الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} الطلاق: (6)، وقوله عز وجل:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} القصص: (26)، وأما السنة فأحاديث عديدة من أصرحها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة -ذكر منهم-: رجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يوفه أجره» (1)، وأجمع المسلمون على جوازها في الجملة، واعتراض عبد الرحمن بن الأصم المعتزلي وغلامه إبراهيم بن عُلية الجهمي لا أثر له في الخلاف؛ لأنه غير معتدٍ بهما، وكذلك القاساني الظاهري؛ لأنه وإياهم مسبوقون بإجماع مُنعقد (2).
المطلب الثاني: حكم إجارة المؤجِر العين المؤجرة وإجارة الأجير من يقوم بالعمل المطلوب منه في عقد الإجارة
، وفيه فرعان:
الفرع الأول: إجارة المؤجِر العين المؤجَرة
.
صورة المسألة: إذا أجر إنسان عينًا من الأعيان كعقارٍ فهل يجوز له أن يؤجرها لغير المستأجر الأول في نفس مدة الإجارة، سواءٌ مضى من مدة الإجارة الأولى زمنٌ أو لم يمضِ، وسواءٌ قصد المستأجر الثاني الانتفاع أم استيفاء الأجرة من الأول؟
الحكم:
أولًا: الحكم التكليفي:
فيه قولان:
القول الأول: لا يجوز ذلك، وهو مذهب الحنابلة (3)، حيث نصوا على أن المنفعة تنتقل للمستأجر بالإجارة ولا يملك المؤجر التصرف فيها (4).
(1) رواه البخاري، كتاب البيوع، باب إثم من باع حرًا (3/ 82)(ح 2227).
(2)
الإشراف لابن المنذر 6/ 286، الإشراف للقاضي عبد الوهاب البغدادي ص 260 مسألة 590 مع الإتحاف، المغني 8/ 6، نهاية المطلب 8/ 65 المجموع 16/ 191، وينظر: المحلى 8/ 182، مراتب الإجماع ص 105، وقال أهل السنة: لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة. شرح الكوكب المنير 2/ 227، والمعتزلة من القدرية.
(3)
المغني 8/ 25، شرح الزركشي 4/ 228، والفصل بين الحكمين التكليفي والوضعي خاص بهذه المسألة؛ لأن الأقوال في المسألة غير متواردة، فمن ذكر الحكم التكليفي نصًّا لم يذكر الوضعي، وكذا العكس.
وتسمية الحكم التكليفي بهذا الاسم لأنه الغالب والأشهر، ولابن تيمية نظر في هذه التسمية. مجموع الفتاوى 1/ 25.
(4)
وجعله بعض المشايخ المعاصرين مذهب الحنفية وقياس مذهب الشافعية في أحد القولين، وذكر أن القول الثاني قياس مذهب المالكية (اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهية 7/ 293 - 294) استنادًا لما جاء في مواهب الجليل (7/ 523):(وكل تصرف لا يبطل حق المستأجر لا يُمنع أصله)، وذكر بعض المعاصرين أن القول الأول عليه عامة الفقهاء، وهذا أوجه من السابق.
القول الثاني: يجوز، ويقوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الأول، وهو اختيار أبي العباس ابن تيمية (1)، وحقيقته بيع الدين على غير من هو عليه.
ثانيًا: الحكم الوضعي:
فيه قولان:
القول الأول: أن الإجارة الثانية تكون موقوفة على إجازة المستأجر الأول، فإن أجازها جازت وإن أبطلها بطلت، وهو مذهب الحنفية (2) وقول الشافعي في القديم (3).
القول الثاني: إذا أجر المؤجر العين لغير المستأجر الأول ففيه حالتان:
الأولى: إن أجرها قبل تسليم العين للمستأجر الأول: فتنفسخ الإجارة الأولى (4).
الثانية: إن أجرها بعد تسليم العين للمستأجر الأول: ففيه احتمالان عند الحنابلة:
الأول: لم تنفسخ الإجارة، وعلى المستأجر جميع الأجرة، فإذا منعه بالعقد الثاني من الانتفاع فله على المالك أجرة المثل في المدة التي يؤجرها لغيره، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (5).
الثاني: تنفسخ الإجارة في المدة التي عقد عليها المؤجر مع غير المستأجر (6).
الأدلة:
أدلة القول الأول في الحكم التكليفي:
الدليل الأول: أن المستأجر يملك المنافع بالعقد، كما يملك المشتري المبيع بالبيع، ويزول مِلك المؤجر عنها، كما يزول مِلك البائع عن المبيع، فلا يجوز له التصرف فيها؛ لأنها صارت مملوكة لغيره، كما لا يملك البائع التصرف في المبيع (7).
