الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: إقالة الإقالة
، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الإقالة وحكمها
.
تعريف الإقالة
الإقالة لغةً الفسخ، يقال قاله البيع قيلًا، وأقاله يُقيله إقالةً وتقايُلًا، وقد تقايلا البيع أي تتاركا (1).
والإقالة اصطلاحًا مختلف فيها للخلاف في حقيقتها، وذلك على أقوال:
القول الأول: أنها فسخٌ، وهو مذهب الشافعية (2) والحنابلة (3) وداود (4) وزفر (5).
القول الثاني: أنها بيعٌ، وهو مذهب المالكية (6) وابن حزم (7).
القول الثالث: أنها فسخ في حق المتعاقدين بيع في حق غيرهما، وهو مذهب أبي حنيفة (8).
القول الرابع: أنها بيع إلا إذا تعذر جعلها بيعًا فهي فسخ، وهو مذهب أبي يوسف (9).
القول الخامس: أنها إن كانت بجنس الثمن الأول أو مثله فهي فسخ وإلا فهي بيع، وهو مذهب محمد بن الحسن (10).
القول السادس: أنها فسخ قبل القبض بيعٌ بعده، وهو قولٌ لأبي حنيفة وأبي يوسف (11).
الأدلة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: أن الإقالة في لسان الشارع -كما هي في لغة العرب- الرفع والإزالة والفسخ، يقال: أقال الله عثرتك أي أزالها، وفي الحديث:«من أقال مسلمًا عثرته» (12).
المناقشة: لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى فعل من باع آخر بيعًا ثم استقاله فرد إليه ما ابتاع
(1) المحكم والمحيط الأعظم، مادة قيل 6/ 504، القاموس المحيط، مادة قيل ص 1051، لسان العرب، مادة قيل 14/ 98.
(2)
الأم 3/ 77،76، نهاية المطلب 5/ 503، المجموع 10/ 304، تكملته 13/ 359.
(3)
المغني 6/ 199، الروض المربع 6/ 199.
(4)
المحلى 9/ 3.
(5)
بدائع الصنائع 5/ 492، خلاصة الدلائل 1/ 359.
(6)
التمهيد 16/ 533، 17/ 280 - 281، الذخيرة 5/ 151.
(7)
المحلى 9/ 2 - 5.
(8)
خلاصة الدلائل 1/ 359، حاشية ابن عابدين 7/ 346.
(9)
فتح القدير 5/ 247، حاشية ابن عابدين 7/ 346.
(10)
خلاصة الدلائل 1/ 359، حاشية ابن عابدين 7/ 347.
(11)
بدائع الصنائع 5/ 492، خلاصة الدلائل 1/ 359.
(12)
يأتي تخريجه ص 77.
وأخذ ثمنه إقالة، إنما فيه الحض على الإقالة فقط، وليس فيه أن الإقالة لا تسمى بيعًا (1).
الجواب:
1.
عموم الحديث المستفاد من اسم الشرط (مَن) يشمل من أقال في بيعٍ كما يشمل من أقال في سائر العقود، وما لم ينقله الشارع إلى معنى خاص يبقى على معناه المعروف في اللغة.
2.
أنه لو سلم أن الحديث ليس فيه أن الإقالة تسمى بيعًا أو لا تسمى فإنه ينبغي حمل اللفظ على المعنى المتعارف عليه.
الدليل الثاني: قال ابن المنذر: (وفي إجماعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه مع إجماعهم على أن له أن يقيل المسلم جميع المسلم فيه دليلٌ على أن الإقالة ليست بيعًا)(2)؛ لأنها لو كانت بيعًا لباع عليه ما لم يقبضه.
المناقشة: عدم التسليم بدعوى إجماعهم على جواز إقالة المسلم فيه قبل قبضه (3).
الدليل الثالث: مجموعةٌ من المعاني القياسية ذكرها ابن قدامة بقوله: (ولأنها تجوز في المسلم فيه قبل قبضه فلم تكن بيعًا كالإسقاط، ولأنها تتقدر بالثمن الأول ولو كانت بيعًا لم تتقدر به، ولأنه عاد إليه المبيع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخًا كالرد بالعيب)(4)
الدليل الرابع: أن البيع والإقالة اختلفا اسمًا فيختلفان حكمًا، على الأصل، فإذا كانت رفعًا لا تكون بيعًا؛ لأن البيع إثبات والرفع نفي وبينهما تنافٍ (5).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: أن البيع مبادلة مالٍ بمالٍ، وقد وجد ذلك في الإقالة، والعبرة بالحقائق والمعاني، ولهذا تبطل بهلاك السلعة (6).
المناقشة:
(1) المحلى 9/ 3 - 4.
