الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من جلساء عمر (1): يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضًا. فقال عمر: قد جعلتُه قراضًا. فأخذ عمر رأسَ المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال (2).
ووجه دلالة الأثر على الحكم فيه ثلاثة أوجه:
الأول: قول عبد الرحمن (لو جعلته قراضًا) مع إقرار عمر، ولو علم عمر فساده لرد قوله، وإنما أخذ نصف الربح تورعًا؛ خشيةً من محاباة أبي موسى لابنيه رضي الله عنهم جميعًا.
الثاني: أن عمر رضي الله عنه أجرى عليهما حكم القراض الصحيح، وإلّم يتقدم معهما عقد؛ اكتفاءً بقول أبي موسى رضي الله عنه لأن له ولاية على هذا المال.
الثالث: أنه أجرى عليهما في الربح حكم القراض الفاسد، فأخذ منهما جميع الربح وعاوضهما على عملهما بأجرة المثل، وقَدَّره بما يعادل نصف الربح (3)، وفيه آثار كثيرة.
المطلب الثاني: مضاربة المضارب
، وفيه فرعان:
الفرع الأول: مضاربة المضارب (العامل) بدفع رأس المال لآخر
.
صورة المسألة: أن يعطي رب المال للعامل مالًا ليعمل به، فيأخذ العامل المال ويدفعه لطرف ثالث بعقد مضاربة بربحٍ جديدٍ، مثال ذلك: إذا أعلنت شركة عن مشروع صناعي -مثلًا- يحتاج تمويلًا، فدفع الأفراد من التجار وعامة الناس لها أموالهم مضاربةً، فهل لها أن تدفع هذه الأموال لشركة صناعية أخرى تعمل في مثل هذا المشروع وتكسب فرق ما بين العقدين؟
أي هل يملك المضارِب (العامل) أن يضارب برأس المال؟
تحرير محل النزاع: لا يخلو ذلك من حالين أن يأذن المالك أو لا يأذن، وإن أذن فلا يخلو من أن يكون الإذن صريحًا أو غير صريح، فإلم يأذن المالك فاتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمضارب أن يضارب غيره (4).
واختلفوا في حال الإذن:
(1) هو عبد الرحمن بن عوف، كما قاله جماعة، وكان المال 100000 درهم. التلخيص الحبير 4/ 1926.
(2)
الموطأ، كتاب القراض، باب ماجاء في القراض (رواية يحيى 2/ 221، ح 2007، ورواية أبي مصعب 2/ 289، ح 2429)، ورواه الدارقطني، كتاب البيوع (2/ 664) (ح 2999) من غير طريق مالك: عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه، وعبد الله ضعيف، ورواه البيهقي، كتاب القراض (6/ 110)، وقال ابن حجر:(إسناده صحيح) وصححه الألباني، من طريق مالك. التلخيص 4/ 1926، الإرواء 5/ 290 - 294.
(3)
تكملة المجموع 16/ 11 - 12.
(4)
المبسوط 22/ 90، بدائع الصنائع 6/ 150، المدونة 6/ 26 - 28، التاج والإكليل 7/ 455، المهذب مع تكملة المجموع 16/ 44، نهاية المطلب 7/ 494، المغني 7/ 158، كشاف القناع 8/ 505،485.
أإذا كان الإذن صريحًا ففيه قولان:
القول الأول: الجواز، وهو مذهب الحنفية (1) والمالكية (2) والحنابلة (3).
القول الثاني: التفصيل: إن أراد المالك بالإذن أن ينسلخ العامل من حكم القراض ويكون وكيلًا عنه جاز، وإن أراد بالإذن أن يشاركه العامل الآخر في العمل والربح لم يجز، وهو مذهب الشافعية (4).
ب- إذا كان الإذن غير صريح، كأن يقول رب المال للعامل: اعمل فيه برأيك. ففيه قولان:
القول الأول: يجوز ذلك، وهو مذهب الحنفية (5) والحنابلة (6) ووجهٌ عند الشافعية (7).
