لأنه إمام وخليفة، وَمُمَكَّنٌ في الأرض، فلم يَزَلْ عمر بن عبد العزيز يرفق بهم حتى أخذ عليهم وَرَضَوْا منه أن يرزقهم ويكسوهم ما بقي، فخرجوا على ذلك؛ فلما خرجوا ضرب عمر ركبة رجل يليه من أصحابه، فقال: يا فلان -تأملوا هذه الكلمة فهي تعد في الحقيقة حكمة- إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك، دون الكيِّ، فلا تَكْوِيَنَّهُ أبدًا.

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن نفسه: ما كذبتُ كذبة منذ شددت علي إزاري. وقد اجتمع بنو مروان ذات يوم، فقالوا: لو دخلنا على أمير المؤمنين، فَعَطَّفْنَاهُ علينا، وَأَذْكَرْنَاهُ أرحامنا؛ لأنهم كانوا يودون أن يوسع عليهم أكثر من غيرهم، قال: فدخلوا فتكلم رجل منهم، فمزح، فنظر إليه عمر، فوصل له رجل كلامه بالمزاح، فقال عمر: لهذا اجتمعتم؟! لأخس الحديث ولما يورث الضغائن؟! إذا اجتمعتم فأفيضوا في كتاب الله؛ فإن تعديتم فعليكم بمعالي الحديث.

ص: 423

إنها أيضًا وصية غالية من هذا الخليفة العالم الزاهد رحمه الله وَمَعَ ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ؛ فقد جاء عنه أنه قال: كانت لي نفس تواقة، فكنت لا أنال شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أعظم منه، فلما بلغت نفسي الغاية، تاقت إلى الآخرة.

والله، كلمات تحتاج أن نقف عندها قليلًا، كانت لعمر بن عبد العزيز نفس تواقة -يعني: تطلب معالي الأمور، وتود أن تصل إلى أرفع الدرجات وأعلى المكانات- وكان لا ينال شيئًا إلا تاقت نفسه إلى ما هو أعظم منه -يعني: أعلى منه- وقد نال ذلك؛ لأنه قال: فلما بلغت نفسي الغاية تاقت إلى الآخرة، وهذا يدل على أن همته رحمه الله تبارك وتعالى طلبت الآخرة، وَرَجعَتْ إليها رحمه الله تبارك وتعالى.

بعد ذلك: اعتقاده ومذهبه، وهي نقطة:

جـ- كان -رحمه الله تعالى- على مذهب السلف؛ يُعَظِّمُ الكتاب والسنة، وَيُحَارِبُ الأهواء والبدع، قال ابن الجوزي رحمه الله: حدثني إسماعيل بن يونس، قال: نُبِّئْتُ أن عمر بن عبد العزيز قال: من جعل دينه عرضًا للخصومات أكثر التنقل.

وعن جعفر بن برقان أن عمر بن عبد العزيز قال لرجل، وسأله عن الأهواء، قال: عليك بدين الصبي الذي في الكتاب والأعرابي وَالْهُ عما سواهما.

يعني: تمسك بالكتاب والسنة، وأعرض عن غير الكتاب والسنة، وقال أيضًا رحمه الله:"إذا رأيت قومًا يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة". وتحذيره هنا مهم للغاية؛ فنحن وجدنا اليوم كثيرا من الروافض وغلاة المتصوفة يتمتمون ويهمسون بمعتقدات ضالة وباطلة، ويزعمون

ص: 424

أن مشايخهم قد خُصُّوا بشيء ولا يظهروا ذلك على العامة؛ حتى لا يخرج العامة عليهم.

وكذلك كان رأيه في القدرية رحمه الله أن يستتابوا؛ فإن تابوا وإلا نُفُوا من ديار المسلمين، وكتب إلى بعض عماله كتابًا، جاء فيه -وهذا الكتاب نتبين من خلاله عقيدته رحمه الله تبارك وتعالى كتب لبعض عماله يقول: أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون، واعلم أنه لم يبتدع إنسان قط بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها وعبرة فيها، فعليك بلزوم السنة؛ فإنها لك بإذن الله عصمة، فإن السابقين المَاضِين على علم توقفوا، وببصر ناقد كَفّوا.

وَكَتَبَ أيضًا رسالة إلى المكذبين بالقدر جاء فيها:

"أما بعد: فقد علمتم أن أهل السنة كانوا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، وسينقص العلم نقصًا سريعًا".