(2)
المغني 6/ 199 - 200، والإجماع على المنع من بيع الطعام قبل قبضه ذكره ابن المنذر في "الإشراف" 6/ 50، والإجماع على جواز الإقالة في جميع المسلم فيه أيضًا في "الإشراف" 6/ 109، وما في كتاب "الإجماع" له ص 132،135 أضافه المحقق من "الإشراف" وليس في أصل الكتاب.
(3)
المحلى 9/ 4 - 5.
(4)
المغني 6/ 200.
(5)
بدائع الصنائع 5/ 492.
(6)
بدائع الصنائع 5/ 493، العناية على الهداية 5/ 247.
1.
لو كانت بيعًا أو محتملةً له لانعقد البيع بلفظ الإقالة، وليس كذلك (1)؛ لأن اللفظ لا يحتمل هذا المعنى عرفًا.
2.
أن اتفاق الإقالة مع البيع في بعض الأحكام لا يوجب اتحاد ذاتيهما.
3.
قال في "البدائع": (لو تقايلا البيع في المنقول ثم باعه البائع من المشتري ثانيًا قبل أن يسترده من يده [وهي إقالة الإقالة] جاز
…
وبيع المبيع المنقول قبل القبض لا يجوز بلا خلاف بين أصحابنا، فكان هذا الفعل حجة على أبي يوسف إلا أن يثبت عنه الخلاف فيه) (2).
4.
أن البيع ما كان مفيدًا لمبادلة المال بالمال ابتداءً لا تراجعًا بطريق الرفع (3).
الدليل الثاني: أن البيع عقد صحيح بالقرآن والسنة والإجماع المقطوع، ولا يحل فسخ عقدٍ صححه الله -تعالى- في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بنص آخر ولا نص في جواز فسخه مطارفة بتراضيهما (4).
المناقشة:
1.
هذا مبني على أن الأصل في المعاملات والفسوخ المنع حتى يرد دليل على الإباحة، وهذا الأصل باطل بالكتاب والسنة، وقد قرر ابن حزم أن ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح وليس حرامًا ولا فرضًا (5).
2.
أن دليل جواز الفسخ قائم، وهو الحديث السابق، وقد صححه ابن حزم.
3.
أن اعتبار الإقالة بيعًا يلزم منه فسخ العقد الأول بهذا البيع الثاني، فيرد عليه ما أورده على الجمهور من عدم الدليل على جواز فسخ البيع الأول، وهذا قلبٌ لدليله عليه.
دليل القول الثالث: كونه فسخًا لما سبق في أدلة القول الأول، وكونه بيعًا لما سبق من أدلة القول الثاني، إلا أنه لا يمكن إظهار معنى البيع في الفسخ في حق العاقدين للتنافي فأظهرناه في حق الثالث (6)، فكان فسخًا في حقهما بيعًا في حقه، فلو كان لأحدهما شريك ثبت له حق الشفعة؛ لأنها في حقه بيعٌ.
المناقشة:
(1) العناية على الهداية 5/ 247.
(2)
بدائع الصنائع 5/ 494.
(3)
فتح القدير 5/ 248.
(4)
المحلى 9/ 5.
(5)
المحلى 1/ 64.
(6)
بدائع الصنائع 5/ 493.
1.
ما كان فسخًا في حق المتعاقدين كان فسخًا في حق غيرهما كالرد بالعيب والفسخ بالخيار.
2.
أن حقيقة الفسخ لا تختلف بالنسبة إلى شخص دون شخص، والأصل اعتبار الحقائق (1).
دليل القول الرابع: أن الأصل في الإقالة الفسخ إلا أنها إذا لم يمكن أن تجعل فسخًا تجعل بيعًا ضرورة (2).
المناقشة: يرد على اعتبارها بيعًا ما ورد على أصحاب القول الثاني، وعلى عدم إمكان اعتباره فسخًا ما ورد على القول الثالث.
دليل القول الخامس: يمكن أن يستدل له بأن وقوع الإقالة بغير الثمن الأول جنسًا وقدرًا يعدُّ استئنافَ عقدٍ جديدٍ؛ لذا اعتبر بيعًا.
المناقشة: أن هذا يؤيد كونها فسخًا؛ لأنها لو كانت بيعًا لجازت عند الجمهور بأكثر من الثمن كسائر البياعات، وقد قال ابن قدامة: (ولا تجوز إلا بمثل الثمن سواء قلنا: هي فسخ أو بيع
…
وبهذا قال الشافعي) (3). قال ابن عبد البر: (لا خلاف بين العلماء أن الإقالة إذا كان فيها نقصان أو زيادة أو تأخير أنها بيع)(4) فبما أنه لا يجوز أن يزيد على الثمن الأول إذن الإقالة فسخ للعقد -أي البيع- الأول.