(1) الأخبار العلمية في الاختيارات الفقهية للبعلي ص 221، وفيه:(ويجوز للمُؤْجِر إجارةُ العينِ المُؤْجَرَة من غير المستأجر في مدة الإجارة، ويقوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الأول) ا. هـ، اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية للبرهان ابن قيم الجوزية ص 129 - 130، الإنصاف 14/ 359 - 360.
(2)
بدائع الصنائع 4/ 317،271، 5/ 248 - 250، حاشية ابن عابدين 7/ 318 - 319.
(3)
في نهاية المحتاج 3/ 354 أن بيع الفضولي في القديم موقوف، وقال:(وشراؤه وسائر عقوده)، المجموع 10/ 397 - 404
(4)
قال في المغني 8/ 26 والإنصاف 14/ 436: (وجهًا واحدًا).
(5)
الإنصاف 14/ 435، كشاف القناع 9/ 115.
(6)
الاحتمالان في: المغني 8/ 25 - 26، شرح الزركشي 2/ 228، وفي "المعايير الشرعية"، معيار الإجارة، ص 137،148، البند 4/ 2/2 عدم صحة إجارة المؤجر للعين المؤجرة لمدة معينة في تلك المدة، ما دام العقد الأول قائمًا.
(7)
المغني 8/ 25، الشرح الكبير 14/ 437.
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبيع بعضكم على بيع بعض» (1).
وجه الدلالة: أن الإجارة نوعٌ من البيع عند جمهور العلماء خلافًا لابن حزم (2)، فلا يجوز لمن أجر عينًا أن يؤجرها لغيره؛ لأن المعنى الذي من أجله نهي عن البيع على بيع أخيه في الأعيان موجود في البيع على بيع أخيه في المنافع.
الدليل الثالث: أن المشغول لا يشغل (3)، وهذه العين مشغولة بالعقد الأول مع المستأجر الأول فلا يجوز شغلها في نفس المدة بما ينافي ما هي مشغولة به، ومن ذلك إعادة إجارتها.
الدليل الرابع: أن المستأجر الثاني لا يقصد العين ولا منفعتها؛ لأنها تحت يد غيره إن كانت مقبوضة، فلم يبق إلا قصد الأجرة، وهي دين في ذمة المستأجر الأول، وهذا من ربا النسيئة، ومع تفاوت الأجرتين يكون ربا فضل ونسيئة.
المناقشة: أن هذا من بيع الدين على غير من هو عليه، وليس من الربا، وأيضًا هو لن يأخذ ممن دفع له حتى يكون من الربا، بل هو بالحوالة أشبه.
الجواب: بيع ما في ذمة غيره بيعٌ لما لا يملك، والربح فيه ربحٌ لما لم يضمن.
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: أنه تصرف من المؤجر في ما استحقه على المستأجر، وهو الأجرة، قال أبو العباس ابن تيمية:(وغلط بعض الفقهاء فأفتى في نحو ذلك بفساد الإجارة الثانية ظنًا منه أن هذا كبيع المبيع، وأنه تصرفٌ في ما لا يملك، وليس كذلك بل هو تصرف في ما استحقه على المستأجر)(4).
الدليل الثاني: قياسه على جواز تصرفه في العين بالبيع، بجامع التصرف الناقل للملك في كلٍّ من البيع والإجارة.
المناقشة:
أولًا: أن الأصل محل خلاف، فمحمد بن الحسن يمنع صحة البيع للعين المؤجرة في
(1) رواه البخاري، كتاب البيوع، باب لا يبيع على بيع أخيه (3/ 69)(ح 2139)، ومسلم، كتاب البيوع (5/ 3)(ح 3811) المتفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما بالرفع، وورد الجزم في رواية لمسلم وفي بعض نسخ البخاري.
(2)
فتح القدير 7/ 146، مختصر المزني ص 126، المهذب مع المجموع 16/ 246، المغني 8/ 7، المحلى 8/ 183.
(3)
الأشباه والنظائر للسيوطي 1/ 334.
(4)
الأخبار العلمية في الاختيارات الفقهية ص 221.
قول (1).
ثانيًا: أن البيع وارد على العين والإجارة على المنفعة، والمنفعة مملوكة للمستأجر الأول.
الدليل الثالث: أنه تصرف لا يمنع حق المستأجر ولا يعود عليه بالضرر وفيه منفعة للمالك وللمستأجر الثاني، فجاز.
المناقشة:
أولًا: عدم التسليم بأنه لا يمنع حق المستأجر، فلو أراد المستأجر الثاني السكنى في العقار أو ركوب واستعمال السيارة المؤجرة لترتب عليه منع أحد المالكَين من استيفاء ملكه.
ثانيًا: أن المؤجر لا يخلو إما أن يكون مالكًا للمنفعة بعد إجارتها أو غير مالك، فإن كان مالكًا فما معنى عقد الإجارة مع المستأجر الأول وما أثره؟! وإلم يكن مالكًا فكيف يؤجر ما لا يملك، والإجارة بيع للمنافع، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا تبع ما ليس عندك» (2).