القول الثاني: لا يجوز ذلك، وهو مذهب الشافعية (8) وروايةٌ عند الحنابلة (9).
الأدلة:
أولًا: أدلة المنع إذا لم يأذن المالك -محل الاتفاق-:
الدليل الأول: أن رب المال إنما دفع له المال ليضارب به، ودفعه لغيره بلا إذن يخرجه عن كونه مضاربًا وعاملًا (10).
الدليل الثاني: أنه بذلك يُوجِب في المال حقًا لغيره، ولا يجوز إيجاب حق في مال إنسان بغير إذنه (11)، وفيه ضررٌ على رب المال.
الدليل الثالث: أن المضاربة مثلُ المضاربة، والشيءُ لا يستتبع مثله، فلا يستفاد بمطلق عقد المضاربة مثله، ولهذا لا يملك الوكيل التوكيل بمطلق العقد، فكذلك هنا (12).
ثانيًا: دليل الجواز بالإذن الصريح: أن الحق دائرٌ بين رب المال والعامل، وقد أذن رب المال
(1) خلاصة الدلائل 1/ 485، مجمع البحرين وملتقى النيرين ص 416.
(2)
المدونة 6/ 28، التاج والإكليل 7/ 455، حاشية الدسوقي 3/ 526.
(3)
المغني 7/ 158 وقال: (نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافًا) وكذا في "الشرح الكبير" 14/ 94.
(4)
نهاية المطلب 7/ 495، مغني المحتاج 2/ 405، نهاية المحتاج 5/ 163.
(5)
بدائع الصنائع 6/ 150.
(6)
المحرر 2/ 15 - 16، الشرح الكبير 14/ 94.
(7)
مغني المحتاج 2/ 405، نهاية المحتاج 5/ 163.
(8)
المضاربة للماوردي (تحقيق كتاب المضاربة من الحاوي، طبع مستقلًا بهذا الاسم) ص 199.
(9)
الشرح الكبير 14/ 94، تقرير القواعد 2/ 26، وهو مقتضى قول المالكية، بيد أنهم لم ينصوا على الإذن غير الصريح.
(10)
الشرح الكبير 14/ 91 - 92، ونحوه في "المبسوط" 22/ 90.
(11)
الشرح الكبير 14/ 91 - 92، ونحوه في "المبسوط" 22/ 90.
(12)
بدائع الصنائع 6/ 150، وينظر ما سبق ص 26.
في حقه، والمضاربة جائزة في الأصل.
ثالثًا: دليل القائلين بالتفصيل: أن توكيل رب المال للعامل أن يقارض غيره مستندٌ لجواز التوكيل، وتكون المقارضة بين رب المال بالأصالة والمضارب الثاني الذي سيعمل في المال، أما إن أراد أن يشاركه في العمل والربح فلا يجوز لأمرين:
1 -
أن القراض على خلاف القياس، وموضوعه أن يكون أحد العاقدين مالكًا لا عمل له، والآخر عاملًا ولو متعددًا لا ملك له، فلا يعدل إلى أن يعقد عاملان (1).
2 -
أنه لو جاز ذلك لكان العامل الثاني فرع الأول، والأول ليس مالكًا لشيءٍ من رأس المال في المضاربة الثانية -إذا فُرض أن العامل سيضارب بما شُرط له من الربح في المضاربة الأولى (2) -.
المناقشة:
1.