ومنه قول عمر بن الخطاب -وهو يعظ؛ هذا كلام عمر بن عبد العزيز ينقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إِنَّهُ لا عذر لأحد عبد الله بعد البينة بضلالة ركبها حسبها هدى، ولا في هدى تركه حسبه ضلالة، فقد تبينت الأمور وثبتت الحجة وانقطع العذر؛ فمن رغب عن أنباء النبوة وما جاء به الكتاب تقطعت من يده أسباب الهدى، ولم يجد له عصمة ينجو بها من الردى، وبلغكم أني أقول: إن الله قد علم، والعباد عاملون، فأنكرتم ذلك، وقد قال تعالى:{إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} (الدخان: من الآية: 15) وقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام: من الآية: 28) وأن الله عز وجل قد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقها.

ص: 425

كما أنه رحمه الله ناقش الخوارج في بدعتهم، وأرسل إليهم كتبًا لهدايتهم، وهذا يدل على سلامة معتقده، وعلى تصديه رحمه الله تبارك وتعالى إلى سائر الفرق الباطلة المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة.

د- "ورعه وتواضعه وعبادته":

قال أبو شيبان -رحمه الله تعالى- قال كلامًا يتبين لنا من خلاله مَدَى شِدَّةِ وَرَعِ عُمَرَ بْنِ الْعَزِيز رحمه الله تبارك وتعالى قال: بعث معي عمارة بن نسيّ إلى عمر بِسَلَّتَيْنِ مِنْ رُطَبٍ أَوَّل ما جاء الرطب -يعني: في بداية عهده في بداية موسمه، ولا شك أنه لم يكن قد أُكِلَ من قبل، والنفس تشتهي هذه المسائل أو هذا الطعام في أول خروجه؛ لأنه قد تركه فترة من الزمن، قال: فأتيته بهما -يعني: بالسلتين من الرطب- فقال: علام جئت بهما؟ قلت: على دواب البريد -يعني: أنت حملت هاتين السلتين على أي شيء؟ قال: على دواب البريد- قال: فاذهب، فبعهما بثمانية عشر درهمًا، فاشتراهما منه رجل من بني مروان، ثم أهداهما إلى عمر؛ فلما أُتِيَ بهما -يعني: إهداء إلى عمر بعد ذلك- قال عمر لأبي شيبان: يا أبا شيبان، كأنهما السلتان اللتان، أُوتِينَا بهما، قلت: نعم، فوضع رحمه الله إحداهما بين أيدينا فأكلنا منها، وبعث الأخرى إلى امرأته، وألقى ثمنهما في بيت المال رحمه الله تبارك وتعالى.

وقد ذكر الذهبي عنه قصة قال فيها -وقد دخلت عليه زوجه فاطمة، وهو في مصلاه قد سالت دموعه-: فقالت له: يا أمير المؤمنين ألشيء حدث؟ لأنه كان يبكي. قال: يا فاطمة إن تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتذكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي

ص: 426

العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومة، فرحمت نفسي فبكيت.

هكذا ذكر الذهبي رحمه الله عن عمر بن عبد العزيز، وهذا يبين شدة ورعه رحمه الله تبارك وتعالى ويبين أيضًا عبادته لربه، فهو يخلو ويفكر في أمره -رضي الله تعالى عنه.

وعن صالح بن سعيد المؤذن قال: بينا أنا وعمر بن عبد العزيز بالسويداء، فَأَذَّنْتُ بالعشاء الآخرة، فصلى، ثم دخل القصر، فقلما لبث أن خرج، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جلس فاحتبى، فافتتح الأنفال، فَمَا زَالَ يُرَدِّدُهَا، ويقرأ كلما مر بتخوف تضرع، وكلما مر بآية رحمة دعا، حتى أذنت الفجر.

وقال محمد بن سعد: أخبرنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: كان عمر بن العزيز يسمر بعد العشاء الآخرة قبل أن يوتر؛ فإذا أوتر لم يكلم أحدًا.

وكان رحمه الله تبارك وتعالى يصوم الاثنين والخميس، والعشر -يعني: العشر الأول من ذي الحجة- كذلك كان يصوم عاشوراء وعرفة رحمه الله تبارك وتعالى.

هـ- مرضه ووفاته:

قال ابن سعد رحمه الله قال محمد بن قيس: أول مرضه اشتكى لهلال رجب سنة إحدى ومائة، وكان شكواه عشرين يومًا رحمه الله تبارك وتعالى وقال أبو زيد الدمشقي: لما ثَقُلَ عمر بن عبد العزيز دُعِيَ له بطبيب، فلما نظر إليه قال الرجل: قد سُقِيَ السمَّ. وهذا في الحقيقة قد ذكر في ترجمة عمر بن عبد العزيز: أنه سقي سمًّا؛ ليموت رحمه الله تبارك وتعالى فقال هذا الرجل الطبيب: قد سقي السم، ولا آمن عليه الموت.

فرفع عمر بصره فقال: ولا تأمن الموت أيضًا على من لم يُسْقَ السُّمَّ

قال الطبيب: هل أحسست بذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قد عرفت حين وقع

ص: 427