أدلة الحكم الوضعي:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: عن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه (3).
وجه الدلالة: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعروة في تصرفه الذي لم ينشأ عن إذنٍ في شراء شاتين وفي بيع إحداهما، فإذا جاز اعتبار الإجازة في بيع الأعيان فكذلك في بيع المنافع، قال أبو العباس ابن تيمية:(وهذا -أي وقف العقود على الإجازة- في النكاح والبيع والإجارة وغير ذلك) ثم قال: (والقول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة
…
مع أن القول بوقف العقود مطلقًا هو الأظهر في الحجة، وهو قول الجمهور، وليس ذلك إضرارًا أصلًا) (4).
(1) بدائع الصنائع 4/ 317.
(2)
رواه من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أبو داود، كتاب البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (4/ 181)(ح 3503)، والنسائي، كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع (7/ 289)(ح 4613)، والترمذي، أبواب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (2/ 514)(ح 1232)، وابن ماجه، أبواب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك (3/ 308)(ح 2187)، وأحمد (24/ 25 - 26)(ح 15311)، وله شاهد عند الخمسة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وحديث حكيم قال عنه الترمذي:(حسن) وقال البيهقي: (إسناد حسن متصل). السنن 5/ 313، وصححه ابن حبان وابن حزم وابن الملقن وابن القيم والألباني. المحلى 8/ 519، زاد المعاد 5/ 716، البدر المنير 6/ 448، التلخيص الحبير 4/ 1727، إرواء الغليل 5/ 132.
(3)
رواه البخاري، كتاب المناقب، بابٌ، (4/ 207)(ح 3642) والبخاري يذكر أبوابًا دون تراجم في صحيحه أحيانًا.
(4)
مجموع الفتاوى 20/ 577 - 580، 29/ 249، إعلام الموقعين 3/ 250 - 256، الأشباه والنظائر للسبكي 1/ 238.
المناقشة: التسليم بصحة تصرف الفضولي لكن هذا ليس منه؛ لأن الفضولي يتصرف لصالح المالك، كمن يبيع سيارة شخص بغير إذنه ليكون الثمن للمالك، وهنا المؤجر تصرف لصالح نفسه في ما لا يملك، وليس لصالح المالك (المستأجر الأول).
الدليل الثاني: أنه لا ضرر على المستأجر الأول مع تخييره في إمضاء الإجارة أو فسخها.
أدلة القول الثاني:
أولًا: دليل انفساخ الإجارة وفساد العقد الأول إذا أجرها المؤجر قبل تسليم العين: أن العاقد (المؤجر) قد أتلف المعقود عليه (المنافع) قبل تسليمه فانفسخ العقد، كما لو باع طعامًا فأتلفه قبل تسليمه (1).
المناقشة: عدم التسليم بأن الإجارة إتلاف للمنافع، والإجارة عقد لازم لا يشترط له القبض.
ثانيًا: دليل عدم انفساخ الإجارة وفساد العقد الثاني إذا أجرها بعد تسليم العين: أن المؤجر تصرف في ما ملكه المستأجر بغير إذنه، فأشبه ما لو تصرف في المبيع بعد قبض المشتري له، وقبض العين يقوم مقام قبض المنافع (2).
المناقشة: عدم التسليم بحكم الأصل، فإذا باع إنسانٌ ملك غيره فإنه يكون موقوفًا على إجازة المالك ولا يبطل البيع؛ لما أبداه أصحاب القول الآخر من أدلة.
ثالثًا: دليل انفساخ الإجارة وفساد العقد الأول إذا أجرها بعد تسليم العين: أن المستأجر لم يقبض المنافع بعد، فأشبه التصرف في العين المباعة قبل قبضها أو تلف المكيل قبل تسليمه.
المناقشة: أن المنافع تحدث شيئًا فشيئًا وقبض العين بمثابة القبض الحكمي للمنافع المتجددة.
منشأ الخلاف في الحكم التكليفي:
يرجع الخلاف في هذه المسألة لحكم بيع الدين على غير من هو عليه بثمن حال أو مؤجل، فجمهور العلماء على تحريمه مطلقًا (3)، وذهب المالكية (4) والشافعية في الأصح عندهم (5)
(1) المغني 8/ 26، الأشباه والنظائر للسيوطي 1/ 334.
(2)
المغني 8/ 25.
(3)
بدائع الصنائع 5/ 300، تبيين الحقائق 4/ 83، العزيز شرح الوجيز 4/ 300 - 304، الأشباه والنظائر ص 309، شرح منتهى الإرادات 3/ 316 الروض المربع 6/ 351.
(4)
التاج والإكليل 6/ 523، حاشية الدسوقي 3/ 63، ولهم شروط.
(5)
البيان 5/ 71، حاشيتا قليوبي وعميرة 2/ 215، مغني المحتاج 2/ 94.