عدم التسليم بأن المضاربة على خلاف القياس، وإن كان هو قول جمع من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية (3)، ووجه ذلك أنه استئجار بأجر مجهول، بل معدوم، ولعمل مجهول، ووجه عدم التسليم أن من جعلها خلاف القياس ظن أنها من جنس الإجارة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوَّض، والصحيح أنها من جنس المشاركات، والمشاركات جنسٌ غير المعاوضات، وإن كان فيها شوب المعاوضة، قال ابن قيم الجوزية:(بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، وأن ما يظن مخالفته للقياس أحد الأمرين لازم فيه ولابد: إما أن يكون القياس فاسدًا أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع. وقد سألت شيخنا-قدس الله روحه- عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم وربما كان مجمعًا عليه، كقولهم: ....) وعدّد مسائل وأبواب منها المضاربة (كل ذلك على خلاف القياس فهل ذلك صواب أم لا؟ فقال: ليس في الشريعة ما يخالف القياس ....)(4).
2.
المضارب وإلم يملك رأس المال إلا أنه مأذون له في التصرف فيه، أولًا بالعقد وثانيًا
(1) نهاية المطلب 7/ 495، مغني المحتاج 2/ 405، نهاية المحتاج 5/ 163.
(2)
نهاية المطلب 7/ 495.
(3)
ينظر مثلًا: بدائع الصنائع 6/ 125، بداية المجتهد 3/ 449، مواهب الجليل 7/ 440، نهاية المطلب 7/ 495، مغني المحتاج 2/ 405، نهاية المحتاج 5/ 163.
(4)
إعلام الموقعين 3/ 165 - 172، وينظر: مجموع الفتاوى 19/ 176، 20/ 504 - 585، 21/ 1 - 23، 30/ 226 - 228، والقواعد الكلية ص 328 - 335، وينظر قول الليث في المساقاة والمزارعة ص 104.
بالإذن، وكونه يضارب بما شُرِط له من الربح هذا فَرْضٌ من صاحب "نهاية المطلب"، ولا يلزم أصحاب القول الأول.
رابعًا: أدلة الجواز إذا قال له: اعمل برأيك، أو بما أراك الله، وكذلك الإذن غير الصريح في المضاربة:
الدليل الأول: أنه قد يرى أن يدفعه لمن هو أبصر منه (1).
الدليل الثاني: الاستناد للإذن، كما لو صرح له بالإذن بالمضاربة.
الدليل الثالث: القياس على ما لو نصب رب المال عاملين من أول العقد.
خامسًا: دليل المنع إذا قال له: اعمل برأيك، والمنع مع الإذن غير الصريح: أن قوله: اعمل برأيك يقتضي أن يكون عمله موكولًا إلى رأيه؛ لأن الأمر بالعمل موجه إليه، فلا بد له من أن يعمل، فإذا قارض به كان العمل لغيره (2).
الترجيح
الراجح عدم جواز مضاربة المضارب بدفع رأس المال لآخر إلا بإذن المالك إذنًا صريحًا أو حكميًا.
أسباب الترجيح:
1.
الأدلة المذكورة.
2.
أنه يوافق مقاصد الشريعة، من حيث قطع النزاع، وحفظ المال، وعدم التصرف في مال الآخرين إلا بإذنهم، وغير ذلك.
3.
أن الضابط في تصرفات المضارب التي له عملها بغير إذن رب المال: ما كان من عمل التجار عادةً، فيرجع في المضاربة إلى عرف التجار، ومن ذلك عدم المضاربة إلا بإذنه، لذا وقع اتفاق الفقهاء من المذاهب الأربعة على المنع إذا لم يأذن (3).
تنبيه:
إذا ضارب المضارب برأس المال فما حكمه من حيث الضمان؟ ولمن يكون الربح؟
الأصل في المضارب أن يده يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط (4)، فإذا ضارب
(1) الشرح الكبير 14/ 94.
(2)
المضاربة للماوردي (الحاوي) ص 199، الشرح الكبير 14/ 94.
(3)
حاشية ابن عابدين (التكملة) 12/ 366.
(4)
بدائع الصنائع 6/ 137، الفواكه الدواني 2/ 192، المهذب 16/ 100، كشاف القناع 8/ 524، تقرير القواعد 1/ 323.