دليل القول السادس: أن الأصل اعتبارها بيعًا لما تقدم من أدلة القول الثاني، وإنما تعتبر فسخًا قبل القبض لعدم جواز بيع المنقول-عند الحنفية- قبل قبضه.
المناقشة: يرد عليه ما يرد على القول الثاني.
الترجيح
الراجح أن الإقالة فسخٌ بشرط كونها بالثمن نفسه.
سبب الترجيح
1.
قوة الأدلة.
2.
استنادها إلى الأصل، وهو حمل اللفظ على مقتضاه.
3.
مناقشة أدلة الأقوال الأخرى.
(1) المغني 6/ 200.
(2)
بدائع الصنائع 5/ 492 - 493.
(3)
المغني 6/ 200، نهاية المطلب 5/ 503.
(4)
الاستذكار 17/ 280.
وعليه فالراجح في تعريف الإقالة: رفع العقد وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطرفين (1).
حكم الإقالة
الإقالة جائزة، والأصل فيها السنة والإجماع، أما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم:«من أقال مسلمًا أقال الله عثرته» (2).
وأما الإجماع فقال في "نتائج الأفكار": (الإقالة جائزة في البيع بمثل الثمن الأول: عليه إجماع المسلمين)(3).
وقال في "نهاية المطلب": (الإقالة لا خلاف في جوازها)(4).
ونص بعض الحنفية (5) والحنابلة (6) على أنها مندوبة، للحديث السابق.
وذكر الحنفية أنها تجب في العقد المكروه والفاسد (7).
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية 5/ 324 مادة إقالة، المدخل الفقهي العام 1/ 624، وعرَّفه أيضًا بـ: عقدٌ يرفع به عقدٌ سابق. 1/ 626.
وينظر في ثمرة الخلاف: بدائع الصنائع 5/ 293، نهاية المطلب 5/ 505، تقرير القواعد لابن رجب 3/ 309 - 322. وذكر 21 فائدة للخلاف، لخصها المرداوي في "الإنصاف" 11/ 521 - 528.
(2)
رواه أبو داود، كتاب البيوع، باب في فضل الإقالة (4/ 168)(ح 3460)، ورواه ابن ماجه بزيادة:(يوم القيامة) أبواب التجارات، باب الإقالة (3/ 318)(ح 2199)، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد ضمن زوائد المسند (12/ 400 - 401) (ح 7431) ولفظه:(من أقال عثرةً أقاله الله يوم القيامة) ورواه ابن حبان، كتاب البيوع، باب الإقالة (11/ 404 - 405)(ح 5030،5029) بلفظ ابن ماجه، وبلفظ:(من أقال نادمًا بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة) صححه ابن حبان والحاكم وابن حزم والمنذري وابن الملقن والألباني، وقال أبو الفتح القشيري-ابن دقيق العيد-:(على شرطهما). المستدرك 2/ 45، المحلى 9/ 4، البدر المنير 6/ 556، التلخيص الحبير 4/ 1789 - 1790، الإرواء 5/ 182، وأعله بعض المعاصرين بأنه من أفراد يحيى بن معين عن حفص بن غياث، ولعله قلَّد في ذلك أبا بكر ابن أبي شيبة، فقد تكلم في يحيى وقال:(من أين له حديث حفص بن غياث عن الأعمش -يعني: (من أقال مسلمًا) -؟) وقال: (هو ذا كتب حفص بن غياث عندنا، وهو ذا كتب ابنه عمر عندنا، وليس فيها شيء من هذا) رواه عنه بسنده ابن عدي (الكامل ترجمة 129)، ويجاب من ثلاثة أوجه:
1.
أن هذه القصة ضعفها الذهبي بالحسين بن حميد. سير أعلام النبلاء 11/ 76.
2.
أن الحديث له طرق، وليس مدارها عليهما، قال الذهبي:(ويحيى أوثق وأجل من أن ينسب إليه شيء من ذلك، وبه يُسبر أحوال الضعفاء. قلت: فحاصل الأمر أن يحيى بن معين مع إمامته لم ينفرد بالحديث، ولله الحمد).
3.
أنه لو سُلم تفرد يحيى به لقبل منه؛ لإمامته المشار إليها وضبطه، وهذا أرجح من قرينة عدم وجود الحديث في كتاب الراوي، فهذه لا يُرَدُّ بها في كل حال، فليس كل حديث الراوي في كتبه.
(3)
5/ 246.
(4)
5/ 503.
(5)
الدر المختار مع حاشيته 7/ 345.
(6)
الروض المربع 6/ 198.
(7)
فتح القدير 5/ 246، حاشية ابن عابدين 7/ 346.